رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السادس والاربعون
كانت سارة قد بدأت تنسج خيوطا متفرقة من الحكايات التي جمعتها عن عدد من الفتيات محاولة أن تعيد شيئا مما خطف منهن دون وجه حق. لكن كل الطرق التي سلكتها انتهت إلى صمت. البعض رحل إلى مدن بعيدة والبعض الآخر اختفى كما تختفي النبضات في جسد خامل. لم تصل إلى أحد ولم يتبق لها سوى بيل تلك التي بدت كنافذة وحيدة نحو الماضي المغلق.
لم يكن بوسعها سوى الانتظار. الانتظار حتى تستقر حال بيل وتسمح الأقدار لها بزيارة ثانية. أما اليوم فلا مفر من التراجع خطوة.
وبعد حديث عابر مع رايان افترقا كما يفترق ظلان بلغا مفترق نور. رفعت سارة عينيها نحو السماء الموشحة بدرجات لا تسمى كأن الغروب يعرض حزنه الخاص دون جمهور. استقلت سيارة أجرة وجلست على المقعد الخلفي متكئة برأسها إلى الزجاج البارد.
الضجيج في الخارج كان كثيفا. الزحام المسائي يحاصر الشوارع لكنها اختارت الصمت. أغمضت عينيها كأنها تحاول انتزاع لحظة راحة من بين ضلوع اليوم.
الراديو كان يبث نشرة الأخبار إلى أن جاء عنوان غريب شيء عن حادث وقع في مستشفى نفسي. الجملة نفسها حملت في نبرتها ما يشبه الطعنة. فتحت سارة عينيها ببطء وطلبت من السائق أن يرفع الصوت.
كان الخبر يدور حول شخص شخص لم يعد يحتمل ثقل هذا العالم فاختار أن يغادره من
أعلى نقطة في المستشفى.
اسم المستشفى مألوف جدا.
أمسكت هاتفها بسرعة بحثت قلبت الصور حتى وجدت واحدة تشبه الذاكرة.
كانت هناك.
بيل.
تلك التي أمسكت بيدها منذ أيام. بيل بثوب المستشفى الأبيض وابتسامة مشوشة لا تشبه البشر.
اجتاحت سارة قشعريرة باردة وكأن أحدهم مر بأصابعه فوق عمودها الفقري. حدقت في الشاشة والنبض في معصمها يتباطأ وكأن الزمن يحاول أن يتوقف.
انتبه السائق لتغير ملامحها فسأل بقلق
آنسة... هل أنت بخير وجهك شاحب جدا.
أجابت بصوت مبحوح تحاول أن تبعد الوجع من حلقها
لا شيء... فقط خبر مؤسف عن فتاة أعرفها.
قال السائق بعد لحظة صمت
الذين تبتلعهم تلك الجدران البيضاء... لا يعودون كما دخلوا. أحيانا يختارون الرحيل بأنفسهم كأنهم يعقدون صلحا مع النهاية.
لم تجب. لم تستطع. فقط أومأت برأسها. الكلمات لم تعد كافية.
مرت الطريق ثقيلة كأنها تجبرها على الشعور بكل متر. وعندما وصلت إلى منزلها لم يكن أحمد قد عاد. دخلت وحدها كما اعتادت مؤخرا.
ارتمت على الأريكة لا لتجلس بل كأنها تذوب. الإرهاق تسلل من عضلاتها إلى أعماق عقلها. ورغم التعب لم يكن النوم قريبا.
في عينيها كانت صورة بيل تلوح بلا صوت بلا سقوط بلا نهاية واضحة.
تساءلت في نفسها هل أغلقت قصتها فعلا أم أن هناك فصولا لم تكتب بعد
ثم
تسلل خاطر غامض كوميض عابر
حين ترحل سارة هل سيشعر أحمد بالذنب... أم بالحرية
كان سؤالا بلا إجابة تماما ككل ما يحدث في قلب لم يعد يعرف لمن يدق.
حين أضاءت شاشة الهاتف بين يديها كانت سارة تشعر أن كل ثانية تمضي تخصم من رصيد الزمن الذي ما عاد يسير في صفها. أعدت خطتها نحو موهي بعناية من يعبر حقل ألغام. رتبت تفاصيل الحجز وقارنت بين الفنادق ودونت بيدين مرتجفتين مواعيد الرحلة في دفتر صغير صار امتدادا لنبضها.
لم تكن فقط تريد الرحيل إلى مكان بعيد... كانت تهرب نحو بصيص حياة.
عاد أحمد متأخرا تلك الليلة. صوته في الممر كان باهتا كأن خطواته بلا ظل. وما إن لمحت ملامحه حتى اندفعت نحوه بدفترها تحمل بين صفحاته الحلم الأخير.
قالت بصوت متلهف
متى سنسافر إلى موهي رتبت كل شيء الفنادق التذاكر... أظن أن هذا الوقت مناسب.
لكن حلمها وقع قبل أن يكمل جملته. سقط الدفتر من يديها لا كما تسقط الأوراق بل كما تنهار الجدران.
كانت نبرته... غريبة. وعيناه تلك العيون التي كانت مرآتها يوما أصبحتا الآن زجاجا معتما لا يعكس شيئا سوى الغضب.
توقف الزمن.
سألته بصوت يشبه دقات خافتة على باب مغلق
أحمد ما الأمر
اقترب منها... لا بسرعة بل بخطى ثقيلة كأنها تسحب الأرض خلفها. بدا وجهه جامدا كقناع. فيه شيء ما لم
تعرفه من قبل. شيء يشبه البرودة القاتلة.
قال وصوته يحمل رائحة الاتهام القديمة
هل ذهبت إلى قبر ليا
أومأت سارة وعيناها تتوسلان للفهم لا الدفاع
نعم كنت هناك... حين زرت جدتي. أعلم أن علاقتك بأبي معقدة لكنني فقط... أردت أن أودعها.
ضحك لكن الضحكة لم تكن فرحا ولا سخرية بل صدى مرير لمشاعر معطوبة. ثم كأنما أخرج من قلبه خنجرا ألقى أمامها بعض الصور.
ركعت عيناها على الورق كأنها تنحني على جثة حلم. الصور كانت لقبر ليا... الشجرة التي لطالما غفت تحت ظلها اقتلعت والقبر وقد تمزق حجره بدا كأن الزمن نفسه قد انتقم منه.
همست بالكاد خرج صوتها
ماذا... ماذا حدث
نظر إليها أحمد نظرة لا تفسر لا بالحب ولا بالغضب بل بشيء أقرب إلى الذهول المغطى بجليد قاس
سارة... لا تدعي البراءة. لطالما أردت أن تعيدي ترتيب الأشياء وفق أهوائك لكن لم أتوقع أن تمتد يدك حتى لمن رحلوا. ظننتك أرق... رحيمة لا أن تدوسي على ذكرى ليا بهذه القسوة.
كان صوته خافتا لكنه حمل في داخله زلزالا. لم يكن يصرخ... بل ينزف.
تراجعت سارة خطوة كأن الاتهام صفعة. غلفت عينيها الدهشة ثم تمتمت بكلمات تشبه الارتطام الأخير قبل الانهيار
أحمد... أتظن أنني فعلت ذلك أنا
لم يكن في سؤالها دفاع بل اندهاش من أن الشك وصل إلى هنا... إلى عظامها.
كانت تعرف أنه جرح ذات يوم لكنه لم يخبرها أنه لم يندمل.