رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والسبعون 71 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والسبعون

. لكن هذه الليلة على جسدها الواهن رأى ما لم يره من قبل... ندبةً صغيرة تتوسد أسفل بطنها كأنها جرح قديم لذكرى لم تُشفَ بعد.

تجمّدت عيناه للحظةٍ على أثرٍ لم تُخبره عنه لكنه كان يعلم... كان يعلم أنها خضعت يوم الحادث لعمليةٍ جراحية بلا تخدير لأن جسدها كان يتحسس من المادة الفعالة للمخدر.

ذاك اليوم سمع أنينها يتسرب من خلف جدران غرفة العمليات كأنها ترتّل أوجاعها كصلاة سرية، يعدُّ بخوفٍ كل غرزةٍ شُدّت على جلدها كأنه هو من خِيطَ من جديد لا هي.

لكن ما أدمى قلبه أكثر لم يكن الندبة القديمة فحسب بل تلك الأخرى، الطازجة التي على ذراعها اليسرى من الداخل كوشمٍ مؤلم لحادث انقاذها لطفله من مارينا.

ومضت أمام عينيه ذكرى زيارتها للمستشفى حين أثارت مارينا ضجّةً عابرة واعتقد هو بغباءٍ مفرط أنّ الأمر لا يعدو عن كونه كدمةً عابرة لكن الحقيقة كانت أطول من ندبة وأعمق من صمت.

كم كان غبيًا!

سارة التي كانت تشتكي من وخز إبرة كأنها كارثة، تحملت الألم بصمت؟ بل طوّعت الصمت نفسه ليكون ستارًا يغطي نزفها؟

ضمّ شفتيه كما يضمّ القلب جرحًا لا يندمل وترددت في أذنه كلماتها الأخيرة قبل أن تذوب في العدم كلماتٌ حملت بين حروفها طعناتٍ أعمق من الموت.

 ثم رفع درجة التدفئة وكأنه يحاول تعويضها عن كل برودةٍ زحفَتْ إلى عظامها 

لحظة ودوّى وقع خطوات في الخارج،

كان برنت وكريس قد وصلا لكن حينما دلفا إلى الغرفة توقّف الزمن… ، فأطلق صرخة أشبه بالنباح:
– "إلى الوراء! لن أسمح لأحد بأن يراها الآن! سأتحقق بنفسي!"

تراجع الاثنان بصمتٍ ثقيل. كريس، طبيب العائلة، رجل اعتاد أن يُدعى لعلاج إصابات طفيفة أو لطمأنة قلوبٍ قلقة، لم يكن قد رأى سارة منذ عامين. وفي تلك الليلة، حين رآها من جديد، لم يرَها… بل رأى شبحها.

جسدها كان ممددًا على السرير، شاحبًا كأن الضوء ذاته أبى أن يمسه، وأنفاسها كأنها تتردّد في العودة… وبعد أن تأكد أحمد من ثيابها التي غطتتها بالكامل سمح بإجراء الفحص.

– "سيد ميلر،" قالها كريس بصوتٍ خفيض، "بحسب تقييمي الأولي، السيدة أحمد فقدت وعيها بسبب ضعفٍ شديد. الدش البارد سبّب لها صدمة وكان لا بد من تدفئتها بسرعة لتفادي الهبوط الحراري… جروح معصميها سطحية لكنها بحاجة لعناية دقيقة."

– "هل... هي ضعيفة؟"
سؤال خرج من جوف أحمد وهو لا يصدق. سارة؟ المرأة التي سبحت في شتاءٍ قارس؟ كيف يعصف بها الماء الآن؟

– "نعم، معدل نبضها وضغطها تحت الطبيعي، وهناك إشارات على ارتجاعٍ معدي حاد. لكني لست خبيرًا في كل شيء، أنصح بإرسالها إلى المستشفى لفحوصات شاملة."

أخرج كريس إبرة صغيرة كان قد أدخلها في ذراعها وقال.
– "أخذت عينة من دمها لتحليلها. علينا أن نعرف أولًا: هل ما أصابها عدوى فيروسية، أم بكتيرية؟ بعدها فقط يمكننا

اختيار العلاج المناسب."
– "جيد..."
قالها أحمد بصوتٍ أشبه بصدى رجلٍ اكتشف أنه كان يجهل أقرب الناس إليه، صدى خائفٍ على حافة الانهيار.

