رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخامس والستون
تسللت أصابعه إلى خدها كنسمة مشوهة تحمل رائحة الظلال... لم تكن لمسته دافئة بل أشبه بندبة باردة تمشي فوق الجلد تنذر بأن شيئا من الداخل قد انكسر دون صوت.
لم يعد مهما ما كان سبب الخلاف... كان واضحا أن عقارب ساعته توقفت عند لحظة انهيار وكل ما بعدها هو ارتداد متكرر لصرخة قديمة.
في زمن كان قلبها فيه ما زال يقرأ الشعر من عينيه طلب منها ثلاث وعود ألا تخونه ألا تترك لمسة لغيره وألا تغادر دائرته أبدا.
لم يكن وعدا بل توقيعا على عقد خفي بمداد الحب وختم من التملك.
كانت ترى شتلات الاستحواذ تنمو حتى وهي ما تزال تسقي الحلم بماء الورود.
وفي لحظة لم تكن بالحسبان تجرأ أحدهم على إهانتها وما كانت بحاجة للشكوى... فقد كان جنونه كافيا ليحولهم إلى رماد... دون أن يترك أثرا لسكين.
غيرته لم تكن غيرة بل وهج خافت من حريق داخلي.
حين سقطت في ساحة المدرسة وتقدم زميل لمساعدتها ظل المشهد عالقا في مرآة ذاكرته.
في تلك الليلة
قال لها بهدوء مصطنع اغتسلي.
وتحول الطلب إلى طقس والماء إلى حكم نهائي...
وقفت تحت زخات باردة كأنها تغسل من أثر لم تقترفه
وأحمد... كان خارج الزمن يراقبها ككاهن يستحضر العذرية من الماء.
ورغم كل ذلك كانت تحبه... حبا بلا ملامح بلا تعريف
حبا يجعلها تبتلع ضوءها وتذيب أحلامها في فنجانه حتى لا يفيض.
لكن بعد الطلاق لم يغادر... بل تحول إلى ظل جائع يطارد كل بصيص من استقلالها.
لم تكن الغرفة سوى ثلاجة من البلور والدش ينهمر عليها كأنفاس شتاء غاضب.
صرخت برجاء مذبوح
أطفئه! البرد... أحمد أرجوك!
لكنه لم يتحرك.
دفعها لتتكور على البلاط الرخامي نظراته خاوية وابتسامته... خالية من أي دفء.
سارة... هل تريدين دفئي
قالها بلهجة غريبة كأنها سخرية تتنكر في هيئة حنان.
تراجعت شهقت وصرخت بكل ما تبقى فيها من كرامة
أنت مريض! مختل!
لكن الماء ظل يسرد قصته الباردة فوق جسدها.
مدت يدها المرتجفة نحو المقبض إلا أنه سبقها.
أمسك بذراعيها رفعهما
فوق رأسها كأنه يعلقها على صليب من ذكريات موجعة.
جسده كان مبللا كذلك وقميصه الأبيض يلتصق به كجلد جديد يكشف أكثر مما يستر.
اقترب وهمس
أتذكرين بعد الطلاق... لا يحق لي. لكن... هل نسيت من أنا
صرخت وهي ترتجف بين البرد والخوف
دعني أذهب! أقسم لك لا شيء بيني وبين باسل!
كانت الكلمة الأخيرة كطلقة في هواء خانق... تعلم أنها لن تغير شيئا لكنها قالتها لتؤكد لنفسها أنها ما زالت على قيد الصدق.
ابتسم...
ذلك النوع من الابتسامة التي لا تحتاج إلى شفتين لتصيب بل تقتل بالصمت وحده.
إذا لم انتقلت إلى شقته هل تظنين أن عائلته ستبقى بجانبك عندما تسقط إمبراطورية آل ميلر
ثم اقترب كأنما يوشك أن ينذرها بيوم لا شمس فيه
فلنراهن... كم من الوقت سيصمدون قبل أن أسقطهم
كل ما كان يحيط به حتى الكلام صار سلاحا.
لم تكن تلك شقته لكنها لم تجد لحظة لتشرح. كيف تشرح لرجل لا يسمع بل يملي فقط.
وفي لحظة جنون رفعت يدها المرتجفة وصفعته...
لم تكن صفعة
بل إعلان وجود
أنا لست جثة!
نظرت إليه بعينين مبللتين ثم قالت
أنت من خنت وأنت من طلبت الطلاق وأنت من يستعد للخطبة! بأي حق تفرض علي حدودك
ثم أضافت بصوت يرتجف من الداخل
أهذا تعذيب أم عبث برغبة السيطرة إن كان الرحيل خيارك فلماذا تعود كعاصفة تدمر ما بقي إن كانت هذه طريقتك في الانتصار فاعلم أن الهزيمة أرحم.
لم يجب. فقط اقترب... كما تقترب لعنة قديمة من من نسي طقوس الحماية.
مسح دموعها ...
كانت ختما لملكية لا تعترف بالقانون.
سارة... منحتك فرصة للبقاء. الطلاق مجرد ورقة. أما أنت... فلك أن تبقي لي طائعة أو متمردة لا فرق.
ارتجفت ذاكرتها
تذكرت تلك الليلة التي وقفت فيها تحت الماء تجبر على البقاء...
وسؤاله الغريب
هل تريدين الرحيل
وكانت عيناه تقولان شيئا مختلفا...
كأنها إن غادرت لن تخرج من الباب بل من الحياة.
رفعت رأسها إليه تحدق في ملامحه كأنها تودع ظلا اعتقدت يوما أنه وطن وسألته
وماذا لو مت
قالتها كأنها تسدل الستار.
..
لا لتغلق العرض بل لتعلن نهايته... دون تصفيق دون شهود.