![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل السابع بقلم فاطيما يوسف
لم أكن أظن أنني سأقف عاجزًا أمام لحظة كهذه، لحظة تسرق من صدري أنفاسي وتزرع مكانها خفقًا لا يُقال،كل شيء في عينيها كان مختلفًا، وكأن العمر بأكمله اجتمع في تلك النظرة ليكتُبَ لي وصال، كيف ليدٍ ناعمةٍ أن تهزّ الجبال في داخلي دون أن تمسّها، ودون أن تُحدث في ملامحي اختلال؟
أيعقل أن من كنت أظنها ابتعدت، هي من جهّزت لي لحظات تذيب من قلبي كل الأحزان بذاك الجمال؟
وهل يُعقل أن يُكافَأ الصبرُ هكذا وأن يُجبر قلبي بهذه الروعة بعد أن ظننته محال؟
وهل تُروى الأرواح بهذه الطريقة المبهرة لقلبي والتي لا تُشترى ولا تُقال؟
فـكانت المفاجأة أكبر من طاقتي، أكبر من ضعفي، أكبر من خوفي أن أكون وحدي في هذا المجال،فـالنور الذي رأيته في عينيها لم يكن ضوء شمعة، بل كان وطنًا دافئًا بلا قيد أو مِثال،فما بين صمتي ونظراتها، نشأ حديثٌ عميقٌ بلا صوت، حديثٌ لا يُنسى ولا يُحال،
أدركت أن الحب حين يختبئ طويلًا، لا يموت، بل يعود أعنف مما كان، ويكسر فينا كل احتمال،وفي تلك اللحظة، علمت أنني ما زلت أحب، وأن قلبي ما زال يعرف كيف يُدهَش بهذا الجمال ،
أما عنها هي فتحدثت عينيها دون أن يتفوه اللسان؛ تأخرت كثيرًا في قول ما يُفترض أن يُقال، فصمتُ القلب لا يعني أنه نسيَ أو مال
كنتُ أظن أن الحب وحده يكفي، لكنه يحتاج أيضًا إلى لمسة تُعيد التوازن حين يميل الحال
كنت أراك تبتعد بصمت، وأنا أقاوم النداء داخلي بصمت أشد، حتى ظننتُ أن الصمت مآل،لكن حين رأيت الدهشة في عينيك، شعرت أنني عدتُ إليك، عدتُ إلى قلبي الذي كان فيه اختلال،فالحب لا يضيع، لكنه يحتاج من حين لآخر إلى مفاجأة توقظه من الغياب وتعيد له الجلال
#خاطرة_أبطال_الغرام
#بقلمي_فاطيما_يوسف
اجتمعت الثلاث فتيات أخيراً في منزل والدتهم التي تجلس وسط أبنائهم بسعادة تداعبهم وتلهو معهم كأنهم كنز فهي محرومة منهم ومن تجمعهم أغلب العام ،
أما الثلاث فتيات يحتضون بعضهم والشوق يغلبهم وكالعاده تتوسطنهم شقيقتهم الكبرى مها وعلى يمينها "سكون" وعلى يسارها "مكة" فكادت "سكون" ان تقوم من بينهم لتتمسك بها مها وهي تسألها :
ـ على فين يا بنتي اهدي بقى شوي العيال مع أمنا وهي هتراعيهم وهتاخد بالها منيهم أحسن منك ومني، هتحبهم كيف عينيها بالظبط اعز من الولد ولد الولد، سبتينا ورحتي تطمَني على العيال بدل المرةعشرة جبتي لي دوشة في دماغي اقعدي يا ماما ،احنا بقى لنا كَتير ما تجمعناش ويا بعض ،تقريبا اكده من العيد اللي فات ورمضان داخل علينا اها ،
ثم نظرت إلى "مكة" التي تتسطح بجانبها وتتوسط صدرها:
ـ شايفه "مكة" قاعدة اهي رامية ولادها ولا قامت ولا اتحركت من مكانها واصل وسايباه .
ضحكت "مكة" بلا مبالاة ثم هتفت وهي تشير بسبابتها على رأسها:
ـ وحياتك لو طولت اسيبه لماما اسبوع استريح فيه هبابة من زنه وتعلقوا بيا ليل ونَهار لكنت عميلتها ،ما تتصوريش بَعادي عنيكم وان اني وابني لما بنتعب ما بنلاقيش غير "آدم" هو اللي معانا ببقى محتاجاكم ومحتاجة وجود امي جنبي ومحرومة من الحوار دي علشان اكده لما باجي برمي لها الواد وهي هتتعامل وياه أحسن مني ميت مرة .
هنا استنكرت "سكون" حديثها ونطقت بحدة :
ـ وه تسيبي ولدك سبوع بحالَه ؟!
هتعمليها كيف دي يا حزينة وهيهون عليكِ ولدك؟ اني ولادي ما هستغناش عنيهم دقيقة واحدة، دي وأني واني نايمة بالليل جارهم كل ساعة والتانية هقوم اغطيهم وأبوس كل واحد فيهم ياجي عشر بوسات وأرجع اخدهم في حضني وانام تاني، وكل شوي اعمل الحركة داي، أني متعلقة بولادي تعلق شديد ما اقدرش استغنى عنيهم لحظة واحدة .
اندهشت كلتاهن ونطقن في صوت واحد:
ـ لااااه هو انتي هتسيبي عمران وهتنامي جار ولادك كل ليلة من يوم ما اتولدو لحد دلوك ؟
اندهشت هي الأخرى من سؤالهم فاستنكرت عليهم طريقتهم :
ـ ايه في ايه منك ليها انتوا الاتنين في صوت واحد العيال لساتهم صِغيرين وما يقدروش يناموا بَعيد عني واني ما اقدِرش اسيبهم لما يكبروا شوي عادي هرجع لطبيعتي مع جوزي ؟
كادت "مكة" أن تهاجمها في الحديث إلا أن "مها" طلبت منها أن تصمت فنظرت إلى "سكون" وبدأت تتحاور معها بتعقل ولكن سألتها أولا :
ـ طب وجوزك راضي ومتفقين على اكده ولا الموضوع دي ما يفرقش وياه؟
بس على حسب طبيعة "عمران" اظن ان يكون موقفه عادي؟
قلبت عينيها بحزن قرأته شقيقتيها وهي تجيبهم :
ـ له وهنتخانق كَتير بسبب الموضوع دي بعد ما كنت هنام في حضنه كل يوم والتاني وقت ما يحتاجني يلاقيني دلوك ممكن نتقابل كل شهر مرة والموضوع دي مسبب أزمة كَبيرة في علاقتنا وهو إن جيتو للحق متحمَلني كَتير لحد الأمور ما تتظبط بيناتنا والأولاد يكبرو شوي .
