رواية ظل البراق الفصل الخامس 5 بقلم مريمة

 

رواية ظل البراق الفصل الخامس بقلم مريمة


الحب لا يُنسى، وإن مرّت السنون واعتراها الغبار. قد يخبو لهيبه حينًا تحت ركام الأيام، لكنه يظلّ كامناً كجمرٍ هادئ، ينتظر هبّة ريح صغيرة ليعود ويتوهّج من جديد. إنه لا يحتاج إلى وعدٍ كي يعيش، ولا إلى لقاءٍ كي يثبت وجوده؛ يكفي أن يترك أثرًا في الروح، فيغدو جزءًا من ملامحها، يُشبه ندبةً لا تُمحى. قد يُقاومه صاحبه ويُحاول أن يتناساه، غير أنّ القلب يظلّ يذكّره في لحظة صدق، فيبتسم وهو لا يدري، أو يضطرب حين يلمح عيني من أحبّ ولو من بعيد. إنّ الحب في أصله سرٌّ عميق، لا يُشترى ولا يُباع، ولا يُستبدل بعاطفة أخرى، إنما يُخلق في القلب مرةً واحدة، ويظلّ حيًا مهما ادّعى صاحبه النسيان.
__________________

في تلك الليلة التي تلت المباراة، كان بيت رقية يعجّ بدفءٍ استثنائي. الحارة من حولهم تنام شيئًا فشيئًا، إلا أنّ أصواتهم وحدها كانت تنبض بالحياة. الغرفة الصغيرة المضيئة بمصباحٍ متواضع، امتلأت برائحة الشاي الساخن وأصداء الضحكات، كأنها تحاول أن تمحو ما خلفه اليوم من تعب. جلست رقية وسط إخوتها ومدام ناهد، تحيطهم بعينيها كأمٍّ لم تُنجب سوى الأمان، بينما الجو يتنقّل بين حكايات، وتعليقات ساخرة، وأسرارٍ صغيرة لا تُقال إلا في حضرة المقرّبين.
جلس سيف في المنتصف، كعادته حين يشعر أن له الكلمة، مائلًا بجسده إلى الأمام، وعيناه تلمعان بوهج لم ينطفئ بعد منذ المباراة التي خاضها عصرًا. أخذ يتحدث باندفاع، يحرّك يديه وكأنه ما زال في الملعب، يُقلّد خطواته ومراوغاته، وكلما روى لقطة انفجرت هنا في ضحكٍ صاخب، بينما تكتفي نور بهز رأسها وهي تمسك كتابها في يد وتضحك في الأخرى، أما ناهد فكانت تبتسم ابتسامة عريضة وهي تراقب سيف بحنوٍّ واضح.
قال "سيف" وهو يصف لحظة تسديده الأخيرة:
ـ "بُصي يا هنا! أنا كنت شايف الجون قدامي كده، والواد اللي بيحرّس الجون واقف مستني إني أضربها على اليمين. بس أنا رحت مغيّرها في آخر لحظة على الشمال، و… جون! والله الكورة اتشقلبت في الهوا كأنها بتطير مش بتمشي!"
قهقهت "هنا" وهي تضع يدها على خدها:
ـ "يا نهار أبيض! طب والعيال اللي ضدكم عملوا إيه؟"
اعتدل "سيف" فخورًا، وضرب صدره بيده:
ـ "وقفوا يتفرجوا عليا يا هنا. واحد منهم قال بصوت عالي: الواد ده مكانه الأهلي مش في الحارة دي!"
ضحكت "نور" حتى دمعت عيناها، وقالت ساخرة:
ـ "طبعًا! ناقص بس ييجوا يوقّعوا معاك عقد، وتسيب الثانوية وتبقى نجم مصر!"
قهقهت" ناهد" وقالت:
ـ "والله يا نور ما تستبعديش، الولد عنده موهبة. أنا عمري ما شوفت حد بيحكي عن الكورة بالشغف ده، شكله فعلاً بيحبها."
ابتسمت رقية وهي تراقب إخوتها. كان قلبها يلين وهي ترى سيف متحمسًا، نور تضحك، وهنا تلمع عيناها، وكأن للحظة واحدة نسوا كل التعب، وانشغلوا فقط بسحر الحياة البسيط.

قالت "رقية "وهي ترفع صوتها قليلًا لتعيد النظام إلى الجلسة:
ـ "طيب اسمعوا يا ولاد… أنا اتفقت مع يوسف، بكرة الساعة خمسة هنخرج كلنا. يوسف هييجي ومعاه خالتكم سمية وعمو ابراهيم. يعني يوم عيلة كده يغيّر جو."
صفقت "هنا" بيديها بفرحة:
ـ "الله! بجد يا روقا؟ و ربنا نفسي أخرج أتنفّس. من ساعة ما دخلت الكلية وأنا حاسة إني محبوسة."
ابتسمت" نور"، وقالت بحذر وهي تنظر في كتابها:
ـ "بس أنا عندي مذاكرة كتير، مش عارفة لو…"
قاطعتها "رقية" بصرامة خفيفة:
ـ "مفيش لو يا نور. يوم واحد مش هيضيع الدنيا. هتيجي يعني هتيجي."
قالت "ناهد" وهي تضحك:
ـ "أنا كمان معاكم ولا إيه؟"
أجابتها "رقية "وهي تلمح بعينيها نحوها بحب:
ـ "إنتِ مننا يا ناهد، مش محتاجة تستأذني."
ضحكت ناهد، لكن في قلبها لمعة امتنان، فقد اعتادت أن تُعامل دومًا كضيفٍ حتى في أقرب البيوت، إلا أن بيت رقية كان مختلفًا، فيه روح أمٍّ مفتقدة، ودفء لم تعهده منذ رحيل والديها.
واصل سيف حديثه باندفاع، حتى إنه قام واقفًا يحاكي لحظة مراوغته لأحد الشباب في المباراة:
ـ "أنا كنت جاي من الناحية دي… وهو فاكرني هعدّي منه على الشمال. رحت واقف ولفيت من الناحية التانية. والواد وقع على الأرض، وكل العيال قعدوا يضحكوا عليه!"
صرخت" هنا "من شدة الضحك:
ـ "يا فضيحتك يا سيف! كسّفت الواد في نص الحارة!"
غرق الجميع في موجة جديدة من الضحك، حتى رقية نفسها لم تستطع تمالك نفسها. لحظةً قصيرة لكن جميلة، أزالت تعب الأسبوع، وأعادت إليهم شعورًا بالانتماء إلى حياة طبيعية رغم كل ما يحملونه من هموم.
ثم هدأت الأجواء قليلًا، وبدأ كل واحد منهم يستعد للذهاب إلى حجرته. جلست رقية بجانب ناهد التي بدت أكثر صمتًا في اللحظات الأخيرة، بينما ذهب سيف ليجلب هاتفه ليريهم صور المباراة، ونور انشغلت بترتيب كتابها.
لكن رقية، بعينها اليقظة، لاحظت أن وراء ابتسامة ناهد الحانية ما يشبه السحابة الخفيفة، شيئًا من الحزن لم يُفصح بعد. ومع ذلك، لم تشأ أن تُعكّر لحظة العائلة، فأرجأت الأمر إلى وقت لاحق، حين يخلو الجو بينهما.

في تلك الأثناء، رنّ هاتف ناهد الموضوع بجانبها. نظرت إلى الشاشة قليلًا، ثم أجابت بصوت منخفض، وتغيّرت ملامحها تدريجيًا وهي تستمع. أنهت المكالمة بسرعة، ثم وضعت الهاتف جانبًا. سألتها رقية بنبرة قلق:
ـ "خير يا ناهد؟ مين اللي بيتصل؟"
تنهدت "ناهد" قليلًا وقالت:
ـ "مرات أخويا... بتقول إنها هتبات عند بيت أهلها الليلة. يعني أنا هرجع البيت ألاقيه فاضي."
هزّت "رقية" رأسها بحزم:
ـ "يبقى مفيش رجوع. هتباتي هنا النهارده. خلاص، اعتبري نفسك في بيتك."
ترددت" ناهد" لحظة، ثم ابتسمت بخفة وقالت:
ـ "هو في بيت أحنّ من هنا؟"
ساد صمت قصير، قطعه صوت "نور" وهي تقول بفضول:
ـ "ناهد، هو إنتي عمرك ما اتجوزتي؟"
تغيّرت ملامح "ناهد"، بدت وكأنها تزن كلماتها بحذر. ابتسمت ابتسامة شاحبة وقالت:
ـ "اتجوزت... بس ربنا ما كتبليش الذرية. والجواز ما كملش."
ارتسمت على وجه رقية لمحة حزن، لكنها لم ترد بكلمة. كانت تعلم أن وراء هذه الكلمات المختصرة تاريخًا طويلًا من الألم.
أضافت" ناهد "صوت أكثر دفئًا:
ـ "بس ربنا عوّضني بأخويا، وبنته، وزوجته اللي بحبها زي أختي. إحنا عايشين مع بعض في بيت ابويا، والحياة ماشية، وربنا كريم."
سكتت قليلًا، ثم تاه نظرها بعيدًا كأنها ترى صورة غائبة:
ـ "أخويا الله يرحمه... كان راجل جدع، ابن موت. ضحّى بروحه وهو في خدمة بلده. ومراته، رغم صغر سنها، رفضت ترجع لبيت أهلها بعد ما استشهد. فضلت تعيش معايا أنا وبنته. وده فضل من ربنا. على الأقل، حسّيت إني مش لوحدي."
اقتربت رقية منها وربّتت على كتفها بلطف، فيما خيّم صمت على المكان، صمت مفعم بالاحترام والحب. لكنّ ناهد سرعان ما حاولت أن تغيّر الأجواء، فابتسمت وقالت مازحة:
ـ "يلا يا جماعة، كفاية كلام جدّ. بكرة عندنا مشوار كبير وجامعة وشغل ، ولازم ننام بدري."
وافقتها رقية في الرأي ، وبالفعل بدأ الكل يدخل علي غرفته
نور وهنا ذهبوا لغرفتهم بعدما رتبوا المكان ، وسيف ايضا نام في غرفته الصغيرة ، وذهب ناهد لكي تنام في غرفة رقية.

