رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثالث والاربعون
لم يفضح أحمد كذبتها، لم يُشر حتى بطرف عينٍ إلى أنها تكذب. فقط ناداها من عند طرف الطاولة، بصوت منخفض يُشبه الهدنة المؤقتة:
**"تعالي وكلي... لكن اغسلي يديكِ أولاً."**
سقط شعاع الثريا الكريستالية على وجهه، فارتسمت على قسماته ظلال دافئة غير مألوفة. من دون بذلته وربطة عنقه، بدا ككائنٍ بشريّ، لا ذلك الصنم الحجري الذي اعتادته في الشهور الأخيرة. أضفى عليه الكشمير الرمادي دفئًا مألوفًا، كأن الزمن انزاح قليلاً إلى الوراء.
كان يرتدي المئزر نفسه، الذي ابتاعته له منذ ثلاث سنوات. كانت تذكر اللحظة تمامًا، حينما ألحت عليه أن يتعلم الطهو. قالت له مازحةً ذات يوم: **"أريد أن أتزوج رجلًا يعرف كيف يُطهو لي قلبًا مطهوًا ببطء."**
ها هو، يقف أمامها... يعدّ وليمةً بحجم ذاكرة.
اقتربت بخطى متأنية، تحمل ابتسامةً هشة، تكاد تنهار من أول نظرة. تأملت الطاولة أمامها، كانت عامرة بالأطباق التي طالما عشقتها. لكن لو نظر أحمد بدقة، للاحظ أن ذوقها تغيّر. ذوقها، وكل شيء فيها تغيّر.
السيدة بيرجس كانت تُحضّر لها أطباقًا مختلفة منذ أشهر. لم يكن يعلم، أو ربما لم يعُد يهتم. اعتادا معًا تكرار الطقوس القديمة... لكن الجوهر ظل غائبًا، كأن الحب الذي بينهما قرر أن يختفي من الصورة، تاركًا خلفه جثته الدافئة.
أكلت
رغم الألم.
كانت معدتها ترفض الأطعمة الحارة، لكن حواسها اشتاقت لوليمة تشبه الحب، تشبه الحياة القديمة. لم تعد تهتم إن كانت ستؤذي نفسها، فقد صارت تعدّ وجباتها بالأيام المتبقية، لا بالسعرات الحرارية.
وجبة مقابل نبضة.
أحمد كان يراقبها بصمت. يعرفها كما يعرف ملامح يديه. يعرف متى تتصنع الابتسام، ومتى تخفي الألم. كان يراها الآن تُجبِر نفسها على البهجة، تُطعم جسدها بينما قلبها فارغ.
قطّب جبينه وسألها أخيرًا، محاولًا كسر الجليد:
**"هل الطعام... لا يرقى إلى ذوقك المعتاد؟"**
رفعت رأسها، تبتسم كمن يردّ الجميل في جنازة:
**"بل رائع، تمامًا كما كان. كنت فقط أفكر... كم من الوقت مضى منذ جلسنا على مائدة واحدة، وكم من الوقت... بقي لنا."**
في زمنٍ آخر، كان ليقول بثقة: **"إلى الأبد."**
أما الآن، فقد حدّق خارج النافذة، حيث الثلج ينهمر كأنما يغسل ذاكرة المكان، وظلّ صامتًا.
كانت تعرف الإجابة، لكنها أرادت سماع الكذبة، فقط لتطمئن.
لكن لا كذبة هذه الليلة. شهرٌ واحد، فقط شهر. هو آخر ما تبقّى لها من حقّ عليه.
وقبل أن يرد، ارتجف جسدها فجأة. اشتدّ الألم في معدتها، كأن طعنةً بطيئة تُشق من الداخل. لم تكن قد أكلت طعامًا حارًا منذ شهور. الدموع انهمرت من عينيها بلا إذن.
رفعت يدها إلى بطنها، وانحنت قليلاً.
الألم كان أكبر من الاحتمال.
