رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخامس والخمسون


كان الحنين يعزف ألحانه في زوايا القاعة، كأنّها خشبة مسرح غابت عنها الأضواء طويلاً، ثم عادت لتتوهّج على وقع خُطى الذاكرة.

امتلأت القاعة بضحكاتٍ كانت يوماً مألوفة، ونظراتٍ تبحث عن ملامح تغيّرت بفعل الزمن.
وفي قلب الزحام، كانت "إيفرلي" كزهرة دوّار شمس، تدور برشاقة نحو كل صوتٍ يناديها، حديثها ينساب كسيلٍ دافئ، يُذيب ثلوج التوتر من الوجوه.

لكنّ المشهد حقًّا لم يبدأ... إلا حين أطلت "سارة".

كأنّ الهواء تهيّبها، فكتم أنفاسه لثوانٍ.

كأنّ الضوء انحنى على عجلٍ ليتفقد قسمات وجهها… وكأنّ الزمن... انحرف فجأة عن مساره.

لم يكن حضورها عاديًا. كان أشبه بظلٍ خرج من لوحة قديمة، لا تعرف إن كان جاء ليُحيي ذكرى... أم ليدفنها.

تقدّم نحوها بعض من زملاء الأمس، يتصنّعون الدهشة والمرح، لكن بين كلماتهم شوكٌ مغروز بعناية.
إحداهنّ تمطّ شفتيها وتقول:

ــ "سارة... سمعنا أنّك تزوّجتِ! لماذا لم تُرسلي دعوة؟ هل نحن دون المستوى؟"

كلمة زفاف بدت حينها كطلقةٍ طائشة، طفت في الهواء تبحث عن هدف.
لكن سارة لم تنطق...
لأن صوتًا آخر اخترق الصمت، حادًا كالسيف:

ــ "ليست المشكلة أننا لا نليق بها، بل على الأرجح، لم ترد أن نراها وهي تسقط من عرشها. أليس كذلك؟ ربما فضّلت الصمت... لأن عائلتها أفلست."

كان الصوت لصاحبة اللسان المسموم "كاليستا ديفيز"، خصمتها القديمة التي لطالما التصقت بها مشاعر الحسد كظلّ لا يزول.
في زمنٍ مضى كانت كاليستا

تحلم أن تكون هي النجمة لكنها كلما لمعت سرقت "سارة" وهجها.
والآن وقد انطفأ وهج العائلة التي كانت تتربع على القمة رأت كاليستا اللحظة مواتية لتُسدّد طعناتها.
تدخّل "كالفن أتكينز"، رئيس الصف السابق، كحائطٍ رمليّ بين موجتين متنازعتين:

ــ "كاليستا، ربما بالغتِ قليلًا... كلنا نمرّ بانعطافات الحياة، لا أحد يظل على القمة إلى الأبد. جئنا اليوم لنتذكّر الجميل، لا لنكشّف الغبار عن القديم."

رمقته كاليستا بنظرة طويلة ثم ابتسمت كأنها تتذكّر وجهًا تودّ نسيانه.

ــ "حسنًا... سأدفن السكين، مؤقتًا. لكن ألا ترين يا سارة أن من الوقاحة أن تختفي عن أعيننا لسنوات، ثم تعودي لتأكلي من فطيرتنا وكأن شيئًا لم يكن؟"

أجابت سارة بصوتٍ خافت تحاول فيه أن تخبّئ ارتباكها:

ــ "ظننت أن هذا لقاء زملاء... فحسب. لم أكن أعلم أن هناك ‘حصة’..."

لكن السكون الذي تلا كلماتها كان أكثر إيلامًا من أي تعليق.
نظرة واحدة إلى الوجوه كانت كفيلة بأن تُخبرها بأنها غدت غريبة عن هذا العالم.

قالت إحدى الحاضرات، بصوتٍ نصفه سخرية ونصفه شفقة:

ــ "حقًا؟ هل أنتِ وحدك من لا تعرف؟ لقد اجتمعنا من أجل مشروع مستشفى أوكلاند."

احمرّت وجنتاها كمن صفعه الزمن بلا إنذار.

تقدّم كالفن بصوته الذي يحمل دفء الذكرى يشرح لها وكأنه يقدّم لها خريطة زمنٍ فاتها:

ــ "مستشفى أوكلاند... مشروع ضخم، استثمار يقدَّر بثلاثة مليارات ونصف. هو مستقبلنا الجديد."