بداخل غرفة رقية جلست ناهد على حافة السرير، وأسندت ذراعيها فوق ركبتيها، بينما نظراتها شاردة ناحية الأرض. رقية مدت إيدها وراحت تمسّد على ظهرها بهدوء، بنبرة مليانة دفء قالت:
ــ "إنتِ النهاردة وشك تعبان أوي يا ناهد… مش محتاجة تشرحيلي، أنا عارفة كل اللي جواكي."
رفعت" ناهد" عينيها ببطء، وفيها لمعة دموع محتبسة، وقالت بصوت واهن:
ــ "أصل كل ما الليل ييجي… بيرجعلي الإحساس بالوحدة، كأني بخسر كل حاجة من أول وجديد."
"رقية" قربت منها أكتر، وابتسمت ابتسامة صافية رغم الحزن اللي في كلامها:
ــ "إنتِ مش لوحدك، ومش هتكوني لوحدك طول ما أنا موجودة. إنتِ حكيتِلي قبل كده عن وجعك وعن اللي عدى، وأنا حفظت كل كلمة… عشان ما تحسيش أبدًا إنك شايلة الحمل لوحدك."
تنهدت" ناهد" وأرخت رأسها على كتف رقية كأنها وجدت أخيرًا ما تستند عليه. تمتمت بخفوت:
ــ "عارفة يا رقية… يمكن ربنا عوضني فيكي. أنا دايمًا بقول لنفسي، رقية دي بنتي الكبيرة وأختي ، وأنا مش هلاقي بنت زيك أبداٍ."
"رقية" شدّت عليها بذراعها وقالت بإصرار:
ــ "ربنا عوضك فعلاً… وأنا كمان. وجودك جنبي مخلي الحمل أخف. عارفة إن عندك ندوبك، وأنا كمان عندي ندوب، بس إحنا مع بعض بنكمل."
ضحكة قصيرة خرجت من بين دموع ناهد:
ــ "يا رقية، إنتِ أجدع من مية أخت… يمكن ساعات بحس إني مش بعمل معاكي كفاية."
هزّت رقية رأسها:
ــ "إحنا مش بنقيس حبنا ببعض يا ناهد… إحنا عيلة. واللي بينا أكبر من أي رد جميل."
اكملت "رقية " بتساؤل:
_ " ناهد ، ليه مابقتيش تجيبي سيرة الموضوع ، أو تحكيلي عنه تاني؟"
رفعت ناهد عينيها إليها فجأة، كأنها ارتبكت . لكنها ما لبثت أن ابتسمت ابتسامة غامضة، وردّت بصوت خافت:
ــ "مش كل اللي جوا الواحد ينفع يتقال  أو نفضل نكرره يا رقية."
رقية لم تُصرّ، لكنها أطرقت قليلًا ثم قالت بهدوء:
ــ "بس اللي مايتقالش… بيبان. على الوش… في النظرة… حتى في طريقة مسكة الكوباية."
سكتت ناهد، تشدّد أصابعها حول الكوب،تنفست بعمق، ثم قالت جملة متقطعة:
ــ "في حاجات… لو خرجت هتغيّر كل حاجة… وأنا مش عايزة ده دلوقتي."
لم تُعلّق رقية. اكتفت بأن مدت يدها وربّتت بخفة على يد ناهد، وكأنها تقول: "أنا فاهمة"، من غير ما تنطق.
حينها تنفست ناهد الصعداء، وأطلقت ضحكة قصيرة لكنها ممزوجة بوجع قديم، ثم غيّرت الموضوع فجأة، تسأل عن أمور عادية كأنها تُبعد الحديث عن حدود الخطر.
أما رقية، فظلّت تبتسم في صمت. لم تُلاحقها بالأسئلة، لكنها في أعماقها تعرف أن وارء ناهد… ظل لا يراه أحد.

بعد دقائق غمرهما الصمت بعد الكلام، كأنهما اكتفيا بتبادل الطمأنينة. فقط دفء القرب هو اللي ملأ الغرفة، وصوت أنفاس متوازنة بينهما، وليل ثقيل يحمل أسرارهنّ معًا دون حاجة لشرحٍ أو بوحٍ جديد.
________________________

في بيوتٍ كثيرةٍ، تكون موائدُ الصباحِ أشبهَ بساحاتِ هدنةٍ قصيرةٍ بين حروبٍ طويلة: حروبِ الأنا والذكريات، حروبِ المقارنات والجيوب. يجلسُ الناسُ متقابلين، يتبادلون الملحَ والخبز، بينما تُدارُ في الداخلِ حساباتٌ أقدمُ من دفاتر التجارة؛ حساباتُ الكرامةِ والرغبةِ في أن يعلو أحدُهم — ولو قليلًا — على قريبٍ يشبهه أكثر مما يطيق. على هذه الموائد، لا يتكلمُ المالُ بلسانٍ صريحٍ فقط، بل بارتجافةِ ملعقة، وبنظرةٍ مقتضبة، وبشهقةِ أمّ تخشى الشماتة أكثر مما تخشى العوز. هناك، يتعلّمُ الأبناءُ أن الأرغفةَ قد تُقَسَّمُ بالتساوي، لكنّ الفرصَ لا تُقسم كذلك، وأنّ قربَ الدم لا يمنعُ بُعدَ الطريق.

كان فطورُ بيتِ رزق البرّاق يمضي على إيقاعٍ محسوبٍ؛ أصواتُ الأكوابِ وهي تطرقُ الطاولة، وانسحابُ المقاعدِ على عجل، وصمتٌ رقيقٌ بين جملةٍ وأخرى. رفع "رزق" رأسه عن هاتفه، مسح سبّابته على الشاشة كأنما يمحو خبرًا سيئًا، وقال بنبرةٍ مُتماسكة تخفي ضيقًا لا يخفى على من يعرفه
ـ "السيولة واقفة يا خالد… الوضع مش مطمّن. شغل السوبرماركت مش ماشي زي الأول، والموردين ضاغطين."
رفع "خالد "حاجبه باستخفاف، ثم مال إلى الخلف وهو يقول بثقة مفرطة:
ـ "ماتقلقش يا بابا، أنا هظبط كل حاجة. عندي فكرة هتقلب الطاولة. اللي معانا يكفّي نضارب بيه، ونطلع ربح نخلّي عامر وولاده  مايجوش جنبا حاجة ."
عندها تدخلت "سعاد" بسرعة، وقد لمعت عيناها بدهاء وهي ترفع فنجان الشاي إلى شفتيها:
ـ "الله ينور يا خالد… هو ده الكلام اللي يفتح النفس. إحنا لازم نفضل أحسن من عامر وعياله. مش كفاية واكلين كل حاجة في بطنهم ؟ لسه عايزين يتصدروا علينا؟ لأ… لازم إحنا اللي نكسرهم."
تحرّك" عبدالله" في مقعده، ملامحه طفولية فيها قدر من الطيبة، وقال بتردّد:
ـ "بس يا ماما… عمي عامر راجل طيب، عمره ما أذانا. ليه دايمًا بنفكر إنهم عايزين يشمتوا فينا؟ يمكن إحنا اللي مكبّرين الموضوع."
لم تنتظر "سعاد "كثيرًا، وضعت الكوب على الطاولة بحدّة، ووجّهت له نظرة حادة كالسهم:
ـ "اسكت يا عبدالله! إنت عمرك ما هتتعلم. طيبة أبوك هتضيّعنا. عامر ده أذكى مما تفتكر، واللي مش باين النهارده يبان بكرة. إنت عايزنا نتحوّل لملطشة للناس؟!"

