رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والستون 64 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والستون


تحررت سارة من قبضته كمن يخلع سوارًا من نار. ارتد جسدها إلى الوراء بخفة، ولكن عيناها ظلتا مُعلّقتين بذلك الفراغ الذي خلّفه باسل في الغرفة.

أجابت بصوتٍ خافت، ناعم كهمسِ ورقة سقطت في بئر عميق:
"أوه... أنا بخير."

كانت الإجابة عادية، لدرجةٍ توجع القلب. كأنها تخبره بأنها تذوب ببطء، ولكن بلا ألم يُستحق الحديث عنه.

بعد أيامٍ قليلة من السكون، استردّت بعضًا من وهجها الذي خبا.
بدت بشرتها أكثر حيوية، كأن الليل خفّ عنها قليلًا. لاحظ أحمد ذلك، ولم يُخفِ دهشته، بل همس كأنما يُحدّث نفسه:
"صحيح... لطالما كنتِ في قمة لياقتكِ."

ضحكت بخفة، ضحكة بلا صوت، كأنها تُراقص جرحها في الظلام.
ثم خلعت سترته عن كتفيها برفق، وناولته إياها كما يُعاد قلب إلى صاحبه بعد خيبة حب:
"سيد ميلر... لا تقلق، سألتزم بشروط اتفاقنا. لن أتزوج أبدًا."

كان الاتفاق، في جوهره، قيدًا من حرير. كتبه أحمد بعناية الجلاد الرومانسي، رجلٌ منحها كنوزًا على الورق، ثم أحرق أمامها مفاتيح المستقبل.
ثروة طائلة، نعم، لكنها مشروطة: لا زواج، لا حبّ، لا بدء جديد.
وإلا، فستدفع له أضعاف ما أخذت، عشرة مليارات تزنها روحها.

ورغم ذلك... وقّعت.
وقّعت وكأنها تعرف أن العدّ

التنازلي قد بدأ، وأن القلب لم يعد يتحمّل رفاهية البدايات.
في تلك اللحظة، بدأ السم في معدتها يُعلن عن نفسه.
ألم المرض، وشيءٌ خفي يشبه الندم، تآمروا جميعًا ليُسقطوها.
تلوّت قليلاً، ثم استقامت، محاولة أن تُخفي انهيارها، وتغادر بهدوء.

لكنّه أمسك معصمها.
نفس الموضع الذي سبقه إليه باسل قبل قليل.
كأنها حقلٌ يتناوب الرجال على زراعته دون أن يسألوا إن كانت التربة تحتمل.

قالت ببرودٍ ممزوجٍ باستياء مكتوم:
"سيد ميلر، خطيبتك ما زالت تنتظرك. هل ترغب فعلاً أن يعرف الجميع أنك كنت زوجي؟"

كأن كلماتها عبرت من داخله دون أن تترك أثرًا.
زمجر بنبرة منخفضة، مرعبة أكثر من الصراخ:
"هذا المكان مقزز... يجب تنظيفه."

لكن لم يكن يتحدث عن المكان.

كان يتحدث عنها.

عنهم.

عن كل الذكريات التي تناثرت كفتات زجاج على أرضٍ لزجةٍ بالخذلان.

وفي تلك اللحظة، لم تعد سارة تعلم من هو المريض حقًا.
هل هو جسدها الذي ينهار من الداخل؟
أم قلب أحمد، الذي تَضخّم فيه مرض التملك بعد الطلاق كورمٍ خبيث لا يعترف بالفقد؟

كان يتصرف كمن فقد عقلَه في منتصف الطريق بين الحبّ والجنون...
وكانت هي، بكل ما بقي فيها، فقط تحاول أن تنجو.

جرّها كأنما يجرّ ظلّه المتبقي من حبٍ

قديم إلى المصعد. كانت على وشك الاعتراض، لكن الأبواب فُتحت على الطابق الخامس، لتتسلل منه مجموعة من الأرواح التائهة في ثمالة صاخبة، يترنحون على حافة اللاوعي.
عقد حاجبيه بضيق، ثم تراجع خطوة إلى الوراء، ودفع جسده أمامها كجدارٍ حي، يفصلها عن الفوضى بعرض كتفيه وصرامة حضوره.
كان يقف بثباتٍ مفرط، كتمثالٍ صُنع من نارٍ وخرسانة، رأسه مائل قليلاً، وبدلته مشذّبة كأنه خارج لتوّه من نصل مقصّ، وشعره المصفف بدقة يعلن عن رجل لا يترك شيئًا للصدفة... سوى قلبه.

في لحظة، عرفت السرّ المرير: أنه ليس رجلًا عاديًّا... بل خليطًا من النظام والفوضى.
قادرٌ على أن يُقيم عليكَ العدل ثم يهدمك باسم الغيرة، أن يكون السكين والضمادة معًا.
تخشى صمته بقدر ما تخشى غضبه، وتعرف أن كل لحظة تمرّ بجانبه، محفوفة بما لا يُقال.

تألمت...
معدتها باتت ككهف يتلوّى فيه الوجع. وكل خليةٍ في جسدها تصرخ وتتوسل لهدنة.
أرادت أن تنحني، فقط لتلتقط بقايا نفسها... لكن الكعب العالي، المصعد العاكس، وقامته المنتصبة أمامها... كلّها كانت تمنعها من الانكسار.

كان قريبًا، قريبًا جدًا.
كتفاه العريضتان على بعد أنفاس منها.
كانت تعرف ملمسهما، تعرف متى يتوتران ومتى يرتخيان، لكنها

الآن... لا تملك حق اللجوء إليهما.
أخذت تعدّ الأدوار بصمت كمن يضبط موعدًا مع الهروب.
وحين وصل المصعد أخيرًا إلى غايته، كان وجهها أشبه بورقة ذابلة في الريح.

الفندق لم يكن سوى واحد من أملاك عائلته. مبنى آخر يحمل ختم ميلر الفاخر، وممر آخر في متاهةٍ لا تنتهي.

ألقى نظرة نحوها وهو يُدخل رمز المرور، أرقامه مألوفة: كانت ذاتها أرقام خزنته... مرتبطة بتاريخٍ لم يعد حيًّا إلا في رأسه.

وقبل أن تدرك، كان قد أمسك بها، وسحبها كأنما يمسك بجسد ذكرى عصية على الموت.
رماها داخل الغرفة، بعفوية باردة، ثم قادها نحو الحمّام دون أن ينطق.
خلعت الصمت من على ملامحها وقالت بنبرةٍ حاولت فيها أن تستعيد كرامتها:

"سيد ميلر... لقد طلّقتني. لستُ مجبرة على أن أُكمل دور الزوجة المُطيعة. سأرحل."

لكنه لم يسمع، أو ربما لم يرغب في أن يسمع.
أدار صنبور الماء. انهمر البردُ كطعنة شتاء فوق جسدها المنهك.
شهقت، وارتعش صوتها بالصدمة:
"أحمد!"

تقدّم نحوها كعاصفة، أمسك بوجهها، وجعل الماء يتسرب إلى عينيها، إلى روحها، وقال بصوتٍ خرج من مكانٍ لا يُضيء فيه النور:
"سارة... ألم أخبركِ من قبل أن لا تسمحي لأحد بلمسك؟"

كانت الجملة سكينًا تنغرز بين ضلوعها.

لم يكن

يُحذّرها من رجلٍ آخر، بل كان يُعلن ملكيّته ...
ولقلبٍ لا يزال ينبض باسمه رغم كل الخراب.
 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1