![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثامن بقلم فاطيما يوسف
بحثتُ في قاموسِ العشق عن معنى العشق ولوعته، فأجابني بما يوجِع الفؤاد ويُذيب الأنفاس وقال؛ هو نارٌ تسكنُ القلب، لا تُطفئها الدموع ولا يُهَدّئها النسيان، هو شوقٌ يشتعلُ كلما أبعدتك المسافات وزادت بينك وبين الحبيب الحواجز،
هو طريقٌ محفوفٌ بالأشواك، تُجرَح فيه الأرواح وتظلُّ تمضي رغم الألم،
هو وعدٌ باللقاء تُطارده الغيوم وتغلق أمامه الأبواب،وهو رجاءٌ يتشبث بالمعجزة، ويقاومُ الرياح مهما اشتدّت، وأن تظلَّ على العهد، حتى وإن صار الدربُ مظلماً والليلُ طويلاً،
هو أن تحتضنَ ذكرى الحبيب وتعيش على صوته وهمسه في غيابه، و أن تُدمنَ الانتظار، وكأن الصبرَ خُلق من أجل قلبك وحده،
هو أن تعلم أنّ النهاية مجهولة… ومع ذلك، تواصل المسير.
#خاطرة_أبطال_الغرام
#بقلمي_فاطيما_يوسف
كانت خيوط الصباح تتسلل عبر النافذة، تلامس وجهيهما بلمسات شاحبة من الذهب الباهت، فيما يظل السرير عالمهما الوحيد الذي يختزل كل ما في الخارج، كان "عمران" مستلقيًا إلى جوارها، يراقب ملامحها وهي غارقة في النوم، كمن يراقب مدينة يعرف كل أزقتها وأسرارها، لكنه يكتشف في كل نظرة شيئًا جديدًا يثير قلبه ويزيده توقًا، كانت أنفاسها المنتظمة تحمل له سكينة غريبة، لكنها أيضًا تشعل في صدره لهيبًا من الشوق المتراكم، ذلك الشوق الذي يحمل لذة اللقاء وألم الخوف من الفقد، امتدت يده، بحذر العاشق الذي يخشى أن يوقظ وردة قبل أوان تفتحها، ليمسح على وجنتها، وكأنه يخط على وجهها رسالة حب لا يقرأها أحد سواه، اقترب حتى صارت أنفاسه تمتزج بأنفاسها، وهمس بما حمله قلبه منذ ليالٍ طويلة:
صباح الخير على اجمل عيون في الكون كلاته معجول اني هتصبح بيهم واني بقى لي زمن ما اصطبحتش على الوش الجميل ده عاد، صباح الخير يا سكوني .
تفتحت عيناها شيئًا فشيئًا، تتأرجح بين حلاوة اللحظة وثقل فكرة طرقت عقلها فجأة، فتسللت الحيرة إلى قسماتها، وكأن قلبها يستيقظ على حب وقلق معًا، رمشت بعينيها لتطرد آثار النوم، لكنها لم تطرد الصورة التي ارتسمت في ذهنها، أولادها وهم يبدأون يومهم بدونها، التفتت نحوه بسرعة، وعيناها تحملان أسئلة مباغتة:
ـ هااااااا ...الولاد ! احنا الساعة كام ؟
انعكست في عينيه رغبة في احتوائها وإبقاء هذه اللحظة ملكًا لهما، لكنه ابتسم بحذر العارف أن قلبها قد بدأ يبتعد ولو بخطوة، وراح يسكب في صوته دفئًا لعلّه يثنيها عن النهوض:
ـ تعالي اهنه رايحة وين انتي ما فيش خروج الاولاد راحوا الحضانة وبعد ما يخلصوا هبعت "محروس" يجيبهم والمُدرسة هتاجي ليهم بعد الحضانة علطول وهي هتجعد وياهم للعصر وبعدين جَدتهم تنيمهم شوي .
خفق قلبها بسرعة، وكأن خيطًا من القلق شدّه فجأة، فاجتاحتها صورة أولادها يغادرون المنزل دون حضنها الصباحي، كان الأمر أشبه بأنفاسها تُسحب منها قبل أن تكتمل، وكأن اليوم بدأ مبتورًا، ارتفع صوتها ممزوجًا بالدهشة والاستنكار:
ـ نعممم ... انت عايزني ما اشوفش ولادي طول اليوم؟ و"محروس" هو اللي يجيبهم من الحضانه كماني؟!
امال مين هيغديهم بعد ما يعاودو ، اني مجدرش اقعد من غيرهم كل دي ؟
وبعدين انت ازاي تمشيهم من غير ما تصحيني اشوفهم واحضنهم واسلم عليهم قبل ما يمشوا حرام عليك اكده يا "عمران" جلبي هيتقطع على شوفتهم دلوك ؟
شعر "عمران" بشيء من المرارة في قلبه، وكأن حضوره الكامل أمامها لا يكفي ليكون في المرتبة الأولى، كان يريد أن يحتكر اليوم معها، أن يغلق عليهما باب العالم، لكن كلماتها جعلته يعي أن قلبها قد انفتح على قلقٍ آخر ولكنه حاول تهدئة أعصابه :
ـ لااه هجول لك ايه عاد متضيعيش الاصطباحة الحلوة داي ما توبجيش هبلة اكده وتضيعي اليوم اللي راسمَه ومخطط له في بالي يا سكوني ومفيش مهرب اليوم من حضن عمرانك ومتحاوليش فنهدى بقى ونشوف هنستغل اليوم دي ازاي دَقيقة دَقيقة.
رأت في صوته محاولة للإمساك بزمام اللحظة، لكن قلبها ظل مشدودًا نحو صغارها، وكأنها ممزقة بين عالمين، أحدهما هنا بين ذراعيه، والآخر في مكان آخر ينتظرها فرددت برجاء مملوء بالحسرة:
ـ طب كنت صحيني أطلع لهم جبل ما يفوتوني ويمشو وأخدهم في حضني وأشم ريحتهم زي كل يوم وبعدها كنت هعمل لك اللي انت رايده مني ، دلوك جلبي مولـ.ـع نـ.ـار ومطايجاش حالي وبالي كلاته مشغول وياهم ، بجد حرام عليك يا "عمران" .
ابتسم ابتسامة تحمل بين طياتها دلالًا وشيئًا من التحذير، كمن يرفض أن يترك اللحظة تفلت من يده مهما كانت حجج الآخر، أراد أن يعيدها إلى حضنه ولو بالقوة الناعمة للكلمات:
ـ ايه ياشيخة إنتي حرام عليكي "عمران" تعب منك، وإذا كان على بالك وقلبك اللي مولـ.ـعين دول أطفي لك اني الولـ.ـعة يا جلب "عمران" بس مترخميش بجي علشان اني مش هبَعد عنيكي والأوضة داي مش هتخرجي منيها غير لما أصطبح وأدلع وتروجي علي وكمان تعملي مساج حكم اني عضلاتي جافشة علي ومحدش غيرك يا داكتورة هيظبط لي عضلاتي وبعديها هنروح على الاسطبل ناخد فرسة وتركي وراي ونلف شوي وحشني ركوبك وراي على الفرسة يا روحي .