قاطعتهم كاليستا بنبرةٍ كأنها

ترقص على الحافة بين الوقاحة والاستعراض:
ــ "سيكون المستشفى عالميًّا. تجهيزاتٌ بمستوى عالٍ، طاقم مختار بعناية، ورواتب... لا تُقارن. وكالفن صديقنا العزيز رأى أنه من اللطف أن يعرّف بعضًا من رفاق الماضي على فرصة المستقبل."

وسقطت كلماتها كالمطر، لا تُغرق... لكنها تُبلّل الكرامة.

كان الحديث يدور حول "مستشفى أوكلاند" كما لو كان معبدًا جديدًا أقيم في قلب مدينة قديمة، مشروع يُشبه البوابة التي لا تُفتح إلا للصفوة، بوابة لا تكفي فيها الشهادات ولا تعني فيها الخبرات شيئًا دون مفتاحٍ خفيٍّ اسمه: العلاقات.

كان الزملاء يتحلّقون كنجومٍ صغيرة تلهث خلف مجرة الحلم. يتحدثون عن رواتبٍ تتضاعف، وفرصٍ لا تتكرر، وعن مقابلات تُشبه طقوس اختبار القدَر، لا يجتازها إلا من سُقي من كأس المعرفة... أو كان له يدٌ خفية تمتد عبر الأروقة.

استمعت "سارة" بصمتٍ باردٍ من الخارج، لكنه مشتعِلٌ في الداخل.
شيء ما في تلك الأحاديث أيقظ شكًّا راكدًا في جوفها، كأنّها فُجأة باتت ترى ما لم ترَه من قبل.
كأن هذا اللقاء لم يكن لقاءً عابرًا، بل عرضًا تمهيديًا لمسرحية أكبر تُدار من خلف الستار، حيث كالفن، وريث عائلة الطب العريقة، لا يقف على الهامش، بل يجلس في المقاعد الأمامية... وربما كان هو من يوزّع الأدوار.

تناهى إلى ذهنها أن الدعوة لم تكن صدفة، وأن إيفرلي، رغم سحرها الاجتماعي وغرقها في طلاقها الأخير، جرفها التيار كما جرفها، دون أن تُدرك حجم اللعبة

أو قوانينها.
وفي حين كانت "سارة" تُعيد رسم المشهد داخل رأسها بحذرِ مُحقّق، كانت إيفرلي تبيع أحلامًا عقارية بصوتٍ مبتهج، كمن يبتسم في جنازة دون أن يدرك أنها جنازته.

شعرت "سارة" بانفصالٍ غريب عن المشهد، كأنّها تتأمل حياتها من خلف زجاج عازل للصوت.
لكن يدًا امتدّت من بين الزحام، لتنتشلها من ذلك الصمت... يد "كالفن".

اقترب منها بنبرة ناعمة، كأنّه يحاول مدّ جسرٍ فوق الماء البارد:
ــ "سارة... إن راودكِ فضول، فاعلمي أنّ مستشفى أوكلاند لا يغلق أبوابه أمام عبقرية مثلك."

ابتسمت، لكنها كانت ابتسامةٌ تُشبه خطًا باهتًا على صفحةٍ مُبللة،
ــ "كالفن، لا تكن ساخرًا. لقد انقطعتُ عن الدراسة... منذ زمن."

لم يتغير وجهه، لكن حاجبيه ارتفعا كمن رأى شبحًا مألوفًا:
ــ "لكن... ألم تنالي شهادتك؟ كنتِ فقط في إجازة. لقد... تخرجتِ رسميًا. أنا من وزّعتُ الشهادات... وعائلتك تسلّمتها بالنيابة عنك."

رمشت "سارة"، كما لو أنّ الزمن تعثّر فجأة تحت قدميها.
ــ "هل تمزح؟ أنا لم أتسلّم شيئًا، ولا أذكر أنني أكملت العام الأخير."

بدا "كالفن" مشوّشًا، كمن يحاول أن يطابق مشهدين لا يتطابقان، ثم قال ببطء:
ــ "أنا متأكد. الاسم كان على القائمة. الشهادة سُلّمت لعائلتك... هذا لا يقبل الشك."

وهنا، بدأ الهواء من حول "سارة" يُصبح أثقل.
تسللت الفكرة إلى عقلها كدخانٍ أسود من شقٍّ صغير:
أحمد...
لا بد أنّه هو من تلاعب بالخيوط.
هو من حمل الشهادة، لا ليُسلمها،

بل ليخفيها.
ربما استخدمها... أو دفنها... أو باعها، لا فرق.
لكن المؤكد الآن، أنها كانت في يده، لا في يدها.


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1