رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والخمسون
كانت إيفرلي تعرف... تعرف أكثر مما تُظهر. طالبة الطب السابقة لم تكن بحاجة لشرح كتب أو تحاليل مخبرية لتفهم ما يدور في عروق صديقتها. كانت تدرك أن العلاج الكيميائي لا يكتفي بمطاردة المرض، بل يلتهم المريض معه... قطعةً قطعة، حتى لا يترك خلفه سوى هيكلٍ يتنفس بالعزم، لا بالهواء.
كانت تعلم أن الموت لا يأتي دائمًا برائحة القبر، بل أحيانًا برائحة العزلة.
وكانت سارة تعرف ذلك أيضًا... لذلك لم تطلب من نفسها النجاة، لم تطلب منها أن تُقاتل.
أحيانًا، يكون الاستسلام هو أقصى درجات الوعي.
اقتربت إيفرلي من الخلف، كأنها تعانق ظلًّا خائفًا من النور. لم يكن بكاؤها عاديًّا، بل بكاء شخصٍ تأخر كثيرًا عن جنازةٍ روحية.
همست وسط دموعها التي تشربتها بيجامة سارة كأنها حبر على قميص قديم:
— "مررتِ بكل هذا وحدك... يا إلهي، كم كنتُ عمياء. آسفة... آسفة على الغياب الذي لم أكن أعلم أنني أرتكبه."
سارة، وقد امتلأ صوتها بشيء يشبه الدفء، رغم كل شيء، قالت:
— "أشعر بتحسن منذ يومين، وهذا يُعتبر إنجازًا الآن... شكرًا لأنكِ هنا يا إيف.
لم أكن أرغب بالرحيل بهذه الطريقة. كنتُ أود أن يكون أحمد بجانبي... لكن كما ترين، لعلّ القصة انتهت."
تشنّج جسد إيفرلي عند سماع اسمه، وكأن صوت "أحمد" وحده يكفي لإشعال الرماد.
قالت بعينين تقدحان شررًا:
— "سارة... قلتِ لي أن قبر شقيقته قد نُبش، وأن تسجيلاً ظهر لكِ وأنتِ تمسكين بمطرقة. هل تعنين أن أحدهم لفّق لكِ تلك الصورة؟!"
سارة لم تبح بعين
الحقيقة، لكنها أشارت إليها دون أن تنطق باسمها مباشرة:
— "مارينا... من غيرها؟
وقع الحادث بعد شهر من اصطحابه لها للمرة الأولى. لم يكن ذلك مصادفة. مارينا كانت، وستظل، العقل الذي لا يرتجف أمام الخراب."
ايفرلي، وقد بدا القلق يتصارع مع الغضب داخلها، سألت:
— "وإذا كنتِ متأكدة من ذلك، كيف تستطيعين البقاء بهذا الهدوء؟"
سارة، بشهقة ساخرة كأنها اعتادت طعم المرارة، رفعت كتفيها باستسلام:
— "لقد استخدمت كل الحيل التي تعرفها. حاربتني أمامه، خلفي، وفي داخله.
كنتُ أدافع عن نفسي في البداية... لكنني أدركتُ أن الحقيقة ليست ما يهم، بل من يختاره ليُصدّق. وقد اختارها."
قالت إيفرلي، وهي تحاول تثبيت الغضب كمن يكمم فم بركان:
— "لكن هذه المرة ليست مثل أي مرة، سارة. إن كانت هي من دنّست قبر ليا، فذلك لا يُغتفر... حتى لو انتهى زواجكِ منه. لا ينبغي أن تمرّ الأمور بهذه السهولة."
ابتسمت سارة بمرارة، وقالت بصوت لم يعد يحمل وزن الدفاع:
— "المشكلة يا إيف... ليست في مارينا، بل في أحمد.
ليته كان يحبني كما أحب شقيقته.
لقد ماتت، وأنا حيّة، لكن في عينيه لا فرق بيننا."
ايفرلي، وقد خذلتها الكلمات، تمتمت:
— "لا يحق له أن يُعاقبكِ على موتٍ لا ذنب لكِ فيه. لا أحد يملك هذا الحق، مهما بلغت الخسارة. تخلى عنكِ، واختار امرأةً دمرت كل شيء.
كان يومًا لطيفًا؟ ربما.
لكن اللطف ليس كافيًا ليبقى."
صمتت قليلًا، ثم تابعت:
— "سارة، نحن نعيش مرة واحدة فقط. وإن كان والدكِ مسؤولاً عن موت
ليا، فذاك ذنبه، لا ذنبكِ.
توقفي عن حمل أوزارٍ لم ترتكبيها.
