رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخمسون 50 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخمسون 

تمتمت إيفرلي بصوت يشبه اعترافًا مُتأخرًا:
— "يا للغباء... تخونني أذناي عند هذا العمر، وتبدو الكلمات كأنها تُعيد تشكيل نفسها دون إذنٍ من عقلي. أقسم أنني سمعتكِ تهمسين بأنكِ مصابة بسرطان المعدة... لا بد أن غضبي من ذلك المعتوه تسرب إلى دواسات سيارتي، فجعلها ترتجف بدلاً عني."

أجفلت سارة قليلًا، لكنها مدت كفّها برقةٍ مدروسة، ووضعتها فوق يد إيفرلي كما توضع راية بيضاء فوق أرض محترقة.
قالت، وهمسها ينسدل على الألم كما تنسدل الستائر فوق نافذة تعبت من النظر:

— "إيف... لا مفرّ من مواجهة ما هو آتٍ، حتى لو جاء على هيئة وحشٍ لا نراه."

توقفت إيفرلي عن الحركة. نظرت إليها بعينين لم تعُد تملكان القدرة على المجابهة، كأن الغبش الذي تراكم عليهما كان من داخلها لا من الخارج:
— "أنتِ تمزحين، أليس كذلك؟"

لكن سارة لم تبتسم.
كان في ملامحها صمتٌ أصدق من الكلام، نظرة من تعرف أن المزاح مع الموت يُعد جريمة.

— "أنتِ تعلمين أني لا أجيد المزاح، لا سيّما مع الهاوية. قصصتُ شعري يومها، ليس لأنني أردت التغيير، بل لأن الجرعة الأولى لم تُمهلني كثيرًا."

لم تحاول إيفرلي حبس دموعها هذه المرة. لم تجد في داخلها متسعًا للمكابرة. أمسكت يد سارة بقوة كأنها تنتشلها من الغرق، وكأن التماسك وهمٌ يتقنه الغرباء فقط.

— "لا... لا يمكن! لا بد أن الفحوصات قد خذلتكِ! أنتِ ما زلتِ صغيرة، عنيدة، قوية... كالريح. كيف يتسلل مرض كهذا إلى جوفكِ؟ كيف؟!"

سارة، كمن تعب من طمأنة الآخرين، جلست قربها، وبدأت تحكي...
عن الألم

الذي لا يُرى في الأشعة، عن الليل الذي يمرّ بلا نوم، عن الأمل الذي يأتي ويذهب بلا موعد، وعن كل تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تُكتب في تقارير الأطباء.
كان وجه إيفرلي يغرق شيئًا فشيئًا، ليس بالدموع فقط، بل بطفولةٍ ظنت أنها لن تنكسر أبدًا. كانت تظن أن المرض لا يطرق أبواب من يشبهونها... وأن الموت لا يمرّ من شارعها.

— "لا تقلقي، الطب يتقدّم بسرعة مذهلة. وإن تعاونتِ مع طبيبكِ، ستخرجين من هذه المرحلة أقوى... حتى لو بزجاجة دواء في حقيبتكِ."

مسحت دموعها بظهر يدها المرتجف، ثم تنهدت:

— "أنا آسفة... لم أكن أعلم أنكِ تحملين هذا كله وحدك. سأكون معكِ، في كل جلسة، في كل انتظار، في كل ارتجافة. لا أحتاج للعمل الآن، يمكنني التوقف لعام كامل. سأكون ظلكِ حين تُطفأ الأضواء."

هزّت سارة رأسها ببطء، كأنها تشكر الحياة على نعمة الحضور الصادق. عيناها كانتا مثبتتين على النافذة، حيث بدأت ألوان السماء تذوب في بعضها البعض.

— "إيف... هيا، لنذهب ونشاهد الشفق القطبي سويًا. ولو من خلف زجاج طائرة، أو حتى من صفحة كتاب."

ردّت إيفرلي، بصوتٍ ينضح بدفءٍ نادر:

— "حالما تتحسنين... سأحملكِ إلى الشمال إن أردتِ، لا الشفق فقط، بل حتى إن رغبتِ بقطف نجمة، سأجعلها تتدلّى من عنقكِ كسلسلة."

سارة، بابتسامة مشوبة بحنينٍ جارح، همست:

— "لقد قال أحدهم ذلك من قبل... إنه سيجعل النجوم تمطر على كتفيّ."

رفعت إيفرلي حاجبًا، وغمغمت بنصف سخرية:

— "أوه، لا تبدأي من جديد! أي نجوم وأي عشق؟ ذلك المتحذلق لم يعد يراكِ. لمَ لا تحذفينه

من رأسكِ؟ تخلصي منه، وواعدي أحدهم فقط لتنتقمي."
ابتسمت سارة... ابتسامة لم تكن كاملة، كأن الحزن فيها يُمسك بخيط الضحك حتى لا يخرج.