قهقه "خالد "ضاحكًا وهو يومئ برأسه نحو أخيه:
— "أهو الورشة غسلت دماغه… يا باشمهندس، سيبك من كلام الكتب. السوق عايز ودن تقيلة وإيد ما بتتهزش."
رفع "عبد الله "عينيه إلى خالد، لمعةُ الغضبِ تُخفيها لياقةُ الأصغر أمام الأكبر:
— "والكرامة كمان عايزة ودن تقيلة. وإيد ما بتتمدّش في حتّة غلط."
أكمل "خالد " بضيق وعصبية طفيفة:
ـ " أنتَ طول عمرك عايش في دنيا تانية. عايزنا نسيب الدنيا كلها ونرمي نفسنا في حضن عامر وعياله!  فاكرهم ملايكة."
رد "عبدالله "بعناد نادر على شخصيته:
ـ "لا يا خالد، بس كمان مش عايز أبقى زيك… شايف الدنيا كلها حرب. إحنا في الآخر ولاد عم."
ضحكت "سعاد" بضحكة قصيرة خالية من الدفء، ثم نظرت لعبدالله نظرة تقطر سخرية:
ـ "ولاد عم! يا ابني فوق… الدم ماعادش يربط حد دلوقتي، اللي بيربط هو الفلوس والنفوذ. وإحنا مش هنخليهم يسبقونا بخطوة."
تنهّدت سعاد، لكنها عادت سريعًا إلى نفس النغمة الحادّة:
— "المهمّ نِعدّي الأسبوع ده ونقف على رجلينا. مش عايزة أخبار ولا كلام يطير. والناس برا الحارة عينهم علينا."
حرّك "عبد الله" الكوب قليلًا، ثم استجمع صبره:
— "أنا رايح الكلية بعد ربع ساعة. بس قبل ما أمشي، يا بابا… لو الأمر عايز ترتيب بالورق وفلوس تتوزّع بذكاء، أنا أقدر أساعد. أراجع دفاتر، أزبط جدول توريد. من غير… لفّات."
لوى" خالد" فمه بابتسامةٍ جانبية:
— "يا ابني إحنا مش في مشروع تخرّج. سيب دي لرجالة السوق."
أجاب "عبد الله" بنبرةٍ منخفضة لكنها قاطعة:
— "رجالة السوق الحقيقية ما بتبيعش اسمها."
رفع "رزق" كفّه بإشارةِ فضّ اشتباكٍ لا يريد له أن يكبر:
— "بس يا خالد. وخلص فطورك يا عبد الله وروّح كلّيتك، وربنا يسهّل."
ساد الصمت لبرهة، لكن سعاد لم تفوّت الفرصة. مالت برأسها نحو شهد، وقالت بصوت مغموس بالدهاء، يسمعه الجميع لكن يبدو وكأنه موجّه لابنتها فقط:
ـ "إنتِ ساكتة ليه يا شهد؟ ما تقوليش إنك ناوية تفضلي قاعدة من غير نصيب. البنات اللي في سنّك كلهم اتخطبوا. وبصراحة… أنا شايفة إن اللي مننا لازم يكون ليه مكان عند الكبار، مش كفاية بقى نعيش في ظل غيرنا."
 عبدالله نظر لأمة، وكأنّه فهم ما ترمي إليه أمّه، فشعر بالضيق. قال بنبرة معاتبة:
ـ "يا أمي، بلاش تضغطي عليها بالشكل ده. شهد لسه اربعة وعشرين سنه،  صغيرة والدنيا قدامها."
لكن" سعاد" لم تستسلم، بل أطلقت ضحكة قصيرة خبيثة:
ـ "صغيرة؟! الفرص ما بتستناش حد يا عبدالله، واللي يفوّت فرصته يندم. وبعدين… فيه ناس بعينهم لازم يشوفوا بعينيهم إننا مش أقل منهم في حاجة."
كلماتها انسابت في الجو كسمّ بطيء، فأدرك رزق مغزاها، لكنه آثر الصمت، وكأنه لا يريد أن يفتح بابًا يعلم أن غلقه سيكون مستحيلًا. خالد نهض بعدها متعجلًا، وهو يقول باقتضاب:
ـ "أنا نازل على الشغل."
وقام عبدالله هو الآخر، ممسكًا بحقيبته متجهًا إلى الجامعة. بقيت سعاد وشهد وحدهما بعد انصراف الرجال، فانحنت الأم نحو ابنتها، وهمست بنبرة لم تخلُ من القسوة:
ـ "إوعي تفكّري تضيّعي اللي بأجهزهولِك. مهاب مش بعيد، بس لازم تبيني نفسك. فاهمة؟"
رفعت "شهد" عينيها بنبرة اصرار:
_"ماتقلقيش يا ماما ، أنا فاهمة وهو هيبقي قريب وقريب أوي." 

سعاد ابتسمت تلك الابتسامة التي لا تحمل إلا معنى واحد: لعبة طويلة تخطّط لها ببرود، حتى لو احترقت كل الحارة في سبيل أن تظفر بما تريد.

بعد أن انتهوا من تناول الفطور وغادر الأولاد إلى الخارج، جلست سعاد تمسح يديها بالمفرش، وعينيها تتقدان حدة وهي تحدّق في زوجها:
ـ "انت سامع يا رزق؟ كل يوم اللي مننا عمال يفتح ويكبر، واحنا قاعدين هنا مستنيين رزقك ورزق العيال. كده ما ينفعش."
مال رزق إلى الوراء فوق الكرسي، تناول كوب الشاي وأخذ يحرّكه ببطء، وصوته يخرج هادئًا بينما عينيه تلمعان بالطمع:
ـ "أنا سامع، وساكت... بس مش غافل. عارف إن أخويا عامر وعياله واكلين السوق. بس صدقيني... اللي ليّا هاخده، واللي ليكِ كمان. مش كل حاجة تتقال قدام الناس."
ضربت "سعاد" بيدها على المفرش بعصبية واضحة:
ـ "يبقى نفوق بقى! شهد دي ورقتنا الوحيدة... البت صغيرة وجميلة، ولو لفت نظر مهاب، هنبقى وسطهم زي ما بقولك. مش هيفضلوا شايفينا أقلّ منهم."
رفع "رزق "عينيه إليها، وصوته ينخفض حتى يكاد لا يُسمع:
ـ "أنا مش ضدّك يا سعاد... بس اللعب محتاج عقل. مهاب مش غشيم. لو حس إننا بندفشه، هيبعد أكتر. سيبيه ييجي برجليه."
ارتسمت على وجه سعاد ابتسامة خبيثة، وانحنت قليلًا تجاهه:
ـ "وأنا هخليه ييجي... هعرف أعملها. انت بس ما توقفش في وشي."
هزّ" رزق" رأسه ببطء، وأطلق ضحكة قصيرة يملؤها المكر:
ـ "أنا آخر واحد يوقف في وشّك، يا وليّة... إحنا الاتنين في مركب واحدة. بس لو المركب غرقت، هنغرق سوى."
قهقهت "سعاد" بغلّ، وهي ترفع حاجبها في تحدٍّ:
ـ "غرق إيه يا راجل؟ ده إحنا طمعنا هو اللي هيعومنا!"
ساد بينهما صمت قصير، صمت ثقيل أكثر وقعًا من أي كلمة؛ صمت يكشف اتحاد قلبين اجتمعا على الطمع والحقد.

..................
كان الصباح لا يزال غضًّا، تزينه نسمة خفيفة تتخلل الشوارع، والمدينة تتثاءب ببطء كمن استيقظ للتوّ من غفوة طويلة. يوم السبت يحمل دومًا رهقًا مختلفًا؛ إذ يتكدّس فيه طلاب الثانوية بين حصص ودروس متلاحقة، يحاول كل منهم أن ينتزع لنفسه موضع قدم في سباق لا يعرف الرحمة. وسيف، ذاك الفتى الذي كان دومًا أقرب إلى البيت وأهله، بدأ شيئًا فشيئًا يمدّ خطواته خارج الدائرة المألوفة. لم يكن التغيير صارخًا بعد، لكنه بدا واضحًا لمن يعرف عينيه، إذ صارت تحملان بريقًا غريبًا، بريق من يبحث عن عالم أوسع، حتى وإن كان محفوفًا بما لا يُرتجى.

يقع السنتر على بُعد شارعين من قلب الحارة، في بناية قديمة أعيد طلاؤها مؤخرًا بلون باهت يميل إلى الأزرق، وكُتب على لافتته الكبيرة: "مركز النخبة للتدريس". لم يكن ضخمًا ولا مترفًا، لكنه بدا مقبولًا لحدٍّ كبير. المدخل مزدحم بالطلاب، بعضهم يحمل كتبًا متراكمة بين ذراعيه، وبعضهم يمسك أكواب القهوة السريعة، وآخرون يتبادلون الضحكات والهمسات قبل أن يبدأ السباق اليومي.
الداخل أضيق قليلًا مما يبدو من الخارج؛ ممر طويل تكسوه إعلانات الدروس، وعلى الجانبين أبواب تفضي إلى قاعات الدروس
وقف سيف عند باب إحدى القاعات، يضع يديه في جيبه، يترقب بعينين قلقتين. كان حوله ثلاثة فتيان ،الأول كان طويلًا نحيفًا  يُدعي "رامي"شعره مدهون بالجل اللامع، يكثر من تمرير يده عليه كأنه يخشى أن تتبعثر خصلة. كان صوته مرتفعًا دائمًا، يضحك من دون سبب، ويستعرض بجهاز هاتف حديث يتباهى به أمام الآخرين.
الثاني قصير ممتلئ،اسمه"إسلام" عيناه تدوران باستمرار، لا يستقر له نظر، يلوّح بكيس من رقائق البطاطس وهو يتحدث، يمدّ يده لزملائه دون أن ينتظر إذنًا. بين الفينة والأخرى يطلق نكتة سخيفة، ضحكته عالية أكثر مما ينبغي، فيثير انتباه من حوله.
أما الثالث يُدعي " ايهاب"، فكان أكثرهم صمتًا، لكن عينيه الرماديتين لم تخفيا دهاءً مريبًا. يقف متكئًا إلى الحائط، يدخن سيجارة إلكترونية يخفيها سريعًا كلما لمح معلّمًا يمرّ من بعيد. ابتسامته باردة، يرمق كل من حوله بنظرات طويلة، وكأنه يختبرهم.
سيف، بوجهه الطفولي وقامته المتوسطة، بدا غريبًا وسطهم. كان يحمل كتبه في حقيبته بشكل مرتب، قميصه نظيف، وعينيه لا تزال تحمل براءة لم يلوثها شيء. لكنه، رغماً عن ذلك، ضحك معهم على النكات التافهة، وأخذ يسايرهم بقدر استطاعته.
قال "رامي" وهو يرفع حاجبيه بتبجح:
ــ "تعالوا يا جدعان، إيه رأيكوا نقعد في الكافيه اللي عالناصية قبل الإنجليزي؟ ساعة ونرجع، ولا كأننا عملنا حاجة."
قهقه " إسلام " وهو يلوّح بالكيس:
ــ "يا عم أهو نقعد نفرفش شوية بدل الزن ده، والله الواحد مخنوق من كتر الحصص."
ألقى الصامت نظرة جانبية على سيف وقال بصوت منخفض لكنه نافذ:
ــ "إيه رأيك يا باشا؟ ولا انت من النوع اللي بيلزق في الكراسي زي العيال الشاطرة؟"
تردّد "سيف"، لكنه ابتسم ابتسامة باهتة وقال:
ــ "يعني… عادي، هنلحق نرجع قبل الحصة. مش مشكلة."

