رواية للهوى رأي اخر الفصل السادس
تركض دون توقف، صدرها يعلو ويهبط، ترتدي ملابسها الرياضية وتواجدت في النادي من الصباح، أرادت أسيل الهروب من لقاء الإفطار مع والدها بعد حديثهما أمس، لا تريد الحديث في الموضوع، وتتمنى أن لا تفكر حتى به وتمنع عقلها قسرًا عن التفكير به..
لكن كيف، وهو يعرف اللعب على أوتارها، بدليل تواجده أيضًا وتركه لها أن تتجاهله كما أرادت، لكن صبره نفد، وركض بجانبها، شعرت بتواجده فادعت انشغالها بصوت الموسيقى في أذنيها، لكنها فجأة وقف أمامها حتى كادت أن تسقط على صدره.
هدرت به بعفوية:
_ كنت هاتوقعني
أجابها ياسين مبتسمًا:
_ لو على صدري ده أنا أتمنى
ارتفع أحد حاجبيها قائلة:
_ في أحلامك
مسح على شعره بيديه وبمهادنة واثقة قال:
_ ليه أحلامي، أنا مستعد الأسبوع ده تبقي مراتي
ضربت الكلمة قلبها، كلمة واحدة ومعناها جعل داخلها ينتفض، زوجته!
قالت أسيل بعد أن عقدت يديها أمام صدرها:
_ ومين قال إني هوافق
ارتفع حاجباه هو هذه المرة:
_ يا سلام وانتي ممكن ترفضيني يا أسيل
احتدت عيناها وهتفت به بغضب:
_ آه أرفضك، وإيه يعني؟ أنت فاكرني هاصدق ويغمى عليا من الفرحة؟
فجأة ابتسم وتوسعت ابتسامته أمام نظراتها التي تنظر إليه بريبة، رغم جمال ضحكته التي اخترقتها، وقال ياسين:
_ أقصد ممكن ترفضيني بعد كل اللي بشوفه في عينيكي اتجاهي، وبعد ما بقيتي كل حاجة ليا
هدأت قليلًا وغامت عيناها هاتفه بغير هدي:
_ خايفة ما ألاقيش الراحة جنبك يا ياسين
_ أنا آسف
نظرت إليه دون أن تتفوه بشيء، فأكمل بصدق وإحساس وصل إليها:
_ اللي حصل كله من غيرتي عليكي، ما أستحملش حد يلمسك أو يقرب منك، إنتي عندي غير كل الناس، آه مش بقالنا كتير مع بعض، لكن صدقيني أنا عمري ما حطيتك في كفة مع حد.
توهج وجهها، وتلك اللمعة من عينيها أنارت، وابتسامة تجاهد لإخفائها عن عينيه المرتكزة على كل إنش بها.
نظر لساعته وقال:
_ قدامي نص ساعة وأمشي، ممكن نفطر سوا قبل ما أروح الشغل؟ أنا قاعد مستنيكي من ساعة ما جيتي، تحني عليا وترمي حتى الصباح لكنك سايقة التقل عليا
ألقت شعرها للخلف بدلال وقالت بنعومة وهي تسير أمامه:
_ تستاهل
ضحك من خلفها وشعر أن يومه ابتدأ بوجهها الجميل، أخرج هاتفه ونظر للمتصل عاقدًا جبينه، ثم رفع عينيه لأسيل للحظات، فضغط زر الرفض وأغلق هاتفه بأكمله عن المتصل... التي لم تكن سوى... دلال.
..................
