رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السادس والستون
صرخت بصوتٍ مخنوق، تقاوم رعشة البرد والخوف في آنٍ واحد:
**"دعني أذهب! أقسم لك... لم يكن بيني وبين باسل شيء!"**
كانت كلمتها الأخيرة كأنها طلقة في الهواء، تعرف أنها لن تصيب شيئًا، لكنها أطلقتها بدافع النجاة. لم تكن تريد استفزازه، لكنها لم تعد قادرة على التزام الصمت.
ابتسم أحمد...
تلك الابتسامة التي لا ترتفع معها الوجنتان، بل يتقلّص معها العالم من حولك، ابتسامة رجلٍ يلوّح بالخطر دون أن يرفع سكينًا.
قال بنبرةٍ كأنها رصاصة مغلفة بالسخرية:
**"ولِمَ انتقلتِ إلى شقته إذًا؟ سارة، هل تظنين حقًا أن عائلة باسل ستبقى بجانبكِ عندما تنهار إمبراطورية آل ميلر؟"**
كأنما يهمس بنداء القيامة:
**"ما رأيك أن نراهن... على كم من الوقت سيصمدون قبل أن تسقطهم يدي؟"**
كان يتحدث وكأن كل شيء سلعة، حتى الكرامة، حتى السلام.
كانت شقته؟ لم تكن، لكنها لم تجد وقتًا لشرح التفاصيل لرجلٍ لا يؤمن بالاستماع، بل بالتحكّم.
وفي لحظةٍ من الجنون، رفعت يدها، وضربته بقبضتها المرتجفة.
لم يكن ذلك إيذاءً بقدر ما كان إعلانًا:
**"أنا لست جثةً صامتة!"**
رمقته بعينين دامعتين... ثم انفجرت:
**"أنت من خان، وأنت من طلب الطلاق، وأنت من يستعد للخطبة! إن كنتَ نسيت، فاسأل محاميك عن تعريف الطلاق. بأي حق تفرض وصايتك عليّ؟"**
وصوتها يرتعش لا من الخوف، بل من الألم المكتوم:
**"هل أنت طاغية أم رجلٌ يبحث عن متعة السيطرة؟ إن اخترتَ الرحيل، لمَ تعود كعاصفة تهدم ما تبقى؟ إن كانت هذه طريقتك في التعذيب، فأقسم أن الموت أرحم."**
لم يُجِب بكلمة... اقترب فقط، كما
يقترب الشبح من فريسته، ومسح دموعها .
**"سارة... لقد منحتك فرصةً لتبقَي. الطلاق؟ كان مجرد ورقة. أما أنت... فستظلين لي، حرةً أو مُقيدة، لا فرق."**
ارتجفت ذاكرتها، تذكّرت تلك الليلة التي قضاها يُرغمها على البقاء تحت الماء...
ثم سؤاله الغريب، كأنما كان يحاول طرد الشيطان داخله:
**"هل تريدين الرحيل؟"**
وكان مَن ينظر في عينيه وقتها... يعلم أن مغادرتها ستكون موتًا من نوع آخر.
رفعت رأسها إليه، تنظر لملامحه في الإضاءة الخافتة...
وسألته بصوتٍ كأنما خرج من شبحها لا جسدها:
**"وماذا لو متُّ؟"**
قالتها كأنها ختمٌ نهائي، كأنها أغنية النهاية... بلا موسيقى، بلا دموع، فقط صدى الموت في حضرة عاشقٍ مريض.
**"ماذا لو متُّ؟"**
تسللت الهمسة من بين شفتيها كريحٍ باردةٍ تخترق زجاج نافذة في ليلةٍ شتويةٍ خانقة. كان صوتها واهنًا، لكنه اخترق صمت المكان كصاعقةٍ لم يتوقعها.
توقف الزمن لوهلة. ارتد الصدى عن جدران الحمام الرخامي كأنّه يُعيد على مسامعه ذنبًا لم يغفره.
اقترب منها بخطى بطيئة،. همس وكأنّ كلماته ترقّص الموت ذاته على حافة الهاوية:
**"لن تموتي... لأني معك."**
يا له من وعد! وعدٌ أطلقه رجلٌ يملك مفاتيح القوة، لكنه لا يملك مفاتيح القدر.
رغم كل ما يملكه من سطوةٍ ونفوذ، لم يكن في جيبه مفتاح يُغلق به أبواب الموت.
يمكنه أن يشتري الأطباء... أن يُقيم جناحًا في أرقى المستشفيات، أن يُجنّد العلم تحت قدميه،
لكنه لا يستطيع أن يساوم السرطان.
في حضرة المرض، كل شيءٍ يتقزّم، حتى الجبابرة.
