رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والاربعون
ذلك الرجل... الذي قضى نصف عامٍ يزرع لها الورد، فقط لأنها قالت ذات مساء عابر إنها تحب عبيره،
ذلك الرجل الذي كان يُعيد ترتيب الفصول لأجل مزاجها، صار الآن يبخل عليها بأيامٍ قليلة...
كأن الحب، حين يُغادر، لا يأخذ عاطفته فقط، بل ينسحب معه التعاطف، والمروءة، وحتى الذاكرة.
كانت سارة تُحدق فيه، تحاول أن تتعرف على ملامحه من جديد. هل هذا هو ذاته؟
أين ذهب ذلك الحبيب الذي كان يرى وجعها في اختلاج رمشها؟
ما تبقّى أمامها الآن، رجل يرتدي صمتًا من جليد، ينظر إليها وكأنها تاريخ لا يريد قراءته مجددًا.
اقتربت بخطًى خافتة، وراحت تمسك بطرف قميصه كما يُمسك الغريق بطرف قشة،
رفعت عينيها إليه، وقد اغرورقت بنظرة كُتبت على سطورها وصية وداع.
"لم يبقَ لديّ الكثير من الوقت... هل يمكنك أن تهبني القليل مما تبقّى لك؟"
جاء صوته حادًّا، كحدّ السكين وهي تشرّح الأمل:
"سارة... لا تستغلّي الموقف."
تجمد الزمن في عينيها. كان يظن أنها تتوسل لأجل ذلك "الشهر" الذي طلبته منه من قبل. لم يرَ الموت الذي كان يطرق أضلاعها.
رفضها دون أن يهتزّ له جفن.
ضحكت، ضحكة مرّة كشربة دواء فاسد.
"أأنا من تستغلّك؟ أتظن أنك تهدر وقتك معي؟… أم أن قلبك قد سبقك إلى خطوبة مارينا؟"
كان يُنقّر بأصابعه الطويلة على سطح الطاولة. كل نقرة كانت وكأنها تُدق على صدرها، لا على الخشب.
ثم
نظر إليها، بنفس البرود، وقال كأنها مجرّد بند في جدول أعماله:
"أخبرتكِ من قبل... سأخطب."
لم يكن على وجهه أي أثر للندم.
لكنه لم يكن بحاجة للكلمات… فقد نطقت عيناه بتحدٍّ جارح:
"أنتِ من طلبتِ هذا الشهر… فلا تطلبي أكثر."
كانت صامته، تبلع الجمر بابتسامة خافتة.
ثم تمتمت:
"اعذرني على أمنياتي. آسفة إن أزعجتك بها."
فتحت الباب وهمّت بالمغادرة، فصوت قلبها كان يصرخ، لكن فمها ظل مغلقًا.
وفجأة، جاءه صوتٌ منه... لم تعلم من أين خرج،
لكنه ناداها، كمن ندم للتو على الصمت الطويل:
"اختاري مكانًا... لكن اجعليه محليًا."
توقفت سارة، ثم استدارت، ووجهها يشعّ بوميضٍ خاطف، أشبه بطفلة حصلت على أمنية مسروقة.
قالت بابتسامة أخفت ألف ألم:
"هيا بنا إلى موهي."
كانت تعرف أن موهي، تلك البلدة الصغيرة، لا تُهدي أحدًا شفقًا قطبيًّا،
لكن من يهتم؟
أن ترى وجهه في صباحاتٍ قليلة قادمة… كان ذلك يكفي.
كان ذلك شفقها الخاص.
كان الليل قد بلغ ذروته، وتغلفت الأرض بصمتٍ رماديٍّ خافتٍ كجنازة مؤجلة. كان هو نائمًا إلى جوارها، لكنها لم تنعم ولو بلمحة من النوم. التفتت سارة ببطءٍ شديد، كأنها تسبح في بحرٍ من الحذر... بحرٌ من الجليد كان يفصل بينها وبينه، لا يُرى لكن يُحسّ، يلسع الروح كلما اقتربت.