تحدثت "مها" أولًا، بصوت مائل للدهشة لكنه مكسو بالحنان:
ــ هو إنتي هتنامي كيف بعيد عن جوزك أصلا؟! بجد مفهماش كيف الست تهمَل جوزها الليل بطوله السنين داي كلاتها؟ يعني بعد كل اللي حصل، وبعد ما "عمران" اللي حبيتيه سنين واستنتيه بدموع العين من كتر البَعاد وإنه مدريانش بحُبك وبعد اكده لما تخلفي تركنيه على الرف وقت مزاجك ووقتك ما يسمح ؟
اكده هتحطي مسافة بينك وبينه والرجل في سن الأربعين عز سن شبابه هيحتاج في الوقت دي لمرَته أكتر من اي وقت ، هيحتاج لوجودها جاره ،لدفى أحضانها ووقت ما يطلبها يلاقيها وجوزك يا حبيبتي زينة الشباب الله أكبر عليه محتاج تكوني ليه كل الليلة كيف الحور العين.
نظرت لها "سكون" بهدوء يشبه العاصفة التي سبقت الانفجار، وقالت:
ــ أنا مش بحاول أعمل فجوة بس بحاول أستعيد نفسي شوية، الأولاد لساتهم صغار، وكل مرة بنام جنبهم بحس إني باخدهم في حضني وبحميهم من الدنيا انتو ليه مقادرينش تفهموني عاد وتحسو اللي جواي بعيوني اني وقلبي كأم اتحرمت من الخلفة سنين وسنين ؟
هزّت "مها" رأسها ببطء، وكأنها تزن كلماتها، ثم قالت بلطف:
ــ بس يا حبيبتي انتي اكده بتضيعي بيتك! الراجل مش لعبة، ولا صبره حيطول لو فضل يحس إن مراته مش عايزاه، انتي اكده بتعملي شرخ كبير في العلاقة، وكل يوم بتبعدي عنه أكتر، وكل ما بتيجي ترجعي، بتلاقوا بينكم بحر مش قادرين تعوموا فيه ، احنا أمهات كيف ما انتي أم وهندي لكل حاجة حقها .
صمتت "سكون" لحظة، وكأنها تتلقى كلمات أختها في قلبها، ثم همست:
ــ بس أنا مش بقصد، ومش بعمل اكده علشان أبَعِد عنيه، بس في حاجة جواي هتشدني للأولاد، بخاف عليهم، بحس إني لو بعدت، حاجة ممكن توحصل هم.
هنا تدخلت "مكّة"، صوتها هادئ لكنه مليء باليقين، قالت برفق:
ــ انتي أم، وحنانك على أولادك طبيعي، بس فين حق جوزك؟ عارفة إن من السُنة إن الست ما تباتش بَعيد عن زوجها من غير رضاه؟ وان دي بيكون سبب في بعد القلوب؟ مش كل حنية للأولاد تكون على حساب الراجل اللي ربنا جعله سندك.
نظرت "سكون" لها مطولًا، قبل أن تقول، وصوتها ينكسر:
ــ بس هو ما هيشتكيش كَتير و دايمًا ساكت، وبيحاول يفهمني ومتحمَلني .
ضحكت "مها" بسخرية خفيفة وقالت:
ــ الراجل لما يسكت ما يبقاش راضي! ساعات الرجالة يسكتوا علشان بيحبوا، علشان ما يخسروش، بس جوه قلوبهم هينزفوا ،"عمران" مش هييجي يقولك كل يوم: ارجعي لي، بس ممكن في لحظة ينسحب من غير ما تدري ويدور على الحنان مع حد غيرك ووقتها محدش يقدر يلومه راجل وزين الرجال ومرَته مهملاه ومش مكفياه ووقتها كل ندمك مش هيرجع اللي راح وهتبكي بدل الدموع دم.
أطرقت "سكون" برأسها، والدمعة تلوح في طرف عينها، ثم قالت بصوت منخفض:
ــ أني تايهة، بين حضن أولادي، وحضن جوزي... مش عارفة أوازن ، وبعدين هو عمره ما يعرِف يشوف ست غيري ولا عينه تقدر تبص وتتمنى حضن غيري صدقوني اني عارفاه .
ردت "مكة" بحزم حنون:
ــ التوازن مش إنك تدي كل وقتك لحد وتنسي التاني، التوازن إنك تعرفي إن زوجك له عليكِ حق، زي ما أولادك ليهم حق ولو فضلتي اكده، هتخسري الاتنين.
ثم أردفت "مها" بنبرة ناصحة:
ــ أنتي بتربي أولادك على إيه؟ إنك دايمًا موجودة؟ إنك محور الكون ليهم ؟ طب ولما يكبروا، ويخرجوا من حضنك؟ ساعتها هتلاقي نفسك وحيدة، وقلبي مش هيستحمل يشوفك بتدفعي تمن غلطك لوحدك وجوزك هيكون فر وشاف راحته في حضن تاني ووقتها هتبصي على سنينك اللي ضيعتيها تحت رجلين ولادك هتلاقي كل واحد فيهم اللي في حضن مرَته واللي في حضن جوزها وانتي هتحضني مخدتك كيف ما خليتي جوزك يحضن مخدته سنين وسنين لحد ما اتعوَد على بعادك عنيه وشاف غيرك ورتب حياته معاها وهتندمي ندم عمرك يا "سكون" .
ابتلعت ريقها بصعوبة، وكأن الكلمات حجارة في حلقها، ثم قالت بتلعثم:
ــ بس أني بحاول أكون أم كويسة.
نظرت "مكة" في عينيها وقالت بإخلاص:
ــ والأم الكويسة بتعرف إن الراجل شريك حياة مش مجرد ضيف في البيت، لازم تخلقي مساحة للحب، للوصال، مش بس للمسؤوليات، "عمران" هيحبك، وهيستناكي، وإنتي بتبعدي عنيه بيدك.
