رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثالث والسبعون 73 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثالث والسبعون

أفلت أحمد ياقة كريس كما لو أنه ألقى بكل ثقله عن كاهله وتهاوى إلى الوراء خطوةً كسجينٍ تجره ذكرياته من معصميه نحو هاوية لا قرار لها وقد تسللت همسات سارة إلى أعماقه كخنجر نافذ:

**"أحمد... لقد كنتُ مخطئة. لقائي بك في هذه الحياة كان خطأ."**

العبارة ارتدت داخل عقله كأصداء في دهليز فارغ. لا بد أنها كرهت وجوده إلى الحدّ الذي جعل الحياة نفسها تُصبح عبئًا أثقل من قدرتها على الاحتمال.

كريس وعلى غير عادته لمح للمرة الأولى ظلّ خوفٍ باهت يمرّ على ملامح وجه أحمد كأن الطمأنينة التي كانت تسكنه قد لفظت أنفاسها الأخيرة.

طال الصمت بينهما، صمتٌ يشبه ذروة عاصفةٍ لا يُرى فيها شيء ثم قطع أحمد السكون بنبرةٍ غلفها الشك:

"اطلعتُ على نتائج فحوصات دمها... لماذا المؤشرات أدنى من المعدّل؟"

تحركت شفتا كريس لكن الكلمات علقت في حلقه كعقدة من نار. أخيراً قال بترددٍ يشبه من يوشك على نطق نبوءة لعنته:

"في حالات مماثلة... يُحتمل أنها تعاني من..."

لكنه ابتلع ما تبقى من العبارة إذ لم يشأ أن يزرع الرعب في تربة لم تحتمل بعدُ بذرة الحقيقة.
كانت النتائج تشير إلى انخفاض حاد في مؤشرات خلايا الدم البيضاء والحمراء... وهو عرضٌ معتاد بعد العلاج الكيميائي.
ومع أنه لم يُجرِ لسارة أي فحوصات طبية خلال العامين الماضيين إلا أن الشك كان ينهش عقله كالصدأ… غمغم كريس

بينه وبين حاله:
السرطان؟! لا، مستبعد… فهي شابة، قوية، ولا شيء في ملامحها كان يوحي بذبول من هذا النوع.

وبينما كانت الإحصاءات تسرد أرقامًا لا روح فيها كان قلب كريس يدرك أن المنطق أحيانًا يعجز عن الإمساك بالحقيقة.

سأله أحمد بصوتٍ حادٍ كحد السكين يرهب الإجابة كما يخشى أحدهم فتح تابوت مغلق منذ قرون:

"من المرجّح أن يكون لديها ماذا؟!"

تهرب كريس إلى زاويةٍ أضيق من الحقيقة وقال:

"لا شيء... لا شيء محدد. هل لاحظتَ أيّ أعراض غير مألوفة على السيدة أحمد مؤخرًا؟"

أجابه أحمد بنفاد صبرٍ أشبه باحتراق الفتيل الأخير:

"كانت مريضة منذ فترة. ثم جُرحت ذراعها."

أومأ كريس كأن شظية تفسير اخترقت ذهنه فجأة:

"آه، قد يكون هذا هو السبب. بعض الإصابات الفيروسية تؤثر على مؤشرات الدم. وإن لم تكن قد تعافت تمامًا فربما الاستحمام بالماء البارد زاد الطين بلّة... وتفاقم الوضع."

ولكن قلب أحمد انكمش وكأن كلماته تنكّرت أمامه في هيئة عزاء كاذب. لا لم يكن المرض وحده من جرح سارة بل كانت هناك جراح أعمق... جراح لا تظهر في الأشعة ولا تُقاس بتحليل دم… جراح كان هو سببها وعانت هي جراء تجبره الطائش.

