رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثامن والستون
كان أول رد فعل من إيفيرلي عند رؤيته هو الرجفة... تلك الرجفة التي لا تنتمي إلى البرودة ولا إلى الحمى بل إلى ذاكرة قديمة أيقظها دخان سيجارته وأطياف العيون التي لا تنسى.
رغم جرأتها التي تتعمد ارتداءها كفستان سهرة ضيق ورغم وقع كعبها الذي يطرق الأرض بإصرار إلا أن تأثير الشراب ووجود سارة بالقرب منحاها جرأة إضافية جرأة لم تكن تملكها من تلقاء نفسها.
لقد رأت بعينيها لا بل بشرايينها كيف كان أحمد يحب سارة ذلك الحب الذي لا يكتب على ورق بل ينقش في اللحم والدم... وكانت تعلم تماما أن قسوته تجاه الغرباء لا تقل حدة عن حبه.
قبل عامين اصطحبت سارة إلى حانة. ليلة كانت تبدو عابرة لولا أن أحمد ظهر فيها... لم يكن هناك مجال للهروب حينها حمل سارة بذراعيه كما ينقذ التائهة من الغرق ثم ألقى على إيفيرلي نظرة كانت كفيلة بأن تطرد الهواء من رئتيها.
هذه هي المرة الأخيرة.
قالها بصوت جليدي لم يسمعه سواها كأنه يغلق بها بابا لا يفتح إلا على الندم.
خرج حينها وتركها تغرق في عرق بارد كانت تشعر بأن تلك النظرة قد تسربت إلى أحلامها كالدخان تخنقها كل ليلة... ولم تجرؤ أن تروضها أو تفسرها.
الآن... بعد كل ذلك يعود إليها أحمد في صورة أكثر ظلالا يغلق ولاعته ويطفئ النور القليل في وجهه بنظرة عابرة كانت كفيلة بإحياء تلك الليالي من جديد.
شعرت برعشة تزحف من عنقها حتى كعبيها وبلعت ريقها بصعوبة ثم همست بصوت خفيض مبحوح
ممم... سيد ميلر كنت أبحث عن سارة... سأعتذر الآن وأرحل.
لكنه نفض رماد سيجارته بإيماءة محسوبة
ثم التفت إليها بطرف عينه وقال
هيا... لنتحدث.
كانت تعرف بقلبها قبل عقلها أن هذه لن تكون محادثة عابرة بل شرفة تطل على ماض لم ترد التحديق فيه. فترددت وتحسست كعبها كمن يفتش عن طريق للهروب.
الوقت متأخر جدا أليس كذلك ما رأيك أن نؤجل الأمر إلى مرة قادمة أعدك بذلك.
استدارت لتنصرف لكنها اصطدمت بجدار بشري اسمه برنت الرجل الذي كانت تصف علاقته بأحمد في سرها وكأنها شراكة قاتل ومحام بارد المشاعر.
من فضلك آنسة هيلتون.
قالها برنت دون أن يطرف له جفن كأنها أمر لا يرد.
كانت على شفير البكاء لكنها مضت معهما كمن يقاد إلى غرفة تحقيق وجلست على طاولة في مقهى قريب... وما إن استقرت حتى بدأت قدماها تهتزان بلا وعي كأن الأرض تحتها لا تود أن تثبت.
كانت الطاولة تهتز وكذلك فناجين القهوة وكأن ارتعاشها تعدى الجسد ليصيب المكان نفسه.
مد أحمد يده نحو كوب اللاتيه فتفاجأ للحظة بتشوه فنه على سطح الرغوة لم يعد قلبا ولا وردة بل خربشات مرتجفة كأنها انعكاس لساقي إيفيرلي.
مرت لحظة ثقيلة من الصمت المربك كانت كفيلة بأن تشعرها بأن العالم يتنفس حولهما ببطء.
ابتسمت ابتسامة مشوبة بالذنب ومدت إليه الكوب بيديها المرتجفتين
سيد ميلر... تفضل هذا اللاتيه خاصتك.
ثم وبخت نفسها بصمت كانت تكره هذه النسخة من ذاتها المرتعشة والمبالغة في العمل تبالغ في كل شيء حتى في الهروب.
تمنت لو كانت قادرة على السيطرة... على ساقيها على ذكرياتها وعلى تلك النظرة التي ما زالت تطاردها حتى بعد عامين.
أزاح أحمد كوب اللاتيه جانبا كمن يزيح فكرة مزعجة
عن رأسه ثم أسند ظهره قليلا وقال بصوت منخفض لكنه مشبع بالنوايا الخفية
أرغب في أن أعرف المزيد... عن سارة وباسل.