— "لا يمكنكِ لومه يا حواء... هو أيضًا مريض، لكن من نوع آخر."

اتسعت عينا إيفرلي بسخرية حادة:

— "مريض؟ سرطان؟ آمل ذلك. آمل أن يكون في مرحلته الأخيرة. وصدقيني... يمكننا انتظاره سويًا، حتى ترثي أحزانه."

ضحكت سارة، ضحكة قصيرة مربكة، كأنها تمشي فوق حبلٍ مشدود بين الحزن والتهكم، ثم تنهدت:

— "هيا، دعيني أخبرك بكل شيء... من البداية، ومن القاع."

أخيرًا، وصلا إلى الشقة.
كان الليل يُقشّر جلده خارج النافذة، والبرد قد تقمّص هيئة أشباح تسلّلت إلى العظام، لكن الداخل كان أكثر صقيعًا من الخارج.
ارتمتا على السرير كما ترتمي الأرواح المُتعبة فوق أمنية بالية. لا حوار، لا موسيقى، فقط أنفاس متقطعة وأفكار تتزاحم تحت الجفون.

قطعت سارة الصمت، بصوت خافت كأنها لا تخاطب أحدًا سوى نفسها:
— "أدرك تمامًا ما يمرّ به... الشعور بالذنب تجاه أخته لا ينام. لو كنتُ مكانه، لتهشّمت من الداخل ولم أعد. هو... يعاني، وربما أكثر مما يظن الجميع."

قلبت إيفرلي جسدها بتوترٍ ظاهر، كما لو كانت الكلمات تخزها تحت الجلد:
— "سارة... كفاكِ تجديل الأعذار حول عنقه. الألم لا يُبرر القسوة، ولا يمنح أحدهم حق تمزيقكِ ببطء فقط لأنه يتألّم. توقفي عن هذا الغرق الرومانسي البائس. هو اختار أن يبتعد، فابتعدي أنتِ أيضًا. خذي ما لكِ منه وامضِ... لا تنظري خلفكِ."

ابتسمت سارة بسخرية باهتة، كأنها تحاول

نزع شوكة من صدرها بكفٍ مرتعشة:
— "وهل تجاوزتِ جوش أنتِ؟"
سؤالها لم يكن سكينًا، بل مرآة.

صمتت إيفرلي.
في الصمت أحيانًا إجابة، وفي نظرة منكسرة كل ما لا يُقال.

سنوات طويلة لا تُختزل بعبارة، ولا تُمحى بخطوة. فالعلاقات القديمة تشبه الحبر الأسود... حتى إن جفّ، يترك ظلًا على الورق.

قالت أخيرًا بصوت غائم كضوء الفجر:
— "الوقت، فقط الوقت... هو كفيل بمحو كل شيء. حتى العهود التي أقسمناها تحت المطر، تختفي. لا حب ينجو طويلًا هنا... هذا العالم ينسى، ونحن معه."

سارة، وقد هرب بصرها نحو سقف الغرفة، همست كأنها تقرأ سطرًا من كتابٍ لا يُعاد طبعه:

— "ولكن... لم يعد لدي وقت، إيف."

جفّ حلق إيفرلي. شعرت بأن الهواء من حولها يتكثّف، يصير ثقيلاً كألمٍ غير مُعلن.
همست برجاءٍ خافت:

— "لا تستسلمي. لا الآن... لا تزال أمامكِ معركة."

أغمضت سارة عينيها، كمن يعيد إحصاء ندوبه، وقالت بصوت خالٍ من الزخرفة:

— "هل تعرفين كيف يشعر العلاج الكيميائي؟
كأنكِ حقلٌ في مجاعة... يُسحب منه آخر قطرة خصوبة. الألم لا يطرق بابًا بل يدخل فجأة، ويأخذ معه كل شيء: الطمأنينة، النوم، الرغبة.
جسدي يُفرغ من روحه تدريجيًا، مرحلةً بعد مرحلة، سيصلون إلى العظام في المرة القادمة، سيحقنون السمّ في نخاعي.
وليس في جسدي مكانٌ لم يُضرب.
لا أملك قوة. ولا فائدة.
أشعر أنني شيء لا لزوم له."

شهقت إيفرلي، لكنها لم تقاطع.
وسارة تابعت، كمن يرتّب ذاته للمرة الأخيرة:

— "والدي... لا يزال بين الحياة والموت، جثةٌ على جهاز. أمي، منذ زمن بعيد،

غادرت قلبها وتزوجت.
أما هو... الرجل الوحيد الذي أحببته، اختار السعادة في مكانٍ لا وجود لي فيه."

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1