وأمام صحنٍ لم تكتمل لقمته... كانت تبكي.
بصمتٍ.
بجسدٍ ينهار بهدوء.
كأنها... تحتضر على مائدة حنين.
قالت سارة بصوت خافت وقد ازدردت ألمها:
**"انتهيتُ... أرجوك، ساعد نفسك."**
ثم نهضت بسرعة وكأن شيئًا ما يلاحقها من الداخل. خطواتها كانت خفيفة، لكن ضجيجها كان في داخلها، يرنّ بين جدران الروح المتعبة.
صعدت إلى الطابق العلوي وانهارت على أرضية الحمام، لتتقيأ ما يشبه ثقلًا غريبًا كان يملأها. لم يكن طعامًا عادياً، بل خليطًا من الذكريات والوجع المتخمر. نظرت إلى كتل الدم التي اختلطت بالماء، وشعرت بأن الوقت لم يعُد يركض… بل ينفلت.
عليها أن تحيا كل ثانية كما لو كانت تختلسها من الموت.
خلعت ثيابها كأنها تتخفف من هوية كانت تقتلها ببطء. دخلت تحت الماء الدافئ، متجنبة ذراعها التي لا تزال تحمل أثر العملية، تلك التي شهدت على بقاءها… أو ما تبقى منه.
لمحت خصلات الشعر المتساقطة في مصفاة الحوض، شعرت بقشعريرة، لكنها لم تبكِ.
إيقاف العلاج يعني شيئًا واحدًا: لن يسقط شعرها أكثر… لكنها هي من ستسقط.
وقفت أمام المرآة، تحدق بانعكاسٍ بدا غريبًا عنها. كانت شاحبة كقمحٍ نسيه الصيف، وعيناها تحوّلتا إلى لغزٍ كوني. وجهها النحيل أضفى على ملامحها مسحةً من جمال أخير، مثل زهرةٍ برية تُزهر
مرة واحدة قبل أن تموت.
همست لنفسها:
**"على الأقل... سأرحل وأنا جميلة."**
في الأسفل، كان أحمد يجلس خلف مكتبه الكبير، تحيطه هالة من السكون الحاد. يرتدي نظارته ذات الإطار الذهبي، ينظر إلى الأوراق كما ينظر قاضٍ إلى قدر متّهم. لم يلاحظ الطرق الخفيف على الباب حتى دخلت سارة بخفةٍ أشبه بالرياح التي تسبق العاصفة.
رفع عينيه نحوها، نظرة واحدة كانت كافية لتعيدها إلى سنين مضت.
عيناه... لم تتغيرا، لكن ما خلفهما مات.
قالت دون مقدمات، وكأنها تُفرغ آخر سهم في جعبتها:
**"أريد أن أرى الشفق القطبي. أنت مدين لي بشهر عسل… في آيسلندا."**
صمته كان أقرب إلى الجريمة. تراجع في كرسيه قليلًا، ثم نزع قلمه من بين أصابعه ووضعه بهدوء على الطاولة.
لم يُعلّق. لم يعترض. لم يبتسم.
كانت تعلم أنه لن يُمانع لأنها تعلم أنه... لم يعُد يهتم.
تابعت بصوتٍ أقرب للرجاء المختنق:
**"أحمد... تذكر؟ لم نقم حفل زفاف. لم أرتدِ الفستان الأبيض. لم نلتقط صورةً واحدة حتى. كان زواجنا عاجلاً كأنه ذنب نخجل منه."**
رفّ جفنه أخيرًا. قال بصوت خفيض، أقرب للشرود منه للرفض:
**"تعلمين أن نهاية العام مزدحمة... والشفق القطبي غير مضمون."**
كان يُحاول أن يُخفف رفضه بمبررات فلكية.
كان يريد أن يقول، دون أن يصرّح:
**"أنا لا أستطيع أن أتحملكِ
أكثر... حتى السماء لا تمنحكِ ما تتمنين."**
وفي قلبها، سمعته يقولها بكل وضوح.