كانت المسافة بينهما على السرير أشبه بصحراء بلا نهاية. هو استدار إلى الجهة الأخرى
ما إن لامس الوسادة، كأن الأرض تميد به لو التفت نحوها، كأن وجودها أصبح شيئًا لا يُطاق.
راحت تحدّق في السماء المظلمة من خلف النافذة، حيث النجوم بعيدة، صامتة، تُشبهه في كل شيء. حاولت أن تغلق عينيها، لكنها لم تنجح... فقد كانت هناك عاصفة تعصف في داخلها، لا تنام.
مع شروق الفجر، رحل إلى عمله دون أن يلتفت، كأن الليل بأكمله لم يجمعهما. بقيت سارة خلفه، تلتقط ما تبقّى من شتاتها.
كان اليوم مزدحمًا بعقارب ندمها، وكانت تأمل في أن تُكفّر عن خطايا أبيها قبل أن يُسدل الستار على الحكاية. قادتها قدماها إلى عنوان محفور في إحدى الوثائق القديمة، حملها إلى مستشفى للأمراض النفسية... حيث تقبع امرأة تُدعى "بيل"، ضحية أخرى في خيوط الجريمة الكبرى.
كان المكان هادئًا بشكل مريب، لا يشبه المستشفيات المعتادة. كان كأن الزمن نفسه يخشى المرور من هنا، حراس بثيابٍ مدججة وأعينٍ لا ترمش... جدران كأنها تنتظر الانفجار في أي لحظة.
رافقتها ممرضة بدا وجهها محايدًا كأنها حفظت مشهد الجنون، ثم همست لها مرارًا وهي تسير:
"أرجو منكِ الحفاظ على مسافة آمنة من المريضة."
وعندما وصلت، رأت فتاة تجلس عند النافذة، متكورة على نفسها كجنين يتشبث بعتمة الرحم. شعرها الطويل يسيل على ثوبها الأبيض، وعيناها… كانتا خاليتين من الحياة، كأنهما مرآتان انطفأت فيهما الشموس.
اقتربت سارة وهمست:
"
بيل؟"
تذكرتها جيدًا… كانت شعلةً من الذكاء ذات يوم، التقيا في مسابقة للابتكار، وكانت بيل تملأ المكان بالبريق والحماس. أين اختفى كل ذلك؟
تحركت بيل ببطء والتفتت نحوها، وحين فتحت سارة فمها لتتحدث، أمسكت بيدها فجأة، وهمست بصوت مخنوق:
"اصمتي… هناك من يحاول أن يأخذ طفلي."
نظرت سارة إلى الوسادة التي تحتضنها بيل بين ذراعيها. لم تجرؤ على قول شيء. أدركت أن الكلمات إن لم تكن محسوبة هنا... قد تصبح رصاصًا.
سألتها بلطف:
"من يحاول أخذ طفلك؟"
لكن الجواب لم يأتِ بالكلمات، بل بارتجافٍ مفاجئ لجسد بيل.
"طَق... طَق... طَق..."
رنّ صوت كعبٍ عالٍ في الرواق، ارتعدت بيل، ثم اندفعت إلى خلف الستائر كأنها تختبئ من شبح.
صرخت:
"إنها هنا! جاءت لتأخذ طفلي!"
لم تمهلها الكلمات. فُتح الباب بقوة، وظهرت امرأة بشعر مجدول، ترتدي معطفًا أبيض وبطاقة تعريف على صدرها كُتب عليها "المديرة".
قالت بنبرة صارمة تشق الهواء:
"حالة بيل النفسية غير مستقرة سريريًا. لا يحق لها استقبال الزوار. آنسة سارة… من فضلكِ، عليكِ المغادرة."
كان صوتها يشبه بابًا يُغلق في وجه الرحمة.
وسارة؟
وقفت كأنّ العالم يسحبها من جذورها… أدركت للتو أن محاولتها لتضميد الجراح المتعفنة، قد تكون متأخرة… أو أن بعض الجراح خُلقت لتبقى مفتوحة، تتنفس وحدها إلى أن تختنق.