رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والاربعون


لم يكن باسل على علمٍ بالأحداث التي عصفت بها خلال الأيام الماضية. لم يعرف شيئًا عن الليالي التي تحوّلت فيها دقات قلبها إلى خناجر صامتة، ولا عن الصباحات التي استيقظت فيها وداخلها صوتٌ يُلحّ: "لماذا لا تنتهي الأمور الآن؟"

كانت من قبل امرأةً تَصنع من الإرادة سُلَّمًا للخلاص، أما الآن، فقد تحوّل بريق عينيها إلى ظلالٍ قاتمة، كأنما انطفأت بداخلها شموع الأمل. كانت عيناها مثل بركتين من الماء الآسن، ساكنتين تمامًا، لا تُموجهما الريح ولا يُحرّكهما النور.

رمقها باسل بقلقٍ حارق، وصوته يتهدج:
"هل كان هو؟ هل فعل بكِ هذا؟"

هزّت سارة رأسها بنفيٍ صامت.
"لا."

لكنه لم يقتنع، فأردف بنبرة يعرف أنها مؤلمة:
"لكن له علاقة... أليس كذلك؟ سارة التي أعرفها ما كانت لتتّخذ هذا القرار."

ظهر الأسى على ملامح باسل، كأن قلبه انكسر مرة أخرى وهو يُحدّق عبر النافذة التي رسم البرد عليها لوحات من الضباب والخيبة. تابع، وقد خفض صوته كأنه يعترف بشيءٍ دفين:
"ربما... أحببتكِ ذات شتاء. حين كان كل شيء يُشبه الوعد. لكن هذا الشتاء... اختاركِ شخصٌ آخر. يجب أن تتركيه يا سارة. دعيه يرحل."

كان يعلم، كما هي تعلم، أن الحب صار كجثةٍ في غرفةٍ مغلقة، لا فائدة من إنعاشها. كانت تُقاوم الموت العاطفي كما يُقاوم المرء بردًا لا مفر

منه.
نظرت سارة إليه، وفي عينيها حزنٌ هادئ. لم تكن تُنكر الحقيقة، بل تتقبّلها كدواءٍ مُرٍّ لا بد منه.
كانت تعرف تمامًا أن حب أحمد قد انتهى. حتى إن خفتت كراهيته، فذكرى "ليا" ستظل كالخنجر في صدره، لن تسمح له بالصفح الكامل.

ومنذ أن أعلن عن زواجه من مارينا، لم يتبقَّ لها سوى إنهاء الحكاية بما تبقّى من أنفاسها، لا انتقامًا، بل ترميمًا. ترميم لحياةٍ تشققت، وحبٍّ تداعى، وذنبٍ لم يُغفر.

نظرت إلى باسل بثبات، بعد أن تخلّت عن الحنين:
"حتى لو عاد جيف إلى وعيه، لن يجرؤ أحمد على معاقبته. أنا التي ستُنهي هذا الملف."

كان صمت باسل أشبه بتنهيدة طويلة علقت في صدره. ثم قال أخيرًا:
"طالما اتخذتِ قرارك، فلا رأي لي. لكنكِ تعرفين ما يعنيه إزالة المنفذ الطبي، أليس كذلك؟ هل أنتِ متأكدة؟"

أحب أن يسمع ذلك منها، أحب أن يسمع تلك الكلمة الحاسمة منها، ليصدق أنها ما زالت تملك السيطرة، حتى لو كانت على نهايتها.

ابتسمت سارة، ابتسامة واثقة رغم الانكسار:
"نعم، متأكدة."

ثم كشفت عن ذراعها التي كانت ذات يوم تحمل الأمل، والآن تحمل آثار نهاية قاسية.

الندبة القديمة قد التأمت، لكن الجلد كان لا يزال يحمل آثار السقوط الذي سبّبه كونور. كدمات بنفسجية متفرقة، تروي قصة سقوط لم يكن لها فيه خيار.

أصرّت على إجراء العملية دون تخدير.