ضحكت ضحكة قصيرة، لكنها كانت محملة بتعب ليلة طويلة معه وهي تسقيه من شهد عشقها أنهار من العسل المصفى، وحسرة على صباح لم يبدأ كما كانت تتمنى كان داخلها يقاوم الانصياع له، لكن الحنين في عينيه كان يتسلل إليها رغمًا عنها:
ـ وه ! مكفكش اللي حوصل طول الليل عايز النهار كمان ! دي من كتر التعب وهدة الحيل وياك والسهر والنوم وخري هملت في عيالي وراحوا الحضانة يا عين امهم من غير ما أصبح عليهم ولا أفطرهم بيدي وأطمن على صحتهم ووكلهم ربنا يسامحك .
طمئنها بحفاوة على أبنائهم وهو يخلل أصابعه بين خصلات شعرها مع شعور بالحسرة داخله على مقابلتها صباحه الناعم المدلل لها بصباحها المملوء بالفزع الغير مبرر له :
ـ اذا كان على العيال اطمَني انا اللي لبستهم وفطرتهم وروقتهم على الاخر وما سبتش حد يهتم بيهم، فما تجعديش تنكدي علينا طول اليوم وتضيعي الحبه اللي احنا هنجعدهم ويا بعض في النكد بتاعك دي يا "سكون"، مش معجول الكلام دي! عمال ادلع فيكي وانتِ مش معايا خالص اني صبري جرب ينفذ .
كانت أنفاسها تتباطأ للحظة، وكأنها تحاول التقاط المعنى من وراء نبرته الحادة، توازن بين دفء الحروف وصرامة الصوت، شعرت بوخزة في صدرها؛ ليست من كلماته، بل من إدراكها أن غياب أولادها عنها ذلك الصباح كان بمثابة فجوة في قلبها، فجوة حاول "عمران" أن يملأها بحضوره، لكنها لم تكن متأكدة إن كان يستطيع:
ـ حجك علي والله غصب عني احساسي وجلبي مفطور على اني صحيت ملجيتهمش جدامي جالي رعب متعوَدتش على اكده يا "عمران" .
هوى بعينيه إلى ملامحها التي تختبئ خلف سحابة من القلق، كأنه يحاول أن يسحبها من هذا التيه العاطفي إلى أرضه الآمنة. شعر أن اللحظة تنزلق من بين يديه إن استمر الحديث في اتجاه العتاب:
ـ طب خلاص عاد نفضها سيرة الحوار دي ، وخلينا في اللي احنا فيه .
لكنها، رغم محاولة الهدوء، لم تستطع مقاومة اندفاع قلبها نحو أولادها، فخرجت الكلمات من فمها وكأنها زفرة طويلة:
ـ طب البس واروح اطمَن عليهم في الحضانة واخضنهم واجي لك طوالي .
تبدلت ملامحه فجأة، وأحاط صوته بحزمٍ نادر الحدوث، حزمٍ يختلط فيه التملك بالخذلان، وكأنه يخشى أن تفلت من بين ذراعيه في لحظة:
ـ يمين بعظيم يا "سكون" لو اتحركتي من مكانك لا هيوبجى يوم مطلعلوش شمس ، أني زهجت والله العظيم، طب تصدِجي بالله جفلتيني وادي الأوضة ليكي اعملي مابدالك داي بجت عيشة تسد النفس.
حينها شعرت أن الجدار بينهما بدأ يرتفع، وأن المسافة تتسع رغم قرب جسديهما، فقررت أن تتراجع خطوة لتعيد الجسر بين قلبها وقلبه:
ـ لاااه ، خلاص والله حجك علي يا "عمران" والله ما اجصد ازعلك ، تعالى في حضن سكونك خلاص هحاول أهدى والله وأطمن أعصابي المتوتِرة.
مدّ يده نحوها وكأنه يلتقط نفسًا أعمق مما أخذته هي، فأعاد إليها شيئًا من الطمأنينة التي فقدتها مع بداية الحوار وهو يحاول معالجتها من ذاك التعلق بصبر منه وعزم كعزم الجبال:
ـ أني طمنتك عليهم يا "سكون" وجلت لك اني جمت بشؤنهم كلاتها بنفسي واديتهم حضن الأمان اللي هتديه لهم كل صباح ، ولا هو حضني مش أمان لولادي ولا كافي انك تطمَني عليهم ؟
كانت تعلم أن السؤال يحمل أكثر من معناه الظاهر، وأنه يختبر مكانته في قلبها، فابتلعت ريقها وأجابت بصوت أكثر لينًا:
ـ لاااه والله مش الجصد، خلاص جول لي بجى نفسك تُفطر ايه اعمله لك علشان أصالحك ؟
ابتسم بخفة، لكن في عينيه لمعة احتياج لم تخفَ عنها، لمعة رجل يريد أن يُشبع قلبه قبل بطنه:
ـ نفسي أفطر من حضنك وأشبع منيه ، وأشرب من حنانك كيف زمان لحد ما أستكفى ، ونفسي تنيميني على رجلك وتطبطبي علي وتسمعيني .
امتدت ذراعاها نحوه بلا تردد، وكأنها تمنح نفسها قبل أن تمنحه، فالعناق بينهما كان اللغة الوحيدة التي تفهمها قلوبهما بلا ترجمة:
ـ وه! غالي والطلب رَخيص تعالى في حضني يا عمري انت واحكي لي مالك يا "عمران" ؟
أغمض عينيه وهو يسلم رأسه لراحة فخذها، مستسلمًا لدفء لمسته، وكأنها تُخمد نيرانًا اشتعلت في داخله منذ زمن بعيد:
ـ ياه وحشني نومتي على رجلك وانتي هتحسسي على راسي ، لمسة يدك كانها طوق نجاه من حرب جهاد النَفس في بعادك عني يا "سكون" .
ارتبكت للحظة، فهي تدرك معنى كلماته، لكنها كانت بحاجة لأن تسمعه يشرح أكثر، كأنها تريد أن تصل لآخر نقطة في قلبه:
ـ كيف يعني مفهماش تجصد ايه ؟
فتح عينيه ببطء، وصوته خرج من أعماقه لا من فمه، كما لو أنه يفرغ سرًا دفينًا.
ـ أني كل ليلة هدخل الأوضة ملجكيش فيها بحس بخنجة جواي ، بحس ان المكان أضيق من خرم الإبرة في عينيا ، بفضل دماغي تروح يمين وشمال في كل حاجة حواليا ، بفضل اشغل دماغي بالتفكير في أي حاجة وأي حد علشان اهرب من وحدتي في ليالي بَعيد عنك ، بس ارجوكي متبعديش تاني مش عايز وحدتي تجرني لضعف مش طايق حتى أشوف نفسي فيه .
