رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السابع والخمسون
بفضل دعابة سرية من القدر وضعت سارة على مسرح الأنظار في أكثر لحظاتها هشاشة... لحظة لا يصلح فيها الظهور ولا يغتفر فيها الانكشاف.
كان كل شيء يبدو وكأنه ترتيب عبثي كتب بخط يد خفي إذ اتضح فجأة أن عائلة أتكينز على صلة قديمة بعائلة كارلتون وأن الدعوة التي ظنتها اجتماعية بحتة كانت تحمل تحت أكمامها أسبابا تجارية.
آل كارلتون منحوا كالفن أسهما في مستشفى أوكلاند على سبيل المجاملة أو المناورة لا فرق.
أما كالفن نفسه فقد وجد نفسه مساعدا ل مارينا في عملية انتقاء المواهب وكانت تلك النقطة التي التقت فيها الخيوط جميعها... كأن الجميع دفعوا خلسة إلى الحدث كما تدفع البيادق في رقعة تحكمها يد لا ترى.
لكن المشهد لم يبلغ ذروته بعد...
لم تتسع الأعين ولم تحبس الأنفاس إلا حين دخل أحمد.
وجوده لم يكن عابرا.
لقد سحب البساط من تحت العادية ورفع سقف التوقعات بمجرد أن عبر عتبة المكان.
كأن كل شيء قبله كان مجرد تمهيد والآن... بدأ العرض الحقيقي.
تسارع الحضور نحوه يتزاحمون على لحظة سلام أو كلمة عابرة بينما كانت سارة تقف على الحافة...
لا تنتمي لأحد لكنها تحمل داخلها ألف علاقة منتهية دون تصريح.
ورغم كل ذلك لم يتخل كالفن عنها.
بقي إلى جانبها بثبات نادر يناولها المناديل وكأنه يقدم لها بقايا كرامتها المهددة.
الحرارة في القاعة بدأت تخنقها
أو لعلها حرارة اللقاء غير المرتقب.
مدت يدها إلى سترتها وفتحت أزرارها ببطء كأنها تخلع عبءا لا قطعة ملابس.
تحتها كان الفستان الأبيض المحبوك ينسدل على جسدها بانسيابية غير مقصودة
اختارته على عجل دون تفكير في أثره...
لكن القماش الغادر بطبعه كشف أكثر مما أخفى.
برق خصرها بين الطيات وتألق خيال كتفيها كأنها لوحة نحتها الضوء.
رفعت رأسها وانكشف عنقها...
ناعم طويل متوتر النبض يشبه سكون الظباء قبل أن تهرب.
وللحظة قصيرة وقفت في قلب المكان بلا درع ولا تمويه...
امرأة لم تستعد للعرض لكنها وضعت تحت الضوء عنوة
وعلى بعد أمتار كان أحمد يسلم على الحضور يبتسم يربت على الأكتاف
لكن عينيه...
ربما أحست بشيء
وربما كانت قد بدأت بالاتجاه نحوها.
كان في وقوفه أمامها شيء من عبث القدر... كأن الزمان فك أزراره فجأة وترك كل جراحه تنسكب في المكان.
رآها أحمد كما لم يرد أن يراها... وفي عينيه رعشة غير مرئية لكنها موجودة كصوت مكتوم في حلم قديم.
لحظة واحدة كانت كافية ليدرك أن ماضيه أصبح هشا بلا أثر وأن ذاك الوعد الذي قطعه تحت جلدها قد تلاشى... وتركه خلفه.
ورغم صمته خانته عيناه.
حين لمح يد كالفن تستقر على معصم سارة
لم يكن المشهد عاديا...
كان كأنه تيار كهربائي مر في جسد من ثلج
فحدق لا بفضول بل بشيء يشبه الغضب المستتر.
كالفن الذي التقط نظرة خاطفة
من عينيه رفع بصره بدهشة لكنه لم يجد سوى كاليستا تهم بتحية أحمد.