في تلك اللحظة، ظهر محمد وحسن، ابنا عمة مهاب، وقد لمحا سيف واقفًا بينهم. كانا متشابهين إلى حد بعيد؛ وجوه صافية، ملامح جادة، لكن عينيهما تمتلئان بحنان أخوي. تقدما نحوه بسرعة، وقبضا على كتفه برفق.
قال" محمد"، بصوت منخفض لكنه جاد:
ــ "سيف، تعالى معانا دقيقة."
ابتعد به قليلًا، وتبعه حسن، ثم وقف الثلاثة في زاوية الممر بعيدًا عن أعين الآخرين.
قال "حسن "بوجه عابس:
ــ "إيه اللي موقفك معاهم؟ دول مش شبهك خالص."
ابتسم "سيف "بحرج، يحاول أن يخفي اضطرابه:
ــ "دول زمايلي في الدروس… يعني مش غلط لما أقعد معاهم شوية. إحنا هنروح نقعد قبل الإنجليزي ونرجع، مش أكتر."
قال "محمد "وهو يهز رأسه:
ــ "بص يا سيف، إحنا مش بنقولك متكلمش حد. بس العيال دي مش ماشية كويس. شوف بنفسك، واحد فيهم بيدخن، والتاني عمال يهرّج بطريقة بايخة. دول مش أصحاب يتسند عليهم."
تأفف "سيف "ونظر إلى الأرض، ثم رفع عينيه في شيء من التحدي:
ــ "يا عم أنا مش بعمل حاجة غلط. هقعد معاهم ساعة ونرجع، إيه المشكلة؟ هو أنا أول مرة أتعرف بناس جديدة؟"
مد "حسن "يده على كتف سيف، يضغط بحنان:
ــ "المشكلة إن البداية دي بتجرّ. أنت مش واخد بالك دلوقتي، بس بعد شوية هتلاقي نفسك داخل في سكة مش بتاعتك."
سكت سيف لحظة، بدا في عينيه شيء من الحيرة، لكنه سرعان ما أزاح يده وقال بنبرة حاسمة:
ــ "أنا فاهم نفسي كويس. مش عيل صغير. هروح معاهم وخلاص."
ثم استدار، وعاد بخطوات سريعة إلى الشلة. لمح الثلاثة عودته فابتسموا بخبث خفي، وكأنهم أدركوا أنه صار أقرب إلى دائرتهم.
وقف محمد وحسن يراقبانه بقلق، نظراتهما تتلاقى وكأنهما يشتركان في هاجس واحد: أن سيف بدأ يبتعد عن الطريق، وأن لحظة التحذير قد لا تكفي لمنعه من الانجراف.

خرج سيف مع المجموعة، يخطو بينهم بخطواتٍ متردّدة في داخله، وإن بدا على وجهه شيءٌ من اللامبالاة المفتعلة
كانوا يسيرون بجانب السنتر متجهين إلى مقهى صغير في الشارع الخلفي، المقهى يبدو متداعيًا: كراسٍ بلاستيكية بعضها مكسور، وطاولات خشبٍ مطلية بلونٍ بَاهت، ورائحة دخان سجائر تتسلل من الداخل. حين اقتربوا، قال" رامي" وهو يفتح ذراعيه كأنّه يستعرض المكان:
– "ها هو الكافية بتاعنا يا رجالة… أهو أبرك من أي قهوة فخمة. هنا الواحد بياخد راحته."
ضحك "ايهاب" وصفّق، بينما رفع "اسلام" حاجبه كعادته وقال ببرود:
– "هو فيه أصلاً مكان أحسن من كده في المنطقة دي؟ ده حتى الشاي هنا بيفك الدماغ."
جلسوا جميعًا، بعضهم يسند ظهره على الكرسي ويتركونه يتمايل للخلف في استهتار. ألقى " ايهاب" بجسده على الكرسي ، ثم قال بصوتٍ عالٍ:
– "هاتوا شيشة يا معلم!"
ارتبك سيف قليلًا حين سمع الكلمة، فقد لم يعتد الجلوس في مثل هذا الجو. نظر حوله كأنّه يبحث عن مخرج، لكن كبرياءه منعه أن يتراجع بعدما وقف أمام محمد وحسن مصمّمًا على أنّه "مافيش حاجة غلط". حاول أن يبدو عاديًا، فضحك ضحكةً قصيرة وقال:
– "يا جماعة إحنا أصلاً ورانا درس إنجليزي بعد ساعة، يعني هنلحق ؟"
ردّ عليه "رامي" بابتسامةٍ ساخرة:
– "ساعة يا صاحبي… دي كتير! ساعة دي ممكن نعمل فيها دنيا. إيه، خايف نضيّع الوقت؟"
تدخل "اسلام" بسرعة وهو يهز كتفيه:
– "يا عم ده شاي بس وقعدة هزار… مش هنزوغ من الدرس يعني، ارتاح."
جلس سيف مترددًا، يعبث بأصابعه في طرف الطاولة، يحاول أن يتماشى مع ضحكاتهم. لكن عيناه كانتا تفضحان توتره كلّما مرّ أمامه شابٌ من السنتر أو لمح أحد معارفه. ومع ذلك، كان في داخله شيء يدفعه لأن يجرّب هذه الصحبة الجديدة؛ مزيج من الرغبة في التمرد وإثبات أنه ليس "الولد الملتزم الهادي" كما يراه الجميع.
أحضر العامل الشاي وكوبًا من العصير، وضعهم على الطاولة بصينيةٍ معدنية صدئة، وشيشة وضعها أمام ايهاب
رمق "رامي" سيف بنظرةٍ طويلة ثم قال له:
– "قول يا سيف… إنت طول عمرك ماشي ورا صحابك الجدعان دول، محمد وحسن. مش زهقت من الجدعنة الزيادة؟ الواحد في الآخر عايز يعيش، يضحك، ينبسط."
بلع "سيف" ريقه، شعر بوقع الكلمات في صدره، لكنه ردّ سريعًا وهو يحاول الحفاظ على صوته ثابتًا:
– "أنا مش شايف إني بعيد عن كده… أنا بضحك وبنبسط عادي، بس من غير ما أعمل حاجة غلط."
قهقه "رامي" بصوتٍ ساخر :
– "هو فين الغلط في إنك تقعد مع صحابك تشرب شاي وتضحك شوية؟ إحنا مش بنسرق يا راجل."
تدخل " اسلام" هذه المرة، بنبرةٍ أهدأ لكنها تحمل شيئًا من التحدي:
– "الموضوع مش محتاج تعقيد. إحنا مش شبه حد، وإنت واضح مش شبهنا أوي… بس يمكن ده الحلو. يمكن عايز تفك شوية من الجدّية دي."
ساد لحظة صمت قصيرة، ثم اندفع "ايهاب" من جديد ضاحكًا وهو يربّت على كتف سيف:
– "خليها على الله يا صاحبي… إنت من النهارده واحد مننا."
ابتسم سيف بخفةٍ ليخفي اضطرابه، ولم يرد. لكن في داخله كانت الجملة تتردّد: "واحد منكم؟!" وكأنها بوابةٌ جديدة تُفتح في حياته، لا يعرف إن كانت ستقوده إلى تجربةٍ عابرة… أم إلى هاويةٍ مظلمة.
................................