ارتفع حاجباها بدهشة امتزجت بقلق، وكأن كلماته فجّرت بداخلها سؤالًا لم تتوقع أن يُطرح:
ـ ضعف ! ضعف ايه اللي هتتكلَم عنيه دي ؟! هو انت ممكن تفكِر في غيري من الاساس ؟ عِنديك النية والقدرة اللي تعملها يا "عمران" ؟ انت صدمتني بجد بحديتك دي ؟!
كان قلبه يخفق بقوة وهو يستمع لاعتراضها الممزوج بالدهشة، كان يرى في عينيها خليطًا من الغيرة والخذلان، وفي عمق النظرة نارًا صغيرة تحاول أن تتسع، لكن حبه لها كان أكبر من أن يسمح لتلك النـ.ـار أن تأكل ما بينهما. كان يشعر أن هذه اللحظة فاصلة، وأن كلماته إما أن تهدئ الموج أو تزيده هيجانًا:
ـ هو اني لو جدرت اعملها كيف ما بتقولي كنت صبرت على معاملتك ليا وهجرك لحضني خمس سنين بحالهم؟ بس أني مش نبي ولا ولي علشان اخالف طبيعة ربنا في اني راجل وليا حجوج على مرتي، وانتِ مش بس مرتي، إنتي حبيبتي وعشقي الأول والأخير يا "سكون". إنتي حالة، حالة حب وعشق وغرام عمري ما أعرِف أطلع منيها، وعلشان عايز أحافظ على الحالة داي متبعديش عني تاني، متعارضيش أمر ربنا في مسيرة خلقه.
انخفض صوتها قليلًا، لكن نبرته حملت خوفًا غامضًا، وكأنها كانت تختبر حدود أمانها معه، تبحث عن ذلك الضمان الأبدي الذي يخمد أي هواجس،كانت الكلمات تخرج منها ببطء، بينما عيناها لا تفارق ملامحه:
ـ انت أكده هتخوفني، وأنا وياك مطمَنة إنك انت الراجل الوحيد اللي عمره ما يعرِف يفكر ولا حتى يتخيل ست تانية غير "سكون". ولو العكس، وقلبنا الآية وانت اللي مهمَلني، وجتها هفكر أضعف أو أبص لبرة؟
تبدلت ملامحه قليلًا، فبدا كمن يزن كل كلمة قبل أن ينطق بها، لم يرد أن يجعل رده قاسيًا، لكنه كان يؤمن أن الصراحة مهما جرحت فهي خير من الصمت المسموم،في قلبه كان يريد أن يطمئنها، وفي عقله كان يصر على وضع الحقائق في نصابها:
ـ طب وهو ينفع الست تضعف أو تبص لبره؟ ولا الراجل يبص لبره إلا في الحلال اللي ربنا شرعه له واللي هو ذكره في قرآنه مثنى وثلاث ورباع. وربنا سبحانه وتعالى شرع للراجل إنه يتجوز إذا كانت مراته ما مكفياه أو مهملاه، أما الست شرع لها الطلاق لو جوزها مهملها. وما تاخديش كلامي على إني هطبجه على حالي، أني برد على سؤالك بس.
ارتجف قلبها مع هذه الكلمات، كأنها رأت فجأة طريقًا مظلمًا تخشاه، فحاولت أن تستعيد بعضًا من دفء الأمان الذي شعرت به يومًا في حضنه، لكن ظلال الخوف لم تزل تحوم حولها، فخرج صوتها متوترًا ممزوجًا بعتاب خافت:
ـ انت أكده هتخوفني منك عاد يا "عمران"، ليه الحياة بيناتنا توبجى كلاتها شك وخوف ونوبقى على كف عفريت؟ ليه تفجدني عنصر الأمان في علاجتنا وتخليني دايمًا عيني وسط راسي، وانت أحسن حاجة اديتها لي الأمان والاطمئنان في حضنك أو بَعيد عنيه؟
تأمل وجهها مليًا، كأنما يقرأ ما لم تنطق به شفاهها، شعر أن عليه أن يغرس طمأنينة حقيقية في قلبها لا مجرد كلمات عابرة، فتقدم خطوة نحوها، وفي عينيه بريق صدق لم يتغير منذ عرفها:
ـ لاااه يا "سكون"، أني مش الراجل اللي يخون أبدًا ولا يخدع، وخصوصي لما يكون عشقه انتِ. أني لا يمكن أضرُبك في ضهرك ولا أتلصص من وراكي، أني مشاعري وياكي فضاحة، ومجرد نظرتي لعيونك هتعرفي إذا كان "عمران" هيخدعك ولا على عهده باقي معاكي. ولو يوم غصب عني ضعفت من جساكِ علي وهجرك، هتلاجي عيوني هتشكي لك مني ليكِ ومنك ليا، وأني معايزش أضعف يا "سكون". خلينا نعيش حياة طبيعية من غير ضعف مني ولا جلج منك، كيف ما الخلق عايشين يا بت الناس.
ابتسمت رغم القلق الذي يثقل قلبها، كان في ابتسامتها رجاء، وفي صوتها وعد تحاول أن تلتزم به مهما كانت الصعاب، كأنها تمد يدها لانتشال ما تبقى من الجسر بينهما:
ـ هحاول يا "عمران"، هحاول، بس اوعدني يوم ما تاخدك الحياة والعين لقلب تاني، عرفني يا ساكن القلب والروح، علشان أمهد لقلبي بدل ما ينهار.
ساد بينهما صمت قصير، صمت يسبق انكسار الأمواج أو هدوءها، وفي داخله صراع بين رغبته في الاحتواء وحاجته لأن تسمع الحقيقة كاملة:
ـ على اكده إنتي مهتحاوليش كيف ما بتجولي، وانتِ اللي هتجولي لي "اضعف يا عمران"، وانك هتفضلي مكملة في سكتك وتفكيرك دي. ولحد دلوك أني هحاول أعالج تعلجك المرضي دا بولادك، وكل مرة محاولتي تبوء بالفشل الذريع منيكي. عجلي جلبك يا "سكون".
ارتخت ملامحها قليلًا، وأخذت نفسًا عميقًا، كأنها تستسلم لموجة من الصراحة المؤلمة لكنها ضرورية، فاقتربت منه محاولة أن تذيب المسافات بالكلمات الأخيرة التي تحمل وعدًا خفيًا:
ـ طب ممكن يا "عمران" نجفل على جلسة الصراحة بيناتنا دلوك؟ علشان والله ممتحملاش لوم كلامك ونظرة الخذلان اللي في عينيك مني، ولازم توبجى متأكد إن عشق السكون للعمران مكلبش في جلبي، ومهما الدنيا تشيل وتحط فينا، أني كلي لحد آخر نفس في عمري ليك ومنك وإليك.
