رواية للهوى رأي اخر الفصل السابع
بقيتي أحسن دلوقتي يا فيروز، إيه ركبك الأسانسير بس و كنتِ رايحة فين؟
أجابت فيروز بارتباك:
_ مش عارفة يا أسيل.
نظرت لها أسيل بمحاصرة وتسائلت:
_ طب وقاسم؟
زاغت عيناها ثم انحنى كتفاها معترفة:
_ كان معايا في الأسانسير، أنا خايفة أوي يا أسيل، كل مرة بشوفه بتحصل حاجة، وجوده بيوترني وببقى عايزة أهرب، ده غير إنه بيقولي يعني القدر هو اللي بيخلينا نتصادف كل مرة من غير ترتيب.
قالت فيروز آخر كلماته بخفوت خجول أمام نظرات أسيل المتسعة بصمت لثوانٍ ثم ضحكت بعدها هاتفة بذهول:
_ قاسم عمران قالك كده، أيوة ما هو مش سهل برضه.
انتبهت لها وتسائلت بخوف:
_ إيه ده؟ يعني إيه؟
ارتمت أسيل على الفراش بجسدها وغمزت بعينها بشقاوة:
_ قاسم باشا وقع ولا إيه؟
شهقت فيروز نافية لكن الأخرى قالت:
_ على فكرة هو سمعته كويسة ومالوش في السكة الشمال خالص.
_ يا أسيل أنا مش عايزة حاجة ولا عايزاه له دعوة بيا، أنا لسه بفكر هاقف على رجلي إزاي وأبقى حاجة، أتكعبل في راجل زي ده ووجوده أصلاً بيرهبني.
سطع صوت هاتف أسيل، فَوقفت فيروز قائلة وهي تلوح بيدها:
_ أهو كل ما أتكلم معاكي كلمتين يرن، اسم النبي حارسه.
قالت من خلفها بضحكة:
_ فيروز إنتي بقالك 3 ساعات عندي، منهم ساعة بنم على قاسم عمران اللي شكله هايبقى حديثنا الفترة الجاية.
عضت على شفتيها هاربة من تلميح ابنة عمها، مهما حاولت عدم التفكير في كل لقاء يحدث بينهما، لكن صورة لعينيه أو شعور بهيبته أو صوتًا له يرن بأذنيها لنطقه باسمها، يجعلها تتشتت وترتبك ومتحيرة من تلك الدقات الجديدة عليها.
...............
أجابت على ياسين، وقبل أن تنطق باسمه استمعت لصوته الخافت جدًا ينطق باسمها:
_ أسيل.
بانتباه تسائلت بقلق:
_ ياسين، إنت كويس؟
أجابها على الجهة الأخرى بصوت باهت:
_ ليه بتقولي كده؟
_ صوتك مش كويس أبدًا.
تنهد ياسين وأغمض عينيه وعاد برأسه مستندًا على ظهر مقعد سيارته:
_ أنا كويس.
قالت بهدوء رغم قلقها:
_ في حاجة مضايقاك؟
نعم، هناك أشياء تخنقني وتجثم على صدري وتشعرني بالحقارة، أن أكون أحب فتاة مثلك، ورغباتي تحركها أخرى، أن أكون خائنًا.. هذا شعور مؤلم.
لم يتفوه بشيء من كل هذا، فقط بعد الصمت قال بصدق:
_ وحشتيني.
سكتت أسيل، تشعر بشيء ما، لكنها أجابت:
_ وإنت كمان.
_ ممكن تطلعي أشوفك من البلكونة، مش هانزلك بس هاشوفك وأمشي.
استجابت له وفتحت شرفتها، لوحت له، فردها إليها بابتسامة وقبلة في الهواء عابثة، استقبلتها هي بأعين محذرة، فأشار لها بيده معتذرًا، واستمرت معه على الهاتف طوال الطريق حتى منزله بإلحاح منه أن تبقى معه دائمًا وكأن شعوره بتواجدها يمنعه من الخطأ، أو هكذا صوّر له عقله.
.............
أزاح ستائر غرفته وأجفل من أشعة الشمس القوية في ذلك النهار المشمس، مر أسبوع تغيب فيه عن عمله، بعدما استيقظ في إحدى المستشفيات بعد فقدانه الوعي بشركته، يتذكر أنها كانت آخر وجه يراه، لحظات مشوشة بعقله ليست واضحة، وأشياء لا يعرف هل حدثت بالفعل أم لا، لكنها كانت متواجدة في المشفى ولم يرها، أبلغه محامي الشركة أن سكرتيرة مكتبه تحدثت إليه بعد انتهاء دوام العمل وأخبرته بقدوم الإسعاف للسيد موسى لمرضه، وستكون أمام البوابة الخلفية بعيدًا عن أعين الموظفين، حتى لا يعلم أحد بمرضه ويثير الأقاويل بغير فائدة.
