رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع والثمانون
ألقى أحمد نظرةً متفحّصة على الشقة، تلك المساحة الصغيرة التي بدت له كأنها صندوقٌ مغلقٌ على قلبٍ نابض... قلب سارة.
لم تكن الجدران مجرد حجارة بل شواهد على أيامٍ مضت، وأحاديثٍ لم تُستكمَل، وحنينٍ يلوّح من الأرائك، ومن ظلّ عطرها المعلّق في الهواء.
وحين خطا إلى غرفتها استوقفه مشهدٌ صغير بحجم طفولةٍ غائبة—سرير الطفل… لم يكن مجرد قطعة أثاث بل ذكرى شاخصة… وجعٌ يقف شامخًا في المنتصف كمنارةٍ في عتمة الماضي… تذكّر أنه الشيء الوحيد الذي حملته معها حين رحلت عنه وكأنها تقول له بصمت:
"هذا ما تبقّى لي منك."
ارتعش قلبه كأن صوتًا خفيًا أيقظه من سباته… فاجتاحه اضطرابٌ لا يشبهه كأن الشوق طعنه بسكينٍ قديمة نسي وجودها.
تذكّر صورتها يوم قفزت من المبنى كمن ترفض الحياة كلها… تلك اللحظة اختُزلت في عينيه كفيلمٍ مكرّر لا يملّ منه قلبه… لقد لحق بها دون أن يفكر وكأن روحه هرعت خلف ظلّها قبل أن يعي جسده ما يفعل.
هناك فقط تبيّن له الحقيقة المجردة—هو لا يستطيع أن يكرهها… لا حتى في ذروة الألم لا يمكنه كرهها… فقد كان حبه لها وكراهيته كالزهور الشوكية، تتفتح معًا في أغصانٍ واحدة، تتماوج داخل صدره كصراعٍ أبدي. كلما دفعها بعيدًا عنه، اقترب من حافة نفسه. كأنما كانا سجينين في متاهة كل منهما يركض هاربًا لكن باتجاه الآخر.
مدّ يده والتقط لعبةً قماشية مهترئة كانت على السرير لا شيء فيها يُذكر إلا أنها كانت
تشبهها...
تمتم بصوتٍ لا يكاد يُسمع:
"لو لم تحدث تلك الحادثة... لكنتُ لكِ زوجًا لا يخذلك وأبًا يحمل عنكِ الليل الثقيل سارة."
اكتشف ويالا المرارة أنه كلما نطق اسمها سال في فمه مذاقٌ مالح... خليط من الحنين والندم من حبٍ لا يندثر، وذنبٍ لا يُغتفر… لم يستطع أن يرحل. لم يكن بقادرٍ أن يغادرها لأن كل شيءٍ فيها كان نداءً إليه، حتى وجعها.
في تلك اللحظة العابرة بين الشفاء والتعب، نهضت سارة من قاع الإنهاك كمن ينتزع نفسه من قاع بحرٍ هائج هدأ موجه للتو.
سارت بخطى واهنة كأن قدميها تغوصان في أرضٍ رملية إلى غرفة المعيشة.
كان من المؤكد أو هكذا ظنت أن أحمد قد رحل. فرجل مثله لا يقيم طويلًا في الأماكن التي تتخمّر فيها الذكريات… هو لا يطيق الانتظار ولا يحترف الالتفات… لكنها حين رفعت عينيها رأته واقفًا هناك في الخارج على الشرفة كظلٍّ أوقفه الزمن.
كان يُمسك بسيجارة بين إصبعيه تتناثر منها شرارات صغيرة تشبه رماد حلم احترق. بدا لها أن إدمانه للتدخين قد تفاقم كأن في كل نفثةٍ منه هروبًا آخر واحتراقًا إضافيًّا لنفسٍ لم تبرأ بعد.
