رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التسعون 90 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التسعون 


كان أحمد قد خرج لتوه من الحمّام، يتوقع أن يُرسل له "برنت" بعض الملابس، لكنّه ما إن التفت نحو الباب الموارب حتى صُدم بنظراتٍ ثابتةٍ تترصّده من الخارج... باسل، واقفٌ هناك كتمثالٍ من دهشةٍ وريبة.

رفع أحمد حاجبه في هدوءٍ ساخر، ثم قال بصوتٍ فيه من التلميح أكثر مما فيه من البراءة:

"يبدو أن لي شريكًا في هذه المسرحية."

نظر باسل إليهما نظرة عاشق خُذل… فهو لم يكن أعمى، ولم يكن ساذجًا… وتلقائياً وضع الأكياس من يده أرضًا بصمت، ثم غادر تجرّه خيبته كما يجرّ العاصي ذنوبه في الليل الدامس.

لم تنبس سارة ببنت شفة، لم تبرر، لم تشرح، ولم تعتذر... ربما لأنها أدركت أن الصمت هنا أبلغ من أي تفسير، وربما لأنها تعمّدت أن تتركه يظن ما أراد أن يظنه. وفي الحالتين... بدا كل شيء كما يجب أن يكون.

رمق أحمد الأكياس الموضوعة على الأرض بنظرةٍ جانبيةٍ باردة، ثم تمتم وهو يُلقي عليها نظرة استخفاف:

"ألستُ كريماً

بما يكفي؟"
كان في حديثه إحالة صامتة إلى الرقم الذي لا يزال يطنّ في أذنيها... عشرة مليارات مقابل طلاق مبلغٌ يُشبه صفقة بين إمبراطورين لا بين زوجين.

ردّت سارة بهدوءٍ عجيب ذا مغزى وهي تلتقط إحدى الهدايا:

"سأعطيها للرجل العجوز الذي يجمع القمامة في حينا."

رمش أحمد بتوترٍ مفاجئ وقال بصوتٍ أقرب إلى الزئير الخافت:

"هل يزورك كثيرًا؟"

أجابت ببساطةٍ لاذعة:

"زارني مرةً حين كنت مصابة بالحمى."

اتسع فمه لقولٍ حادّ ثم خرج صوته صارمًا كضربة سيفٍ على طاولة خشبية:

"لن تكون هناك مرةً أخرى."

تجمدت سارة في مكانها وكأن صوته صفع بها جدارًا من الحجر… فحدقت فيه لبرهة ثم تمتمت كمن يحاول ترويض الحريق في صدره:

"حسنًا..."

وبعد أن انتهى أحمد من حزم أمتعته واستعد للمغادرة تعلقت عيناها به قبل أن يُغادر، وخرج السؤال من فمها كأنّه أملٌ أخير يتعثر على أطراف الريبة:

"بخصوص ليو...؟"

أجاب وهو يُغلق الباب خلفه

دون أن يلتفت:
"سأتصل بكِ حين أحصل على جواب."

كان يعلم أنّ الوصول إلى أيّ شخصٍ في هذا العالم ليس بالأمر الصعب عليه... وكان يعلم أنّ والدها ما يزال قابلاً للإنقاذ.

أما سارة فانهارت فوق الأريكة كزهرةٍ أنهكها المطر وأسندت رأسها إلى مسندٍ ثم أغمضت عينيها وأطلقت تنهيدةً طويلة تنفث من صدرها قلق أيامٍ بأكملها وكأنها لأول مرة... تتنفس.

في ظهيرة تشبه الغصة العالقة في الحلق رنّ هاتف باسل… كان اسم والده فرانك روجرز يلمع على الشاشة كصدى قديمٍ لصوتٍ لا يُرفض.

أتى صوت فرانك عبر الخط ثابتًا كنبضٍ يعرف طريقه:

"ثمة فرصة لا تُقدّر بثمن يا باسل… قد تكون بوابتك نحو دراسة متقدمة في الخارج ثم تتسلّم رئاسة المستشفى بعدها."

صمت باسل للحظة يستدعي قرارًا غرق في أعماق لا تُرى ثم قال بهدوء يشبه الغروب:

"آسف يا أبي… لكن فكرة السفر ليست ضمن حساباتي الآن."

ساد الصمت برهة ثم تكلّم الأب بإصرارٍ رجلٍ حفر مستقبله

بأظافره:
"هذه الفرصة واحدة من ثلاث فقط على مستوى البلاد… لم أصل إليها بسهولة، وقد قاتلت لأجل أن تُدرج باسمك… لا تُغلق الباب هكذا."

ابتسم باسل ابتسامة ساخرة لا تُرى لكن يمكن سماعها بين الكلمات، وردّ بمرارة:
"ربما على أحمد أن يأخذها هي الأخرى… يبدو أنه الأجدر بكل شيء."

ارتبك صوت فرانك قليلاً قبل أن يعود ليزن كلماته:

"لا أعلم ما الذي حدث بينكما بالضبط، لكن أحمد جاءني بنفسه… تنازل عن مكانته ليُخبرني بحصولك على هذه الفرصة وبما أنك ذكرته فإذاً لميلر غاية في إبعادك بني ولا أعلم لم؟! حتى لو لم تفكر بنفسك، فكّر في إخوتك، وفي اسم العائلة."

أحسّ باسل بأن كلمات والده تسير كالمطر على أرض يابسة لا تنبت… ظل صامتًا وقد انعكست صورته على زجاج النافذة، باهتة كظلّ رجلٍ فقد شيئًا لا يُمكنه البوح به.