وبناءً على ذلك تحرك محاميه مع دهب للمشفى، حتى إنه لم يرها هناك، فقط استمع لصوتها خلف الباب...
متحير من ذلك الشعور الذي يراوده من عدة أيام... يقلقه ويزعزع ثباته بداخله...
شعور هي محوره، ومن سواها غير... دهب.
التفت لذلك الذي اقتحم غرفة مكتبه، متسائلًا دون مقدمات:
_ موسى، إزاي تبقى تعبان وما أعرفش، بالصدفة أعرف من والدتك؟
دخلت تلك السيدة ذات الملامح الناعمة والهادئة:
_ قال يعني أنا اللي عرفت الأول، ده بالصدفة اتصل عليا المحامي وقالي إنه في المستشفى.
تنهد موسى وقال:
_ خلاص يا جماعة، ماكنتش عايز أقلق حد فيكم، وبعدين ما أنا كويس قدامكم.
عدلت والدته السيدة رقية من حجابها الأبيض على رأسها قائلة له بدعاء:
_ يارب يا حبيبي دايمًا تبقى كويس، ربنا يخليك ليا ويفرحني بيك بقى قبل ربنا ما يسترد أمانته.
قال موسى مسرعًا من خلفها:
_ ربنا يديكي طولة العمر يا أمي.
أومأت برأسها باستسلام قائلة وهي تعود بأدراجها للخارج:
_ ربنا يطمن قلبي عليك يا بني.
نظر إليه ذلك الشاب الذي يصغره سنًا بثلاث سنوات، صديق المراهقة منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، عاشا تفاصيل التمرد والشقاوة والشباب ومشاجراتهم، إلى أن أصبحا ما هما عليه الآن...
رغم مكانتهما في عالم رجال الأعمال وتنافسهما إلا أن قليلًا جدًا ما يعلم بتلك الصداقة البعيدة عن الأنظار، ربما طريقة أراد كل منهما أن يحافظ على صداقتهما بعيدًا عن الأضواء وعالم الأعمال...
فقط موسى رشيد وصديقه المقرب (قاسم عمران).
جلس قاسم وقال لصديقه ساخرًا:
_ هاتفضل واقف كده؟ ما تتفضل بيتك ومطرحك.
جلس موسى رافعًا إحدى حاجبيه منتظرًا ما سيقوله قاسم، الذي قال:
_ إزاي ما تقوليش يا موسى؟ ليه ما اتصلتش بيا وأنت في المستشفى؟ وإزاي ما أعرفش غير دلوقتي؟
صمت موسى لبرهة ثم قال:
_ ليه ما سألتش ورحت الشركة؟
أجابه بنظرة ذات مغزى فأجابه موسى مشيرًا بيده:
_ ده برضه نفس السبب.
تساءل قاسم بترقب:
_ يعني إيه؟
هتف موسى مقررا:
_ دهب كانت في المستشفى.
صمت قاسم واعتدل في جلسته قائلًا:
_ كانت معاك؟
أجابه موسى:
_ هي اللي طلبت الإسعاف ولحد المستشفى وما شفتهاش بعدها.
عم الصمت عليهما لفترة، اخترقه صوت موسى العميق:
_ هاتفضل كده لحد إمتى؟
تحفزت تقاسيم وجه قاسم قائلًا:
_ موسى، أنا طلبت منك شيء لو مش عايز تكمل...
قاطعه موسى ضاربًا بقبضتيه على مكتبه بقوة وغضب:
_ أكمل إيه بالظبط يا قاسم؟ أختك مش محتاجة حارس عليها وإنت عارف، دهب محتاجة أخوها يقوم أفعالها، مادام إنت رافضها، حاطط عينك عليها ليه؟
وقف قاسم قبالته هادرًا بغضب:
_ مش عارف أتقبلها، مش قادر، كل ما أشوفها ما بلاقي قدامي غير صورة كاميليا، حاولت كتير أبعد ما قدرتش، وفكرة إنها أختي من بطن كاميليا مش قادر أتخطاها، مش قادر وأنا لسه لحد دلوقتي بعاني منها ومن أفعالها.