"الصدف… هي تلك اللحظات التي لا نخطط لها، لكنها تأتي لتغيّر مسار الأيام. قد تُعرّفنا بوجوهٍ لم نكن ننتظرها، أو تضع في طريقنا قلوبًا تترك أثرًا عميقًا، كأنها رسالة خفية من القدر تقول: لم تنتهِ الحكاية بعد."
............
كانت الشمس في كبد السماء كأنها عين يقظة لا تنام، تتسلل خيوطها بين مباني الكلية العتيقة، فترسم ظلالًا طويلة على الممرات المزدحمة. الهواء يعبق برائحة الورق والطباشير، ممتزجة بأصوات الطلبة الذين يتناثرون في كل زاوية؛ هذا يحمل كتبه مسرعًا للحاق بمحاضرة، وتلك تجلس على درج طويل، تراجع ملاحظاتها بعجلة. أمام الكافتيريا الصغيرة، حيث تتجمع الأرواح قبل أن تعود إلى معاركها الدراسية، كان المشهد أكثر حيوية: طوابير خفيفة، ضحكات متقطعة، رائحة القهوة والساندويتشات الشعبية.
خرجت نور من قاعة المحاضرات بخطوات ثابتة، تحمل حقيبتها على كتفها، وبملامح جادة لكنها لا تخلو من هدوء داخلي. كان التعب بادٍ على وجهها، عيناها العسليتان متعبتان من السهر، لكنها رغم ذلك تحمل عزيمة واضحة. بجانبها كانت تسير هدى ، صديقتها المقرّبة منذ بداية الدراسة، فتاة هادئة الملامح، ترتدي فستان واسعة بلون كحلي، وحجابًا مرتبًا، وصوتها حين يتسلل يكون رقيقًا كالماء الجاري.
قالت "هدى" بابتسامة خفيفة وهي تمسك بذراع نور:
– "يلا يا نور نروح ناخد حاجة من الكافيه؟ أنا هموت من الجوع، وعاوزة كوباية قهوة قبل المحاضرة الجاية."
ابتسمت "نور" وهي تزيح خصلة صغيرة هربت من حجابها:
– "يلا بينا، أنا كمان عاوزة قهوة تنعشني شوية."
توجّهتا معًا نحو الكافتيريا. المكان مزدحم، الطاولات تكاد تمتلئ جميعها. نجحتا في إيجاد طاولة صغيرة على الطرف ، ذهبت هدي واحضرت لهم طعام وقهوة وماء وجلسوا .
بدأت "هدى" الحديث بلهجة مليئة بالحماسة:
– "عارفة يا نور؟ بعد ما الدراسة تخلص بشهر بالظبط، هيكون فرحي."
فتحت "نور"عينيها بدهشة وابتسمت:
– "إيه! بجد؟ وإنتي ساكتة عليا كل ده؟"
ضحكت" هدى" بخجل:
– "كنت مستنية أقولك في وقت مناسب. خطيبي مصرّ يجهز بسرعة، وأنا قلت خلاص مافيش داعي للتأجيل."
"نور" رفعت حاجبها بإعجاب:
– "طب دي أحلى مفاجأة. والله يا هدى تستاهلي كل خير. ربنا يتمملك بخير يا رب."
قالت " هدي " بحماس :
_" يارب ، يارب يا نور ، وطبعاً هتبقي معايا في كل حاجة هعملها!" 
"نور " بابتسامة ومحبة لصديقتها :
_" عيوني لست هدي ، وقت ما تحتاجيني هتلاقيني جنبك."

وفجأة، ظهر شابٌ طويل القامة، بملامح متجهمة، جلس بلا استئذان على طرف الطاولة. كان صوته خشنًا ونبرته تنضح بالاستفزاز. قال وهو يتطلع إلى نور بنظرةٍ جريئة:
ـ "إيه يا قمر… مش هتتعرفي؟"
تجمدت هُدى مكانها، ارتبكت عيناها وأخفضت رأسها، بينما رفعت" نور" حاجبيها بدهشة وغضب. ردت بصرامة:
ـ "قوم من هنا… الطرابيزة مش فاضية ليك."
قال ضاحكاً:
_" ومالوا تفضي ليا يا قمر أنتِ ."
" نور " بنرة صارمة أكثر وصوت عالي نسبياً :
_ " أنتَ مش محترم ، وأنا مش هكرر كلامي تاني، قوم." 

ابتسم الشاب ابتسامةً ساخرة، اتكأ على الطاولة بيده وقال بصوتٍ أعلى:
ـ "هو إيه؟ إنتي فاكرة نفسك مين عشان تعلّي صوتك عليا؟ أنا قاعد… واللي مش عاجبه يشرب من البحر."
اشتعلت عينا "نور" غضبًا، شبكت أصابعها بقوة فوق الطاولة وقالت بحزمٍ لم تعتده منه:
ـ "أنا قلت قوم. وإلا هعرف أقومك من هنا بطريقتي."
تعالت ضحكات بعض الشباب الجالسين على الطاولات القريبة، وكأنهم يستمتعون بالمشهد. ازداد غضب الشاب، نهض واقفًا فجأة وضرب بيده على الطاولة حتى ارتجّت. صاح بصوتٍ عالٍ:
ـ "إنتي بتزعقيلي؟! إنتي عارفة أنا مين؟"
تراجعت هُدى في مقعدها بخوف، بينما وقفت نور شامخة، لا تهتزّ أمام تهديده. رفع يده في محاولةٍ ليقترب منها وكأنه سيلمسها، وفي اللحظة ذاتها اندفع صوت قوي من الخلف:
ـ "إيدك لتحت!"
التفت الجميع في اتجاه الصوت، فإذا بشابٍ يقترب بخطواتٍ ثابتة. كان طويل القامة، عريض المنكبين، عيناه بلونٍ عسلي يلمع فيهما ثبات وصرامة. يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا كحليًا أنيقًا، وعلى كتفه حقيبة جلدية صغيرة. ملامحه هادئة، لكن في هدوئه هيبة.
أمسك بيد الشاب قبل أن تقترب من نور، ثم دفعه بعيدًا بقوة محسوبة. صاح الشاب الغاضب:
ـ "إنت مالك؟!"
اقترب منه الشاب الجديد، صوته هادئ لكنه يحمل قوة:
ـ "مالي إني مش هسمحلك تهين أي بنت… هنا في الكلية أو برة. افهم مكانك كويس."
اندفع الشاب في محاولةٍ لضربه، لكن القادم الجديد صدّه بحركةٍ سريعة، فأحدثت جلبة في المكان، وتعالت صيحات الطلاب والطالبات. تدخل بعض الحراس، وسرعان ما تم اقتياد الأربعة ـ نور وهدي والفتى المعتدي والشاب الذي دافع عنها ـ إلى مكتب العميد.
في المكتب، دخلوا الأربعة علي العميد ومعهم شاب من شباب الأمن ،وبدأ يحكي الموقف للعميد وخرج بعدها .
كان أول المتحدثين الشاب الجديد وهو يعرف نفسه للعميد بعدما اعطاه بطاقته امتثالاً لطلب العميد:
_ " صباح الخير يا دكتور الأول ، أنا دكتور مروان معيد في طب اسنان ."
العميد بعدما نظر لبطاقته ، وتعرف علي اسمه جيداً 
_" غني عن التعريف إنتَ ووالدك يا دكتورمروان 
اكمل ضاحكاً 
_" شرفت صيدلية ، بس إيه اللي جابك علينا ؟" 
قال"مروان " بهدوء :
_ " أنا كُنت جاي لحد من زمايلي هنا ، وأنا معدي عند الكافتيريا شوفت الأستاذ ده بيضايق زمايله البنات ."
قال آخر كلامه وهو يشير علي الشاب الواقف ، وأكمل ماحدث للعميد .
قال العميد بعد استماعٍ طويل وهو ينظر للشباب بغضب:
ـ "تصرفك مرفوض تمامًا… وسيتم معاقبتك بإيقافٍ مؤقت عن الدراسة لعدة أيام. ولو الموقف تكرر تاني ، هيبقي فيها فصل نهائي من الجامعة."
انخفض رأس الشاب المعتدي، وغادر المكتب بصمت.
العميد وهو ينظر لنور وهدي :
_" لو في حاجة حصلت تاني تعالولي فوراً ، ومتخافوش ."
قالت "نور " بابتسامة هادئة:
_ "شكرًا يا دكتور، وبأذن الله مفيش حاجة تحصل تاني ."
اكمل "مروان" شاكراً العميد :
_ " شُكراً جداً لحضرتك يا دكتور ، نستأذن إحنا عشان مانعطلش حضرتك."

وبالفعل خرج الثلاثة من غرفة العميد ، نور، التفتت بامتنان نحو الشاب الذي دافع عنها. كانت كلمات الشكر على طرف لسانها، لكنها فوجئت بما لم تتوقعه
هُدى ـ التي كانت صامتة طوال الوقت هرعت إليه، ثم احتضنته بفرحةٍ صادقة. اتسعت عينا نور دهشة، وأحسّت للحظة بغصة في صدرها. لكن صوت" هُدى" أزال حيرتها، وهي تقول بضحكة صغيرة:
ـ "ده أخويا يا نور… ده مروان!"
ابتسم مروان بخفة وهو يربت على كتف أخته، ثم التفت إلى نور وقال بصوتٍ هادئ:
ـ "أنا مروان الهاشمي… أخ هدي ." 
أحست نور بحرارة تتصاعد إلى وجهها، أومأت برأسها بخجلٍ ممزوج بالامتنان، وقالت بصوتٍ منخفض:
ـ "شكرًا… لو ما كنتش تدخلت، كان ممكن الموضوع يتطور بشكل وحش،ودي حاجة تخوف!."
ابتسم ابتسامةً مطمئنة، وردّ بهدوء:
ـ "اللي يعمل الصح ما يخافش."
ثم غادر المكان بعد أن ودّع أخته، تاركًا أثرًا لا يمحى في عقل نور.
ظلت نور تنظر إليه وهو يبتعد، ثم التفتت إلى هدى التي ابتسمت بمكر طفولي:
– "ما قولتليش يعني إن أخوكِ معيد في الجامعة هنا؟"
ضحكت" هدى":
– "كنت عاوزة أسيبك تتفاجئي."
قالت " نور " بضحكة مرحة وهي تأخذ بيد هدي ويغادروا "
_" لأ من حيث أتفاجئ؟ فحصل."
ضحكوا الأثنان وذهبوا إلي القاعة لحضور آخر محاضرة لهم .
................