تنهد فرانك كمن يعترف بالعجز أمام صلابة الصمت، ثم أردف:

"سمعت عن مستشفى أوكلاند؟... أحمد عرض التعاون

معنا في المشروع الذي بات حديث المدينة… أنت تعرف ما يعنيه ذلك جيدًا."

"أعرف." ردّ باسل بجملة مقتضبة محمّلة بثقل لا تُخطئه الأذن.

وبعد لحظات من اللاحوار سأل فرانك سؤالاً لم يكن يتوقع أن يطرحه أبداً:

"ما الذي يجعلك تبقى؟"

نهض باسل ببطء واضعًا ذراعيه خلف ظهره كقائدٍ يراقب ساحة معركة خاسرة يرمق النافذة الطويلة متأملاً الممرضات ووجوه المرضى العابرة كأحلام مكسورة ثم قال بصوت أشبه باعتراف خافت:

"أريد فقط… أن أودّع أحدهم للمرة الأخيرة."

أُسقط رده في يد فرانك وبقي بلا تعليق… فقد كان باسل دومًا الابن الذي يُراهن عليه، ولم يشأ أبدًا أن يتدخل في اختياراته مهما بدت غامضة لكنه أيضاً لم يكن مستعدًا لقطع شعرة الوصل مع عائلة ميلر… فأحمد لم يكن مجرد رجلٍ ناجح بل شخصٌ يستحق الاحترام مهما اختلفت الزوايا.

في داخله عاد باسل إلى ذلك الصباح… صورة أحمد وهو يخرج من غرفة سارة.. الغيرة المحمومة في عينيه، نظراته التي تخترق ولا تستأذن، تلك التي لا يطلقها سوى من يرى أن امرأة ما ما زالت تخصّه.

حتى

بعد الطلاق لم يكن أحمد مستعدًا لتركها تهرب… لم يكن يريد الانتقام فقط… بل يريد السيطرة على كل احتمالاتها.
وكان باسل يعلم أن اقترابه من سارة لن يجلب لها سوى الخطر وأنه قد يتحوّل من حامٍ إلى عبء.

أغمض باسل عينيه طويلًا وكأن القرار خرج من بين أضلعه لا من فمه، وقال أخيرًا:

"سأقبل عرض الدراسة بالخارج يا أبي… لن أخذلك."

جاء صوت فرانك ممتلئًا بالرضا كمن سمع النبأ الذي انتظره طويلًا:

"أحسنت. سأقوم بكل الترتيبات."

تمكنت سارة أخيرًا من عبور النفق المعتم الذي احتجزها داخله الألم والخوف، وبدأت شمس الحياة تعاود الشروق في سمائها الملبدة بالحزن رويدًا... رويدًا.

وفي باكورة الصباح، حينما كان الضباب لا يزال يُداعب النوافذ، خطت خطواتها المتعبة إلى المستشفى، تحمل في قلبها أملًا خافتًا يشبه ضوء شمعة في مهب الريح… وما إن فتحت باب غرفة والدها حتى وقعت عيناها على الممرضة التي كانت تُمسح وجه جيف بمنديل قطني بلطف حنون كأنها

تواسي وجهًا قد مرّ عليه الإعصار.
تقدّمت سارة بسرعة تود أن تنتزع من يد القدر لمسة حنان أخيرة.

قالت بصوت منخفض، "دعيني أتولى الأمر، من فضلك."

هزّت الممرضة رأسها بتفهّم وسلّمتها القماش دون اعتراض.

جلست سارة إلى جوار والدها وبدأت تمسح وجهه بحنانٍ لم تعرفه إلا في ملامحه تحاول استرجاع الزمن بأطراف أصابعها المرتجفة.

حينها التقط بصرها شيئًا أربك سكونها... باقتان من زهور الزنبق البيضاء تتفتحان بهدوء فوق الطاولة المجاورة للسرير.

ارتجفت شفتاها عله أحمد، وسألت الممرضة كأنها تحاول اقتفاء أثر خيط خفي:

"هل زارنا أحد؟"

ابتسمت الممرضة ابتسامة خفيفة وقالت:

"نعم... لقد كان الدكتور باسل هنا… مررت بالغرفة أثناء تنظيفها وسمعته يتحدث مع الطبيب المشرف على حالة السيد جيف... قال دكتور باسل إنه سيسافر قريبًا إلى الخارج ليُكمل دراسته، لذا لن نراه هنا مجددًا على الأرجح."

كأن كلماتها كانت رصاصات صامتة استقرت في صدر سارة، فتجمّدت

في مكانها، وعصرَت المنديل بين يديها كأنها تحاول أن تعتصر به وجعًا لا يُقال.
كان الصمت في عينيها صاخبًا كمن تقرأ في الورود رسالة وداع لم تُكتب ومن ثم همست بصوت متماسك فعلى أي حال منذ متى والحياة تمنحها داعم:

"أفهم."

لاحظت الممرضة الارتعاشة الدقيقة التي مرّت على ملامحها فتابعت حديثها ببساطة عفوية:

"الدكتور باسل... شخص طيب للغاية."

رفعت سارة بصرها ببطء ونظرت إلى الزهور من جديد قبل أن تجيب وفي صوتها صدق موجوع:

"أعلم ذلك."

قالت الممرضة فجأة بعفوية لا تدري مدى ما قد تُشعل من حرائق في القلوب:

"إن كنتِ تفكرين في تأسيس عائلة... فأعتقد أن قصة حبكِما قد تصلح لتكون دراما تلفزيونية مؤثرة."

كانت الجملة بسيطة لكنها وقعت في قلب سارة كرجع صوت قديم لموسيقى افتقدتها... موسيقى لم تكتمل وها هي تُعزف من جديد... لكن بلا أحد ليسمع.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1