أخذ موسى نفسًا ثقيلا متعبًا قائلًا:
_ دخلتني في دوامة ماليش فيها يا قاسم.
تمعن قاسم النظر لصديقه فقال:
_ ماقدرش أتمن غيرك عليها يا صاحبي، فترة صغيرة وأنا اللي هاتصرف بعدها.
..................
اقتحمت كاميليا غرفة ابنتها فجأة متسائلة وهي تضع يدًا على خصرها والأخرى مستندة على الباب:
_ في إيه حصل أنا ماعنديش علم بيه؟
تأففت دهب وقلبت بعينيها بحنق ثم نظرت لجهاز اللاب توب مرة أخرى دون أن تجيبها بشيء، لم تستلم كاميليا بل تحركت اتجاهها وأغلقت الجهاز هاتفة بها:
_ ردي عليا، ما تسبنيش محتارة ودماغي تودي وتجيب كده، إنتي سبتي الشغل عند موسى صح؟
رفعت دهب إحدى حاجبيها بسخرية:
_ وإنتي ليه بتقولي كده؟ ولو حصل ما ده اللي هيكون على هواكي.
نظرت لها بتمعن ثم قالت:
_ عمري ما مشيتي على هوايا يا دهب.
ابتعدت من أمامها وقالت بثقة وبرود:
_وعمري ما هامشي على هواكي، وعلشان تهدي أنا ما سبتش الشغل ولا حاجة.
انتبهت كاميليا إليها بحواسها متسائلة:
_أمال بقالك كام بتروحي متأخر، والنهارده أهو ما روحتيش؟
التفتت لها دهب:
_موسى تعبان، واخد إجازة، والشغل بخلصه هنا بدل ما أروح الشركة.
صمتت كاميليا لبرهة، ثم التمعت عيناها الذهبيتان بخبث:
_طب مش المفروض تروحي تعملي الواجب؟
ضيقت دهب عينيها المحتدة، وتقلصت تعابيرها مستشفة أن ما ستلقيه كاميليا لن يعجبها:
_يعني إيه؟
اقتربت منها وبنعومة زائفة، ربتت على وجنتها متأملة ملامحها القريبة منها، وتتمنى أن تشبهها في عقلها أيضًا، لكانت امتلكت الكثير والكثير، لكن عقل ابنتها المتصلب والمتحجر يحول دائمًا دون رغبتها.
خرج صوتها الناعم قائلة:
_مش المفروض تروحي تزوريه في بيته؟
ضمت دهب شفتيها، وبنظرة كادت تحرقها هتفت بوجهها:
_مش خايفة أخسرك زي ما بِعتك في قاسم.
ارتدت برأسها للخلف بصدمة، متمتمة كاميليا:
_قاسم؟
بسخرية مُرَّة ابتسمت دهب:
_آه، لو أنا كنت أخدت شكلك، فهو أخد طباعك القاسية للأسف.
ابتلعت ريقها ببطء، متسائلة بترقب خافت:
_إنتي شفتيه؟
نفت برأسها وبوجه جامد متألم:
_ولا عايزة أشوفه.
ثم تابعت مشددة على حروفها:
_ابعدي عن حياتي، ما تخربيهاش أكتر من كده.
ثم غادرت وتركت لها الغرفة بأكملها،
عضت على شفتيها ودارت حول نفسها بتفكير...
كاميليا...
كانت جميلة، مثالًا للمرأة مكتملة الأنوثة والجمال، لم يستغرق عمران والد قاسم في يدها الكثير من الوقت، رجل ذو نفوذ وسلطة وأموال، وهي تملك الجمال والدلال والإغواء...
فارق العمر بينهما ليس بالقليل، كان ذلك أولى أخطاء عمران، ظن أن بشبابها سيعوض معها ما مضى من سنوات عمره التي تسللت من بين أصابعه في العمل والصفقات، ولكنه أقدم على الزواج منها ومبتغاها الأموال والحياة التي أضحت تعيشها كالأميرات، ولم يبخل عليها بشيء، كل ما كانت تطلبه يحضره إليها، ذاق من شهدها وتدللت بالحياة الرغدة.