في قلب الصالة الضيّقة، وقفت رقية وقد شبكت ذراعيها أمام صدرها، تتأمل الفراغ  وكأنها تعدّ الدقائق التي تمر ببطء شديد. كان المساء قد بدأ يتلون بلون الغروب البرتقالي، والساعة تشير إلى السادسة تمامًا. تنفست بضيق وهي ترفع صوتها من جديد:
ــ "يلا يا ولاد! بقالي ساعة واقفة جاهزة ومستنياكم! هنِتأخر كده، الساعة بقت ستة يا ناس!"
فتح الباب فجأة وخرج "سيف" بخطوات سريعة، يرتدي بنطال جينز أزرق غامق وقميصًا كحلي مفتوح الزر العلوي، وحذاءً رياضيًا أبيض، شعره مسرّح بعناية تفوق المعتاد. كان وجهه مشرقًا بالحماسة، وعيناه تلمعان كمن على وشك مغامرة جديدة. رفع يديه كمن ينتصر وقال:
ــ "خلصت! أهو أنا أول واحد جهز، مش قولتلك يا روقا إن الولاد أسرع من البنات؟"
ابتسمت "رقية "رغم توترها، وقبل أن تجيب، خرج صوت ضحكات مكتومة من الداخل، تبعها مشهد طريف: نور وهنا تتدافعان على عتبة الباب، وكل واحدة منهما تشد طرف الطرحة من يد الأخرى. نور كانت ترتدي فستانًا سماوي اللون، بسيطًا وهادئًا، بينما هنا اختارت فستانًا زهريًا بكمّ طويل. الاثنتان بلا أي مساحيق تجميل، بوجوه نضرة طبيعية.
"نور"، وهي تشد الطرحة بعصبية:
ــ "هنا! دي طرحتـي أنا، كنت واخداها من أول الأسبوع!"
"هنا"، ترد وهي تضحك وتضغط على يد أختها:
ــ "ماشي يا شيخة! إنتي اللي نسياها في الدولاب، وأنا لقيتها قلت أنقذ نفسي بيها. بتليق عليّا أكتر!"
"نور"، بحدّة مصطنعة وعينيها تلمعان بالمرح:
ــ "لأ، بتليق عليّا أنا! إنتي قصيرة، الطرحة طويلة هتدفنك."
قهقه "سيف "بصوت عالٍ وهو يتكئ على الباب:
ــ "يا نهار أبيض! هو كل خروجة لازم تتحول لمعركة طرحة؟"
تقدمت "رقية بخطوة "سريعة، مدّت يدها وسحبت الطرحة من بينهما بحزم، ورفعت حاجبها بصرامة:
ــ "خلاص بقى! عيب كده… هنِتأخر بسببكوا. يا نور خدي الطرحة دي، وهنا عندك مليون طرحة تانية جوه. يلا واحدة ترجع تلبس غيرها، ماعنديش وقت للهزار ده."
هنا أطلقت زفرة متدللة ورفعت يدها مستسلمة، بينما نور ابتسمت بانتصار صغير وهي تلف الطرحة حول رأسها بسرعة.
رقية"، وهي تهز رأسها بنصف ضحكة:"
ــ "يوسف  وصل خالتكم وجوز خالتكم في الحديقة… وقال إيه خالتكم واخده معاها أكل وسندوتشات. يعني رايحين رحلة مش خروجة!"
انفجروا جميعًا في ضحك صادق، حتى رقية نفسها ضحكت، ثم أشارت بيدها نحو الباب:
ــ "يلا بقى… يوسف تحت بيستنّى."
 
في الأسفل، أمام ورشة الحاج عامر البرّاق، كانت الحياة تسير بوتيرة هادئة. الورشة نصف مغلقة، والشارع يغمره ضوء مصابيح الحارة القديمة. جلس مهاب على كرسي خشبي عتيق أمام باب الورشة، كتفاه العريضتان مائلتان إلى الوراء، ذراعه متكئة على ركبته، ويجلس بجواره الحاج عامر .
اقترب "يوسف" بخطوات ثابتة، يرتدي تيشرت اسود نظيفًا وبنطالًا رماديًا بسيطًا، حذاؤه لامع كأنه جديد، اقترب منهم وسلم علي الحاج عامر.
مهاب، بصوت ساخر وهو يعتدل:
ــ "إيه يا باشا؟ بس إيه الشياكة دي! رايح فرح ولا رايح مشوار؟"
"يوسف"، يضحك ويعدل ياقة قميصه:
ــ " أنا طالع مع الحلويات كلهم… مش لازم أكون قد المقام؟"
ارتسمت على وجه مهاب لمحة دهشة سريعة لم يستطع إخفاءها، وكأنه التقط شيئًا لم يعجبه، لكن يوسف لمح ذلك مباشرة، فابتسم بخبث وغمز له:
ــ "إيه؟ بتبص كده ليه يا عم؟"
مهاب ضربه على كتفه بخفة كأنه يطرد الفكرة، وقال وهو يضحك نصف ضحكة:
ــ "يا لوح! خارج مع مين يا يوسف؟"
رد الحاج "عامر" بمرح وقال"
_"وأحنا عندنا حلويات في الحارة غير رقية واخواتها ، ركز كده يا مهاب."
ضحك" يوسف " عالياً وهو يغمز للحاج عامر وقال:
_ " والله إنك راجل سُكرة ، أيوه كده خليك مركز معايا."
تلقي يوسف ضربة أخري من "مهاب " وهو يقول بضيق :
_ " وخارج معاهم لوحدك ليه يا باشا."
يوسف، يهز رأسه ساخرًا:
ــ "أصل مش لوحدي يا حبوب… إحنا كلنا خارجين. أنا وهما، وأمي وابويا، ، و ناهد."
في تلك اللحظة، رفع الحاج عامر رأسه ببطء، نظر إلى يوسف بعين ثابتة..

ساد صمت قصير، قطعته خطوات نازلة من الدرج. التفت الجميع، فإذا برقّية تظهر أولًا، ترتدي فستانًا فضفاضًا بلون أزرق داكن، حجابها هادئ ينسدل ببساطة حول وجهها المضيء. تبعتها نور بطرحتها السماوية وهنا بفستانها الزهري، ثم سيف بخطوات واثقة. نزلوا جميعًا وهم يضحكون فيما بينهم، تملأ وجوههم حيوية الشباب وبساطتهم.
عندما اقتربوا، حيّت البنات يوسف ومهاب والحاج عامر بإيماءة خفيفة من رؤوسهن، دون أن يمددن أيديهن. أما سيف فقد تقدّم مباشرة، صافح يوسف بحرارة، ثم عانق مهاب:
ــ "إزيك يا ابيه مهاب؟ عامل إيه؟"
مهاب ربت على كتفه بحنان:
ــ "كويس يا بطل… أخبار الدراسة إيه؟"
سيف يضحك بخجل:
ــ "ماشية… ماشية."
الحاج "عامر" التفت إلى يوسف وقال بنبرة عملية:
ــ "خدلك عربية من هنا يا يوسف بدل ما تتبهدلوا في المواصلات."
يوسف"، وهو يهز رأسه شاكرًا:"
ــ "ألف شكر يا حاج، بس أنا واخد السوزوكي بتاعة الواد حمادة الحلاق… تكفي الجيش اللي نازل معايا."
انفجروا جميعًا في ضحكة عالية، حتى مهاب نفسه ابتسم رغمًا عنه. وفي هذه الأجواء، رنّ هاتف "يوسف"، نظر إلى الشاشة وقال وهو يبتسم:
ــ "دي ناهد… بتقول إنها واقفة قدام المطعم مستنيانا."
رفع عينيه إلى الجمع وهو يقول مازحًا:
ــ "يلا يا جماعة… الرحلة بدأت!
 