امتدت لحظة الصمت بينهما، لكنها لم تكن صمتًا بارداً، بل كانت أشبه ببرهة حائرة قبل أن ينساب الدفء من جديد في الأجواء، كان قلبه يرفض أن يدع الخلاف يستقر بينهما، فهو يعرف أن المرأة التي أمامه ليست مجرد زوجة، بل قطعة من روحه، وأن أي شرخ بينهما يجرح كيانَه كله، ابتسم ابتسامة صغيرة تحمل مزيجًا من الحنان والمشاكسة، ومد يده إلى درج صغير بجانب السرير وأتى بتلك الشريحة التي تخـ.ـطف قلوب النساء:
ـ "بصي بجى ،أني مش هسيبك تكمَّلي اليوم اكده وإحنا مجريفين وبصراحة عايز اخرجك وأخرج نفسي من أي مواد نكد وخصوصي في صباح ميلاد جوازنا العاشر .
كانت عيناه تلمعان بمكر لطيف، فأخرج قطعة شوكولاتة فاخرة مغلفة بورق ذهبي، ثم مدها نحوها ببطء وكأنه يقدم كنزًا ثمينًا، كان يعرف أن هذا النوع من الشوكولاتة هو المفضل لديها، وأن طعمه بالنسبة لها مرتبط بذكريات قديمة، بمواعيد عاشقين وابتسامات مسروقة:
ـ أممممم.... إيه دي ؟! ... سألته وهي تحاول كتم ابتسامة بدأت تتشكل رغماً عنها وقد زينت الابتسامة الساحرة محياها من جديد بفضل ذاك العاشق الماكر :
ـ دي اعتراف مني إني غلبت من عشقك يا سكوني وإنك أهم حاجة في حياتي، وكل حاجة في حياتي ، فاهماني ولا أعيد تحبي أعيد بطريقة تانية ؟
تأملته بعمق، وشعرت أن صوته كان أكثر صدقًا من أي هدية يمكن أن يقدمها، مدّت يدها وأخذت الشوكولاتة، لكن قبل أن تفتحها، اقترب منها أكثر، أمسك يدها برفق، وكأنه يخشى أن تفلت منه:
ـ "استنى على رزقك عاد أني اللي هفتحها، وأول قطعة لازمن أني اللي أوكلها لك بنفسي و بطريقتي.
في تلك اللحظة، كان الهواء بينهما مشبعًا بحرارة العاطفة، وابتسامتها أصبحت أكثر وضوحًا، كأنها انفرجت بعد مطر طويل، جلس بقربها على السرير، وبدأ يفتح الغلاف ببطء متعمد، وكأنه يطيل لحظة التصالح، ثم قطع قطعة صغيرة، واقترب منها، نظر في عينيها نظرة عميقة قبل أن يضعها برفق في فمها وهو يسألها بنبرة صوت رجولية مبحوحة من أثر قربها :
ـ ها ... طعمها حلو صوح يا سكوني ؟
ـ أممم... هو في أحلى من اكده يا مدلعني.. أومأت وهي تغلق عينيها للحظة، تتذوق الطعم وتستشعر دفء قربه ،ضحك بخفة، ثم أخذ قطعة أخرى ووضعها في فمه، لكن نصفها ظل في الخارج، اقترب منها فجأة لتأخذ النصف الآخر بأسلوب طفولي عاطفي، فالتقت شفاههما في قبلة قصيرة، لكنها كانت تحمل شحنة كافية لمسح كل ما تبقى من خلاف،
جلسا متقاربين يتبادلان الشوكولاتة والضحك، وكل مرة كان يحاول أن يجعلها تذوق بطريقة أغرب من السابقة، مرة يضعها على طرف يده ويطلب منها أن تأخذها كي تقبل باطن يديه بشفاها، ومع كل ضحكة كانت المسافة بينهما تختفي أكثر،
بعد قليل، حين اشتعلت الأجواء العاطفية بينهم قال لها وهو يمسح بقايا الشوكولاتة من شفتيها:
ـ "يلا جومي بجى نُفطر أني جعت وأكيد إنتي جعانة بزياداكي دلع يا سكوني .
ابتسمت وهزت رأسها، فخرج معها إلى المطبخ، كانت رائحة الخبز الطازج والجبن تعبق بالمكان، فـأعدّ لها بنفسه طبقًا مرتبًا، وضع فيه كل ما يعرف أنها تحبه، جلسا على المائدة يتحدثان في أمور صغيرة، لكنها كانت محمّلة بالود،
وبينما كانا يتناولان الإفطار، رفع نظره إليها فجأة بابتسامة تحمل شيئًا من الغموض:
ـ "خلاص فطرنا وبجينا تمام إيه رأيك نكمّل اليوم بطريقة مختلفة شوي واتوحشتها وياكي ؟
رفعت حاجبيها وسألته بعدم فهم:
ـ "يعني إيه مختلفة.
أجابها وهو يحتضن خصرها بتملك وهو يشعر انه عريس اليوم معها فمنذ سنوات لم ينعم معها بتلك اللحظات الطويلة:
ـ هنروح الإسطبل ونركب فرسة ويا بعض وندور بيها في المزرعة شوي حابب أطمن على الفرسات وانتي في حضني .
بعد نصف ساعة، كانا في الإسطبل، حيث الشمس تلمع على أطراف الحشائش، والنسيم يحمل رائحة الخيل الممزوجة برائحة القش الطازج، كانت الفرسة البيضاء، ذات العُرف الذهبي، تنتظر بهدوء، وكأنها تعرف أن اليوم سيكون مميزًا، أمسك بيدها وقادها بخطوات ثابتة نحوها '
ـ إيه رأيك فيها عاد بذمتك مش جميلة ؟
لمست رقبة الفرسة بحنان، وعيناها تلمعان بدهشة طفولية:
ـ دي جميلة قووي يا "عمران" كبرت ميتى ؟
اقترب منها أكثر، وكأنه يريد أن يضيف لمساته على هذه اللحظة، ثم قال:
ـ يوه ماحضرتك متغيبة عن الخيل والفرسات من بجالك كَتير لحد ما هي كبرت وبقت جميلة اكده.
وضع يديه حول خصرها ورفعها بخفة إلى السرج، لتجد نفسها تجلس فوق الفرسة، وقلبها يخفق بخليط من الحماس والخوف. ثم اعتلى هو خلفها، وأحاطها بذراعيه، يمسك اللجام بينما يهمس في أذنها:
ـ "خليكي واثقة في انك معاكي فارس زين شغلانته المحببة لقلبه الفروسية، أني وراكي مش هسيبك أبداً متخافيش .
تحركت الفرسة ببطء، وصوت حوافرها ينساب متناغمًا مع دقات قلبها كانت تشعر بحرارة جسده خلفها، وأنفاسه القريبة من عنقها، وصوته المنخفض يرشدها:
ـ خلي يدك اكده، واسترخي خليكي معاي كيف ما هوجهك تعملي .
كانت تضحك أحيانًا حين تشعر أن الفرسة أسرعت فجأة، فيضمها أكثر كي يطمئنها، وفي كل مرة كانت تلتفت لتراه يبتسم وكأنه يستمتع باندهاشها أكثر من الرحلة نفسها،
وبينما كانت أشعة الشمس تتسلل من بين الأشجار، توقف عند مكان مفتوح في الحقل، حيث لا يسمعان إلا أصوات الطيور ووقع الحوافر هناك، أسند رأسه إلى كتفها لحظة، وقال بصوت هادئ:
ـ تعرفي أني ممكن ألف العالم كلاته واحنا ويا بعض اكده، وعمري ما الاقي إحساس يضاهي اللحظة داي وأني معاكي وفي جربك .