لكن الهدوء لم يدم طويلًا، أصبحت تحمل قطعة منه، كان فارقًا في حياة عمران وحلمًا راوده في كل وقت، طفل يكون له العون ويعيش معه الأبوة بتفاصيلها، ويرث ما اكتسبه من أموال واسم عائلته وحنكته التي اكتسبها في حياته... وكان واقعًا مفروضًا على كاميليا رغم أنها اتخذت احتياطها لعدم حدوثه، لكنه حدث رغمًا عنها، وعندما شاهدت سعادة عمران، فكرت أنه سيكون الوسيلة لخضوعه أكثر وتمكنها هي أكثر وأكثر...
الأمومة شيء لا تعرفه ولا تمتلك من مشاعره شيئًا، رغم أنه خُلق بها وسكن في أحشائها، إلا أنها بمجرد ما لفظته من رحمها تركته للمربيات، وانشغلت بحياتها المرفهة...
لم يفارقه عمران، سلب منه عقله وقلبه ومشاعره، أكثر أوقاته مع طفله البكري، والذي أطلق عليه "قاسم" كما تمنى... كان مصدر سعادته، في أجواء خالية من الأسرة التي تمنى وجودها وأمَّن نفسه بها عند قدوم طفله، لكن والمفترض أنها والدته، كانت مشغولة بكل شيء عداه، سهرات وحفلات، وحتى السفر كانت تسافر دون حتى عناء أن تخبره...
كثر الشجار بينهما وأصبح البيت لا يخلو من أصواتهما العالية...
واستمرت كاميليا كما هي، وأصبح عمران لولده كل شيء، تحول الحب لبغض ونفور، فكرة انفصاله عنها تراوده ويتراجع لآخر لحظة خوفًا على قاسم، ولعنة ألقتها عليه ليصبح أسيرها رغمًا عنه...
كلاهما له حياته وكأنهم أغراب، حتى كبر قاسم وأصبح يعي لكل من حوله... غياب والدته المستمر وافتقاده لأشياء ومشاعر عمل والده على أن يملأ ذلك الفراغ قدر استطاعته، كان الرابط بينهما أكبر بكثير من الأبوة، رباط بينهما وتفاهم وحب واعتناء كل منهما بالآخر...
حتى ذلك اليوم المشؤوم، والذي خرج عمران فيه عن سكوته وانفجر بها بكل الغضب الذي يمتلكه منها، ومن تجاهلها وإهمالها وأنانيتها...
كانت مواجهة قاسية، رحل عمران، وأصبحت كابوس قاسم وعقدة طفولة لم يستطع أن يتخطاها إلى الآن، رغم عدم علمها بما حدث لقاسم وعمران في تلك الليلة السوداء لخروجها لإحدى السهرات، إلا أن ما عرفته وقتها كاد يشيب رأسها، ولن يتصور عقلها تفاصيله أبدًا، ومن يومها شيء انكسر بينها وبين ابنها، الذي تدخلت عمته، وبناءً على رغبته، ورغم عمره الذي لا يتعدى الثماني سنوات، أراد العيش معها في الخارج، حتى إنه لم يطلب رؤية والدته قبل سفره، حتى الإرث والأموال لم تتلقَ سوى الفتات، والنصيب الأكبر لقاسم، وكانت الوصية عليه وعلى تعليمه عمته...
تغيرت الأقدار، وتحول كل شيء عكس ما أرادته... وفقدت كل شيء وأصبحت خاوية، لكن امرأة مثلها الاستسلام ليس من صفاتها، عادت كرتها دون ملل واستمر وقوع الرجال في أغوائها.
حصلت على الكثير والكثير، حتى في زيجتها الأخيرة والتي على إثرها أنجبت دهب، تمتعت بثرائه وعاشت معه سنوات ليست بالقليلة حتى فارق الحياة، وأمنت نفسها بإرث ليس بالهين، لكن زوجته الأولى وولديها لم ينسوا ما فعلته من زحزحة علاقاتهم الأسرية وهدم بيتهم، تصدوا لطمعها وجشعها، ولم تنل شيئًا سوى إرث دهب، وخرجت خالية الوفاض...
لم تكن لديها الجرأة للجوء لابنها بعد تلك السنوات وقد أصبح رجلًا، متأكدة أنه لن يقابلها سوى بكراهيته.
لم تكن مثالًا للأمومة، لقد شوَّهت دواخل كل من دهب وقاسم، وبدأت في جني ما زرعته... لكن امرأة مثلها، الاستسلام ليس من شيمها، خصوصًا وربما تكون ابنتها على أول طريق تغيير حياتها ونقلها لحياة أخرى، فربما دفعة منها ستتغير الأحداث وتنقلب رأسًا على عقب...