ثم مدت "مها" يدها ولمست كف أختها، وقالت بنصح :
ــ أرجعي لحضنه، كوني زوجته، مش بس أم لأولاده، لإن لو خسرتيه، عمرك ما هتلاقي الحضن اللي هيضمك لما الكل يبعد.
ظلّ الصمت يخيّم لحظة، بينما كانت "سكون" تغوص في نفسها، عيناها لا زالتا مفتوحتين لكن كأنها لا ترى من أمامها، كانت تستعرض كل الليالي اللي نامت فيها على طرف السرير، كل الدموع التي خبأتها في وسادتها، وكل لمسة كان من المفترض أن تعيد دفء القلب فتهرب منها ثم قالت ببطء:
ــ حاضر هحاول والله هحاول .
"مها" قالت برقة:
ــ لو بتحبيه، ارجعي كيف ما كنتي وياه، الحب محتاج وجود، مش بس مشاعر ساكنة.
نظرت "سكون" إلى أخواتها، ثم إلى يدها التي كانت تعبث بطرف وشاحها، وقالت:
ــ أنا هرجع، بس مش علشان أخاف هخسره بس علشان ما أضيعش نفسي وأني لساتني أقدر أرجّعها.
كانت جلستهم دافئة وكأنّها حنين مؤجل منذ دهور، تتشابك الأرواح فيه قبل الأيدي، وتتعانق القلوب قبل الجسد، ضحكات خافتة تتسرّب من بين الجدران، تشي بطمأنينة لا يعرفها سوى من ذاق طعم الأخوّة حين تختلط بالحب والغياب الطويل، كانت العيون تلتفت بحنان، تتفقد ملامح الزمان في وجوهٍ اشتاقت لبعضها، تسأل عن الأحوال، وعن وجع القلب، وعن تعب الأيام، وتُنصت للنصيحة كما لو كانت طوق نجاة، جلسن في دوائر القرب، كأن الأرض لا تتسع إلا لهن، يتبادلن الكلام والهمس، بين ربتة على الكتف، ولمسة على اليد، ونظرة تحمل عمقًا لا تفسّره الحروف، كل واحدة تحاول أن تكون الأخت الكبرى، والأم، والحضن، والمرآة ،كانت الحكايات تتدفق كالنهر، يتخللها صمت قصير محشوّ بالمحبة، ثم يُستأنف الحديث وكأنه لا نهاية له، حتى الشاي الممدود بينهن صار أحنّ من المعتاد، وكأنّه شارك في الحنين ،العيون دامعة، لكنها سعيدة، كمن عاد من سفرٍ طويل، ووجد دفء البيت كما تركه، وفي الختام، كان المشهد أقرب إلى لوحة حنين مكتملة، كل واحدة منهن مستندة إلى الأخرى، وقد التقت أجسادهن في حضنٍ واحد، كأنّ الدنيا كلها اختُزلت في تلك اللحظة، وتلك القلوب.
********
كانت "سكون" تمشي في أرجاء البيت بخطى ثقيلة ونفسٍ ضيق، تشعر أن شيئًا ما يؤرّقها، شيءٌ نسته أو غاب عن ذهنها وسط انشغالات الأيام، فجأة توقفت عيناها عند التاريخ المعلّق على الحائط، وتجمّدت لحظة، ثم اتّسعت نظرتها بدهشة، كمن انتبه فجأة لحلمٍ نسيه بين اليقظة والمنام، فـاليوم ،ذكرى زواجهما ،
سارعت إلى حقيبتها والتقطت هاتفها، مرّت بأصابعها المرتجفة على سجل الصور، تبحث عن لحظاتهما الأولى، ووجهها يلمع بابتسامة عاشقة لذاك الفارس الجان "عمرانها" ومع كل صورة، كانت ابتسامتها تكبر ودمعتها تلمع، ثم همست لنفسها ؛لن أدع هذه الليلة تمر كأي ليلة، تركت أطفالها مع "زينب" ثم خرجت على عجل، وقلبها يخفق كأنها ستراه لأول مرة اليوم حين تحتفل به، أرادت أن تختار له شيئًا يليق به، فانتقت ساعة جلدية فخمة واختارت معها عطرًا رجوليًا برائحته التي تعشق أن تشمها عليه ،وبعض التفاصيل التي تعلم أنها تُسعده،
عادت إلى المنزل قبل غروبه بقليل ونظمت أمور أبنائها من مأكل واستحمام وكل شئ يخصهم وأمرت من بالمنزل معهم أن تصحابهم اليوم إلى أن ينامو وهي تشعر بنغزة في قلبها من الحزن والقلق عليهم، ثم تسللت إلى الغرفة التي يخصّانها دومًا ببعض الحنين، فبدّلت كل شيء، غيّرت ترتيب الأثاث، أضاءت الشموع، نثرت الورود، ووضعت الهدية في علبة أنيقة على الطاولة الصغيرة بجانب السرير،
ثم وقفت أمام المرآة، كأنها تُعيد اكتشاف أنوثتها من جديد، ارتدت ثوبًا حريريًا ناعمًا بلون اللافندر وهي تعرف جيداً أنه يضعفه، ورفعت شعرها بتسريحة بسيطة لكنها آسرة، مرّرت كحلًا خفيفًا على عينيها ليزيدهما سحرًا، وأطلقت أنفاسها بصمت كمن يستعدّ لمعركة حب، في الخارج، كان الليل قد بدأ يغزل سكينته، وهي تتسلل إلى قلبها بثقة وهي تنتظره في الغرفة على ضوء خافت، وعطرها يملأ المكان بنبضٍ لا يُنسى، جلست على حافة السرير، وضمت يديها كأنها ترجوه أن يسامحها، أن يُحبها الليلة من جديد وأن تكون تلك الليلة هي ليلة الغفران منه لها وان يسامحها على إهمالها له ، فتنهدت بحالمية وداخلها يدق غراما بعشق "العمران بن سلطان" كانت تجلس في منتصف الغرفة، كأنها وردة أزهرت للتو في صحراء هادئة،
العطر يملأ الهواء بنبضٍ حميمي، والشموع تذوب على مهل، كأنها تذرف ضوءًا بدلًا من الدموع، لم يكن في ملامحها سوى انتظارٍ مشوب بالرهبة، عينان تخفيان ألف كلمة، وشفاه ترتجف بين الأمل والخوف،
وحين فُتح الباب ببطء، ووقف "عمران" على العتبة، وقف للحظة يحدّق في المشهد، في الضوء الخافت، في الطاولة الصغيرة المزيّنة، في تلك الـ"سكون" الجالسة هناك، وكأنها من قصيدة لا يجرؤ على قراءتها بصوتٍ عالٍ،