تسلّل الذهول إلى وجه سارة إذ لم تتوقع أن تراه بعد كل ذلك. هل كان ينتظرها؟ أم أنه ببساطة لا يعرف إلى أين يذهب؟ وهل ما زال يريد أن يستكمل ما انكسر بينهما؟
مرّ طيف تلك الأسئلة في عينيها كسحابة ثم تلاشى مع رغبتها في الهروب… توجهت إلى المطبخ وملأت كوبًا من الماء محاولة
أن تغسل مرارة الكلمات التي لم تُقال ومن ثم عادت إليه بخطى متثاقلة كأن الأرض تتأوه تحتها، وقالت بنبرةٍ جامدة خالية من الدفء:
ــ "هل سنفعل هذا هنا؟"
كانت لهجتها كأنها تستفسر عن موعد اجتماعٍ ممل لا عن قرار سيقلب الروح.
رفع أحمد بصره عنها بعينين مثقلتين بالليل وزفر ببطء فأطلق سحابة دخان ارتسمت في الهواء كأنها شبح إجابة… ومن ثم قال ساخراً:
ـ "هل أبدو لكِ منحرفًا؟"
ارتجفت زاوية فمها قبل أن تهمس بصوتٍ محايد كأنها تُغلق صفحة:
ــ "سأذهب إلى النوم... إن لم تكن تنوي ذلك."
ثم أدارت ظهرها بهدوء وداخلها امتنانٌ خافت لأنها نجت من اختبارٍ آخر كل ما أرادته الآن كان قليلًا من السلام.
دلفت إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها كمن يغلق نعش قلبه ليس عن أحمد... بل عن كل ما مضى.
نقر أحمد طرف السيجارة بأنامله فسقط رمادها كغبار ذكرى احترقت بصمت وانسابت عيناه تلاحقانها وهي تختفي خلف الباب كأنما الباب قد ابتلع جزءًا منه معها.
هذا ما جرى بالضبط...
نعم، لقد أراد ذلك.
أراد أن يبتعد، أن يكسر الصمت بينهما بهذا الجفاء.
لكن لماذا اعتصره الانزعاج؟
أكان اختفاء بريق عينيها حين التقتا النظرات هو السبب؟ ذلك البريق الذي كان يومًا ما مرآته الوحيدة الصادقة؟
تردد قليلًا قبل أن يمد يده إلى مقبض الباب، لكنه بأنامل مترددة فعل ليجدها مُلتفّة على السرير كزهرةٍ تحتمي من الريح… والدمى المحشوة تملأ الفراش، تتوزّع حولها
كحراس لطفولة لم تشأ أن تفلت منها… لذا التفتْ بجسدها الصغير كي تجد لنفسها متسعًا بينها كما لو كانت تبحث عن لا يُخون.
دخل أحمد الغرفة المظلمة بل كان الضوء خافتًا حد التواطؤ والسكون يخيّم كتعويذة… وقف بجانبها صامتاً يتأمل قسمات وجهها المُنهك، ذاك الوجه الذي كلله ما هو أكثر من التعب، فغفَتْ...
لم تُحسّ بوجوده إذ تسلّل إليها النوم مُحمّلًا بعبق الشراب، فأسدل جفنيها دون مقاومة كمن يسقط عن حافة العالم.
في صباح اليوم التالي فتحت سارة عينيها على دهشة غامضة… كان أحمد نائمًا على سرير غرفة النوم الرئيسية ولا أثر للسخرية في ملامحه حين استيقظ بل قام بهدوء وذهب إلى الحمام ليستحم وكأن شيئًا لم يحدث.
في هذه الأثناء رنّ جرس الباب فجأة.
غنهضت سارة على عجل وهي لا تزال ترتدي بيجامتها وفتحت الباب وعيناها تلتقطان ملامح اليوم الجديد.
كان باسل واقفًا هناك يحمل أكياسًا مزينة بألوان الأعياد وتعلو وجهه ابتسامة طفلٍ يُخفي مفاجأة.
قال بنبرة دافئة:
– "إنها سنة جديدة تلوح في الأفق... أحضرت لكِ شيئًا بسيطًا."
أجابت بتردد وقد أربكها حضوره غير المتوقع:
– "لم تكن هناك حاجة إلى–"
لكن قبل أن تتمكن سارة من إنهاء جملتها، فُتح باب الحمام.