كانت تلك الليلة أشبه بسُهادٍ متواصل، لا يلين، تقطر فيها روْحُ سارة على مهل، وكأن النوم قرّر أن يُغرقها لا في راحة، بل في حلمٍ طويلٍ، يُشبه خنجرًا مغموسًا في العسل.

في الحلم، كانت هناك... تقف في فناء مدرسةٍ غارقٍ بالشمس والضجيج الطفولي، حين رأته للمرّة الأولى... شابٌ بقميص أبيض ناصع، كأنّه خرج تواً من مشهد سينمائي، أو من قصيدةٍ عن البدايات المذهلة. ونظرة واحدة فقط... كانت كافية لأن تخلع قلبها من مكانه.

وفي المرة الثانية، كُتب له أن يكون مخلّصها... أن ينتشلها من…تذكّرت كيف قفز إليها بلا تردّد،  كأنها تتمسّك بالحياة ذاتها، وعندما ارتجف جسدها ، لم يكن من البرد، بل من الحرارة المختبئة خلف جلدٍ خجول.

ثم... حطّت بهما الريح حيث لا رجوع. حبٌّ اشتعل كعاصفة، لا تعرف التمهّل، لا تعرف المنطق، لا يعترف بقواعد الأرض. كان يُحبّها وكأنها المرّة الأولى التي يُحِبّ فيها رجل... والأخيرة.

كان من الممكن للحلم أن ينتهي عند تلك اللحظة، أن يُسدَل الستار على مشهدٍ ورديّ، يُغلق باب الألم ويمنع التسلل إلى الغد. لكن الأحلام، مثل الذكريات، لا ترحم.

من بين ارتجافاتها النائمة، راقبها أحمد وهي تتقلّب، تتأوّه، وتجاهد شيئًا

في داخلها. على شفتيها هبطت كلمات كالسكاكين:
— "طفلي... يا صغيري... أحمد، أعد إليّ طفلي!"

ثم تمتمت بنبرة مأساوية متكسّرة:

— "أحمد... سأضحي بحياتي من أجلك. فقط... دعني أذهب... أرجوك، دعني أذهب."

كانت كلماتها تسير إليه كما يمشي الحزن فوق صدره، وكل لفظةٍ نُطِقَت، كانت تُشبِه جلدة سوطٍ على قلبه.

مدّ يده إليها،  بأنامل مرتعشة، وهمس بصوتٍ يخالطه وجع دفين:

— "سارة... كيف أُحرّركِ وأنا نفسي سجينكِ؟ من ذا الذي يملك مفتاح القيد في قلبي؟"

كان يعلم أنّه إن أفلت قبضته عنها، سيخسر خيطه الأخير نحوها، نحو النور الذي أضاء حياته ثم انسحب، مخلّفًا فراغًا يبتلع كل شيء.

كانت راحتها حارّة، تشتعل، كما توقّع كريس تمامًا. الحمى تسري فيها كما تسري النيران في أوراق الخريف. أحضر لها لاصقًا خافضًا للحرارة ووضعه على جبينها بعناية، ثم انحنى ليُعدّ بعض الأدوية، حين انفتح الباب بعنف.

دخل برنت مُسرعًا، يلهث من القلق:

— "سيد ميلر! تلقّينا نتائج تحليل الدم! المؤشرات جميعها تحت المستوى الطبيعي... عدد خلايا الدم البيضاء انخفض إلى ٢.٣، إنها لا تملك المناعة الكافية لتحمل الحمى، لا يمكنها مقاومتها وقد تموت! نحتاج إلى حقنة *نيولاستا* فورًا!"

تجمّد أحمد... وكأن العالم توقّف عند الرقم. الحبوب تساقطت من يده، وتفرّقت على الأرض كما تتبعثر اللحظات في حياة فقدت

انتظامها.
— "ماذا قلت؟" سأل مبحوح بصوتٍ كمن هوا في قاع بئر عميق، مبحوح.
 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1