لم يكن الإجراء معقدًا بالنسبة لطبيبٍ كـ باسل، لكنّه كان مُثقَلًا بالمعنى. بشفرةٍ حادة، شقّ النسيج المندمل، وكان الألم مثل رعدٍ في صدرها.
رغم ذلك، لم تصرخ.

ظلت صامتة، وأسنانها تضغط على بعضها، وكأن الصمت جزء من طقوس تطهيرها الداخلي.

رأى باسل عرقها البارد، وعينيها الزجاجيتين، فقال بخفة، وهو يحاول أن يُلطّف من قسوة اللحظة:
"يمكنكِ الصراخ إن كان الألم لا يُحتمل."

رفعت عينيها إليه، وابتسمت مجددًا.
"لو صرخت الآن... فلن يتبقّى لي شيءٌ أصمت من أجله."

كانت سارة تُقاوم الموجة. تشدّ على أسنانها بقوةٍ تُقارب الانهيار، وتُطبِق بأصابعها المرتجفة على حافة الطاولة المعدنية، الباردة كقلبٍ بلا رحمة. بدا الجرح وكأنه يحاول الانتقام من داخلها، يتلوّى تحت جلدها بخيوط نارية لا تهدأ.

هرع باسل إلى جانبها، وكان الزمن يتكسر في عينيه...
الذراع التي كادت تُنقذ طفلًا، أصبحت الآن ساحة حربٍ بين الجسد والإرادة.

الدم يتسلل بخجلٍ إلى الضماد الأبيض، والعرق البارد يتصبب من جبينها، وعيناها نصف مغمضتين كأنما تغوص في غيبوبةٍ عاطفية. كانت مستلقية، وروحها معلّقة بخيط واهن من الصبر.

وضع باسل كوب ماءٍ بين يديها المرتعشتين، وجلس أمامها، يحاول أن يُخفي ارتجاف صوته تحت ستار الهدوء:
"سارة، لقد تابعتُ حالة والدكِ مع طبيبه. هناك

احتمال... احتمال بنسبة ثمانين في المئة أن يستعيد وعيه."
رفعت رأسها ببطء. كان بداخلها شيء يشبه الرجاء، لكنه هشّ كحُلمٍ في آخر الليل.

تابع باسل بنبرةٍ أكثر حذرًا، كمن يُقلب سكينًا داخل الجرح:
"لكن لتحقيق ذلك، نحتاج إلى جراحٍ واحد... ليو. أعظم جرّاح أعصاب في العالم. المشكلة؟ لقد اختفى منذ خمس سنوات، بعد حادثٍ غامض. لم يعثر عليه أحد منذ ذلك الحين."

غرقت سارة في صمتٍ ثقيل، كأن الكلمات تُبحر بداخلها بلا ميناء.

استعادت وعيها تدريجيًا مع رشفات الماء. لم يكن الألم قد هدأ، بل تغيّر شكله... صار جزءًا من كيانها، يرافقها كما يرافق الظلّ صاحبه في الزوال.

نهضت بصعوبة. كل خطوة كانت صفعة لجسدها، وكل نفسٍ انتزعته كان كأنه شهيق أخير.
وضعت يدها على الجرح المغطى بالشاش، وفي عينيها وهج من التحدي المُغلف بالإعياء.

قالت بنبرةٍ واهنة لكنها قاطعة:
"شكرًا يا باسل. لقد كنت كريمًا في صبرك، وفي قلقك أيضاً. لكن... لا داعي لمزيد من القلق عليّ."

صمتت لحظة، ثم أضافت بنبرة خالية من العتاب، لكن مشبعة بالخذلان:
"انفصالي عن أحمد... ربما أصبح حتميًا. فهو لم يكن يريد امرأةً تتحدث إلى رجلٍ غيره، حتى لو كان طبيبًا ينقذ حياتها. لا أريد أن أُسبّب لكَ المتاعب."

أدارت وجهها إلى الباب، والضوء الصادر من الممر انعكس على وجهها

الشاحب، كأنها طيف يودّع الجسد.
لم يكن في كلامها وداع... بل نذير اختفاء.
 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1