رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثاني والسبعون
بالنسبة إلى أحمد كانت سارة تجسيدًا نابضًا للحياة، أنفاسًا تمشي، وضوءًا يتسلل عبر عتمته فلم يكن مستعدًا لسماع اسمها مقترنًا بالموت.
حين اقترب برنت منه ناوله الهاتف فظهرت على الشاشة نتائج فحوصات دمٍ بدت كأحرف نعيٍ مبكّر… عدا خلايا الدم كانت المؤشرات الأخرى كلها تتهاوى تحت خطّ الأمان… وإذا بسكون قاتل يزحف في عروقه.
تحسس أحمد تلك الأرقام كما لو كانت كفًّا باردة تقبض على عنقه. غارتدّت إلى ذاكرته صورة سارة حين تركها وحدها في الحمام تصرخ... وتغرق في ذعرها.
همس بشرودٍ متلعثم:
ــ "إنها تعاني الحمى... الآن."
ردّ برنت بحزمٍ متوتر:
ــ "هذا أمرٌ سيئ. علينا نقلها إلى المستشفى فورًا."
"احضر السيارة."
قالها وهو يحدق في الفراغ، كمن بدأ لتوه يُبصر.
وانهالت الذكريات كخناجرَ صدئة... سارة، تلك التي كانت تظهر دائمًا في الفترة الأخيرة بسترةٍ سميكة حتى في الصيف. لم يكن مجرّد دلالٍ أنثوي... كانت تحتمي من بردٍ لا يراه سواه… لم تكن تتظاهر بالمرض بل كانت تحارب شبحًا لا يراه أحد.
في تلك اللحظة أدرك كم كان غافلًا. كم كانت وحدها.
لفّها كطفلةٍ في بطانياتٍ سميكة وقد تسرب
له الخوف أن يتسلل الهواء إلى صدرها فيصير كفًا يأخذها من بين يديه. لم تكن مجرّد امرأة مريضة بل قلبه الذي يتآكل بصمت.
كان جسدها هشًّا كقشّةٍ بين يديه وعندما حملها شعر أن ضلوعه تنكمش وكأن وزنها الخفيف يثقل عليه أكثر من الجبال.
هرع بها إلى المستشفى يلهث في عتمة الليل وفي عينيه لهبٌ لا يخبو.
جاء كريس يتنفس قلقًا وفي يده نتائج فحوص جديدة:
ــ "سيد ميلر، حالتها أكثر خطورة مما توقعنا. يجب أن تحصل على ااحقنة فورًا... جهازها المناعي لا يقاوم شيئًا الآن."
في هذه الأثناء كانت سارة معلّقة بجهاز تقطير وريدي تتمتم بكلماتٍ بدت كأنها قادمة من عالمٍ آخر وقد وضعت يدها على بطنها والأخرى مدّتها نحو الفراغ كأنها تحاول الإمساك بطيفٍ لا يُرى.
ــ "أحمد... أنقذني... أنقذ طفلنا!"
أمسك بيدها التي حاولت نزع الإبرة. كانت كمن يقاتل الموت بأصابعها المرتعشة.
طوقها برفق فهدأ وجهها المجهد من أثر الحمى وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ كأنها سلام ما بعد احتراق.
قالت بصوتٍ خافت:
ــ "يا حبيبي، وجدتك أمك أخيرًا... لا تلمني لأني لم أحمِك جيدًا... لا تقلق، أمك ستكون معك قريبًا..."
ارتجف قلبه.
ما الذي تهذي به؟ أيّ كلمات هذه التي تشبه الوصايا الأخيرة؟
رمق برنت بنظرة خاوية قال بحزمٍ خائف:
ــ "برنت، أحضِر كونور... أخبرهم فقط أنني أشتقت إليه."
ــ "سأفعل."
أجابه برنت بنبرةٍ فهم من خلفها قلقًا لا يقل عن قلقه.
كان إيمانه كلّه في كونور، لا في الحظ ولا في القدر.
ولكن... كلمات سارة كانت كأنها لعنة. كرهها يومًا ما، نعم وذلك لأن عائلتها ارتبطت بموت أخته لكنه لم يتخيل قط أن تأتي لحظة يخشى فيها أن تكون هي ضحية أخرى.
وعد نفسه أن يجري كل الفحوصات الممكنة لها بعد نجاتها من هذه الحمى اللعينة... لم يعد يريد أجوبة من الماضي. يريد فقط أن تظل حيّة.
اقترب من أذنها وهمس بصوتٍ ملأه الرجاء:
ــ "سارة... ستكونين بخير. لن أسمح للموت أن يلمسكِ... أقسم."
لكن الواقع... يا له من غولٍ ساخر! في كثير من الأحيان يصفع أحلامنا كما لو كانت زجاجًا هشًّا تهاوى تحت أقدام الحقيقة فرغم محاولات كريس المضنية ظلّت الحُمّى تلتهم جسد سارة بنهمٍ لا يرحم كأنها لهبٌ خفيّ لا يُطفَأ، يوشك أن يبتلع ما تبقى من عمرها الهشّ.
صرخ اليأس في صدر أحمد فقبض على ياقة كريس بقوةٍ تشبه عناق ذئب، وهمس بصوتٍ
غاضب كريحٍ تنذر بالعاصفة:
"إن أصابها مكروه... أقسم أني سأسحب تمويلي من مشروعك الميت هذا بل سأمحيك من على وجه الأرض كأنك لم تكن."
تجمدت ملامح كريس بين الخوف والخذلان وعيناه صارتا مرآةً للعتب ومن ثم قال بصوتٍ حاول أن يبدو متماسكًا رغم انكساره:
"سيدي ميلر، بذلنا كل ما نملك من جهد. لكن حالتها معقدة للغاية وكأنها قررت ببساطة أن تغادر هذا العالم… كأنها فقدت رغبتها في الحياة..."
"هراء!"
قاطعَه أحمد وقد لمع في عينيه بريق أشبه بشعلةٍ تتحدى الزوال، وأضاف بحدةٍ كصوت سن حافة السكين:
"سارة فتاة لا تُكسر. سارة نارٌ لا تنطفئ. ومع بقاء جيف في حياتها لن تسمح لنفسها أن تنهار!"
تنهد كريس، كمن ينزف من الداخل وقال بعجزٍ يليق بموظفٍ في حضرة المستحيل:
"سيدي... لسنا نهرب من مسؤولياتنا. لكن الدماغ كما تعلم هو القبطان في بحر الجسد. وكل المعجزات التي حدثت، حدثت فقط حين قرّر المرضى التمسك بالحياة بأظافرهم حتى لو كان الموت ينفث أنفاسه في أعناقهم."
توقف لحظةً كأن قلبه سقط بين ضلوعه ثم أضاف بنبرة فيها شفقة لا يستطيع إخفاءها:
"أما السيدة أحمد... فكل ما في ملامحها يقول إنها... فقدت
الأمل… وأخشى أن لا أحد يستطيع أن يوقظ الحياة فيمن اختار أن يُطفئها داخله."