رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثاني والاربعون 42 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثاني والاربعون 


تعثرت سارة وهي تنهض، كأن الأرض لم تعد تتعرف على خطواتها. رسمت على شفتيها ابتسامة بالكاد وُلدت، لكنها انطفأت قبل أن تكتمل، وقالت بصوت خافتٍ ينزف بين الحروف:
"وقعتُ في حبّه منذ أن التقت عيناي به... كان الأمر يشبه السقوط من علٍ بلا مظلة، بلا رغبة في النجاة. أحببته لسنوات، كأن قلبي اختار ألا يعرف طريق العودة. لا أستطيع تركه هكذا، ببساطة."

كان باسل يراقبها بصمتٍ مشوبٍ بالانكسار... رأى الدموع تنهمر من عينيها كما لو كانت تتطهر من خطيئة لم تقترفها. أراد أن يمدّ يده ليمسح انكسارها، لكن بينه وبينها جدار من العجز، من الحذر، من الأشياء التي لا تُقال.

كانت تتكلم والدموع تتسلّل من على ذقنها كأنها تُبارك قرارها الأخير. قالت بسخرية ممزوجة بالخذلان:
"أعلم أن الأمر يبدو خانقًا، غير منطقي. لكن رؤية أحمد وهو يضع خاتمًا في يد فتاة أخرى... يؤلمني أكثر من السرطان. على الأقل، الموت يمنحني سببًا. أما الحياة؟ لم تترك لي شيئًا أتمسّك به."

تنهّدت وكأنها تُفرغ صدرها من بقايا الأمل، ثم تابعت بصوتٍ شارد:
"قرأتُ مؤخرًا مقولة غريبة: إن علمتِ أن مصيركِ لن يكون مع من تحبين، فهل تختارين أن تعيشي تلك الذكرى، بكل أفراحها وآلامها، وتدعيها تنتهي؟ أم تنسحبين قبل أن تبدأ؟"

ضحكت... ضحكة خاوية،

تحمل في طياتها ما يُشبه الندم. ثم قالت:
"لو لم أقابله، لاخترت الانسحاب. لكن القدر كان أذكى مني... الآن، منحني أحمد شهرًا واحدًا. مجرد شهر. وبعده... سننفصل. سأرحل كما أردتَ يا باسل، وسأبحث عمّا تبقى من نفسي بين الحطام."
راقب باسل انحناءة كتفيها، وثقل خطواتها، وارتخاء يدها اليمنى فوق كتفها الأيسر، كأنها تُمسك بجسدها كي لا يتهاوى.

ولم تلتفت. فقط قالت:
"باسل... شكرًا على كل شيء. كنتَ عظيمًا، أحنّ من ألف عاشق، وأصدق من قلبٍ خذلني. لكنني لا أستحقك."

ثم خرجت.

كانت العاصفة الثلجية في الخارج تعوي كذئب وحيد. وسارة... كانت تمشي داخل العاصفة كأنها تعرف نهايتها جيدًا.

وقف باسل خلف الزجاج، يراقب ظلها يتلاشى، كأمنية لم تُكتب لها الولادة. ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة، من تلك الابتسامات التي يطلقها الإنسان حين يفقد الحق في الفهم أو الاعتراض.

همس في داخله:
"لماذا تُصرّين على مطاردته، يا سارة؟ هل يستحق كل هذا الانكسار؟"

شبهها بكاهنٍ قديم، يركض خلف وحيٍ لا يهبط، وراء رؤيةٍ لم تكن يومًا موجودة. كانت تُقدّس حبًّا بلا معبد... وتبحث عن طمأنينةٍ في محرابٍ لم يُبنَ أصلًا.