أنفاسه ضاعت منه، وضلّت الكلمات طريقها،
ثم خطا إلى الداخل ببطء، كأن الأرض لا تحتمل وقع رجليه في لحظة كهذه،
وأخيرًا قال بصوتٍ مبحوح مصحوب ببعض السخرية محاولا ظبط أنفاسه من هيئتها ورائحتها التى تعبئ المكان والذي قد اشتاقها كثيرا فمنذ اكثر من شهر لا يتقابلان مثل أي زوج وزوجة فهو كان مبتعداً عنها تماماً منذ آخر مره تلاقيا وجرحته بشدة بدموعها وحديثها وشرطها عليه ،خلع عبائته ووضع أشياؤه على المنضدة :
ـ لاااااه ، لااااااه ، الداكتورة "سكون" بذات نفسها حداك يا "عمران" ؟! دي باين الليلة ولا ليلة القدر عاد ؟
على اكده جاية تنولينا الرضا وتنوري الأوضة عندي بطلتك البهية وتعطفي على الغلبان بليلة على هواكي وكيفك وبعد ما تخلصي مهمتك تطيري وتهجري وكاني محطة هترتاحي فيها هبابة وتعاودي لطريقك اللي هتكمَليه لحالك يا "أم سَليم" ؟
رفعت "سكون" عينيها إليه، ترددت لحظة، ثم وقفت من مكانها، واقتربت منه بخطًى بطيئة كأنها تسير فوق حروف اعتذار طويل لم يُكتب بعد، كان وجهها مشرقًا بنور الشموع، وعينيها تلمعان بندى المشاعر ، ثم نطقت بصوتٍ متهدج، تحاول أن تُخفي رجفة قلبها:
ـ ليك حق تزعل مني وليك حق تلومني وكل كلمة قلتها مش هاعرضك فيها واصل يا "عمران" علشان اني عارفة زين إني مِهمَّلة فيك على الاخر ،بس برده عارفة ان قلبك كَبير وهتسامحني على ارتباطي بولادي وانهم محتاجيني طول الوقت ،
ثم اقتربت منه أكثر وحاوطت رقبته بيديها ووضعت جبينها على جبينه وأكملت بهمس رقيق جعله يقف بين يديها تائها ، عطشانا لقربها ، يتنفس أنفاسها المحروم منها وهو يغمض عينيه بوله من سحر اقترابها ورائحتها ودلالها عليه :
ـ وعلشان النهاردة يوم مهم ومميز وممكن انت ما تكونش فاكره لكن اني في عز مشغولياتي مع العيال الا اني لا يمكن انسى يوم زي دي واصل ، يوم جوازنا يا "عمران" وعلشان اكده جيت احتفل وياك وعميلت كل الحاجات اللي انت شايفها داي علشان أقول لك ،
وقبل أن تكمل احتضنت وجنتيه بين كفاي يديها ثم اقتربت بشفاها وقبلته جانب شفتيه قبلة رقيقة ثم عايدته بهمس ونعومة جعلت كل خلية إحساس في جسده تنفض بشدة كما ينفض القلب بين ضلوعه بضربات سريعة بل من قوتها تكاد تفتك صدره وتسمعها تلك الهائمة به ليفتح عينيه وهو يرى قبلتها له :
- كل سنة وانت طيب النهاردة عيد جوازنا العاشر يا عمراني ، كل سنة وانت معايا ، كل سنة وانت أرجل و أطيب وأحن راجل قابلته في حياتي ، كل سنة وانت معايا وجوايا وأماني وأمني وسكني وسكينتي ونبض قلبي ، كل سنة وانت حبيبي وألف حبيبي يا "عمران" .
ظل ينظر إليها للحظات،ملامحه ممزوجة بين الدهشة والاحتواء،صمته كان أبلغ من أي جملة
اقترب منها خطوة، عينيه تحدّق في عينيها كأنهما يريدان أن يفهمان قبل أن يتكلما
ثم قال، وصوته صار أدفأ من كل ما مرّ بينهما:
ـ أني كنت فاكر إن البُعد خلّى قلبك يقفل عليّ، كنت كل يوم شايف في مسافة بعد هتبعدني عنيكي، في حاجز، مش شايف له آخر، بس دلوك وإنتي واقفه قدامي اكده، وأني شايف دموعك نايمه في ضي عينيكي، قلبي بيصرخ، وهيقول لي قرب يا "عمران" داي سكونك جيالك هتحضن قلبك وهتسمعك اكتر ماكنت تتمنى ، هتطلب منك حضنك ورضاك ، هتتمنى قربك ولمستك ونفَسك وعايزة روحها تسكن روحك وضلوعها تتخبى جوة ضلوعك و"عمران" كالعادة هيقرب بنفس راضية مرضية علشان هيعشِق السكون وهيتمنى قربها أكتر ماهي تتمنى وأكتر هيسامح حتى لو مش هيملك وياكي وفي قربك غير لحظات هتعيشيه فيهم قربك ودلالك يا "سكون" ، وهيأكد لك إنك لسه حبيبته وروحه وعشقه زي أول مرة سكنتي فيها جوّا صدري ، زي أول مرة وقعتي بين يدي والعين سكنت العين والقلب اتكلبش بحبك والرجل انغرزت تحت أقدام هواكي وقربك لما قلتي لي أول جملة خلتني واقف متنح في وشك "اوعاك تلمسني سكون ميلمسهاش غير مِحرم أبداً ، فاكراها ؟
تحسست وجنتيه بنعومة وابتسامة رائعة زينت ثغرها ودقات قلبها في وصفها لم تفرق عنه بل وتزيد وهي تتذكر أول مقابلة بينهم :
ـ و"سكون" هتنسى كيف يا "عمران" وهي كانت هتسهر الليالي تحب بس في صورتك وتحلم كيف يكون صوتك وقربك وكلامك ؟
تحلم كيف هتكون ليك وانت بعيد عني بعد السما للأرض؟
ولما وقعت وصديت في الشجرة وسمعت صرختي مخيبتش ظن قلبي اللي حبك سنين وناديتك من يَميني وشمالي وانت صدقت الندا وجيتني طوالي وعطتني أول نظرة منك قبل ما أغمى وأغيب عن وعيي وحسيت وقتها وصدقت المقولة إن فعلا الخير يكمن في الشر كانت وقعة نزفت فيها دمي واتوجعت لكن جواها ووراها جبر من ربنا ليا وحلم حضنك بقى بين ايديا ، هعشقك يا حبيبي ، هعشقك ياقلب وعمر وروح "سكون" .
