رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع والاربعون
كانت تعرف... أجل، كانت تعرف أن في أعماقه شيء قد انكسر منذ لحظة دفن أخته، شيء لم يُدفن معها. سارة شعرت بذلك التآكل الصامت في روحه، ذلك الشق الخفي الذي ظل يتسع عامًا بعد عام، حتى بات يبتلع نوره بالكامل. كانت تحسه وهو يبتعد عن العالم شبرًا إثر شبر، كأن الحياة تُنزف منه على مهل. والآن، فقط الآن، خطر لها سؤالٌ مربك:
هل فكّر فعلًا أن يجعل منها الجسر الأخير لعبور روحه إلى شقيقته؟
الشارع خالٍ، والليل أفرغ فمه من كل الأصوات، إلا من صوت العاصفة التي تنقر على الأرصفة بإيقاع جنائزي.
لم تكن إيفرلي قد وصلت بعد، لكن شيئًا ما -ضوء مفاجئ سطع من بعيد- شقّ العتمة وراح يقترب حتى توقفت سيارة بالقرب منها.
تسارعت أنفاسها.
أحمد؟
هل كان ذكيًا بما يكفي ليكتشف خدعتها؟ أن قدماها لم تبتعدا حقًا، وأنها عادت لتتأكد من أنها لا تزال قادرة على التنفس دون خوف؟
فُتح باب السيارة، وخرج الرجل بخطى مرتبكة. مقلتا عينيه تفتشان الفراغ، كمن يبحث عن بقايا قلب ضائع. تقدم نحوها.
سارة لم تتحرك.
جسدها تجمّد... فقط أصابعها كانت تقاوم، تشد على حافة معطفها كأنها تمسك بحبل نجاة وهمي.
خطواته تقترب، تقرع الثلج بأصوات أشبه بطرق مسمار في نعش.
حبست أنفاسها. أغمضت عينيها كمن يسلّم نفسه للقدر.
لم تكن تعرف ماذا سيحدث حين يجدها... هل سيرى فيها صورة "ليا" المتجمدة في عقله؟
هل ستصير بديلًا.
.. أم ضحية أخيرة لطيف لم يغادره يومًا؟
كان قلبها يضرب صدرها بارتباك، كطبول حرب داخلية، كل دقة كانت كأنها تدفع بجزء من روحها إلى الخارج.
تغيّر أحمد. لم يعد هو. لم يعد ذلك الذي يُرمم جراحها بالضحك، بل صار هو من يُعيد فتحها بصمت.
أصدر حذاؤه الجلدي طقطقة جافة على كومة الثلج، كأن الموت اقترب على رؤوس أصابعه.
توقّف.
لم يكن بينهما سوى شجرة صمدت قرنًا من الزمان، كأنها اختيرت لتكون الشاهد الصامت على لحظة مرتجفة بين الحياة والمجهول.
ثم...
رحل.
رحل بصمت، بصوت خفيف كالهمس، كأن روحه قررت أن تتركها حيث اختبأت، دون أن تُحاسبها، دون حتى أن تُنكرها.
أغمضت عينيها للحظة، ثم سمحت لجسدها بالارتخاء أخيرًا. لم يرها.
لكن...
نظرتها انزلقت نحو الثلج، ورأت ما لم تتمنّ رؤيته:
خطٌ من الدم يقطع البياض كشرخ في لوحة نقية.
أثرها كان واضحًا، فاضحًا.
كيف لم يره؟
أم تراه رآه وتجاهله عن قصد؟
ذلك التوقّف لثوانٍ لم يكن عابرًا، كان شيئًا يشبه التأمل... أو التوديع.
أطلت برأسها من خلف الشجرة، راقبت الظل المبتعد. لم تستطع أن ترى وجهه، لكن الهواء من حوله بدا مثقلاً، كما لو أنه يحمل سرًا لا يحتمل.
ربما كانت تلك طريقته في الرحيل.
ربما قال وداعه دون أن ينطق، كأن الوداع حين يُقال... يفسد.
وصلت إيفرلي كرياحٍ متوترة، كأنها خرجت من رحم عاصفةٍ لا تعرف إلا الاندفاع، واصطدمت بالمشهد كما
تصطدم الصرخات بحلقٍ لا يحتمل الصمت. كانت سارة تقف هناك، عالقة بين الصقيع وآثار دمٍ لم تُمحَ بعد، جسدها يرتجف كورقة خريفية خذلتها الشجرة.