عادت سارة إلى منزل أحمد في المساء، والقصر يشعّ نورًا كما لو أن قلبه اشتعل مجددًا بعد شتاء طويل. وقفت أمام الباب

الخشبي الثقيل، تراقب البقعة المضيئة وسط بياض الثلج، تتأمل النافذة نفسها التي كانت تقف عندها منذ ثلاث سنوات، حين كان الحُلم لا يزال غضًّا، لم تلامسه الخيبات بعد.
فتحت الباب فاندلق عليها دفء لم تشعر به منذ زمن. دلفت ببطء، خلعت حذاءها عند العتبة، كما لو أنها تنزع طبقة من ماضٍ أنهكها، ورفعت عينيها فوجدته.

أحمد.

في المطبخ، كما كان دومًا... كأن المطبخ وطنه حين تفرّ الدنيا من حوله. كان يرتدي سترة رمادية من الكشمير، تلتف حول جسده كأنها خُلقت لأجله فقط. أكمامها مطوية حتى منتصف ساعديه، حيث برزت عضلاته بخفة، وتسللت عينها إلى تلك الندبة الطويلة التي تشق ذراعه اليسرى كخطيئة من زمن بعيد.

ندبةٌ ولدت حين وضع جسده بين جسدها وسكينٍ لامع. في تلك الليلة، كانت شهقة واحدة تفصلها عن النهاية، لولا أن رئته كانت أقرب.

اقتربت... ولم تتردد.

كأنها تبحث فيه عن بقايا حياة كانت تعرفها من قبل.

توقف عن التحريك. أطفأ اللهب دون أن يلتفت. ظلّ واقفًا هناك، كتمثالٍ من جليد ينتظر نبوءة كي يذوب.

قال بصوت منخفض، لا يخلو من الحذر:
"أين كنتِ؟"

همست وكأنها تخشى أن تنهار الكلمات بين شفتيها:
"ذهبت إلى المستشفى... من أجل ذراعي."

كان يعرف. يعرف أنها تهتم بجسدها كما لو كان آخر ما تبقى لها في هذا العالم.

جرح بسيط يجعلها تقف على قدمين من الخوف، فكيف بسقطة تُغرس فيها إبرًا تحت الجلد وتترك ألمًا يتكلم؟
لكنه لم يسأل. لم يعاتب. فقط استدار بصمت، وأكمل إعداد الطعام كما لو كان يهرب من شيء أكبر من العتاب.

ثم وضع الصحون على المائدة، واحدًا تلو الآخر، بحركات دقيقة. لم يكن المشهد غريبًا. لكن شيئًا في سلوكه تلك الليلة بدا... مختلفًا.

نظر إليها فجأة وقال:
"شكرًا لكِ... على ما فعلته اليوم. كونور بخير."

توقفت سارة، وكأن الكلمات صفعتها. كانت تلك أول مرة يقول لها "شكرًا"... منذ بدأت هذه الحرب الصامتة بينهما.

لكن الشكر بدا كرصاصة باردة، أطلقتها منه المسافة بينهما.

لم يكن امتنانًا حميمًا. بل شكرًا مهنية، كمن يودّع سكرتيرته السابقة بكلمة لبقة بعد سنوات من الجفاء.

حدّقت في ظهره. أرادت أن تقول شيئًا، أن تصرخ حتى، أن تطلب منه أن يضع يده على ذراعها المصابة، أن يلمسها فقط، أن يفعل أي شيء يعيدها إلى الحياة.

لكنها لم تفعل.

تمتمت داخلها، وكأنها تلفظ طلاسم مريرة:
"ما الذي يجعلني أبادله الشكر؟ أكره هذا الصغير، هذا الغبي الباكي. أتمنى لو تأذى. نعم... أنا، من بين كل البشر، تمنيت أن يتأذى."

لكن حتى تلك الفكرة لم تجد مكانًا آمنًا في قلبها. لأن الطفل ... كان بريئًا بما يكفي ليكسر كراهيتها،

وينبش في صدرها ألمًا لم تكن تعرفه.
والرجل ... كان ذات يوم وطنها.

 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1