ثم أخذت نفسًا طويلًا كأنها تحبس وجعًا قديمًا
ثم مدت يدها إلى العلبة الصغيرة على الطاولة،وقدمتها إليه بابتسامة خجولة، تحاول أن تُخفي توترها وهمست برقة وهي تنظر إلى وجهه بشغفٍ نقي:
ـ جبت لك حاجة بسيطة ، هدية على ذوقي يارب تعجبك ، حاجة تقول لك إني لساتي هحبك وأكتر من قبل اكده بكَتير ،ولسه حاسة، ولسه بحبك زي ما أنت، راجل قلبي الوحيد، اللي مهما قسى قلبي عليه وانشغل هيرجع له تاني من غير ما يفكِر.
أخذ العلبة منها، لكن عينيه لم تترك عينيها،
فتحها ببطء، ووجد ساعة وعطره المفضل وبعض التفاصيل الصغيرة التي لا يشتريها إلا من يعرفك جيدًا ظل صامتًا، يتأمل، ثم همس، وكأنه يحدث قلبه:
ـ هتصدِقي كنت محتاج اللحظة داي أكتر من أي حاجة، كنت محتاج أشوف عيونك هتضوي تاني قدامي،
ثم فتح ذراعيه،وضمّها إليه بحنوّ رجل وجد وطنه بعد اغتراب،كأنّه كان غريبًا في قلبه، حتى عاد إلى دفء هذا الحضن،
وضغط عليها أكثر، وقال بنبرةٍ تحمل ألف عهدٍ جديد:
ـ كنت محتاج حضنك دي قووي يا "سكون" ، كنت محتاج أشم ريحتك ، وحشتني قووي قووي يا قلب وروح "عمران"
ثم اقترب منها ونال من قبلاتها وأنالها من قربه ورحيقه بنسائم شفاه التي عبرت على وجهها وعنقها كما تعبر السلام بأمان وكل ذلك كان المذياع يصدح على صوت الغنوة التي سحبتهم لعالم عشق العمران للسكون ببراعة
رجعونى عنيك لايامى اللى راحو ،علمونى اندم علا الماضى و جراحه ،اللى شفته.. اللى شفته
ق
بل ما تشوفك عينيا ،عمر ضايع يحسبوه ازاى علي ، انت عمرى.. انت عمرى،
اللى ابتدا بنورك صباحه،
قد ايه من عمرى قبلك راح و عدا ،يا حبيبى قد ايه من عمرى راح ،ولا شاف القلب قبلك فرحه واحده ،ولا داق فى الدنيا غير طعم الجراح.....،ابتديت دلوقتى بس ،ابتديت دلوقتى بس احب عمرى ، ابتديت دلوقتى اخاف لا العمر يجرى ،كل فرحه اشتاقها من قبلك خيالى ،التقاها فى نور عنيك قلبى و فكرى،يا حياة قلبى يا اغلا من حياتى ،
ليه ما قابلتش هواك يا حبيبى بدرى،الليالى الحلوه و الشوق و المحبه من زمان و القلب شايلهم عشانك .
كانت الغرفة لا تزال مشتعلة بأثر همساتٍ لم تخمد، وكل زاوية فيها تنبض بحرارة ما بين جسدين اشتاقا لبعضهما كما تشتاق الأرض للمطر بعد سنين جدب، لم تكن الشموع وحدها من أذابت ذوبها على أطراف الطاولة الخشبية، بل كان الشوق هو من أذاب كل شي، كل حواجز البُعد، وكل صمتٍ تلبّث بينهما،
كانت بين ذراعيه، تستند على صدره، كأنها تعود إلى وطنها، تتنفس منه ولأجله، بينما "عمران" يحتضنها كمن يحفظ كنزه الأخير في جوف قلبه، يدفنه تحت جلده كي لا يسرقه الوقت مرة أخرى،
مرّت لحظة صمت، لم تكن فارغة، بل ممتلئة بألف كلمة لم تُقال، ثم همس في أذنها، وصوته خفيض لكنه ممتدّ بجذوره في أعماقها:
ــ أني ليّا وقت طويل هستني اللحظة داي بيناتنا، وحضنك دي، حسّيته واني في بُعدك زي صحرا من غير سحاب ولا ريح، ولا أي نجمة تهديني الطريق.
رفعت "سكون" وجهها ببطء، نظرت في عينيه نظرةً خافتة، كأنها مازالت تتأكد أنه هنا، أنها لا تحلم، ثم سألته، بنبرةٍ كأنها تخشى الجواب:
ــ ياه لساتك هتتحدت وياي كأنه اول مرة لينا واحنا في حضن بعضنا ؟
ضحك بخفة، وهزّ رأسه وهو يلمس خصلاتها بأنامله الغليظة:
ــ علشان اني كل مرة هكون في حضنك ببقى مشتاق وملهوف لقربك اكتر من كل مرة يا عشق العمران وعمره كلاته.
وفي تلك اللحظة، تحرّك عمران كأن شيئًا انتبه له فجأة، نهض من على السرير، والتقط عباءته عن الكرسي، ثم أخرج من جيبها علبة صغيرة، مغلقة، ومربوطة بشريطة من الساتان الأبيض،
عاد إليها، وقبل أن يمدّ لها العلبة، جلس على طرف السرير، يواجهها مباشرةً، بعينيه العميقتين اللتين لا تعرف الكذب، وقال:
ــ أني كُنت ناوي أفاجئك بس شكلي اتفاجأت أني الاول ، اتفاجأت بسكون جات ومالت على قلبي وأزالت عنه غبار الأيام .