لاحظ كريس الانهيار البطيء على ملامحه فتابع محاولًا استعادة السيطرة:

"السيدة أحمد تعاني الآن من ضعف في المناعة... عليكم أن تحيطوها بعناية مضاعفة. سأزيد من جرعة أدويتها،

لكن الأولوية الآن... هي خفض حرارتها بأي ثمن."
أومأ أحمد، وذراعاه تتدليان بجانبيه كجناحين منكسرين وهو يتمتم بصوتٍ يشبه احتضار جملةٍ غير مكتملة:

**"حسنًا..."**

سكنت الفرحة قلب مارينا حين طلب أحمد أن يرى كونور إذ لم تكن تدري بعدُ أنّ السحب قد تكاثفت في سماءه وأنّ العاصفة قادمة… كانت تظن أن الشبه المتزايد بين الطفل وأبيه هو ما أعاد إليه ذلك الحنين وافترضت ببساطة النساء المخدوعات أن ذلك هو خيط النجاة الذي سيربطها به إلى الأبد.

كانت تؤمن إيمان المغرور المطمئن أنّ ازدياد تعلقه بكونور هو نصرها الموعود وأنّ الزمن مهما طال سيُقنعه أخيرًا بتوثيق ما بينهما، تلك العلاقة التي عاشت على الهامش تنتظر توقيعًا لا يأتي.

دخل برنت بهدوء يحمل كونور والصغير يُطوّق عنقه بذراعين ممتلئتين كأنّهما خيطا ياسمين.

في تلك الأثناء، كانت سارة غارقة في الحمى، جسدها يتموج كورقة في مهب ريح ساخنة ووجهها تعلوه حمرة المرض وارتعاشات اللاوعي.

اقترب كونور وحدق بعينين واسعتين في أحمد، وقال ببراءة تخرق القلب:

— "بابا، أريد عناقًا."

ابتسم أحمد رغم ثقل الحزن في صدره وأخذ الطفل إلى حضنه كمن يعانق شتات روحه. ثم أشار برأسه نحو السرير:

— "انظر يا كونور... من هذه؟"

نظر الطفل وعيناه تتسعان بدهشة الطفولة الخالصة، وهتف بفرح:

— "ماما! أريد... ماما."

كأنّ الزمن انكمش وكأنّ

الدفء المنسي قد عاد يتسلّل إلى أطراف المشهد. فها قد وضع أحمد الصغيرَ برفق قرب جسد سارة المتهالك، ثم همس في أذنه:
— "عانقها صغيري... ضمّها كما لم يفعل أحد."

لم يحتج الطفل إلى تعليمات. فبحسّه الطاهر تسلل إلى أحضان سارة كمن يعود إلى أرضه الأولى ومن ثم اتكأ برأسه على معصمها الهزيل وكأنّه يعرف أنّ صدرها هو الوطن.

اقترب أحمد وجثا على ركبتيه أرضاً بالقرب منها ومسح دموعها التي انسابت على وجهها كخرائط حزن ومن ثم همس إليها بصوت مُتهدج تختلط فيه الرغبة بالغفران:

— "كُفي عن البكاء... لقد عاد إليكِ من تنتظرين."

في مكانٍ آخر من ذهنها كانت سارة تغوص بعيدًا... ليس في الحلم بل في حافة الموت نفسه… لم يكن الطفل يبكي في حلمها هذه الليلة بل كان هناك محيط شاسع يمتد حتى ما لا نهاية… مياه دافئة تحضنها كرحمٍ أول، سكونٌ مطمئن، وصوت داخلي يقول بلطف:
*حبيبي... لقد انتظرت كثيرًا. أمك قادمة إليك... قريبة جدًا.*

لكن فجأة اخترق سكونها صوتٌ مألوف صوت طفلٍ ينادي من الخلف كمن يمسك بطرف فستانها قبل أن تغرق:

— "ماما!"

وانشقت اللحظة وكأنّ بابًا بين الحلم والحياة قد فُتح على اتساعه…

ترى هل كونور ابن سارة؟
والأهم هل ستنجو أم إنها النهاية؟ 
 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1