طرقت بتردد على باب مكتب عمها، وما إن أذن لها، التفتت وكادت تعود متراجعة، لكن أخذت نفسًا وعزمت أمرها، دخلت مكتبه الجالس خلفه مع بعض الأوراق أمامه، وما إن أبصرها قال مبتسمًا بود:
_ يا أهلا وسهلا، الجميل جاي لحد مكتبي
ضحكت فيروز بخجل وقالت:
_ لو فاضي ممكن أكلمك شوية
أشار لها بالجلوس وقال مشجعًا:
_ اتفضلي يا فيروز
ابتلعت ريقها وبتردد وهي تفرك يديها بارتباك قالت:
_ كنت عايزة أطلب منك طلب وأتمنى توافق
أومأ لها منصتًا فقالت فيروز دفعة واحدة:
_ عايزة أشتغل، كلمت حضرتك في موضوع الشغل وقلتلي هتفكر، لكني فعلًا محتاجة أشتغل وأحس إني بعمل حاجة
قال كمال متسائلًا:
_ معاكي مؤهل إيه يا فيروز؟
صمتت فيروز، وكان هذا هو أصعب سؤال تنتظره، أخفضت رأسها وقالت بخفوت:
_ أنا ما كملتش تعليمي، وصلت لحد تالتة كلية وما كملتش
_ ليه؟
تململت فيروز وباضطراب قالت:
_ ظروف
تساءل كمال بفضول:
_ ليه بحس إنك مش حابة تتكلمي عن بيتك؟
بتوتر ظهر عليها، وخفقان قد ازداد من سيرة تخص أكثر الناس كرهتهم في حياتها، ولذكرى مخزية لمحاولة اغتصابها وما شعرت به خلال تلك اللحظات التي مرت عليها كالسنين، فجأة رفعت رأسها وقالت باندفاع:
_ جوز أم عديم الرحمة وعياله شاربين قسوة وجبروت، أكيد تقدر تتخيل الحياة كانت صعبة إزاي معاهم
تفاجأ كمال، رغم إحساسه أنها عانت ربما، لكن كلماتها خرجت بقهر مكبوت، وشعور بالذنب لبعد بينهما يؤنبه:
_ هستناكي في الشركة بكرة
أومأت برأسها وابتسامة بسيطة تناقص عينيها الدامعة، تسعى لتغيير حياتها، للحصول على الآدمية التي افتقدتها معهم، تسعى لأجل فيروز..
.................
حرّك عضلاته بتعب، يشعر أنها تيبّست من بعد جلسة العمل الطويلة تلك... يبدو اليوم طويلًا جدًا، لا ينتهي،
هل ما يشعر به فقط مجرد إرهاق ومن ذلك الصداع اللعين المتملك من رأسه، أم لأنه بدأ يكبر بالعمر، دون زواج، دون أطفال، دون حبيبة وعائلة.
بمفرده، ولِمَ سيصبح كذلك؟ سرق العمل منه سنوات عمره دون أن ينتبه، ومضت سنوات لو كان تزوج بها، لأصبح لديه طفلان جميلان.
مسح على وجهه وأمسك بالهاتف.
علا الرنين واستمع فقط لكلمة مختصرة (تعالِ).
استقامت دهب برشاقة واتجهت إليه، صوت كعبي حذائها يطرق، يطرق حتى اخترق أذنيه.
أغمض موسى عينيه وتقبض جبينه للحظة من صوت حذائها الذي اقترب منه حتى توقف تمامًا، ودون أن يرفع رأسه إليها، وضع الملف أمامها قائلًا بإرهاق:
_ الملف ده يتراجع واتأكدي من الأرقام مرة تانية
جذبت الملف وتحركت اتجاه الباب، وقبل أن تخرج التفت برأسها إليه، يدلك جبينه بألم مرتسم على ملامحه، لعنت قلبها الذي يحثها بشدة على سؤاله، فمن بعد تلك المشاجرة تجنب كلٌّ منهما الآخر، واقتصرت كلماتهما القليلة فقط على العمل.
عضّت على شفتيها السفلى بتفكير لم يستغرق ثواني، ثم تحركت تجاهه، انتبهت أنه دون جاكيت حلته وفقط قميصه رافعًا أكمامه لمرفقيه، ورابطة عنقه متدلية بإهمال حول رقبته ويظهر من جانب وجهه إرهاق ملامحه الأثرة..
خرج صوتها مرتبكًا غريبًا عليها:
_ إنت كويس؟
لم يجبها موسى لفترة، حتى ظنت أنه لن يجيبها وأنها لم تجلب لنفسها سوى الإحراج.
لكن تفاجأت بصوته المتعب يقول:
_ عندي صداع قوي، حاسس إني مش قادر أفتح عيني منه
رقت عيناها إليه، ودون تردد اقتربت منه ووضعت يدها على جبينه، تفاجأ موسى بفعلتها فرفع رأسه إليها، كانت قريبة، قريبة جدًا.
ملمس يدها على جبينه الساخن كان ناعمًا كملمس الحرير، قالت له دهب وهي قابضة جبينها بقلق:
_ إنت سخن جدًا
ثم تحركت للخارج، زفر أنفاسه شاعرًا بالسخونة تزداد أكثر فأكثر ودوار لعين يجعل عينيه مشوشة، شعر بها مرة أخرى وبقربها منه تقول:
_ تعالَ على الكنبة استريح شوية
ثم مدت يدها له بأقراص والآخر كوب ماء:
_ الدوا ده كويس وفيه كمان مسكن، بس الأحسن تروح بيتك
ابتلع الأقراص من يدها وكوب الماء، ثم تمتم لها بخفوت شاكرًا، وتحرك ببطء للكنبة العريضة، عاد برأسه للخلف بتعب وما زال يقاوم الدوار...