حين انصرف يوسف والبنات وسط ضحكات خفيفة تتلاشى شيئًا فشيئًا في زحام الشارع، ظلّ مهاب واقفًا مكانه أمام الضالة، عيناه تتبع خطواتهم حتى ابتعدوا تمامًا. كأنّ نظراته تبحث عن شيء لن يعود، أو لعلها تتعلق بخيط أمل رقيق يربطه بتلك الفتاة التي طالما شغلت قلبه دون أن تدري.
زفر أنفاسه ببطء، وانسحب بلمحة شجن، ثم همس لنفسه بصوت بالكاد سُمِع:
ــ "يا رب تكون هانت… عشان تعبت."
كان صوته خفيضًا لكن الحاج عامر التقطه بحسّ الأب الذي لا تخفى عليه خلجات ولده، فالتفت إليه بعينين فيها مزيج من حزمٍ وشفقة، وقال بصوت يخرج من أعماقه:
ــ "لو بايدي يا مهاب أريح قلبك… والله ما كنت أتأخر… بس مش عارف أعمل إيه."
رفع "مهاب" بصره نحو أبيه، نظراته مثقلة لكنها مفعمة باحترام عميق، ثم ردّ بهدوء ممزوج بإيمان:
ــ "محدش هيعرف يحلّلي مشكلتي غير ربنا… وهي، اللي مكتوب هو اللي هيحصل."
ساد بينهما صمت قصير، تخللته أنفاس الليل الباردة، حتى قطعه الحاج عامر بصوتٍ دافئ يحمل حنينًا ومرارة:
ــ "ربنا يريح قلبك يا ابني… ومتبقاش زي أبوك."
ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه مهاب، كأنّه أراد أن يخفف ثِقل الكلمات عن كاهل أبيه، فأخذ يداعبه وهو يغيّر نبرة صوته إلى خفيفة:
ــ "وأبويا مالُه يا عامر باشا؟! ده راجل زي السُكَّرة."
ضحك الحاج عامر بخفة، وربّت على كتف ابنه بقوة محبة، وقال:
ــ "الله يسهلك يا واد، ما انت عارف قلب أبوك."

جلس مهاب بجوار أبيه، يضحك ليخفي ما في قلبه من وجع، ويمازح عامر باشا ليكسر ثِقل الصمت، لكن في عينيه كان الحزن مُقيمًا لا يرحل. أيقن أن في حياة كل ابن مساحة لا يقدر الأب أن يقتحمها مهما كان حبه، وأن بعض الجراح لا يداويها إلا اللجوء لله. ومع ذلك، ظلّ وجود أبيه بجانبه سندًا، كأنما يقول له: قد لا أملك أن أرفع عنك البلاء، لكني أملك أن أبقى معك حتى يزول."
.........
حين وصلوا إلى المطعم وجدوا "ناهد"، تقف أمامه ، يعلو وجهها ابتسامة عريضة وهي ترفع حاجبيها بدهشة مصطنعة وقالت:
ــ "اتأخرتوا ليه يا عيال؟! بس إيه الشياكة دي.. ده إيه المنظر العسل ده؟"
ضحكوا جميعًا، واندفعت "هنا" تحضنها بحماس وهي تهمس بمرح:
ــ "مفيش في جمالك يا ناهوده، مين قدنا وإحنا طالعين معاكِ النهارده!"
ضحكت "ناهد" وأرجعت طرف حجابها للوراء بتأنيث، بينما يوسف وقف يتصنع الذهول واضعًا يده على قلبه وكأنه مصاب:
ــ "يا جماعة قلبي لا يحتمل.. أنا خارج كده عادي مع ناهد القمر دي؟!"
أمسكت "ناهد" عصاية صغيرة كانت مسندة على الحائط وضربته بخفة على كتفه وهي تنفجر ضاحكة:
ــ "واااد.. اتلم! لسه اليوم طويل معاك!"
قهقهت البنات، حتى "سيف" رفع صوته ضاحكًا وهو يقول:
ــ "دي مش هتسيبك النهارده يا يوسف، ربنا معاك!"
تبادلوا المزاح قليلًا، ثم تحركوا جميعًا، وركبوا السيارة في جو مليء بالمرح، وضحكات متقطعة تملأ الأجواء حتى وصلوا إلى الحديقة التي تبعد عن الحارة بنصف ساعة تقريبًا.

 داخل الحديقة
كان المكان متسعًا، تتناثر فيه الأشجار العالية، وأصوات الأطفال تتداخل مع زقزقة العصافير. لمحوا من بعيد "سمية" خالة رقية، تجلس بجانب زوجها "إبراهيم" الذي كان على كرسيه المتحرك، والابتسامة الدافئة لا تفارق محياه.
ركضت البنات نحوهما، احتضنت "سمية" رقية وهنا ونور واحدًا تلو الآخر بحرارة، وهي تردد:
ــ "وحشتوني يا بنات، ربنا يحفظكم يا رب."
"رقية " وهي تحتضن خالتها وتقول بمرح :
_ وأنتِ كمان وحشتينا يا سمية ، بس ابقي تعالي ياختي طالما وحشناكي."
"سمية " ضاحكة :
_" آه منك يا رقية ، محدش بيعرف يغلبك بالكلام كده."
ضحكوا جميعا،ابتسم "إبراهيم" وهو يقول لهم وبعينيه لمعة حنان واضحة:
ــ "كبرتوا وبقيتوا زي القمر."
قالت " هنا " بغرور مصطنع:
_ "إحنا عالطول قمرات ياعمي والله ."
ضربتها خالتها بخفة وهي تقول:
_ " ماشي يا دكتورة ، يلا ياختي فرغي الأكل ده عشان نأكل."
يوسف وهو يجلس بجوار ناه ويقول بمرح:
_ " ايوه تعالولي بقي في فقرة الأكل دي ، يلا يا ناهد اكليني وهاتيلي سدوتشات من اللي سمية عاملاهم دول."
"ناهد" رفعت جاجبيها وقالت :
_ " اكلك؟ ليه نُغه يا شحط ولا إيه ."

تعالت ضحكاتهم والحديقة قد امتلأت بروائح الطعام المتناثرة من الأطباق الموضوعة فوق الطاولة المستطيلة، تتلألأ ألوانها تحت ضوء مصابيح صغيرة علّقها الحاج يوسف بين الأشجار لتعطي المكان لمسة من البهجة. جلست النساء متقابلات في طرف الطاولة، وامتدت الأيادي بين الحين والآخر لتوزيع الطعام، فيما تسابق صوت ضحكات الشباب ليتداخل مع نسمات الهواء اللطيفة.
رقية جلست بين أخواتها، تراقب بعينٍ نصف متعبة ونصف فرحة، وهي ترى ضحكة نور تتسع في نقاش مع ناهد عن الدراسة، بينما هنا كانت تلتفت من وقت لآخر نحو صوت يوسف الذي يقهقه بصوتٍ عالٍ وهو يمازح سيف.
"يوسف" مدّ يده بكوب عصير، رفعه عاليًا وقال مازحًا:
ــ "يا جماعة أنا أعلن رسمي إن العصير ده بتاعي لو حد قرب منه هشيله من القعدة!"
ضحك سيف بصوت مرتفع وهو يمد يده بخفة محاولًا خطف الكوب، لكن "يوسف" أسرع فضمّه لصدره، متصنّعًا الجدية:
ــ "إنت فاكر نفسك مين واد؟ ده العصير معمول مخصوص علشاني."
"سيف"، بعينين لامعتين بالمرح:
ــ "علشانك إيه يا عم، هو إنت العريس ولا إيه؟ سيب حاجة لغيرك."
تدخلت "هنا" بضحكة رقيقة، وهي تغطي فمها براحة يدها:
ــ "بطلوا عيال، كل واحد فيكم خد نصيبه من العصير."
رمقها" يوسف" مبتسمًا، ثم أشار إليها قائلاً:
ــ "شايفة يا هنا، إنتي أطيبهم، لولا إني عارف إنك متحيزة لأخوكِ كنت هخليكي حَكَم بيني وبين سيف."
قهقهت" نور"، وضربت يدها على الطاولة بخفة:
ــ "حَكَم إيه يا يوسف، هو إنتو في ماتش كورة؟!"
هنا مال يوسف بجسده قليلًا للأمام، مستندًا بكوعيه على الطاولة، وبملامح مشاكسة قال:
ــ "أهو أنا وسيف نلعب ماتش دلوقتي، اللي يكسب ياخد كباية العصير!"
"سيف "بحماس طفولي:
ــ "خلاص، بس فين الكورة؟"
ضحك الجميع، حتى" الحاج إبراهيم" الذي كان يجلس في الطرف الآخر يراقبهم مبتسمًا، علّق بصوت دافئ:
ــ "هو أنا جاي أعملكم عزومة ولا جاي أخليكم تتخانقوا على العصير؟ 
رد "يوسف" سريعًا وهو يرفع حاجبيه في تمثيل بريء:
ــ "يا حاج إبراهيم، والله إحنا بنهزر، بس العصير ده غالي عليا، عشان كده بغير عليه."
سمية، والدة يوسف، لم تستطع تمالك نفسها من الضحك، وضربت كتفه بخفة:
ــ "عيب عليك يا واد، الناس تقولك بخيل على كوباية عصير."
أجابها بخفة دم وهو يضحك:
ــ "أهو البخل في العصير ما يضرش، المهم الكرم في الأكل."
زادت الضحكات، ثم انشغلوا جميعًا بتناول الطعام. كان الحديث يتنقّل بينهم: من الدراسة، إلى أحوال الشغل، إلى مواقف مضحكة يتذكرونها من الطفولة.
قالت ناهد وهي تمضغ لقمة صغيرة:
ــ "يا سمية، فاكرة لما جينا هنا مرة ،ويوسف وقع من فوق الشجرة وفضل يعيط؟"
شهق" يوسف" مصطنعًا:
ــ "إنتي ليه بتفضحيني قدام الناس؟ دي كانت حادثة مأساوية!"
"نور" غمزت بخبث:
ــ "مأساوية إيه يا عم، إنت كنت عامل فيها عنتر، ولما وقعت فضلت تنادي: ماماااا!"
سيف انحنى على الطاولة من الضحك حتى دمعت عيناه، فيما حاول يوسف أن يبدو جادًا، لكنه فشل فانفجر ضاحكًا معهم:
ـ" إنتِ إيه اللي عرفك يا بت الحوار ده؟ ده كان عندي تسع سنين وأنتوا ماكنتوش معانا."
ضحكت" رقية" بخفة، وأشارت لخالتها وقالت:
ــ "أمك دي يا يوسف اللي بتفضحك في أي قاعدة وبتحكي لينا عن طفولتك المشردة."
"يوسف " بصدمة مصطنعة وهو يقول:
_ إنتِ يا أمي؟ كده تشردي أبنك قدام الناس كده! ماكنش العشم يا سمية ياختي."
الحاضرين انفجروا ضحكًا، حتى أنّ بعض المارة في الحديقة التفتوا نحوهم من شدّة صوتهم. كان الجو ممتلئًا بحميمية لا تخطئها العين، وكأن الضحك نفسه صار مائدة أخرى تجمع بينهم.
وبعد أن هدأ الضحك قليلًا، مالت سمية نحو رقية وسألتها بنبرة أمومية:
ــ "إنتي تعبانة يا بنتي؟ شكلك مرهق شوية."
رقية "هزّت رأسها سريعًا مبتسمة:"
ــ "لا والله يا خالة، بس شغل المطعم بياخد وقت وطاقة."
قالت "سمية" بضيق من رقية:
_" عنيدة يا رقية وبترفضي أننا نقف جنبك ومشيلة نفسك المسؤولية كاملة ."
ابتسمت "رقية " وقالت بهدوء:
_" أنتوا  فعلاً واقفين جانبي يا خالتو ، الوقفة مش بالفلوس بس ، وأنا مش تعبانة من المسؤولية ، بلاش تقلقي كتير."
 رواية ظل البراق للكاتبة مريم دياب

