رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السابع والاربعون 47 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السابع والاربعون

كان الصمت بينهما طويلًا بما يكفي لتتساقط فيه آلاف الاحتمالات. أحمد لم ينطق، لكنه بدا وكأنه غارق في شيء أعمق من الغضب… شيء يشبه الحزن حين يرتدي قناع القسوة. حدقت فيه سارة، وكان قلبها كغصن وردٍ جاف، تُنبت عليه الأشواك فجأة كلما اقترب منها بكلمة.

ثم قال، بصوت خافت يشبه شهقة مكتومة:
— "أتمنّى… أن يكون ما رأيته لا علاقة لكِ به. لكنكِ كنتِ هناك... ثلاث ساعات، سارة. ثلاث ساعات كاملة. أخبريني، ماذا كنتِ تفعلين؟"

كان في سؤاله جرح مفتوح، وكانت إجابتها تحتاج إلى ضمادة لا إلى تبرير.

تنهدت، وهي تشعر بثقل لا يُحتمل فوق صدرها:
— "أخبرتك أنني زرت جدتي. ماذا عساي أفعل في مكانٍ لا يُنطق فيه سوى للغائبين؟ لم أعد أملك من يسمعني، فأحادث مَن رحلوا علّني أسمع نفسي. ثم... إنه قبر، لا قطعة حلوى. من ذا الذي يعبث به؟ حتى إن رغبت بتوريطي، اجلب دليلاً لا وهْمًا."

لكن أحمد، كمن خبأ ورقته الأخيرة، ألقى أمامها مجموعة صور جديدة.
صورٌ لها، وهي تمسك بشيء معدني، بينما رجل مسنّ إلى جوارها يحاول جمع أشياء من الأرض.

تجمّدت الكلمات في حلق سارة، وعيناها علقتا في الصورة، كأنها ترى نفسها لأول مرة، غريبة وسط مشهدٍ لا تتذكّره.

تمتمت بقلقٍ ممزوج بالخوف:
— "ساعدتُ الرجل حين سقطت منه أدواته… فقط هذا. لا أدري من التقط الصور، ولا كيف... صدقني، أحمد. لم أقترب حتى من شاهد القبر. كان سليمًا

حين رحلت. لماذا أؤذي مَن لا ذنب له؟"
لم تُقنعه نبرتها المرتجفة. بل بدا وكأن كل محاولة منها في تبرير ما حدث تزيد الجدار بينهما ارتفاعًا.

رفع وجهها بأصابعه، نظر إلى ملامحها كما لو كان ينظر إلى قناعٍ يحاول أن يقرأ خلفه، ثم ضغط بخفة على شفتيها كمن يُسكت وردة قبل أن تنبت شوكها.

قال:
— "فمٌ جميل… لكنه لا يتقن شيئًا سوى الكذب. برنت أخبرني أنه كشف لكِ عن مكان القبر. وأنتِ بحثتِ عن محقق... خاص."

تهدّلت جفونها. سقطت الأوراق من يدها، ثم همست بصوتٍ مبحوح:
— "نعم. استعنتُ بمحقق. كنت أبحث... فقط أبحث عن تفسير. أردت أن أفهمك... لم أقترب من القبر إلا كزائرة. كل ما تركته كان زهورًا... لا شيء آخر. حتى حين علمت أن ليا هي جودي، لم أفكر في أكثر من الحزن. وبعدها... زرت قبر جدتي."

ترددت، ثم أردفت وكأن الكلمات تسقط من فمها بتعب:
— "أنا... بالكاد أستطيع صعود سلالم هذا المنزل. كيف لي أن أدمّر قبرًا؟"

لكن صوته ارتفع، لا بالصراخ، بل بنبرة تخترق جدار الأعذار:

— "أتظنينني ساذجًا؟ ليا لم تكن تملك أعداءً. كانت ظلًا طيبًا، لا يؤذي أحدًا. من غيرك يملك دافعًا أو غضبًا؟ مَن سواكِ سيُفكّر في محو ذكراها؟ لقد تأذيتِ مني... من خسارتنا... من انهيار عائلتك. وكان غضبكِ يبحث عن مخرج، فوجدته هناك، في قبرها."

كانت كلماته تنحت في جسدها بردًا وسكاكين. لكن عينيها كانتا لا تزالان تحملان دموعًا

لم تنضج، فقط ارتجفت، وهزّت رأسها كمن يحاول أن يوقظ من حوله من كابوس:
— "لم أكن أنا... أقسم لك، أحمد... لم أكن أنا..."

