رواية فرقة المهمات الخاصة الفصل الرابع 4 بقلم جميلة القحطانى

رواية فرقة المهمات الخاصة الفصل الرابع بقلم جميلة القحطانى


في زقاق ضيقٍ تغزوه رائحة القهوة المرة ومطر الليل الباكر، كانت ثلاث فتيات يسيرن بخطًى متعبة، كأنّ كل خطوة منهنّ تحمل وجع العالم على كتفيها. يجتمعن كل مساء على سطح منزل شهد، حيث لا سقف يحجب عنهنّ السماء، ولا جدران ترد صدى أنينهن.

هدى، بعينيها الواسعتين المتعبتين، كانت تمسك بكتاب الطب وكأنها تتشبث بأملها الأخير. نظرت إلى نورا وقالت:أنا مش عارفة هكمل إزاي كل ما أرجع من شغل البيوت، بحس إني مش بني آدمة. إزاي هبقى دكتورة وأنا أصلاً مش لاقية وقت أذاكر؟! أخويا بيهددني كل مرة بيقولّي لو ماجبتش فلوس، هيرميني من البيت!

سكتت قليلًا، ثم مسحت دمعة خائنة نزلت رغماً عنها. أكملت بصوت مكسور:هو بيضربني، بيكسر فيّ بس برجع أقول، لو بقتلي أمّي كانت هتفرح بيّا وأنا لابسة بالطو أبيض.

نورا، بشعرها المجعد المربوط بإهمال، تنظر للأسفل وتحرك قدميها بتوتر:أنا كمان نفسي أحقق حلمي كلية الهندسة صعبة، ومحتاجة تركيز ومصاريف كتير. أمي تعبانة، ماعادش بتقدر تتحرك، وأنا ببشتغل بالليل في ورشة صغيرة بس لو مشيت من الكلية، حلمي هينهار ومش هينفع أقول لحد، لأنهم هيقولوا لي:إنتي بنت، يعني آخرتها جواز ومطبخ!

شهد كانت صامتة، تمسك بهاتفها الصغير، تنظر لمقاطع المذيعات المشهورات وتبتسم بحسرة.

ثم قالت فجأة:أنا بابا كل ما يشوفني بحضر برامج أو بتمرّن على النطق، يزعقلي بيقول لي:البنات ما يشتغلوش في التلفزيون!'مرة قال لي: 'هتطلعي على الشاشة؟ الناس هيقولوا بنتي قليلة الأدب!بس أنا نفسي أكون صوت الناس، نفسي أغيّر الدنيا بكلمة.

ساد الصمت لثوانٍ، فقط أنفاس مختنقة وشهقات مكتومة.

رفعت هدى رأسها للسماء، وقالت:إحنا ليه دايمًا بندفع تمن أحلامنا؟! كأن المجتمع حاكم علينا بالفشل لمجرد إننا بنات!

نورا قالت، وكأنها تحاول إحياء شيء داخلها:يمكن علشان البنات لما تحلم، الناس بتخاف بس إحنا مش هنستسلم، صح؟ حتى لو الطريق كله شوك.

وشهد ابتسمت لأول مرة، وهمست:ويمكن يوم نطلع نحكي قصتنا في برنامج، أو نبني مستشفى، أو نصمّم مدينة ونقول: إحنا اللي بدأنا من تحت الصفر، وما سمعناش كلامهم.

في صباح بارد، خرجت هدى من بيتهم الصغير ترتدي معطفًا مهترئًا يخفي كتب الطب التي تُخفيها في حقيبة اليد، ومعها أيضًا قِفاز مطبخ. وجهها شاحب، ليس من قلة الطعام، بل من قلة النوم الليل للكتب، والنهار للمسح والغسيل في بيوت الأغنياء.

كان أخوها نادر ينتظرها عند الباب كعادته، بنظراته القاسية وصوته الجاف:معاكِ فلوس؟ وإلا أرجعك من نص الطريق!

كانت ترتجف وهي تمد له آخر ورقة نقدية أعطتها لها إحدى السيدات عن تنظيف بيتها. هو لا يعرف أنها في السنة الخامسة طب، لا يعرف أنها كانت الأولى في دفعتها لا يهمه شيء سوى المال ليسد إدمانه.

تمتمت:نفسي أمسك مشرط الجراحة، مش مكنسة.

لكنها كانت تعرف أن الحلم وحده لا يُطعم ولا يحمي.

أما نورا، فكانت تحاول أن تبني أحلامها على ورق الرسم، لكنها في الواقع تبنيها في فراغ. والدتها كانت ترقد بلا حركة، أنفاسها ضعيفة، والعلاج مكلف.

كلما جاءت فاتورة الجامعة، كانت نورا تبكي، تُمسك دفتر الرسومات وتحاول أن ترسم، لكن الخطوط تهتز من دموعها.