أحست أن كلمات قليلة كهذه تستطيع أن تذيب أي جليد قد يتسلل بينهما، فأجابت وهي تنام برأسها على ظهره ويديها تحتضن خصره بتملك كي تشعر بالأمان وحقا من يراهم يجزم بأنهم عاشقين لن يتفرقا عن بعضهم ثانية واحدة :
ـ منحرمش منيك ولا من جربك ولا من رجولتك وحنانك علي يا عمري انت .
ظلّا هناك قليلًا، ثم عادا بالفرسة بالبطيء حتى وصلا إلى الإسطبل، ونزلا معًا وقبل أن يتركها، أمسك وجهها بين كفيه، وطبع قبلة طويلة على جبينها، وكأنها وعد بأن يظل حضنه الأمان الأول والأخير لها.
**********
كانت "نورا" جالسة في ركن الغرفة الصغير، أصابعها تعبث بهاتفها وهي تتابع اخبار العالم حولها في توترٍ ظاهر، وعيناها تلمعان بقلقٍ مكتوم، تحاول أن تلتقط أنفاسها قبل أن تنطق بالكلمات الثقيلة التي كانت تخفيها منذ أيام، وكأن قلبها يطرق صدرها طرقًا عنيفًا يطالبها بالإفصاح حتي أتتها المكالمة والتي دق قلبها على أثرها :
ـ ايوه يا "نورا" عايزة ابلغك حاجة مهمة لازم تحطيها في اعتبارك ومخبيه عنك بقالي أسبوعين بس ما فيش مفر لازم تعرفيها.
رفعت "نورا" رأسها فجأة وقد ارتسمت على ملامحها علامات القلق والاستغراب، جسدها انكمش قليلًا وكأنها تتأهب لتلقي صدمة، بينما يديها تشد على طرف عباءتها بإحكام، تنتظر الكلمات القادمة وكأنها سهمٌ يخترق السكون:
ـ انطقي يا بنتي خوفتيني حصل ايه؟ واي حاجة تحصل لازم تعرفيني بيها
تنفست صديقتها بعمق وهي تحدق في الفراغ، وعيناها شاردة في زاوية الغرفة، وكأنها تبحث عن شجاعة تكفي لقول الحقيقة، وشعور الخوف يلتف حول قلبها مثل حبلٍ يضيق شيئًا فشيئًا على صديقتها المقربة:
ـ "مكرمي" خرج السجن وعمال يدور عليكِ في كل مكان وجه الشغل بدل المرة عشرة وكل يوم يجي الوحدة يسأل عنك ويبهدل الدنيا، ويقول هقدم فيكم بلاغ لو ما عرفتونيش هي فين ودلوقتي شفته وهو واقف مع "حسن" أخبار بيدي له فلوس في ايديه وتقريبا كده قال له ان هو هيعرف مكانك فين ويبلغه، أنا قلت لازم أعرفك لأنه في أقل من اسبوع هتلاقيه قدامك وانتِ عارفة ان هو مش هيسكت وانا قايلة لك كده من البداية
تسارعت أنفاس "نورا" حتى بدت وكأنها تسمع دقات قلبها أعلى من صوت صديقتها، نظراتها امتلأت برعبٍ مباغت، وشفتيها تحركتا بلا وعي بكلمات لا يسمعها أحد، تحاول أن تجد مخرجًا مما سمعته للتو:
ـ يا حزنك يا "نور" هلاقيها منين ولا منين وانا عارفة "حسن" أخبار مش هيسكت غير لما يعرف انا فين وهيقول له طالما فيها فلوس
ثم حركت رأسها ببطء وهي تستجمع أنفاسها، إحساسٌ بالثقل يجثم على صدرها، يدها تمسح على جبينها المتصبب بالعرق رغم برودة الجو، وكأن الأفكار تتزاحم داخل عقلها بلا ترتيب لترشدها صديقتها :
ـ شوفي بقى لازم تعرَّفي الناس اللي معاكي حكايتك علشان لما يجي يكون عندهم علم باللي هيحصل طالما نويتي تستقري عندك، ما ينفعش يكونوا الناس محترمين وشايلينك من على الأرض شيل زي ما حكيتي لي وفي الآخر يجرى لهم من ورا "مكرمي" بتاعك ده فضايح وانتِ عارفة لسانه قد كده وعامل زي ضلفة الباب ما حدش بيسد قصاده كل يوم يجي بيبقى عامل زي الطور الهايج في أي حد يقابله في الوحدة .
أغمضت عينيها لحظة وكأنها تحاول إبعاد صورة "مكرمي" عن مخيلتها، لكن ملامحه الغاضبة وصوته العالي كانا يقتحمان ذهنها بقوة، فارتعشت أصابعها وهي تضغط على كفيها محاولة طرد الخوف:
ـ هقول لهم ايه ولا ايه ولا ايه ؟ولا أهرب منه واروح على فين ؟ ده انا جيت آخر بلاد المسلمين علشان يبعد عني بقى ويسيبني في حالي انا خلاص زهقت منه ملعون ابو قلبي اللي اتعلق بواحد زي ده، ملعون ابو الحب يا شيخه انا كرهته وكرهت نفسي
تحركت جفون صديقتها ببطء وهي تنظر إلى الأرض، إحساس بالعجز يسيطر عليها، وكأن الجدران تضيق حولها، وشعور اليأس يمتد في قلبها كظلٍ ثقيل لا فكاك منه حزناً على صديقتها:
ـ كل اللي انت بتقوليه ده تحصيل حاصل يا "نورا" وما لهوش أي لازمة انتِ عارفة "مكرمي" مش هيسكت إلا لما يعرف طريقك، ومش هيسكت إلا لما ترجعي معاه فأحسن لك دوري لك على طريقة تخلصي نفسك منه وخصوصا انك مجربة ودايقة طرق "مكرمي" عاملة ازاي
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تحاول رفع رأسها، لكن ثقل الكلمات التي سمعتها جعل عينيها تغرقان في الدموع، وكأنها تحارب داخليًا بين الخوف والبحث عن بصيص أمل:
ـ يعني أعمل ايه بس! يا رب دبرني يا رب يا رب انقذني يا رب منه يا رب وابعده عني
ارتسمت على وجه صديقتها نظرة شفقة ممزوجة بالعجز، وبدت كأنها تريد أن تمنحها الأمان لكنها تعلم أن الأمر أكبر من قدرتها:
ـ ربنا معاكي يا حبيبتي ،انا هضطر اقفل دلوقتي لأن ورايا شغل كتير في الوحدة، وهبقى اتصل بيكي اطمن عليكي ولازم تبلغي الناس اللي عندك بحكايتك كلها لعل وعسى ناس صعايدة يحموكي منه ويخاف منهم بدل ماهو مش لاقي حد يصده وابوكي من ساعة ما جاله الزهايمر وهو لا حول لي ولا قوة
رفعت "نورا" رأسها قليلًا وقد بدا عليها الاستسلام لفكرة الاعتراف، وكأنها وجدت أن البوح بما تخفيه قد يكون الحصن الأخير الذي تلجأ إليه:
ـ مش قدامي حل غير كده، للأسف لازم اعمل كده الست "زينب" بتحبيني جداً وما شفتش منها إلا كل خير هحكي لها كل حاجة وهحكي لباشمهندس "عمران" وهطلب منهم يحموني منه .