لكن القسم لا يُنهي العاصفة، ولا يكفي لتبديد الظنون حين تُصبح الذكريات وقودًا للاتهام.

تقدّم أحمد ببطء، كأن خطواته تنبع من هوّة داخله لا من الأرض، ثم همس بصوت أشبه بورقة محترقة تتلاشى في الهواء:

— "كنتِ مصمّمة على الطلاق... ثم طلبتِ شهرًا إضافيًا، فجأة، كأنكِ تغيّرتِ... لكنني أتساءل الآن، ما الذي تغير فعليًا؟ هل هو انتقام... لجيف؟"

كانت سارة تقف هناك، لكنها لم تكن واقفة حقًا. بدت وكأن شيئًا ما يُسحب من أعماقها... شيئًا هشًا يسقط بلا صوت. عيناها ارتعشتا قبل أن تسيل الدموع على خديها المرتجفين، كأن جسدها لم يعد يملك وسيلة أخرى للصراخ.

همست، وهي تهز رأسها كمن يهرب من عاصفة خفية:

— "لا... لا يمكن. لا أملك تلك القسوة... ولا الرغبة."

لكن أحمد لم يكن يستمع... أو ربما كان يستمع لشيء آخر يتحدث داخله. شيء أقدم من سارة، وأقوى من صوتها.

نظر إليها مطوّلًا، ثم تقدّم. لم يكن في وجهه غضب صاخب، بل خيبة باردة تُشبه أبواب السجون التي تُغلق ببطء. شدّ على فكّه، ثم أمسك بذقنها برفقٍ مُريب، كأنّ لمسته تحمل حوارًا آخر، حوارًا بلا كلمات.

قال وهو يحدّق في عينيها:

— "كنتُ أدعو الله ألا تكوني متورطة... توسلت للمنطق أن ينقذكِ من الاتهام، وطلبتُ من أحدهم

أن يبحث، أن يجد ثغرة تنقذكِ... لكن كل الخيوط قادت إليكِ."
صمت لحظة، ثم أردف بنبرة مشبعة بمرارة السؤال الذي يعرف إجابته:

— "زرتِ مستشفى الأمراض النفسية. وبعدها بساعات... رحلت بيل. ماذا قلتِ لها؟ ما الذي دفعها لذلك؟ هل تعتقدين أن هذه الطريقة ستوقظ جيف؟ أم أنكِ فقط... تحاولين معاقبتي بطريقتكِ الخاصة؟"

شعرت سارة كأن الأرض تدور بها، لا من سرعة الزمن، بل من بطئه القاتل. كل ما حاولت قوله تبعثر في حلقها، فلم تجد من الكلمات ما يُنقذها. فقط نظرت إليه، والعجز يتكاثر داخلها كثلجٍ ينمو في صيفٍ حارق.

لقد كان اسم "ليا" أكثر من ذكرى… كان ندبة مفتوحة في قلب أحمد، لا يُشفى منها الزمن. وكانت يد الاتهام، حتى لو لم تُصرّح، تطعنه بطريقة لا تُحتمل.

همس لنفسه وكأنها لم تعد تسمعه:

— "من يقدر على فعل ما فعلته بالقبر؟ من يستطيع أن يحتمل وجود شخص عاد لينكأ جرحًا لم يُدفن بعد؟"

وفجأة، خفت صوته، لكن عينيه اشتعلتا بلونٍ لا يشبه سوى رماد الحريق بعد المطر. اقترب أكثر، وامتدت أصابعه كأنها تفتش عن إجابة لم تقلها شفتاها، لم تكتبها مذكراتها، ولم تُفصح عنها دموعها. لحظة مرت، ثم أطبق على نحرها بلحظة صامتة.

لكن لم تكن قبضة عنف، بل أشبه بتشبث الغريق بخشبة طافية وسط البحر. يدٌ تبحث عن صوتٍ لا يُقال، عن نهاية متوقعة لحكاية بدأت خطأً.

كانت اللحظة أقرب للانفجار... ثم، انسحب.

أبعد يده

فجأة كمن استيقظ من كابوسٍ ارتداه كحقيقة.
وبقيت سارة في مكانها... كظلٍ بلا جسد.

تعليقات