لم يكن لديها أب، ولا إخوة، فقط جيران طيبون يساعدونها أحيانًا، لكن إلى متى؟ وكانت تقول في سرها:أنا عايزة أبني ناطحات سحاب بس كل اللي حواليا بينهار.

شهد: صوت لا يُسمع

شهد، كانت تملك صوتًا إذاعيًا ساحرًا، وعيونًا تلمع بالحلم. في كلية الإعلام، كانت المذيعات ينظرن إليها بحسد لكنها كانت تخاف أن يراها والدها وهي داخل الاستوديو.

كان يراها عيبًا، أنثى لا يصح أن تظهر، أن تتكلم، أن يحترمها الناس بصوتها.

كان يريدها معلمة في أقرب مدرسة، لا مذيعة على شاشة.

في إحدى الليالي، وقفت شهد أمام المرآة، وأخذت تمسك فرشاة شعرها كأنها ميكروفون، وتقول:معكم شهد، في برنامج صوت البنات.

ثم قطعت أحلامها صرخة والدها من خلف الباب:ما تفتحيش صوتك! مش ناقصين فضايح!

كن يلتقين في مقهى صغير، يُطل على زقاق مهجور، يضحكن رغم كل شيء، يخططن ليومٍ يصنعن فيه فرقًا.

هدى كانت تشرح لنورا طريقة للإسعافات الأولية لأمها، وشهد كانت تصور اللقاء على جوالها كأنها تقدم برنامجًا، بينما كانت نورا ترسم على منديل ورقي تصميما لمنزل يضم مكتبة، عيادة، واستوديو إذاعي.

ضحكت هدى وقالت:إحنا نقدر نفتح مشروع! نبني مكان حلمنا، بس نحتاج نؤمن ببعض.

قالت شهد بعين تلمع:وأنا أغطي المشروع إعلاميًا!

قالت نورا:وأنا هصممه!

ضحكن في وسط الهم، لكن في الضحكة كان وعد…

ليس وعد المجتمع، بل وعدهن لبعض.

في أحد الأحياء الشعبية حيث يعيش سامح و جود. يلتقيان دائمًا في ساحة الحي بعد العمل، يجلسان ويتحدثان عن المستقبل وأحلام الهروب من الواقع الصعب.

كان الحي في أطراف المدينة يغطّ في سكون ثقيل بعد منتصف الليل. في إحدى الزوايا المظلمة، وقف أربعة شباب يحيطون بأحد أصدقائهم رائد.

 رائد 22 سنة شاب حادّ الطبع، يحمل في قلبه جراحًا من خذلانات كثيرة، ويشعر أن العنف هو وسيلته الوحيدة لفرض نفسه.

مازن 21 سنة أهدأهم، يحاول دائمًا أن يكون صوت العقل لكنه ضعيف التأثير.

ساري 23 سنة متقلب المزاج، يملك جسدًا رياضيًا وشخصية استفزازية، لا يحب أن يشعر بالضعف.

براء 19 سنة أصغرهم، يحاول إثبات نفسه بأي وسيلة، حتى لو كانت متهورة.

كان رائد يصرخ فيهم:اللي ضرب أخويا مش هيعديها كده! قسمًا بالله نرجعه يبكي دم!

مازن وضع يده على كتفه محاولًا تهدئته:رائد، اسمعني بس لو دخلنا في شجار دلوقتي، إحنا اللي هنخسر! الشرطة بتدور حوالين المنطقة، وممكن الأمور تتطور.

ساري التفت إليه ساخرًا:مازن، كفاية بقى صوت العقل بتاعك ده! أنت فاكرهم هيسيبونا؟ لازم نرد!

براء كان قد اختفى لحظات، ثم عاد وهو يحمل سكينًا صغيرة، عيونه تلمع بالحماس والخوف:أنا جاهز قولوا بس متى؟

وفي خلال أقل من نصف ساعة، كانوا قد وصلوا لزقاق ضيّق خلف أحد الأبنية، حيث تواجدت مجموعة من الشباب من الحيّ الآخر، من بينهم تميم، الشاب الذي اتُّهم بضرب شقيق رائد.

الجوّ كان مشحونًا، الكلمات تصاعدت بسرعة وتحولت لصرخات، ثم لضربات متبادلة.

لكن ما لم يتوقعه أحد أن براء، في لحظة تهوّر، اندفع وطعن أحد خصومهم في جنبه!

صرخة الشاب المصاب مزّقت سكون الليل، وسقط أرضًا والدم ينزف من جسده.

ارتبك الجميع، تراجع رائد وساري، أما براء فظلّ يحدّق في يديه المرتعشتين، وكأن الحياة غادرت وجهه.

صرخ مازن:إحنا لازم نبلغ الإسعاف! ده ممكن يموت!!

رائد سحبهم من المكان قائلًا:لو مسكنا البوليس دلوقتي، هنضيع كلنا!

هربوا من الزقاق تاركين خلفهم صراخ المصاب وأنفاسه المتقطعة.

الفصل الخامس من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1