جلس يوسف على طرف المقعد الخشبي، يراقب من بعيد ضحكات البنات وهنّ يتسابقن في التقاط الصور بجانب النهر. سيف بدوره أخذ يمازحهن ويلقي التعليقات الطريفة، بينما كانت خالته سمية ومدام ناهد غارقتين في حديث جانبي لا يخلو من الابتسامات. وسط كل ذلك الضجيج، بدا يوسف وحيدًا، كأن الضحكات كلها لا تصل إليه، عيونه غارقة في بحر آخر، ونظراته تهرب كلما حاولت رقية أن تلتقطه بعينيها.
اقتربت منه بخطوات هادئة، جلست بجانبه، وسألت بنبرة تحمل مزيجًا من القلق والحنان:
ــ "مالك يا ابن خالتي؟ ليه ساكت كده؟"
أدار وجهه بعيدًا، شدّ أنفاسه ببطء، ثم قال بصوت خافت يكاد يختنق:
ــ "الحب يا رقية… الحب اللي كنت فاكره بيحيي، بيجرح أووي."
تأملت ملامحه المتعبة، ذلك الانكسار الذي يحاول إخفاءه خلف صمته، وقالت بصدق:
ــ "لسّه حوار نادين شاغلك للدرجة دي؟"
ابتسم ابتسامة مكسورة، كأنها مريرة أكثر من أي بكاء، ثم هزّ رأسه:
ــ "جربت كل حاجة يا رقية… كل الطرق… اتنازلت، صبرت، اتوددت… بس تعبت. تعبت بجد."
 قالت بهدوء يشبه النصيحة:
ــ "حاول مرة كمان يا يوسف. الطلاق مش سهل، وانت أكتر واحد عارف ده. وبعدين… إنت بتحبها، أهو ده كفاية إنك تحاول."
أطلق زفرة طويلة، ثم التفت إليها بعينين حمراوين من أثر السهر أو التفكير:
ــ "الحب يا رقية… طلع مش كفاية. لا الحب، ولا محاولاتي، ولا التنازلات اللي عملتها. كل حاجة وقعت قدام نظرة واحدة… نظرتها ليا فيها تقليل"
تجمدت الكلمات في حلقه لحظة، ثم أكمل بمرارة:
ــ "عارفة أصعب حاجة على الراجل؟ إن مراته تشوفه قليل."
شعرت" رقية "بغصة في قلبها، ورفعت حاجبيها باعتراض صادق:
ــ "بس إنت مش قليل يا يوسف. بالعكس… إنت شاب بيراعي ربنا، محترم، واخدت شهادة وتعبت فيها، واشتغلت بإيدك، ونجحت في شغلك، وبتراعي أبوك وأمك."
ضحك" يوسف" ضحكة قصيرة لكنها كانت أقرب للسخرية، وهز رأسه:
ــ "بس هي مش شايفة ده. هي شايفة حاجة تانية خالص… شايفة إني طول ما أنا مش عايشها في فيلا كلاس، ومعايا عربية آخر موديل، وبصحى الصبح ألبس بدلة وأقعد على مكتب في شركة كبيرة… يبقى أنا مش راجل كفاية. يبقى اللي بعمله كله ما يسواش عندها."
صمت لحظة، رفع نظره للسماء كأنه يستمد قوة من مكان بعيد، ثم قال:
ــ "تخيلي يا رقية، كل اللي بنيته معاها في سنين، وقع في ثانية… وقع قدام شهوة شكل الحياة اللي بتحلم بيها."
كانت رقية تستمع بعينيها قبل أذنها، تتأمل انكسار صوته وارتجاف أصابعه وهو يضم كفيه بقوة. لم تحتمل صمته الطويل، قالت بحزم مشوب بالحنان:
ــ "يوسف… إنت أكبر من كده، ومقامك أكبر من أي نظرة تقلل منك. اللي مش شايف قيمتك، هو اللي خسر، مش إنت."
ابتسم يوسف ابتسامة واهنة، كأن كلماتها لامست جرحًا عميقًا لكنها لم تشفه بعد. تمتم بخفوت:
ــ " مرات كتير بقول لنفسي يمكن أعيش من غيرها… بس كل مرة بلاقي قلبي بيرجع يتشد لها من تاني. الحب ده لعنة أحيانًا."
تنهدت "رقية " ثم قالت له:
_" الحب مع الناس الصح مش لعنه يا يوسف ، وإنتَ مش هتفضل ثابت مكانك كده ، يا تحاول تاني ، ياتنسي وتبدأ من جديد."
ابتسم بسخرية وقال:
" وياتري هقدر ابدأ من جديد وقلبي ينسي عادي ؟ أنا مش قوي زيك يا بنت خالتي !" 
صمتت لثواني وقالت :
_ " يبقي تتعلم تبقي اقوي ، وتخلي عقلك المتحكم الأول قبل قلبك ، صوت القلب حلو ، بس بيبقي في أمان لما ندمجة مع صوت عقلنا، وإنتَ هتقدر تكمل يا يوسف ، ربنا مش هيسيب واحد بيراعيه أبداً ."

وبعد أن انتهت الكلمات بينهما، ظلّ يوسف صامتًا، يراقب الفراغ أمامه بعينين مثقلتين كأنما يحمل داخله عالَمًا كاملًا من الخسارات. أمّا رقية، فقد انشغلت بتأمل وجهه لحظة طويلة، ورأت في ملامحه التعب الممزوج بالخذلان، فشعرت بغصّةٍ لم تدرِ هل هي من أجله، أم من أجل نفسها التي تعرف كم يمكن للحياة أن تكون قاسية حين تُثقل القلب بما لا يُطاق.
ابتسمت بعد لحظة صمت، ابتسامة هادئة لكنها لم تبلغ عينيها، وقالت بنبرة أقرب إلى الهمس:
ــ "الدنيا مش دايمًا بتدي اللي بنتمناه، بس ساعات يا يوسف... ربنا بيعوضنا بأبواب تانية ما كناش فاكرين إنها لينا."
لم يردّ، اكتفى بأن أطرق رأسه قليلًا وكأن كلمتها زادت الحمل على كتفيه بدل أن تخفّفه، ثم أطلق زفرة طويلة، ورفع نظره إلى السماء. هناك، بين النجوم المبعثرة فوق رؤوسهم، شعر كلاهما أن الليل يملك أسرارًا أكثر من البشر جميعًا.
وفي تلك اللحظة، جاء صوت ضحكات هنا وسيف وهما يتسابقان لالتقاط صورة جديدة مع خالتهم، فاهتزّ الجوّ الحزين، واختلطت مرارة الحديث ببهجة الأصوات القريبة. التفتت رقية إلى يوسف مرة أخرى، وقالت بخفة هذه المرة، محاولة أن تنقذه من غرقه:
ــ "قوم يا ابن خالتي، تعال اتصور معاهم، مش معقول تسيبهم يحتكروا الكاميرا لوحدهم."
ابتسم يوسف ابتسامة واهنة، لكنه نهض أخيرًا، وخطا إلى حيث يجتمعون. عندها أدركت رقية أنّ الحزن مهما ثقل، يظلّ محتاجًا لدفء الناس كي يلين، وأنّ ما بين الفقد والضحك... مسافة صغيرة لا يقطعها سوى قلبٍ يعرف معنى الصبر.
Knight of novels
Knight of novels
تعليقات