**********
كان البيت هادئًا إلا من خرير الماء المتسلل من نافورة صغيرة في فناءه، بينما لون السماء يتدرج من زرقة النهار إلى عتمة الليل، ونسائم المساء تداعب ستائر المجلس برفق، جلست "زينب" في صدر المكان، وعيناها تلمعان في ضوء المصابيح المائلة للصفرة، وهي تتأمل ابنها وقد جلس قبالتها، يحمل في ملامحه شيئًا من التعب وشيئًا من البهجة:
ـ بسم الله ما شاء الله عيني عليك باردة يا "عمران" يا ولدي شكلك الهنا زارك النهاردة وشك منور كيف البدر.
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه "عمران" وهو يميل بجسده للأمام قليلًا، وكأنه يقترب أكثر من دفء تلك الجلسة، وقد بدت على ملامحه ملامح الشاب الذي يعرف تمامًا كم أن أمه تقرأه قبل أن ينطق:
ـ اه منك انت يا حاجة "زينب" يا اللي عاملة نفسك ما وعياش لحاجة وانتِ عارفة كل حاجة لساكي هتلقطيها وهي طايرة.
ضحكت "زينب"ضحكة قصيرة، وهي ترفع ذقنها بفخر، والضوء ينساب على خصلات شعرها المضمخة برائحة المسك، وكأنها لا تعترف أن السنين مرت من هنا:
ـ امال هتفكِر ان امك كبرت وعجزت يا واد؟ اني اه حداي سبعة وخمسين سنة يعني مش مرة عجوزة قوي لكن اللي هيشوف صبايا عاد هيقول اني بنت التلاتينات وما دخلتش على الأربعينات كمان.
ابتسم "عمران" وهو يرمقها بنظرة محبة لا تخلو من الإعجاب بتلك الثقة التي تتحدث بها، ثم عقد ذراعيه أمام صدره في استرخاء تام:
ـ ما شاء الله عليك يا حاجة عندك ثقة في نفسك رهيبة ،ربنا يديكي الصحة وطولة العمر يا حبيبتي ويشفي ابوي يا رب ،طمنيني عني عامل ايه النهاردة ؟
أخذت "زينب"تنهيدة ثقيلة، وأدارت نظرها نحو النافذة حيث السماء بدأت تزداد عتمة، وكأنها تزن كلماتها قبل أن تنطقها، وعينيها تحملان أثر تعب الأيام الماضية:
ـ والله حالته اتحزن يا "عمران" يا ولدي والتعب هيزيد عليه كل يوم عن اليوم اللي قبله وتاعبني معاه ولا راضي ياكل ولا يشرب والداكتور اللي انت جبته له الأخير هيقول نفذوا له كل اللي هو عايزه وما فهماش هو هيقولك اكده ليه ؟
شعر "عمران" بانقباض في قلبه، وانحنى قليلًا إلى الأمام، يضع كفيه معًا وكأنما يحاول أن يحتوي الحزن في راحتيه:
ـ يا حبيبي يا ابوي والله كلامك صوح يا حاجة اني كنت لسه حداه وقاعد جاره من ساعة وكانه ما يعرِفنيش ولا واعي لي ربنا يشفيك يا ابوي يا رب.
وقبل أن يكتمل صمت اللحظة، جاء صوت أنثوي من خارج المجلس، يحمل شيئًا من الارتباك وارتفاع النبرة، يقطع سكونهم:
ـ يا حاجة "زينب" يا "عمران" بيه ؟
التفتت "زينب" بسرعة نحو مصدر الصوت، وعقدت حاجبيها في انزعاج، وهي تعدل جلستها كمن لا يحب المقاطعة في لحظات الصفاء:
ـ مالك يا بت هتنادمي بحس عالي اكده ليه؟ هتسرِعينا يا بَعيدة ،مش قلت لك يا بت ميت مرة قبل سابق ما تخشيش زي القضا المستعجل دي ولا تعلي صوتك اللي عامل كيف صوت الحمار هتفزعيني يا بقرة؟
تقدمت الخادمة خطوات مترددة، وثوبها يهتز مع كل حركة، بينما يديها تلتفان على بعضهما وكأنها تجمع شجاعتها لتخبر بما في جعبتها.
ـ عارفين الداكتورة "نورا" اللي هتراعي الفرسات؛ اني كنت واقفة هرتب الزرع ولقيتها قاعده جار الاستراحة هتبكي وصوت بكاها عالي قوي شكل ما يكون انقـ.ـتل لها قتـ.ـيل لا سمح الله.
رفعت "زينب"يدها في حركة عصبية، وعينيها تلمعان بحدة، وهي تميل بجسدها للأمام وكأنها تريد دفع هذه الكلمات بعيدًا عن المكان:
ـ امشي يا بت تك خابط في راسك يا ام اخبار زي الشوم على راسك، انتِ مالك ومالها هتبكي ولا هتضحك؟ هتدخلي في شؤونها وامورها ليه ؟غوري من وشي انتي واخبارك العفشة دي روحي شوفي الشغلات اللي هتعمليها.
لم تتراجع الخادمة بعد، بل ظلت واقفة في تردد طفولي، وعينيها تتحركان بين الأرض ووجه سيدتها:
ـ الله هو انتِ يا حاجة مش مخبراني أخلي بالي منيها ولو احتاجت حاجة اراعيها ولا هو هتزعقي لي وخلاص ؟
تنفست "زينب" بعمق، ثم أشارت لها بيدها بإيماءة حادة تدل على نفاد الصبر، بينما ملامحها تجمع بين الغضب والقلق المكتوم:
ـ امشي يا "توحة" من قدام عيني علشان انتِ خليتيني قلقتي دلوق امشي يا جزمة.
انتظرت حتى خرجت الخادمة من المكان، ثم التفتت نحو "عمران" وقد مالت برأسها قليلًا، ونبرة صوتها تحمل مزيجًا من الحذر والفضول:
ـ ودي مالها يا ولدي هتبكي ليه في عز الليل اكده ؟ البنية وشها حزين على طول وحاسة ان وراها مصيبة تَقيلة مخلياها هملت بلدها وشغلها واصحابها وجت عاشت وسطينا اهنه ؟
أجابها "عمران" وهو يعتدل في جلسته، ونظراته شاردة نحو أرض المجلس كأنه يستدعي صورة "نورا" في ذهنه:
ـ والله ماعرِفش يا حاجة ده غير الكوابيس اللي هتحكي عنيها اللي هتحلم بيها ليل ونهار وشكل وراها حكاية كَبيرة ،طب ما تخرجي تشوفي فيها ايه واجب علينا بردو ؟
هزت "زينب" رأسها ببطء، ورفعت يدها لتعدل طرف غطاء رأسها، بينما ملامحها تليّن بعد لحظة التفكير:
ـ خليها دلوك يا ولدي علشان ما تتكسفش مني وهي هتبكي، والصباح رباح اروح اشوف فيها ايه واطمن عليها، وبعدين لو لقيتها حاجة تـَقيلة ولازمن تعرِفها هبقى اقول لك عليها.
