رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثمانون 80 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثمانون


حملق أحمد في الورقة التي استقرّت بين يدي كريس كما لو كانت سكينًا يغوص في صدره ببطء ومن ثم ساد السكون وانكمش الهواء من حولهم وكأنّه ينتظر معهم النطق بالحقيقة.

شعر كريس بثقل الصمت يطبق على صدره، فرسم على وجهه ابتسامةً زائفة تشققت أطرافها من القلق… ثم قال بصوت حاول أن يُلبسه الطمأنينة:

"النتائج... جاهزة يا سيد ميلر… لا داعي للقلق… أخبرتك أنها ستكون بخير… فقط... ألقِ نظرة."

«بخير؟» عبست سارة تلك الكلمة وحدها كانت كصفعة لا تناسب جسدها المتهالك من الداخل ولا معدتها التي تنهشها الخلايا ببطء كوحش خفي. أجل كانت تعلم أن التصوير المقطعي قد يغفل الأورام في مراحلها الأولى، ولكن أن يُخفق أيضًا في رصدها وهي تسير نحو المرحلة الأخيرة؟ كان في الأمر شيءٌ غير منطقيّ بل مرعب.

وبينما كانت غارقة في دوامة التساؤلات بدا أحمد أكثر ارتياحًا عن ذي قبل ولكن بوجهٍ يفيض عداءً بارداً كصقيعٍ تحت جمرٍ متقد.

اقترب منها تتقدّمه خطوات الاتهام في صمت، فيما نظراته صارت كالسكين تقشّر جلدها، تُنقّب في ملامحها عن كذبةٍ ما... عن تمثيلٍ ما...

تقلّصت على فراشها تتلوّى تحت وهج نظرته كجسدٍ صغيرٍ في منتصف عاصفة… لم تفهم ما استنتجه بالضبط لكنها رأت في عينيه بركاناً

خامداً توشك حممه على الانفجار… فقالت بترددٍ متقطع وكأن صوتها يتسلّق حنجرتها على عكّاز:
"إذًا...؟"

لم تُكمل. لم يُمهلها.

فجأة في لحظة نازفة بالعنف النفسي ألقى بالأوراق عليها فتناثرت كجراحٍ معلّقة في الهواء وصاح بها بصوتٍ ملتهب:

"انظري إليها بنفسك!"

تساقطت الكلمات على وجهها كما تتساقط صفعاتٌ من يد لا ترحم… فالتقطت الورقة بيدٍ مرتعشة وعيناها تلتهمان السطور كمن يُحاول تفكيك شفرة موتٍ معلَّق فتضخمت حدقتيها وإذا بنتائج التصوير المقطعي لم تُظهر شيئًا… كل شيء بدا طبيعيًّا… كأنّ جسدها قد غسل جروحه وتنكّر للوجع… حتى فحوصات الدم كانت طبيعية:

عدد كريات الدم البيضاء والحمراء كما لو أنها لم تذق طعم الانهيار يومًا.

تذكّرت حقنة "نيولاستا" التي تلقتها الليلة الماضية، وعرفت أنها السبب في توازن بعض المؤشرات، لكن ماذا عن كل شيءٍ آخر؟ كيف تغافل الجهاز؟ كيف صمتت الشاشات؟

في اللحظة التي كانت تغرق فيها في مرآة الخداع اقترب أحمد منها فجأة، انحنى ومن ثم قال بصوت لا يخلو من مرارة ساخرة:

"سارة... لقد استهنت بكِ."

ثم التقت عيناه بعينيها، تلك العينان اللتان كانتا مرآتين مفتوحتين على الغرق، وقال بتهكّمٍ مرير:

"كان تمثيلكِ مذهلًا. كدت أُصدقكِ... كدت أقع

في الفخ."
شهقت سارة بصوتٍ خافت كمن تلقّى طعنةً في صدرٍ لم يبرأ بعد… وأخذت ّتحدق فيه بدهشةٍ مشوبةٍ بالقهر، وتمتمت:

"أتظن أنني كنت... أتظاهر؟ أتظن أنني لعبت بجسدي... لأجل لعبة؟"

وفي تلك اللحظة كانت الإجابة تنضح من عينيه لا من شفتيه. لم يكن السؤال عن مرضها، بل عن شكّه... عن غياب ثقته... عن حطام قلبٍ لم يعد يعرف الفرق بين الألم والحيلة.

ابتسم بسخريةٍ تُشبه وخز إبرةٍ في لحمٍ مُنهك ومال برأسه قليلًا كمن يهمس للحقيقة بتهكم جارح:

"وماذا تظنين أنه سيتغيّر؟"

لم يكن سؤالًا، بل طعنة مغموسة في ماءٍ آسن من أزمة ثقة… اتهامًا باردًا، سخيفًا، كمن يُلقي اللوم على الجرح لأنه لم يلتئم بينما هو من فتحه أولًا… تجبره عندما تركها تستغيث تحت رشقات الماء البارد هو ما جعلها طريحة فراش بالمشفى، حتى ولو لم تكن مريضة سرطان في هي لم تقُده إلى هنا بل هو من فعل.

رمقته بنظرةٍ متعبةٍ فهي لم تعد تملك رفاهية المقاومة لذا تنفّست ببطء كمن يغوص في قاع الغرق دون رغبة في الطفو ورفضت أن تردّ عليه بنفس السكين… فالدخول في معركة مع رجلٍ لا يثق بكِ، هو أشبه بفتح بوابة جحيم... ولن يُغلقها شيء… لو كان يثق بها لما سأل… ولو كان يصدق لما احتاج إلى دليل… هي تعرف كما يعرف هو أن

بعض القناعات لا تهزّها المواقف بل تُزيدها صلابة.
صحيحٌ أنها ذات يومٍ تعلّقت به حتى العمى، اختلقت الذرائع، وتشبثت بفتات الذكريات لتُبرّر استمرارها في علاقة تُنزف فيها روحها كل ليلة لكن كل شيء قد تغيّر في اللحظة التي وقّعت فيها أوراق الطلاق. هناك فقط رأت الحقيقة عارية.

أما هو كان يظن أن مرضها مجرّد مشهد مُتقن، حيلةً لاصطياد اهتمامه، تمثيلية كتلك التي تُؤدى على المسارح المظلمة أمام جمهورٍ لا يُصفّق.

في الماضي كانت ستُبرّر... ستشرح... ستتوسّل ليُصدق… لكنّها اليوم عبرت النهر… اليوم لم يعد يهمها كيف يراها.

نظرت إليه بهدوءٍ متعمد وبنبرةٍ تقطر سخرية قالت:

"صحيح… لن أخفي عليك أنا لا أستطيع التخلي عن لقب السيدة ميلر لهذا السبب أتظاهر بالمرض… كما أن علاقتي بباسل كانت تمثيلية باردة… حتى محاولة الانتحار كانت مشهدًا مُدرجًا في نصّي العبثي… هذا أنا… امرأة ماكرة تتغذّى على الوهم. ..والآن هل ترى حقيقتي؟"

تجمدت ملامحه.. ودهشة مبهمة تسللت إلى عينيه وكأنه أول مرة يسمع فيها منها جملةً بلا قيد ولا قناع… وبصوتٍ باردٍ سأل:

"لماذا أصبحتِ هكذا؟"

لم تكن كلماته سوى فتيلٍ أُشعل في هشيم قلبها… تشنّجت، تقبض على طرف الملاءة كما يُقبض على آخر أملٍ يفرّ من

بين الأصابع، وانتفض صوتها من بين ضلوعٍ متكسرة:
"كل هذا... بفضلك."

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1