وقفت دهب أمامه بقلق وحيرة، جلست على كرسي أمامه بمسافة منتظرة تحسن حالته أو احتياجه لمساعدة ما.
لكن الوقت مر وهو على سكونه، تسلل القلق إليها، فتحركت إليه وبخوف نادته، جاهد موسى لفتح عينيه وقابله وجهها القريب والقلق، رأى تحرك شفتيها بشيء ما لم يسمعه جيدًا، فرفع عينيه إليها، كانت غريبة وجميلة... وقريبة جدًا.
شعرها متدلٍ على كتفيها، بفارق في منتصف رأسها، وتضعه كل فترة خلف أذنيها، ترى كيف ملمسه ورائحته!
كرائحة السكر مثلها أم رائحة أخرى؟
رفع موسى يده ببطء وأمسك شعرها المتدلي على أحد كتفيها وتخلله بين أصابعه، تصنمت دهب ولم تصدر حركة واحدة، بعينيها فقط تنظر إليه تارة وليده تارة أخرى بذهول...
خفق قلبها بقوة وتسارعت دقاته، كان يهذي وهي تعرف، ومع ذلك لم تستطع تجاهل ذلك الشعور الجميل من فعلته تلك، والتي لم تتخيلها أبدًا في أحلامها الكثيرة به.
تقابلت عيناهما، كان الصمت يغلف المكان من حولهما، عيناها كانت هادئة خالية من الاصطناع، اصطناع القوة أو الغرور أو حتى الضعف... كانت عيني دهب العاشقة لذلك الرجل أمامها، حتى لو لم يبادلها بعد، حتى لو لم يطرق الحب باب قلبه من أجلها مثل ما فعل هو معها في أول مرة رأته قادمًا لشركة الشناوي، ومرة أخرى في اجتماع في أحد المطاعم دون أن يراها، شعور كان يزداد ولم تستطع تجاهله وأتت إلى هنا لأجله، لأجل ذلك الذي يضرب بصدرها بعشقه...
أصابعه ومن بينهما خصلاتها السوداء، يشعر أنه بين الحلم واليقظة، وإن كان في يقظته يقاومها بقوة موسى رشيد، فما السبيل وهي في حلمه!
ساكنة، مطيعة، وهادئة... دهب تلك التي ألقت عليه في يوم لم يعمل له حساب.
ابتلع ريقه ورأت حنجرته تهبط وترتفع وصوته الخافت يقول قبل أن يستسلم للدوار:
_ إنتي جميلة
بسمة صغيرة حنونة ارتسمت على ثغرها وهمست له قبل أن يغيب عن الوعي:
_ ياريتك تشوف موسى رشيد بعيوني.
..............
في صباح جديد
استيقظت فيروز باكرًا جدًا، طرقت باب أسيل وأيقظتها قسرًا، تأففت أسيل وهي تضع الغطاء على رأسها: _ عايزة إيه يا فيروز؟ سبيني أنام
قالت فيروز وهي تزيح عنها غطاءها: _ قومي اختاري معايا ألبس إيه، النهارده أول يوم شغل وعايزة شكلي يبقى كويس
توقفت أسيل عن الحركة ونظرت لها بنصف عين:
_ ده بجد؟
أومأت برأسها عدة مرات وابتسامة واسعة، مسحت أسيل وجهها وقالت مقترحة:
_ طب ما تستني لما أصحى ونروح سوا
_ سوا ده اللي هو الظهر، إنتي بتروحي تقريبًا قرب ميعاد الانصراف
ضحكت أسيل بخفوت وقالت:
_ مش دايمًا والله، لما ما بيكونش في شغل محتاجني بس
أصرت فيروز قائلة:
_ ماليش دعوة ياختي، أهي شركة أبوكي وإنتي حرة، لكن أنا موظفة
رفعت أسيل حاجبها وقالت وهي تلوي فمها:
_ شركة أبويا؟ إنتي بتشتميني ولا إيه؟
ربّتت على يدها وبحنو قالت:
_ مش قصدي، لكن مش عايزة حد يقول دي بتيجي بمزاجها علشان شركة عمها أو إن ليها واسطة
نفخت أسيل وقد طار النوم من عينيها واعتدلت أخيرًا قائلة:
_ كنتي عايزة إيه مني علشان نسيت
_ تختاري ألبس، أنا مش عارفة إيه يكون مناسب للشغل
أزاحت الغطاء عنها قسرًا وساعدتها على ارتداء ملابس أول يوم عمل، وعلّمتها كيف تنسق ملابسها لعدة أطقم مختلفة تناسب العمل، وقسرًا أيضًا ذهبت معها للشركة مبكرًا.