ثم ناولها العلبة، وقال وهو ينظر إلى وجهها:
ــ جربي تفتحي دي وشوفي إن كنت افتكرتك صوح زي مانتي فاكراني ولا لااه ؟
نظرت "سكون" إلى العلبة، كانت أنيقة، بسيطة، ولكن بها ثقلٌ غير مرئي ،فتحتها بهدوء، وداخلها كانت هناك سلسلة من الذهب الأبيض، يتدلّى منها حجر "مون ستون" حجر القمر بلونه العاجي الهادئ، يتغيّر تحت الضوء الخافت بلونٍ أقرب لضياء الأنثى الحنون، ومنقوش عليه من الخلف
'سكوني وسكينتي ونبضي، "عمران" .
شهقت خفيفا، ووضعت يدها على فمها، ثم نظرت إليه، دمعة ارتسمت في زاوية عينها، وشفتيها ترتجفان، لا تدري أتبكي من الهدية أم من نقوشها؟ ثم همست:
ــ داي… داي أجمل حاجة في الدنيا حد هداني بيها .
أمسك كف يدها وقبل باطنه وهمس :
ــ انتي تستاهلي كل ما هو أجمل من الكون يا "سكون" .
ــ عمراني.. إنت دايمًا اكده هتفاجئني بالحلو اللي في الدنيا كلاته .
ــ وأني ليا مين غيرك علشان أهديه أغلى ما عِندي .
ثم، اقترب منها، مدّ يديه وثبّت القلادة على عنقها، أصابعه تهتزّ قليلًا وهو يربطها، ثم أنزل شفتيه وهمس:
ــ الحجر دي مش اختارته عشان جماله، لكن عشان معناه ،
أمسكت بالحجر بابتسامة فخر لهدية عمرانها ومفاجئته لها ثم قالت :
ـ حجر القمر، بيقولوا إنه لما يتحط على قلب الأنثى، يهدّي اضطرابها، يرجّع لها سكونها مش اكده برده يا عمراني ؟
أجابها بإحساس وشجن وهو يتمسك بأحضانها بعد أن كان محروما منها :
ــ واني عايزك تفضّلي دايمًا سكوني اللي مفيش أي وجع يقدر يهزها ، وإني أكون القمر اللي ينور عتمتك حتى في عز ضلمة قلبك.
ثم جذبها إليه فجأة، وكأن اشتياقه استيقظ كعاصفة ثانية، لم تهدأ،
ضمّها بشدّة، كأن بين أضلعه فراغًا لا يُملأ إلا بها، وكل لحظة بعدها كانت خرابًا، وكل نسمة لم تمر من فوق جبينها، كانت ضياعًا،
أغمض عينيه وهو يُمسك بها، لا يُريد أن يراها، بل يُريد أن يشعر بها، أن تنطبع على جلده، أن تحفر نفسها في عمق ذاكرته وجسده ودمه،
ثم قال لها، بصوتٍ أجشّ، ممتزج بعطش الذكريات:
ــ كان بعدك زي ريح عاتية هتمشي على جلدي،
تعرفي ان انتِ بالذات يا "سكون" قلبي عمره ما يقدر يزعل منك ولا عمره يقدر يبعِد عنيكي وغفراني كلاته انتِ واخده نصيبه، لاااه إنتي واخده غفران "عمران" للكل .
لم تُجبه، فقط أغمضت عينيها واستسلمت لذراعيه، ووضعت رأسها على كتفه، ثم همست:
ــ حقك على كل يوم بَعدت فيه عنيك، على كل لحظة ما كنتش ليك فيها، بس عمري ما كنت بَعيدة بقلبي، كنت دايمًا بس بـ…
قاطعها وهو يضع إصبعه على شفتيها.
ــ أني مش عايز اعتذارك، أني عايز وجودك، ووجودك دي، دلوك أحسن من أي مبرر ، ياه حضنك جميل قوي ، ووجودك جوة ضلوعي كأنك ضلع زيهم بالظبط وبفراقك جسمي هيتكسر .
سكت الاثنان وصوت المذياع مع الشموع في الخلفية يهمس، والعطر لا يزال يدور في الهواء كذكرى عزيزة،
ثم اقتربت منه، ووضعت قبلة على صدره، فوق قلبه تمامًا، كأنها تختم عهدها عليه
عهدٌ جديد، وذكرى لا تُنسى، وهديّة لا تُشترى، بل تُولد من عمق رجلٍ اسمه "عمران".
*******
في صباح نفس اليوم، وقف كلا من "ماهر البنان" خط المحاكم و "رحمة سلطان المهدي" ديفا المحاكم في قاعة المحكمة بثبات مُخيف نظراته تُحاصرها، وكلماتها تُخترق دفاعاته كالسكاكين ،المحامية العنيدة لم تتراجع، والمحامي المتملك لم يرحم، تبادلا السخرية القانونية بنبرة احترافية، لكن خلف كل جملة كان هناك وجع خفي، وجمرة مشتعلة لا يُطفئها حكم ولا يُنهيها منطوق وهم يقفان ضد البعض في قضيتان متنافيتان،
انتهت الجلسة على مشهد انتصارٍ شكلي لكلٍ منهما، وهزيمة وجدانية لا يعترف بها أحد،
هي عادت إلى مكتبها، أغلقت الباب خلفها بعنـ.ـف، ووقفت في منتصف الغرفة تخلع روب المحاماة كأنها تخلع معركة لم تكن مستعدة لها ،لكنه ظل في ذهنها، كل تفصيلة في ملامحه، صوته، حتى حين قال لها ساخرًا أمام القاضي:
"الخصم ده مش هيسيبلك فرصة تفوزي، دي معركة هتخسري فيها سمعتك قبل قضيتك."