ظن أن ما شعر به كان وهما...
لكنه لم يكن كذلك.
اقترب بخطواته الواثقة وبين الحضور المندهشين رحب به كالفن بأدب مصقول
سيد أحمد... حضورك شرف لم نتوقعه! مارينا هذه سارة الطالبة الموهوبة التي أخبرتك عنها.
سارة هذا هو السيد أحمد ميلر.
رفعت سارة رأسها والاحتقان بين ضلوعها
وامتدت ابتسامتها كحد السكين وقطعت صمت اللحظة بعداء مموه
أعلم. هذه... خطيبة السيد أحمد ميلر.
جاء الاسم مشبعا بالمرارة كأنها تتذوقه لا تنطقه.
لم تكن تظن أنه سيتجرأ على الظهور لكنه ظهر... تماما عندما ظنت أنها قد أفلتت من شبحه.
ضحك كالفن بخفة في محاولة لتبديد ارتباك الجو
يا إلهي... كم هذا محرج. يبدو أن الجميع يعرف خطيبة السيد ميلر من التغطية الإعلامية. لكن... من يعرف زوجته السابقة
كان الصوت هذه المرة من إيفرلي بخفة ظلها وسهامها المغلفة بالعسل.
كانت قد باعت للتو أحد العقارات وابتسامتها لا تزال عالقة على وجهها كزينة عرس
لكنها قررت أن تلقي قنبلة.
كانت تتمايل على كعبها العالي وشعرها الوردي معقود كأمل ملون.
لكن كلماتها كانت كالسوط على ظهور الصمت
أعتقد أن الجميع سمع عن خطيبة السيد ميلر... لكن من سمع عن زوجته السابقة
هتف أحدهم في الخلف وقد أربكه الموقف
إيفرلي كفى! السيد أحمد لا زوجة سابقة
له.
صحيح! أضاف آخر إنه مغرم بالسيدة كارلتون.
لكن إيفرلي التي قررت أن توازن الكفة بأي ثمن تقدمت بخطوة ووقفت أمام أحمد كأنها تواجه قاضيا لا يخيفها
يقولون إنك مغرم بخطيبتك...
فبأي اسم يمكننا أن نطلق على ما فعلته بزوجتك السابقة هل تركتها هجرتها
نظر إليها أحمد
نظرة صامتة... ثم قال بصوت لا يعلو لكنه يخرق جدران الصدر
لا تستحق الذكر.
كانت الكلمات كفيلة بإسكات كل الأصوات في القاعة.
مر بين إيفرلي وسارة
شق طريقه كما تشق السكين تفاحة ناضجة
كأنه أعلن أمام الجميع أنه أغلق الصفحة... وأحرقها.
لم يتوقف لم يشرح لم يرمقها حتى.
تصرف كما يتصرف المجرمون المحترفون... دون آثار.
الضيوف المذهولون تراجعوا بخطوات حذرة.
أما إيفرلي فقد عرفت أنها فشلت
لم تهن مارينا بل جرحت سارة... بلا قصد.
وحدها لاحظت من بين الزحام
أن سارة كانت ترتجف.
لكن ليس من البرد
بل من الغضب الذي لا يجد مخرجا
ومن الذكرى التي أعدمت على الملأ.
قبضت سارة على كفيها
كأنها تحبس بداخلهما كل ما تبقى من نفسها.
لم تتوقع أن يكون النسيان بهذا العنف
أن تتحول إلى لا شيء... بهذه السهولة.
وفي الزاوية اقتربت إيفرلي وهمست بأسف مبلل بالتراجع
كنت أحاول فقط أن أعيد لك شيئا... لكني أخطأت التوقيت.
لم تجبها سارة
فالعاصفة التي كانت تدور داخلها لا تسمح بالكلمات.
حينها اقترب كالفن بنبرة
خافتة تحمل قلقا أكثر من السؤال
سارة... هل تشعرين بشيء هل... أعيدك إلى المنزل