رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والخمسون 54 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والخمسون

شعرت إيفرلي بأن شيئًا ما في صدرها ينكسر مجددًا، فأطلقت تنهيدةً عابثة ممزوجة بسخط العالم كلّه، وقالت بنبرة تلعن بها الأقدار أكثر مما تلعن الأشخاص:

— "لماذا لا تنطفئ هي؟ تلك الغريبة التي سرقت دفء بيتكِ وسارت فيه كأنها صاحبته؟ لماذا لا يختارها الغياب؟"

ابتسمت سارة كأنها اعتادت على خذلان الحياة، ثم تمتمت بصوت خافتٍ كهمس شجرة في مهبّ ريح:

— "ربما... لأني وصلت إلى خط النهاية. يبدو أن طفلي يشتاق إليّ أكثر مما أشتاق أنا للحياة. لا تقلقي، لقد أنهيتُ الماراثون مبكرًا، لكن خذي وقتكِ أنتِ... الطريق لا يزال طويلًا أمامكِ."

حاولت أن تخفّف عن إيفرلي بأجنحة من المزاح المبطّن بالوجع، فابتسمت ابتسامة ماكرة وقالت:

— "فقط لا تتأخري عن زيارتي. أحضري معكِ زهورًا ندية... لا ذابلة، فأنا لا أحب الذبول حتى في الغياب. اعتبري ذلك استثمارًا صغيرًا في المستقبل... سأحجز لنا جناحًا هادئًا في الجنة، على أطراف الغيم، حيث يعتني بنا ملائكة وسُحب طيّعة، وسنضحك من فوق، على كل هذا الضجيج الذي كنّا نحسبه حياة. هل يخفف ذلك عنكِ؟"

ابتسمت إيفرلي أخيرًا، ابتسامة مرتجفة خرجت من بين دمعتين صامدتين، وقالت بنبرةٍ تختبئ خلفها غصة:

— "إذن عليّ أن أجد لكِ قطعة أرض تليق بكِ، واحدة تُطل على السماء، ليتمكّن أطفالك من رؤيتك من تحتها."

ثم توقفت، وضربها الإدراك كما تُصفع الحقيقة في منتصف ليلٍ طويل:

— "أوه... نسيتِ

أن تُنجبي أطفالكِ بعد."
مدّت يدها نحو سارة ومسحت طرف عينها بإصبع مرتجف، ثم تابعت:
— "فلتعيشي قليلًا بعد، اصمدي... فقط بضع سنوات، وسأجعل منكِ العرابة الأولى لطفلي القادم. وعد."

ابتسمت سارة، وكانت الابتسامة هذه المرة دافئة بما يكفي لأن تُشعل شمعة في أكثر الليالي برودة، وقالت ببساطة تحمل كل المعاني:

— "يبدو رائعًا."

في المساء، ارتدت سارة ثوبها كما لو كانت تتوشّح بضوء القمر، كل شيء فيها بدا هادئًا كصلاة صامتة. شعرها القصير المُنسدل بعناية أضفى على ملامحها نُضجًا لم تصقله السنون بل الألم، وكانت تطلُّ كزهرةٍ نبتت من شقّ صخرٍ، جميلة رغم القسوة، مشرقة بلا ابتسام.
وكما وصفتها إيفرلي مرة: "يكفي أن تقفي دون أن تقولي حرفًا... فيلتفت إليكِ الكون كلّه."

في طريقهما إلى الفندق، حيث تدور ذكريات الطُلاب القديمة كأشباح ودودة، قطعت إيفرلي الصمت بسؤالٍ حاولت أن تجعله عابرًا:
— "سارة... ما خطوتكِ التالية؟ ماذا عن السفر؟ نستطيع أن نرى العالم، نلتهم مدنه ونُطفئ قلوبنا بالدهشة. لدينا الوقت... ولدينا المال."

أسندت سارة خدها على راحة يدها، وحدّقت عبر نافذة السيارة نحو الشوارع التي مرّت بها كثيرًا، ولم تكن يومًا بهذا الهدوء. أجابت بنبرة أقرب للنجوى منها للحوار:
— "سأنشئ شيئًا... لا لنفسي، بل للذين يشبهونني. أولئك الذين ينتظرون الأمل في ممرات المشافي. مؤسسة تُضيء عتمات آخر الطريق... وأخرى تُعلّم أطفال

الأرياف كيف يُمسكون بأحلامهم بأيدٍ نظيفة."
ارتجف شيء ما في وجه إيفرلي، كأن كلمات صديقتها اخترقت موضعًا لم يشفى بعد. كانت تعرف أنها أمام روحٍ لم تملك أن تنقذ نفسها، لكنها أصرّت على إنقاذ غيرها.