ضحكت بخفةٍ خافتة، كأنما تسخر من عبثية الواقع:
**"أحمد.
.. بما أن عائلتي كانت مدينة لك بالحياة، هل موتي هو الثمن؟ هل هي الفاتورة المؤجلة؟"**
نظر إليها، وفي عينيه شررٌ لا يُطفأ:
**"لو أردتُ موتكِ، لفعلتُها منذ عامين... أكرهكِ، نعم، لكنني... أحبكِ أيضًا. ولهذا، أُبقيكِ حيّة. ليس من أجل الغفران... بل من أجل العقاب."**
اتسعت عيناها، ولسانها تقاطر بالسخرية:
**"هل قلتَ إنك تُحبني؟ وهل للحب ذراعٌ تُطعن به ؟"**
أشاحت بوجهها عنه، ثم تابعت، كأنها تفرغ صدراً أثقله الألم:
**"قلتُ لك إنني أريد بناء مستشفى... مكانٌ يُداوي الناس بلا قوائم انتظار، فذهبت وبنيت واحدًا بميزانية دولة، ثم علّقت على جدرانه اسم مارينا.
قلتُ لك إنني أحب رائحة المحيط، رسمتُ لك صورة لبيتنا فوق تلةٍ تطل على البحر، فذهبتَ وبنيت خليجًا باسمها.
أردتُ أن أسمي طفلنا "كونور"،!**
ثم نظرت إليه نظرةً جمّدت الهواء من حولها:
**"هل تُسمي هذا حبًا؟ أم سرقةً مشروعة لذكرياتٍ لم تمنحك إيّاها؟"**
كان المطر المتجمد ما زال ينهال فوق كتفيه، يتسلل على طول عنقه حتى ينحر روحه.
نظر إلى الأرض، لا ليركّز، بل لأنه خجل أن تواجهه نظرتها.
كان هناك شيء ما يُصارع خروجه من صدره، شيء يشبه الاعتراف، يشبه الندم...
فتح فمه، ثم أغلقه.
كأن اللغة خانته في اللحظة الوحيدة التي احتاجته فيها.
وقفت تتأمله في صمتٍ، وعقلها يرتجف بسؤالٍ مرّ كريحٍ مشؤومة:
**"لو لم يكن يشعر بشيء... لما احتفظ بكلمة المرور حتى اليوم."**
بعد طول تأمل، أيقنت سارة أنّه لم يكن رجلاً بسيطًا على الإطلاق؛ بل مزيجًا مربكًا من النقيضين... يستطيع أن يُحبّك بشراسة ويكرهك في اللحظة
ذاتها، كما لو أنّ قلبه ساحة معركة بين ملاكٍ يرتدي السواد وشيطانٍ يلهث من البكاء. لم تكن عقوبته أن يُنهي وجودها من حياته، بل أن يُبقيها حيّة... فقط ليجرّها ببطءٍ إلى هاوية يعلم جيدًا أنها تتنفس منها.
أغمضت عينيها، وضغطت بأنامل مرتجفة على ياقة قميصه، ثم همست، وكأن الهواء يثقل في صدرها:
"حبك... مقزّز."
تصلّب صوته بجمودٍ باردٍ أشبه بشفرة معلّقة فوق رقبتها:
"سارة، لا تجرّيني إلى تلك الزاوية... لن يُفيدكِ هذا."
رمقته بارتباك حين بدا وكأنه يُعدّ لفعلٍ ما، لم تفهمه... ولم تشأ أن تفهمه. الرعشة تسللت إليها بلا استئذان، والقلق انعكس في عينيها كمرآة مشروخة.
"ماذا تنوي؟"
أخفض نظره للحظة، ثم قال دون أن يرمش:
"ينبغي أن تُدفعي ثمن الخطأ. لا تُجبري مَن يحبكِ على تقمّص دور الجلّاد."
لم تفهم هل كانت تلك نبرة تهديد أم تحذير أم استغاثة، لكنها شعرت بشيء يتكسر فيها. تشبثت بجدران اتزانها بينما هو يقيّدها بخيوط لا تُرى، ليست من حبال أو عقد، بل من شعورٍ حادّ بالسيطرة يتخفى في رداء الغيرة والحماية المزيفة.
، كما لو أنه يبحث عن ظلٍّ يبرر فيه ظلامه، ثم همس في أذنها بصوتٍ محمّلٍ بالعتاب:
"سارة، فكرتُ كثيرًا في تركك... لكنّ كل رجلٍ يمر بكِ يجعلني أرغب في دفنه حيًّا.
قشعر بدَنها، وذابت أطرافها في صقيع الذكرى. هرعت لتبرئة باسل، كأنّها تحاول إنقاذ قلبٍ آخر من جنون هذا الرجل.
"كنت مريضة، واهتمّ لأجلي كما يهتم طبيبٌ بمريضه. كان يحضر الطعام ويرحل... لا شيء أكثر."
صمته الطويل كان كصرير بابٍ يُغلق على نوايا مجهولة. ارتسمت على ملامحه
تلك العبوسة التي تخبّئ آلاف الأسئلة، ثم مال نحوها قليلًا وهو يهمس، كمن يشكّ حتى في نبضها:
"هل أنتِ... حقًا مريضة؟"