أنا تجاوزت جوش؟ لا بعد، لكنني سأفعل.
وأنتِ... عليكِ أن تعيشي، حتى لو ليومٍ واحد، لكن أن تعيشي لنفسكِ وحدها."
توقفت الكلمات في الهواء، ثم سقطت.
وسارة... بدا أنها تنفست لأول مرة منذ دهور. رمشت، كما لو أن الغبار انسحب من عينيها:
— "أن أعيش... لنفسي؟"
كانت كمن نطق باسمٍ نسيه الزمن، كمن خرج من روتين قديم اسمه "الخذلان".
في تلك الليلة، قاومت سارة النعاس كما تُقاوم الأغصان الريح، تتمايل بين الحنين والخذلان، ولا تسقط.
لم تستسلم لعناق الوسادة، بل تركت رأسها يتقلب فوق أسئلة لا إجابة لها.
وكان القرار الوحيد الذي تبلور من غبار التفكير، أنها وإن لم تُكمل العمر إلى جواره، لن ترضى أن تكون له عدوة ستنفذ له رغبته في الانفصال.
الخذلان لا يعني الكراهية، بل يترك فجوة صامتة لا تمتلئ… لكنه لا يُحوّل الحب إلى رماد.
نظرت إلى إيفرلي النائمة بجانبها، تتنفس بثباتٍ يشبه الموسيقى الهادئة، فابتسمت بأسى، ثم نهضت على أطراف أصابعها كأنها تسرق لحظة من الزمن.
غسلت وجهها في ماءٍ باردٍ كالحقيقة، وخرجت...
كأنها تعبر من عالمٍ إلى آخر.
كانت المدينة مُكلّلة بعباءة ثلجية، ساكنة... نقية، كما لو أن الزمن جثا ليرتاح عند قدمي الصباح.
الأبنية بدت كأنها تنتظر، والشوارع تخفي نبضًا تحت السكون.
حتى البحر، الذي لطالما هدرَ بجنون، استحال مرآةً للضوء.
أمواجه الصغيرة تتمايل كأهدابٍ ناعسة، تنبض بهدوء على إيقاع قلبها المتعب.
طيور
النورس كانت تحلّق فوقها، تتحدّى الريح بلا سبب، كأنما لتذكّرها أن الحياة لا تُروّض… فقط تُحتمل.
في الأفق، أطلقت سفنٌ غامضة أبواقها، صوتٌ يشبه التنهيدات العميقة.
استمرّ العالم بالدوران… لم يتوقف للحظة حداد، لم يلتفت لغيابه عنها، ولم يعتذر لها.
وكأن شيئًا لم يكن.
فهمت حينها أن الحياة لا تتوقف لأن أحدهم غادر.
وأن الحب لا يُجبر الآخرين على البقاء، لكنه يُجبرنا نحن على المحاولة... ولو لمرة أخيرة.
أمسكت بهاتفها، كتبت رسالة دون تردد.
دعته للقائها كما وعدا ذات نيةٍ صافية… في المكان ذاته، كأن شيئًا في القلب لم يصدأ بعد.
ظهرت كما لا تظهر الهشةُ إلا حين تتظاهر بالقوة.
سترة بيضاء تلفّ الجسد كدرعٍ مصنوع من الخوف، وقبعة صوفٍ ناعمة تغطي رأسها المتخم بالأسئلة.
حذاؤها الثقيل يخترق الثلج... لكنها بدت وكأنها لا تملك سوى خيط رفيع يربطها بالدفء.
بدت كمن خرجت للتوّ من فصلٍ مؤلم، وتخشى أن يكتب أحدهم نهايته نيابة عنها.
جلد رقبتها كان رقيقًا كصفحة أولى، أي خدش قد يترك ندبة لا تُمحى.
لفّته بوشاحٍ سميك محبوك بإحكام، وكأنها تُخفي تحت خيوطه أكثر من مجرد البرد… كأنها تُخفي أسرار جسدٍ لم يعد يثق بمن يلمسه.
وقفت تحت ندف الثلج، نقيّة، ثابتة… كصخرة في مهبّ العاصفة، لكنها في قرارة نفسها، كانت تتفتّت دون صوت.
اقترب هو.
بنبرة حاول أن يُخفي بها ارتباكه، سألها:
— "كنتُ قلقًا بالأمس... بشأن النزيف في ذراعك. هل... هل تحسّن حالكِ؟"
نظرت إليه.
كان صوته كما اعتادته، لكنه
لم يعد يسكنها.
نظرت إلى السؤال كما يُنظر إلى ذكرى، ثم تنفّست ببطء، وكأنها تنتشل الرد من بئرٍ عميق.