— "سارة..." تمتمت، ولم تكتمل الجملة.

ابتسمت سارة، تلك الابتسامة التي تحمل في طيّاتها اعتذارًا عن العالم بأكمله:
— "ربما... هي طريقتي في التكفير عمّا اقترفه أبي."

قالت إيفرلي بهدوء مريب:
— "سارة، نحن نملك حدسًا... نشعر بالنور حين يسكن أحدهم، ونعرف متى يتسرّب منه العتم. والدكِ... كان يبدو طيّبًا. ألا يخطر ببالكِ أن كل شيء ربما كان مفبركًا؟"

— "لم أصدّق في البداية. لم أكن أرى فيه وحشًا. حتى أحمد... حاول أن يُكذّب كل شيء. لكنه استسلم، واستسلمتُ معه. الدليل كان أثقل من أن يُقاوَم."

تنهدت إيفرلي:
— "وهل من الممكن أنه اختلق ذلك لتبرير؟"

ابتسمت سارة، لكنها لم تكن ابتسامة... كانت جملة مقهورة في ثوب ابتسامة:
— "إيف، هذا أحمد. لم يكن بحاجة إلى تلك الفوضى ليستأصلني من حياته."

— "ربما..." قالتها إيفرلي وهي ترنو في البعيد. "لكن ما زال هناك شيء غير مريح. شيء لم يُقَل بعد."

أومأت سارة:
— "وأنا أيضًا أشعر بذلك. أبي كان يتعافى، وكنت أنتظر خروجه لأعتني به. ثم مات، فجأة. وبيل... زرتها، فقفزت من المبنى بعد ساعات. ولأول مرة أزور قبر ليا، التُقطت لي صورة. وتدنيس القبر؟ بعد شهر من قبول أحمد بمرافقتها.

كل الخيوط تقود إلى مارينا... ومع ذلك، لستُ واثقة. ربما كانت مصادفات."
صمتت قليلًا، ثم أضافت بصوت أقرب للهمس:
— "راجعت سجلّ الزوّار في البيت يوم مرض أبي... لم يكن هناك أحد. ربما كانت الوحدة قاتلة، ربما كانت الصدفة مميتة، وربما... كانت الخطة أعظم من إدراكنا."

اعترضت إيفرلي بعينين تلمع فيهما الشكوك:
— "لكنّكِ لا تعرفين. سارة، لا تثقي بالسطح. البشر يُمكنهم أن يكونوا أدهى من الشياطين حين يريدون. لا تصدّقي أن كل ما حدث مجرد تصادف. قد تكون تفاصيل متناثرة لصورة أكبر... مظلمة."

نظرت سارة إلى الأفق كمن يفتّش عن وجه الله في الأفق، ثم تمتمت:
— "لو كان هناك من يدير هذه الخيوط كلها... فكم من ليلٍ سهر ليزرع الألم بعناية؟ وكم من ابتسامةٍ ارتداها ليخفي نواياه؟ الأمر مُخيف... لا لشيء، بل للذكاء المبذول في التخريب."

ولكن...
ماذا لو لم تكن المصادفات مجرد مصادفات؟
من الذي التقط الصورة عند قبر ليا؟ ولماذا؟
هل كانت مارينا خيط البداية... أم واجهة تخفي يداً أخرى تتحكم في النهاية؟
هل مات والد سارة فعلًا بسبب المرض... أم بسبب ما لم يُذكر؟
هل سقطت "بيل" من تلقاء نفسها... أم دُفعت دون أن تدرك؟
وأحمد... هل كان عاشقًا مخدوعًا، أم لاعبًا بارعًا في رقعة شطرنج مشؤومة؟
هل كان الطلاق خلاصًا... أم خدعة لحماية سارة من مجهولٍ أكبر؟
وإذا كانت كل هذه الظلال تتكاثف خلف ظهرها...
فمن الذي سيُشعل النور من جديد؟
وهل

ستكون سارة مستعدةً لمواجهة الحقيقة؟
حتى ولو كانت الحقيقة... أقسى من كل ما اختبرته

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1