قام من مكانه وهو ينظر بعينيه تجاه غرفة أبيه:
ـ اللي تشوفيه يا حاجة هدخل اطمَن على ابوي واقعد جاره شوية .
*********
في ضوء خافت يتسلل من مصباح جانبي في غرفة نومهما، كان "فارس" مستلقياً على جانبه يراقب وجه "فريدة" الذي بدا ساكناً، تتناثر خصلات شعرها فوق الوسادة كنسيم رقيق يعانق الصباح، بينما ملامحها تنبض بهدوء امرأةاعتادت على ذاك الهدوء الراقي مثلها، كان قلبه يخفق بمزيج غريب من اللهفة والرجاء، يريد أن يقنعها بالسفر معه إلى فرنسا، ليس لأنه يتوق لصحبتها بل لهدف ما داخله،مد يده ببطء ليمسح على شعرها، وقد كان صوته حين نطق باسمها أشبه بلمسة حانية تتوسل القبول:
ـ أنا كنت بفكر كده إننا نسافر الأسبوع ده فرنسا عندي معدات طبية عايز أجيبها فعايزك تيجي معايا السفرية دي وكمان احنا عمرنا ما سافرنا مع بعض فرنسا قبل كده فايه رايك؟
أطرقت "فريدة" للحظة وهي تحاول أن تستوعب ما يقوله، كان عقلها مشغولاً بطفلتهما الصغيرة، وصوتها وهي تجيبه حمل رقة لكنها ممتزجة بحزم أم تعرف أن قلبها مربوط ببيت صغير لا يمكنها مغادرته:
ـ يا "فارس" إنت عارف إن ما ينفعش أسيب البنت أسبوع كامل لامي وكمان هي ما تنفعش تسافر ويانا وهي لساتها صغيرة في السن دي عايزين موال كَبير علشان ناخدها معانا بلاش دلوك وهي صغيرة خلص شغلك وارجع على طول.
أخذ "فارس" نفساً عميقاً، يحاول أن يخفي خلفه ذلك الحزن الطفيف الذي شعر به، كان من داخله سعيداً لأنها لن تأتي، لكنه في الوقت ذاته مضطر أن يؤدي دور الزوج الذي يتمسك بها، اقترب منها أكثر، وحدق في عينيها بعاطفة تشبه الحنين :
ـ طب فكري شوية علشان نفسي قوي مسافر مع بعض وبعدين البنت مش هيجرى لها حاجة لما تقعد مع مامتك الاسبوع ده عادي يعني متحبيكهاش يا فيري ، أنا بس نفسي تخرجي معايا شوية وتغيري جو ونقضي يومين حلوين هناك فرنسا جميلة جداً.
ابتسمت "فريدة" ابتسامة هادئة، كأنها تريد أن تخفف من وطأة الرفض على قلبه، ووضعت يدها فوق يده التي ما زالت تمسح على شعرها، وفي عينيها تلك النظرة التي تمزج بين الامتنان والاعتذار:
ـ والله يا فارس نفسي اروح معاك بلاد الهند والسند كماني بس مش هقدر، لأن البنت صغيرة وماقدراش أسيبها الفترة داي، و محتاجة وجودي معاها .
كان "فارس" ينصت لها وكأنه يلتقط مبرراته الداخلية من بين كلماتها، شعر براحة سرية تتغلغل داخله، لكنه تمسك بدوره حتى النهاية، انحنى عليها ليطبع قبلة على جبينها، فابتسمت بعفوية، وانسكبت بينهما لحظة دفء أعادت شيئاً من المودة الغائبة ،
بعد ساعات، كان "فارس" يقف عند باب المنزل، يحمل حقيبته وقد اطمأن على "فريدة" وابنته، وأغدق عليها جرعة من العاطفة تكفي لتترك في قلبها إحساساً بأنه يتركها مرغماً، ضمها إلى صدره طويلاً، وهمس لها بكلمات وعد وحب حقيقي قبل أن يستدير ليغادر :
ـ خلي بالكم من نفسكم مش هتأخر عليكم هخلص شغل وأجي لكم علطول .
انقضى الطريق إلى المطار في هدوء، لكن رأسه كان يعج بالأفكار، مزيج من شعور بالتحرر الممزوج بالذنب، وفي الطائرة، حاول أن يغرق في كتاب بين يديه، إلا أن عقله كان يسبح في فضاء آخر، حيث تنتظره "بيري" في الشقة الباريسية التي لم تطأها قدماه منذ أشهر ،حين وصل، كان الليل قد بدأ يرخي سدوله على المدينة، أنوار الشوارع الباريسية تتلألأ كحبات لؤلؤ في عقد أسود، دلف إلى العمارة بخطوات متسارعة، وصعد إلى شقته حيث وجد الباب يُفتح لتظهر أمامه "بيري" بابتسامتها التي تحمل مزيجاً من اللهفة والعتاب، لم تمهله لحظة قبل أن ترتمي في أحضانه، فعانقها بشوق رجل لم يلمس شيئاً من ماضيه منذ زمن :
ـ إنت وحشتني قوي يا "فارس"، أنا مش عارفة إزاي قدرت تبعد عني كده كل ده ازاي ؟
انا بجد زعلانة منك زعل كبير ، بقى لك كذا شهر مش بتكلمني ولا هو حضن "فريدة" غانيك عن حضني وعن الدنيا باللي فيها .
شعر بحرارة عناقها تتسلل إلى قلبه، وتذكر فجأة كم كانت المسافة بينهما طويلة، لكنه حاول أن يبتسم وهو يرد عليها بصوت يحمل دفء الاعتذار ويديه تتحسس وجنتيها بنعومة ووحشة :
ـ معلش يا بيري، والله ما كان بإيديا، "فريدة" عاملة لي حظر وما كنتش عارف أكلمك، بس أنا ما قدرتش على بعدك أكتر من كده، كان لازم أجي أشوفك وهنقضي أسبوع بحاله مع بعض ، حقك على قلبي وعيني وهاتي راسك أبوسها يا ستي .
ابتعدت "بيري" قليلاً لتنظر في عينيه بعينين لامعتين بالعاطفة والغضب، وقالت بنبرة تحمل عتاباً دفيناً :
ـ تلات شهور يا "فارس"، ولا حتى مكالمة! أنا كنت حاسة إني بضيع، إنت عارف إني من غيرك مش بعرف أعيش وكتير عليا قوي تلت شهور بحالهم بقيت بتقسى عليا وتبعد عني كتير .