لطيفة فيروز، لم تدرك أول مرة رأتها أنها سلسة التعامل وستكون قريبة منها، في الحقيقة تعامل فيروز كان متحفظًا في البداية لكن شيئًا فشيئًا تعاملت بطبيعتها الودودة، بجانب وحدتها وأصدقائها القليلين ستكون فيروز أنسب صديقة لها، وهي تحتاج لأحد بجانبها هذه الفترة...
..............
تبادلا النظرات، وكانت نظرات كمال ذات مغزى تلاقاها قاسم مبتسمًا ببرود، مما أثار حنق كمال هاتفا به:
_قاسم بلاش الطريقة دي معايا
أجابه قاسم بهدوء مستفز:
_ وأنا عملت حاجة
تحدث كمال بضيق ضاربًا بكف واحدة سطح مكتبه:
_فيروز بنت أخويا زي أسيل بالظبط، مش هاسمح لحد يأذيها
حرك قاسم رأسه، كمال يملك معدنًا طيبًا لم يتلوث من عالم رجال الأعمال، ومعرفته به منذ سنوات أدرك مبادئ وإنسانية يملكها كمال تجعله، ورغم فارق العمر بينهما، إلا أنه في مكانة مميزة لدى قاسم.
قال قاسم بهدوء دون أن يرد عليه بإجابة تريحه:
_ أول مرة أعرف إن ليك أخ، عمري ما سمعتك بتتكلم عن قريب ليك في مصر
التف كمال حول مكتبه حتى أصبح قبالة قاسم وقال من بين أسنانه:
_ وأنا من إمتى بتكلم عن حياتي الشخصية في الشغل، وماتغيرش الكلام يا قاسم
استقام قاسم وظهره جسده العضلي وحلته السوداء المتناسقة عليه، أغلق زر بدلته فاردا قامته بكبرياء:
_إنت تعرف إني شخص بطبعي مؤذي يا كمال
أجابه كمال مخترقًا شيئًا ما بداخله:
_ إنت شخص هادئ وبتعرف كويس تتحكم بأعصابك ببرود معتاد منك، وده من أهم الأسباب اللي وصلتك لمكانتك في السوق...
لكنك جواك نار يا قاسم، نار خامدة لو طلعت هتأذي اللي حواليك وإنت أولهم
كانت عيني قاسم قاتمتين وجامدتين، ولم تهتز، لكن شيئًا ما تحرك بداخله وكأن حديثه لامس جرحًا قديمًا، تاركًا أثرًا مشوهًا في روحه، أثرًا لم يره أحد إلى الآن..
قال له بوجه جامد خالٍ من التعبير:
_ناري أنا أدري واحد بيها، لكن جنتي لسه محدش دخلها، سيب الأمور تمشي لوحدها يا كمال، مين عارف يمكن يجي اليوم وهي اللي تقف وتقول أنا عايزة جنته.
.....................
نفخت أسيل بملل وهي عاقدة يديها أمام صدرها، تنظر لفيروز بغيظ، وهي تجلس على كرسي مكتبها الشخصي، وتدور به لليمين واليسار حول نفسها عدة مرات ضاحكة، ثم تتنحنحت هي وتجلس عليه بوقار مُمثلة أنها تحدث شخصية هامة وهمية ثم تضحك بعدها، فقالت أخيرًا غير منتبهة لأسيل الواقفة أمامها وكأنها منتظرة إلقاء الأمر منها:
_ الله، أنا عايزة كرسي زي ده والنبي يا أسيل، بيلف كده ويمرجحني
قضمت شفتيها غيظ وقالت:
_لا الحقيقة الموظفين هنا بيقعدوا على كراسي خشب ومكاتب خوص.
نظرت لها فيروز ضاحكة قائلة:
_ حلوة يا سوسو
ابتسمت أسيل رغمًا عنها قائلة بمهادنة:
_يا بنتي هتفضلي تلفي بالكرسي، قومي خلينا نشوف هتقعدي فين
استجابت لها فيروز واستقامت مهندمة من ملابسها الرسمية، وفي الممر كانت أسيل تشير لها على أهم المكاتب وأشغالها واختصاصها، استوقفتها أسيل أن تنتظرها هنا لحين عودتها، فقد نسيت حقيبة يدها في مكتبها وبها هاتفها، أومأت لها فيروز ووقفت في انتظارها، تنظر للموظفين الذين يعملون كالآلات هنا وهناك، تتمنى بداخلها أن تصبح يومًا ما مثلهم، تعرف وتتعلم ما يقومون به، تكون ذات خبرة ومكانة تصل إليها بمجهودها الشخصي..