شهقت إيفرلي بوجهٍ ارتسم عليه مزيج من الذهول والغضب، ثم تفجّر صوتها:
— "هل فعلها؟! هل فقد صوابه؟ ذلك الـ... رجل المتخم بثروته حتى الثمالة، يظن أنه يستطيع أن يملك الناس كما يملك السيارات والمنازل! خيانة؟ إساءة؟! أقسم أنني سأنشر فضائحه على الملأ! سأتحدث للإعلام، وأجعله يتمنى لو لم يولد!"
قهقهت سارة بسخرية هشّة، ضحكة مكسورة كشرفة تطل على هاوية.
ثم رفعت يدها كأنها توقف ريحًا:
— "كفى، إيف... لا تكسري شيئًا لا تملكين ثمن إصلاحه، أرجوكِ، السيارة ليست ملكنا، والتأمين ليس لعبتنا."
كانت تحاول أن تنقذها من غضبها، تمامًا كما تحاول أن تنقذ نفسها من الغرق في دمها.
همست، بصوت بالكاد يسمع:
— "خذيني إلى المستشفى... أرجوكِ. ولا تلومي أحدًا. هو... لا يعلم."
أدارت إيفرلي وجهها نحوها وقد أُسقط في يدها:
— "لا يعلم؟ عن ماذا؟ ما الذي لا نعلمه نحن جميعًا؟ ما بكِ؟"
أجابت سارة بوجه مطفأ النور:
— "هذا حديث طويل، لا يليق به الزحام... سأحكي لك، حين يصبح للوقت قلبٌ يتسع."
كانت السماء توزّع أول خيوط الفجر بتردد حين دخلتا المستشفى. الجرح عُولج، لكن ما ينزف لم يكن في الذراع. وعندما عادتا إلى شقة سارة، جلستا وجهًا لوجه، كأن بينهما
اعترافًا يُراد له أن يُولد في العتمة.
بدا على وجه إيفرلي الجمود. ثمة شيء ما في عينيها، كأنها تستعد لمعركة... أو لجنازة:
— "أخبريني الآن. لا مواربة. ماذا كنتِ تُخفين؟ كيف أصبتِ؟"
ردّت سارة بهدوء، يحمل في طيّاته عاصفةً قادمة:
— "إيف... استعدي. ليس جسدكِ فقط، بل قلبكِ أيضًا."
أشعلت إيفرلي بتلك الرعشة الخفيفة التي لا تظهر إلا حين تخشى الحقيقة. نفثت دخانها ببطء:
— "أخبريني فقط. لن تنشقّ السماء على رأسي. ماذا هناك؟"
قالتها سارة ببساطة... مرّة كقهوةٍ تُشرب على روح أحدهم:
— "أنا... أموت."
توقف الزمن.
لكن سارة أكملت، بصوت لا يحمل وزنًا، بل يطفو فوقه:
— "إنه سرطان... في المعدة."
انهارت اللغة في وجه إيفرلي. احتاجت بضع ثوانٍ لتُدرك أن الهواء ثقيل، وأن الدخان لا يغفر.
شهقت، اختنقت، ثم سعلت كأن الرئة ترفض تصديق ما سمعته الأذن.في حركة عصبية، رمتها داخل المنفضة كأنها تتخلّص من عار، لكن يدها ارتطمت بالكوب الزجاجي.
انسكب الماء كدمع لا يُكفكف. اندفعت تمسحه، لكن في زحمتها العشوائية، تناثر كل شيء عن الطاولة، وكأنها أسقطت النظام من حياتها.
سقطت زجاجة دواء...
انقلبت على سطح الطاولة، ثم تدحرجت الكبسولات على الأرض مثل حبات قدرٍ لا مفر منه.
غطاء الزجاجة الأبيض دار، دار كثيرًا، كدوامة، قبل أن يسقط فجأة بصوتٍ خافت... لكنّه حمل في داخله ارتطام النهاية.
في
تلك اللحظة، عرفت إيفرلي أن المرض ليس فقط في المعدة... بل في الصمت، في الأسرار، في كل ما لم يُقال.