أخذ يدها بين يديه وضغط عليها برفق، وصوته جاء مزيجاً من التبرير والرجاء:
ـ أنا بحبك يا بيري، وبحب "فريدة" برضه، ما اقدرش أستغنى عنكم إنتوا الاتنين، إنتي فاهمة أنا بحبك زي ما بحبها بالظبط وانتي عقلك كبير وبتعذريني دايما وبعدين مش عايز نقضي الأسبوع في اللوم والعتاب بقى ، فكي بقى يا بيري .
أطرقت "بيري" للحظة، كأنها تحاول أن تقرر ما إذا كانت ستصدق ما يقوله، ثم رفعت عينيها إليه وفي ملامحها مزيج من الحب والخوف:
ـ كان المفروض أرجع معاك مصر بدل ما أنت متبهدل كده وتيجي لحد هنا ، وكمان منتكلمش في التليفون خالص علشان منستدعيش شكوك "فريدة" وتشوفني وتزورني وقت ما انت حابب وانا كمان منحرمش منك وتبقى جنبنا احنا الاتنين .
هز "فارس" رأسه بسرعة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة حذرة، يخفي وراءها قلقه من افتضاح أمره:
ـ لا يا بيري، ما ينفعش، لو رجعتي معايا "فريدة" هتعرف، وأنا مش عايز نخسر كل حاجة، إحنا كده أحسن ، وكمان علشان تيجي مصر فيها موال كبير وتجهيزات انا مش مستعد ليها نهائي .
كان قلبه يخفق بسرعة، ليس خوفاً من اكتشاف الأمر فقط، بل من إدراكه أن حياته باتت موزعة بين قلبين، وأنه صار يعيش على خيط مشدود بينهما، يخشى أن ينقطع فيسقط في هاوية لا يعرف لها مخرجاً .
في تلك الليلة الثقيلة على قلبها، جلست "فريدة" على طرف سريرها، الغرفة غارقة في ظلال هادئة لا تكسرها إلا ومضات ضوء القمر المتسللة من بين الستائر، كانت السكينة الظاهرية تخفي عاصفةً مشتعلة في صدرها، هاتفها بين يديها، تتأمل شاشة التطبيق الذي ربطت به الساعة التي أهداها إياها يوماً ما وهي تظن أنها رمز حب وإخلاص، لم يخطر ببالها يوماً أن تكون تلك الساعة نافذتها على الخيانة، نافذة تفضح ما لم تتخيله، أصابعها ترتجف فوق الهاتف، وقلبها يدق دقات متلاحقة، كأن كل نبضة تدفع الدم الحار في عروقها ليحرقها من الداخل،
بدأ الصوت ينساب في أذنها، صوت "فارس" الذي كانت تحبه حتى الألم، يتسلل إليها من بعيد، دافئاً في نبراته لكن مسموماً في معناه، ومعه صوت أنثوي الذي لم تكن يوماً تحسب له حساباً، كانت "فريدة" تستمع وكأن أحدهم يفتح جرحاً في صدرها ويضغط عليه ببطء حتى يفيض وهي تستمع إلى كلماته تلك لها وهو يضحك كما لو كان معها بالمثل، أحقا مخادع لتلك الدرجة أيها الفارس! فكانت تلك الكلمات:
وانت وحشتني موت يا "فارس" عيونك وريحتك وكل حاجة فيك وحشتني.
كانت تستمع إليهم بقلب ينفض جرحا كبيرا بين ضلوعها وبالتحديد حينما رد عليها مخادعها :
ـ والله انتي كمان وحشتيني اكتر من اي حاجة، تعالي في حضني يا "بيري" .
تغيم الرؤية أمام عيني "فريدة"، دموعها تتجمع بلا إذن، تتساقط على خديها فتشعر ببرودتها على بشرتها، وفي قلبها جمر يشتعل، كانت تريد أن تكذّب ما تسمع، أن تصدق أن هذا كله وهم أو حلم ثقيل، لكن الأصوات كانت واضحة، قاطعة، لا تحتمل الشك،
وكلما استمعت إلى حوارهم كلما شعرت بأن يدين غريبتين تعصران قلبها، كل كلمة كانت طعنة، وكل طعنة أعمق من التي قبلها، كانت أنفاسها تتسارع، وكأن الهواء صار أثقل من أن يدخل إلى صدرها، تذكرت تلك المرات التي كانت تنتظر منه مكالمة أو رسالة ولم تأتِ، تذكرت الأعذار التي كان يختلقها، وها هي الحقيقة تتكشف بلا رحمة وانهارت أكثر حينما استمعت إلى باقي غزلهم ببعضهم:
ـ وانا من غيرَك مش بعرف اعيش .
-
وانا والله ما بقدر استغنى عنك زي ما ما بقدرش استغنى عن "فريدة" بردو .
ارتجف جسدها كمن سُحب منه الدفء فجأة، كيف له أن يقسم باسم الحب وهو يقسمه بين اثنتين؟ كانت الكلمات تتردد في رأسها كصدى مؤلم، لم تعد قادرة على التفكير المنطقي، كل ما كان يسيطر عليها هو شعور بالغدر العميق، إحساس بأنها لم تعرفه يوماً ،
كأن سكيناً بارد النصل انغرس في قلبها عند تلك اللحظة، لم يكن الخوف عليها، بل الخوف من أن يخسر تلك "البيري" كانت الغيرة تمتزج بالحسرة، بالخذلان، وبحب يلفظ أنفاسه الأخيرة في أعماقها، وضعت الهاتف جانباً، وأسندت وجهها بين كفيها، والدموع تنهمر بغزارة حتى بللت ركبتيها، صوت أنفاسها المقطعة يملأ الغرفة، وحولها كل شيء يبدو صامتاً كأن العالم قد توقف عن الدوران،
تسارعت نبضاتها حتى شعرت أنها تسمعها في أذنيها، كل خلية في جسدها كانت تصرخ، لكن لا صوت يخرج من شفتيها، كان الانهيار صامتاً، مخيفاً، موجعاً، حاولت أن تلتقط أنفاسها لكن صدرها يعلو ويهبط في اضطراب، يديها تتشبثان بالغطاء كمن يتشبث بحافة هاوية، والهاوية هي الحقيقة التي لا مفر منها،
كانت الذكريات تنهال عليها بلا رحمة، كل لحظة ضحكته فيها، كل مرة احتضنها، كل كلمة حب قالها لها، كلها الآن تبدو خيوطاً في شبكة خداع محكمة، أحبت رجلاً لم يكن ملكها وحدها، أحبت بعمى القلب، واليوم فتحت عينيها لترى ما لم تتحمله روحها،
رفعت رأسها ببطء، مسحت دموعها بيد مرتجفة، حدقت في العتمة أمامها وهي تشعر بأن شيئاً في داخلها قد انكسر، انكسر للأبد، لم تعد تعرف ما الخطوة القادمة، لم تعد ترى المستقبل إلا ضبابياً، كل ما كانت تعرفه في تلك اللحظة أنها فقدت الأمان معه، وأن جرح الخيانة أعمق من أن يندمل بسهولة .