لم تكن كلماته مجرد تهديد قانوني، كانت إنذارًا حسيًّا، ونبوءة تعرف أنها قريبة التحقق نظرا لحنكته في المحكمة ،
وفي مكتبه، جلس وحده، أمامه أوراق القضية، لكن عينيه تبحث عن ظلها، ظل وجهها، ظل صوتها، ظل عنادها الذي يعرف أنه ستار هشّ يُخفي خلفه ضعفًا لا يراه سواه، تحرك في مقعده، أغلق الأوراق، ومد يده إلى فنجان القهوة الذي برد، مثل كل مشاعرهم حين يُطفئها الصمت الطويل وبالتحديد حينما عادا لخصامهم بعدما حاول اقناعها بالتنازل عن تلك القضيه حتى لا يكون تضادان لبعضهم امام القاضي وشانهم يسخر منه الجميع ولكن تحججت انها ستقبل القضية لمكتبها وان لا يتدخل في شان عملها بتا فعاقبها بالابتعاد عنها كي تشعر بان عنادها سيجعلها تخسر كثيرا ولكن لم تستجيب لخصامه وقبلت القضية امامه بكل تحدي،
بعد عودتهم الى المنزل وعند الساعة العاشرة مساءً، دق باب غرفة المكتب بالمنزل
رفع عينيه ببطء، كأن قلبه تنبأ بها قبل أذنه، وقفت أمامه، بملامح جادة، ونظرة مستقيمة كأنها لم تخسر شيئًا في المعركة الصباحية
ثم قالت بصوت ثابت، وهي تمد له ملفًا:
ـ دي أوراق الاستئناف في القضية المشتركة عايزين نتناقش فيها علشان نوصل لحل يرضي الطرفين من حيث الشراكة ومن حيث المكسب والخسارة ولا موكلي يخسر ولا موكلك يخسر .
وقف من خلف مكتبه واقترب ببطء، ثم قال بإهمال وهو يمسك بيده ملفا أخر :
ـ مش شايف إننا نقدر نناقشها دلوك معنديش وقت ، وبعدين اللي دخل العش برجليه يستحمل لدع الدبابير ولا ايه يا بت "سلطان"؟
قولي انك خايفه انك تخسري قدامي القضية وموكلك اللي عايز ياخد حق مش حقَه وجاية دلوك عايزانا نتفاهم علشان سمعتك ما تتهزش ومكتبك يخسر قضية بعد ما بقيتي الديفا وكل القضايا اللي هتدخليها هتكسبيها؟
ثم اقترب منها وهتف بنبرة قوية وهو يجز على أسنانه :
ـ بس المرة دلي مختلفة انتِ هتلعبي مع الخط يوبقى لازم يكون عندك مهارة اللعب معاي والمهارة تكون قوية وذكية ذكاء خارق وأظن إنتي عارفة إن "ماهر" الخط ياما في الجراب يحاوي يا حضرك المحامية المبجلة .
ردت بسرعة، وكأنها تتعمد الهجوم وقد أثار حنقها:
ـ وانت هتفكِر اني هخاف منك عاد وهخاف على سمعتي ومكتبي واني هخسر القضية ؟
هااا ... يوبقى انت لسه ما تعرِفش قُدرات الديفا "رحمة سلطان المهدي" وجهز نفسك انت علشان اذا كنت انت حداك ياما في الجراب يحاوي فاني بأكد لك ان أني لسه اللي في بِيري كَتير وما طلعتش كل اللي في جبعته فخلينا نتفاهم ولا انت تخسر ولا اني أخسر،
ولو انت شايف ان موكلك عنديه حق اني كمان شايفه ان موكلي عنديه حق فنهدي اللعب علشان انا لو كملت القضية هكسب يا "ماهر" .
ابتسم، لكنها ابتسامة ساخرة ثم هتف بمرواغة وهو يقترب منها وممسكا بأسفل خصلات شعرها يداعبه ببرود قاتم :
ـ دايمًا هتحاولي تستخدمي القوانين كدرع مش كدفاع ولولا انك عارفة انك هتخسري ما كنتيش هتاجي حداي دلوك وطالبة المفاوضة ما بين الطرفين ونلم الموضوع من غير محكمة مع ان دي مش عرف في المحاميين دي في عرف شيوخ البلد .
رفعت رأسها، صوتها فيه غُصة، لكنها تُجيد إخفاءها فبالفعل لو اكملت القضيه حتما ستخسرها فهي ليست بدهائه ولا بعقله ولكن عاندت قباله :
ـ تؤتؤتؤ في فرق ما بين اني جايه اتفاهم معاك او اني جايه استعطفك، انا بقول نلم الحوار وخصوصاً انت عارف ان موكلك طالب شرط جزائي كَبير ما يرضيش ربنا وعارف كمان ان ضياع الشيك ما كانش بيد موكلي وموكلك ذات نفسه اعترف لك باكده ،
فليه أحد الطرفين ينضر لما في ايدينا احنا الاتنين نساعدهم من غير قضايا واهو نعتبره ثواب ؟
ثم اقتربت منه وهي تعبث باطراف التيشرت الذي يرتديه وقد انقلبت نبرتها الشرسة الى دلال ونعومة :
ـ فما تحاولش تكسرني وخلاص يا "ماهر" أني برده تليمذتك وخسارتي من خسارتك .
اقترب خطوة منها وعيناه تشعان بشيء لا يُحتمل وهو مازال يعاندها وهو يحتضن وجنتيها بين كفاي يديه الغليظتين ورأسها أمام منتصف صدره نظراً لقصر قامتها أمامه :
أني معايزش أكسرك يا رحمتي، لااااه أني عايزك تستسلمي ليّ، بس بإرادتك عايزك تستعطفيني زي ما دخلتي وقلتي واني اوعدك اني هحل المشكله بعيدا عنك خالص.
ارتبكت، لأول مرة، لم تعرف ما تقول فهذا الرجل لا يُجيد فقط فنون القانون، بل يُجيد اقتحام الحصون فـأكمل وهو يقترب أكثر:
ـ أني مش زي القضايا اللي بتكسبيها في المحكمة ،أني قضية مش هتعرفي تخرجي منيها من غير ما تريحيني وتبسطيني وتمزجيني وتخليني ملك زماني قلتي ايه يا صغنن ؟
نظرت له بحدة لاستضاعفه لها وهي تتململ بين يديه بوجهها الصغير المختفي بين قبضتاي يديه وكأنها تُخفي رعشة جسـ.ـدها أمامه وما زالت تكابر فـصوت الأنثى الشرسة داخلها ينهاها عن التنازل:
ـ وأني مش الست اللي تقبل بالضعف ولا هستعطفك وهنتفاهم يا "ماهر" من غير ما تحسسني انك جامد موت .
أجابها وهو يقف أمامها مباشرة، يقرأ في عينيها كل ما لم يُكتب وقد تبدلت نبرته القاسية إلى حانية فهو يستحيل أن يجعلها تخسر ولا هو الرجل الذي يفرح في فشل زوجته كي يثبت لها خطأه فهي ابنته في المهنة ولم ولن يسمح لأحد حتى نفسه أن يجعلها تخسر أبدا:
وأني كمان مش أي راجل ، أني اللي هخلي عنادك يتحول لحنين، وشراستك توبقى دفا ، وعمري ما أقبل بانكسارك أبدا يابت قلبي .
