رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثاني والخمسون
كان لدى أحمد كلمات كثيرة، تتزاحم عند حافة اللسان، لكنّها تجمدت كما يتجمد النبض عند أول خيانة للحنين.
لم تخرج منه سوى عبارة مقتضبة، باهتة، خالية من الروح كغلاف لرسالة لم تُكتب بعد:
— "هيا بنا."
اتفقا – دون أن يتفوها بذلك – على أن الماضي صار هشيمًا لا يُمسّ.
صمتٌ كثيف كالغبار، يعلو كل كلمة ويخنق الهواء بينهما.
وما إن انقضت الإجراءات، حتى وُقِّع الطلاق، لا كوثيقة قانونية فحسب، بل كإعلان وفاة لشيءٍ لم يُدفن جيدًا.
سارة لم تنطق بكلمة. لم تعلّق، لم تتنهّد، لم تنكسر. فقط... وقفت. ثم استدارت، وغادرت كمن يغادر غرفة خالية من النبض.
لكن صوته تبعها، بصوتٍ لا يشبه ما عرفته منه من قبل، فيه حذرُ الغريب وحنينُ الحبيب:
— "ما هي خططكِ بعد هذا؟"
لم تلتفت، لم تُهدر عليه حتى نظرة وداع. اكتفت بكلمات باردة، كثلجٍ على الزجاج:
— "هذا ليس من شأنك، سيد أحمد."
في اللحظة التالية، سقطت قطعة صغيرة من الثلج على كتفها من غصنٍ عابر.
مدّ يده لا إراديًا ليمسحها… اليد نفسها التي كانت تمسك بها أصابعها في الطرقات، وتكتب لها رسائل قصيرة في كفّها دون حبر.
لكنها تجمّدت في الهواء، أدرك أنها
لم تعد له. ولا حتى ذرة من كتفها.
أطلق سراحها… لا حبًا في الحرية، بل كحلّ أخير للخلاف. كمن يفقأ عينه ليتوقف عن الحلم.
ولسببٍ غامض، بدا له شتاء هذا اليوم مشمسًا على نحوٍ مؤلم… كاليوم الذي تزوجها فيه.
تذكّر حينها ضحكتها وهي تقول له بمرح:
— "أتمنى ألا نضطر لزيارة هذا المكان مرة أخرى."
وأجابها يومها بثقة:
— "أبدًا."
— "وماذا لو خدعتني؟"
— "اقتليني إذًا... لا يمكن للميت أن يغش."
ابتسمت له يومها، لكنها ارتبكت للحظة من الجدية التي تسللت إلى صوته، كأن شيئًا مظلمًا مرّ بين السطور.
ثلاث سنوات فقط مرّت... لكنها بدت كدهرٍ ذاب تحت خطوات من جليد.
شعرت بنظراته تخترق ظهرها وهي تمضي، دون أن تلتفت.
كانت تتشبث بما تبقى من كرامتها كما يتشبث طفل بدميته الأخيرة بعد الحرب.
ذكّرت نفسها أن الوداع لا يحتاج إلى انكسار، بل إلى اتزانٍ في السقوط.
ومع ذلك، لم تستطع كبح الألم الذي انفجر داخلها كصرخة مكتومة.
أن يكون هذا آخر لقاء... وأن يعودا، بعد كل ما كان، إلى ما قبل البداية: غريبان.
وما إن خرجت من المبنى، حتى وصلها صوتٌ غادر كالسهم، رنّ بصخبٍ مفتعل:
— "أحمد، مبروك! لقد تحققت أمنيتك.
"
صوت مارينا.
أمنية؟
ضحكت سارة بمرارة. لا ضوء في الضحكة، فقط رماد.
ربما كان عليهما الطلاق منذ زمن… ربما حين فقدت جنينها، في الأسبوع ذاته، كان ذلك توقيت الرحيل.
لكنّها تمسّكت به كما يُمسك الغريق بخشبة مشروخة، وظلّت تقنع نفسها أن الحب وحده قد يُصلح كل شيء.
لم يصلها ردّ أحمد.
لكن مارينا تابعت كأنها لم تلاحظ شيئًا:
— "الوثائق جاهزة. لنذهب لنُوَثّق زواجنا."
سارة لم تسمع ما قاله. وربما لم تكن بحاجة لتسمعه.
كان الصمت أبلغ من أي اعتراف.
خنقتها الكلمات الأخيرة… ليس لأنها مفاجئة، بل لأنها جاءت بعد فوات كل شيء.
كانت إيفرلي تُمسك بجسد سارة كما يُمسك أحدهم بزهرةٍ على وشك الذبول، راقبتها بعينين تخفيان آلاف الخيبات، وسألت، بصوتٍ أشبه بهمس المرايا حين تنكسر:
— "هل أنتِ بخير؟"
أجابت سارة بجملة قصيرة، مكسوة بابتسامة باهتة لا تستر شيئًا:
— "أنا بخير."
لكن الكلمة كانت كغلافٍ فارغ، لا روح فيه.
نظرت إيفرلي إلى المشهد من بعيد.
مارينا، بشعرها المصفف بدقة وصوتها المرتفع، كانت ترسم الكلمات في الهواء بنشاطٍ كمن يُعلن عن انتصار.
أما أحمد، فكان صامتًا… رأسه مُطرق، وظلال الأغصان المترامية
فوق وجهه حجبت ملامحه، كأن الأرض لم تعد تسمح له بأن يكون واضحًا.
قالت إيفرلي وهي تبصق كلماتها كأنها تخرج من جرح قديم:
— "لعنة على كل الغشّاشين... لا تبذري دموعكِ عليه، سارة، لا تراقبي رمادًا وتنتظري منه لهبًا."
مدّت يدها ومسحت دموع سارة، كمن يحاول مسح خريطة الحنين من على وجهها.
حاولت سارة أن تبتسم.
ابتسامة مترددة، كأنّ شفتيها نسيتا شكل الفرح.
همست:
— "أعلم... فقط... فقدت السيطرة للحظة."
اقتربت منها إيفرلي أكثر، كأنها تهمس في أذن قلبها مباشرة:
— "يا غبية طيبة... متى ستفهمين أن العالم لا يمنحكِ ملاذًا بلا ثمن؟
الرجل الذي تظنينه وطنًا اليوم، قد يتحوّل غدًا إلى منفى.
كم مرةٍ رأيتكِ تتألقين بذاتكِ لا بظلّه؟
كنتِ تستحقين حياة تُروى باسمكِ، لا أن تعيشي كهوامش لحكايته."
سارة لم تُجب.
عيناها فقط تجوّلتا في الساحة للمرة الأخيرة، ثم استقرّت نظرتها على أحمد.
كان يبادلها النظرة.
نظرة لم تكن تحوي اعتذارًا، ولا رجاءً، فقط وداعًا صامتًا...
كأنّ بين العينين طريقًا لم يُكمل،
وقلبين لم يفلحا في التوقيت،
وقصةً نسيت أن تختار النهاية.
فتحت سارة نافذة السيارة،
وتركت للهواء مهمة
حمل الألم عنها.
أما هو، فوقف كما هو... يُشيّعها ببصره،
يعرف أنها نظرة أخيرة،
وهي تعرف أنه تأخر كثيرًا ليُدرك من كانت.