اتسعت عينيها فجأة عائدة من أحلام يقظتها على رؤيتها لقاسم عمران آتيًا من آخر الممر، التفتت حول نفسها لتداري نفسها عنه، فلم تجد سوى المصعد من خلفها فدخلت به وأغلقت بابه، وضعت يدها على صدرها مرتاحة لتجنبها لقاء آخر معه، شخص مثله وبمكانته لا يريد سوى العبث، وهي أهم ما تملكه احترام ذاتها.
ضاعت لحظاتها المريحة عند توقف المصعد وفتحه على مصراعيه وأصبحت أمامه مباشرة، لم ينتبه لها للحظة الأولى لانشغاله متحدثًا بهاتفه، لكن بمجرد ما وقعت عينيه عليها، ابتلع بقية حديثه واستمر هاتفه على أذنه وعينيه ثابتة عليها، أغلق الهاتف بوجه المتحدث ووضعه في جيب بنطاله، وابتسامة جانبية دخل، وانزوت هي بركن في المصعد حتى أغلق الباب قبل أن يسعفها عقلها و يلهمها الخروج، التفت لها قاسم واضعًا يديه في جيب بنطاله قائلًا:
_إنتي عارفة إن دي تاني مرة أفكر فيكي وفجأة ألاقيكي قدامي
انتبهت لصوته الرجولي الهادئ في سكون المصعد، ورغم حديثه لم ترفع رأسها إليه، تنتظر بفارغ الصبر وقوف المصعد
_ إنتي بتعملي إيه هنا
لم تجب بشيء مستمرة في تجاهله، ارتفع أحد حاجبيه من تجاهلها له، فقرر العبث معها قليلًا وإخراجها من سكوتها، وبجرأة منه ضغط على زر التوقف، اتسعت عينيها والتفتت إليه هادرة:
_إنت وقفته ليه
_إنتي مش بتردي عليا ليه
نظرت حولها والمكان المغلق عليهما قائلة:
_ شغله تاني
_ ده أمر؟
شعرت بضربات قلبها تزداد وحبات عرق باردة بدأت بالظهور على جبهتها وبانفعال يزداد:
_ شغله بقولك
ضيق حاجبيه متسائلًا:
_إنتي عندك فوبيا من الأماكن المغلقة
ولا تعرف ما أصابها، وارتعاشة جسدها تزداد وقدماها تتحملها بصعوبة، والمكان يكاد يجثم على صدرها، رائحته حولها تشعرها أنه قريب للغاية، وذكرى موحشة بدأت في الوميض بعقلها، وكل ذلك يضعف من قواها.
ضغط قاسم على زر العمل مرة أخرى، وقد هاله تبدل حالها، فاقترب منها لامسٍ جانب وجهها البارد، فنفضت يده عنها وبدأت في النزول لأسفل حتى جلست على الأرض، انحنى إليها وقال بخفوت يهدئها:
_ اهدي يا فيروز مافيش حاجة، إنتي كويسة، خلاص قربنا نوصل
نظرت إليه بغلالة من الدموع هاتفة به بهمس:
_ ابعد عني
نظر لها للحظات، ودقة ضربت صدره وأجاب بأول ما تحرك به لسانه:
_ صدقيني مش عارف، مش عارف أبطل تفكير فيكي، والقدر كل شوية يحطك قدامي، وتخيلي راجل زي واحدة تعمل فيه كده
ابتلعت ريقها، وابتعدت بعينيها عنه،
وتأثير طغى على كل ما حولها، اتفتح باب المصعد أخيرًا، فأخذت شهيقًا عاليًا وكأن الأكسجين قد أوشك على النفاد بالداخل،
هبت واقفة تنوي الركض للخارج لكنه استوقفها بصوت هادئ وطريقة خاصة بنطقه لاسمها قائلًا:
_هشوفك تاني... وهاسيبها للقدر لرابع مرة
رمشت بعينها برهبة، وعيون رجل برسمه صقر ولون الزيتون الأخضر تنظر إليها لتسير تلك الرعشة بجسدها وذلك الخفقان المتسارع بقلبها.