كلماته لم تكن مجرد سؤال بل كانت أشبه بتقشير طبقة من جلد قديم يريد أن يصل إلى العصب.
لم تكن إيفيرلي تعرف حقيقة الاضطراب القابع خلف عيني أحمد ذلك الجنون الأنيق الذي يختبئ خلف نظراته اللامبالية. لكنها كانت تعرف أمرا آخر نزعة التملك التي تسكنه والتي كانت تظهر على هيئة صمت مشوب بالغليان.
أحمد لم يكن يترك ما أحب بل يحتجزه كأنفاس في رئتيه ولا يطيق فكرة أن يشاركه فيه أحد حتى لو من بعيد إنه لم يستطع أن يتركها تمر بسلام فالغيرة تنهش روحه كلما فكر بأنها لم تعد له.
تنفست إيفيرلي بعمق ثم قالت بنبرة تحمل مزيجا من التبرير والقلق
ربما ربما يكن باسل شيئا من المشاعر تجاه سارة من يدري لكن هي لا أظن أنها تهتم له من الأساس. لو كانت كذلك لما تعبت كل هذا الوقت في محاولة التوفيق بينهما!
كانت تتحدث وكأنها تلعب بلعبة نارية بيدين عاريتين لكنها لم تتوقع أن كلماتها ستكون فتيلا لغضب صامت.
تغيرت ملامحه بشكل بالكاد يلاحظ لكنه كان كافيا ليربكها. ابتعدت قليلا في مقعدها وألقت عليه نظرة سريعة كمن يختلس النظر إلى وجه رئيسه لحظة إلقاء الحكم.
ممم سيد ميلر هل... ما زلت مهتما بسارة
قالتها بتردد كأنما تدوس بأصابعها فوق قنبلة موقوتة.
سؤالها اخترق السكون وكان كافيا لتجاوز الحدود... وتجاوز الصمت أيضا. لكنه لم يجب.
أدار وجهه قليلا ونقر بأنامله على الطاولة في إيقاع ثابت أشبه بعد تنازلي لشيء لا يعرف.
ثم
قال بصوت أقرب للهمس المرعب
ما أساس علاقتهما
جف ريقها وتجمدت الكلمات في حلقها كأشواك لا تجد مخرجا. لكنها تمالكت نفسها وهتفت دون تفكير
يا إلهي لا! أقسم أنهم لم يفعلوا شيئا... سارة كانت منهارة بعد الطلاق. لم تخرج من منزلها شهورا. أنا من دفعتها للحضور الليلة. لا أدري لم جاء باسل على الأرجح جاء بدعوة من كالفن. سارة لا علاقة لها بالأمر أقسم بذلك!
لكن أحمد لم ينطق.
كان الصمت فجا... كأن الزمن قرر أن يجلس بينهما ويحدق في إيفيرلي مباشرة كاشفا كل ارتجاف في صوتها وكل رعشة في عينيها.
وكان هو... كالصخر لا يرمش لا يبتسم لا يمنحها حتى وهم التصديق.
راحت تتساءل في داخلها كيف تعيش سارة مع رجل لا يظهر شيئا لا حبا ولا شكا ولا حتى غضبا بل فقط هذا الفراغ البارد الذي يشبه الفراغ داخل قبر.
نفد صبرها فرفعت يدها على الطاولة وأقسمت بعناد يائس
أقسم بحياتي لو كان بين سارة وباسل أي علاقة لتدهسني سيارة الآن!
التفت نحوها أخيرا لكنها لم تجد في ملامحه سوى الفراغ نفسه. صمته لم يكن تجاهلا بل حكما مؤبدا بلا نطق.
فشدت على أسنانها وصرخت بصوت مهزوز
سأبقى وحيدة إلى الأبد إن كان ذلك صحيحا!
ظل صامتا للحظة ثم رفع حاجبه بهدوء وأضاف إلى اللعنة همسا ساخرا
وستكونين مفلسة طوال حياتك.
كلمات قليلة لكنها كانت كالسكاكين.
عرف كيف يطعن في أضعف موضع لديها كما لو كان يضع إصبعه مباشرة على الجرح المفتوح.
فشدت فكها وعضت على لسانها ثم هتفت بانفعال
حسنا! سأكون مفلسة مدى الحياة... لو حدث ذلك!
لكنها لم تكن واثقة... لا من سارة
ولا من باسل ولا حتى من نفسها.
أما هو فكان واثقا أكثر مما يجب.