نظرت له، بنظرة غريبة، فيها لوم، واشتياق، وتعب، واحتياج، واحتياج لكل هذه المشاعر في آنٍ واحد:
ـ يعني مش هتخليني أخسر القضية وهنتفاهم ؟
ابتسم بمكر وهو يدور حولها ينظر إلى جسدها القصير وقامتها التي لا تصل إلى منتصف صدره حتى وقف خلف ظهرها ملتصقاً به وهمس بجانب أذنها:
ـ شوفي مش انتِ ما تجيش لنص طولي بس نينجا ، عليكي شراسة بتجنني، وعليكي عِند بيخليني عايز أمسك في زمارة رقبتك، وعليكي مكر حريم يخليني ببقى عايز افترسك يا بت "سلطان" ، جايبة المكر دي كلاته منين يا رحمتي، انطقي ؟
استدارت بجسدها حتى نظرت في عينيه ومررت أصابعها الرقيقة على وجهه بدها
برقة ونعومة فجعلته اخـ.ـتطف أصابع يديها بين فمه وهو يقبلهم بنهم ثم انتهت قبلته لأصابعها وهو يفتـ.ـرسهم بأسنانه مما اوجعها فتألمت من حركته تلك ولكزته في كتفه :
ـ ايه الحركة البايخة داي؟
هتوجعني، وعلى فكرة انت بقيت عنـ.ـيف قوي وده ما يصحش في أصول القرب ما بين راجل وست يا حضرة الخط المبجل .
تمسك بخصلات شعرها يلويها بين يديه وهو يشاكسها :
ـ لاااه معاكي ينفع كل شيء احنا متفقين انك مختلفة عن اي ست ،متفقين انك شرسة فلازم تتعاملي معاملة شرسة تليق بقوة الديفا "رحمة سلطان المهدي" واني خير من يعرف يراوض الشرس بس انتِ تعرفي تصدي يا صغنن .
تلاشت المسافات بينهم كما تتلاشى ظلال الشمس الأخيرة خلف جبلٍ أزلي، لم يبقَ من عنادها سوى أنفاسٍ متقطعة تُحاول النجاة من طوفان مشاعره، احتواها بذراعيه كمن يعانق وطنًا عاد إليه بعد حـ.ـرب طويلة، وكانت هي رغم عنادها، تذوب كما يذوب الثلج حين يلمسه دفء الشمس،
ثم همس قرب أذنها بنبرة الرجولة التي تعرفها وتحاول الهروب منها:
_ لسه هتعاندي؟ انطقي بقى انك هتدوبي في حضني وهتموتي في بعدك عني وانك نفسك اني أقرب ومطلعكيش من حضني واصل واني بالنسبة لك كل شئ .
ارتجفت، لا خوفًا، بل من شوقٍ اختبأ طويلًا تحت طبقات كبريائها أراحت رأسها على صدره، وكل ما فيها يهمس له بلا صوت:
ـ أنا كلي ملكك ، كلي ليك ومنك وإليك ، كلي ببتخبى ويتحامي فيك ، كلي بيشتاق لقربك وأنفاسك ، وأنا بين ايديك بهرب معاك وهواك هيسحبني لعالم معايزاش اطلع منيه واصل فيه بتنفس كل انواع الزهور والحنان والحب .
مرر أنامله على شعرها كما لو كان يكتب فوقه اعترافًا لا يُقال، قبل جبينها، ثم وجنتيها، ثم أغرقها بقبلات لا تُشبه أي قبلة سابقة ،كانت كل لمسة منه تُشعل بها الذكريات، وتُعيد رسم ملامح امرأة لم تذق طعم الأمان سوى بين يديه، ضمّها أكثر، وكأن بين ذراعيه وحدهما يكمن النجاة من كل ما هو خارج هذا الحضن ثم همس بصوت أجش وعاطفة اقترابه منها :
_ بسسسس ، اسكتي بقى، اسكتي خالص، بعد الكلمتين دول عايز أضمك جوايا لحد ما تختفي ، بتقدري تسـ.ـرِقيني من نفسي ومن العالم الوحش اللي حوالي، بتقدري تغيري مزاجي وتخليني طاير معاكي فوق السحاب بكلامك ،حتى في عنادك بحس انك مختلفة فعلا يا "رحمة" عن اي ست، بحس فعلا ان ربنا حطك في طريقي علشان عارف ان انتِ اللي هتقدري تراودي شراسة "ماهر البنان" فلما نبقى بعاد بتوجعيني وإنتي بعيدة، فاهمة يعني إيه؟
أغمضت عينيها، وكل شيء فيها يُجيب:
ـ فاهمة، ومبسوطة قوي اني بقدر اسحبك ليا وأخليك هتحبني وحبي هيزيد في قلبك كل يوم عن اليوم اللي قبلَه ، وتعرِف كمان ان الاختلاف في العلاقة ما بيننا والتجدد والعند والشراسة هيخلق جو مختلف في علاقتنا بيخلينا نتمسك ببعض اكتر، حتى القرب بعد كل لحظة عناد ما بيني وما بينك بحس وقتها انك هتكـ.ـسرني جوه ضلوعك يا "ماهر" .
اشتعل الهواء بينهما بأنفاسٍ متقطعة، كأنهما يتحسسان نبض الحياة من جديد، بعد غياب لعنادهم كانت فيهما الحـ.ـرب صامتة، لكن الأشواق كانت أعلى صوتًا،
تلامست الشفاه، لا على استحياء، بل بجرأة من يعرف أنه عاد لحبيبته بعد تيهٍ طويل،
لم يكن مجرد عناق بل كان إعلان تملك، إعلان حب، إعلان حـ.ـرب انتهت، لتبدأ حـ.ـرب أخرى ،من نوعٍ أكثر حميمية، وأكثر اشتعالًا،
في تلك اللحظة، لم تكن امرأة عنيدة، ولم يكن رجلًا متملكًا، بل كانا جسدين مرّا بكل الأوجاع، يجمعهما شوق مجنون وعشق لا يعرف سوى هذا الشكل من السلام.