![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل التاسع بقلم فاطيما يوسف
حدثوني عن الخيانة المرئيّة والمسموعة، كيف قاومتم وخزِها؟ وكيف تجاوزتم وجعها؟
أهي نـ.ـارٌ تحـ.ـرقُ القلبَ أم غصّةٌ تظلُّ في الحلقِ موجوعة؟
أهي صـ.ـرخةُ الروحِ حين ترى الحقيقةَ عاريةً رأتها الأعين وسمعتها الأذن وليست مُقَنَّعة؟
أم دمعةٌ في العينِ تنطفئُ بها شموعُ الثقةِ والأمان واندثرت تلك الوعود الموهومة ؟
كيفَ للنفسِ أن تعودَ كما كانت، وقد تلطَّخت بتلك الشكوكِ المزعجةِ وغير المشروعة؟
وهل يبرأُ الجرحُ إذا ما أُعيدَ ردمُه بكلماتٍ ووعودٍ كاذبة ومن الهراء مصنوعة؟
إنَّ الخيانةَ سهمٌ مسمومٌ، لا يخطئُ القلبَ وإن بدت الطعنةُ مخدومةً موزونة،
تعلّمتُ أن أُسَلِّمَ لله أمري، فما من قلبٍ خذلني إلا وخفف اللهُ عنّي جُرحه برحمةٍ مشفوعة،
وأنَّ من خانني خسرَ نفسَه قبل أن يخسرني،
فامضِ يا قلبي في طريقك، فلك الله ولا تلتفتْ للغدر، فاللهُ يُطهّرُ دربك بقلوبٍ أنقى وأرواحٍ مرفوعة.
#خاطرة_أبطال_الغرام
#بقلمي_فاطيما_يوسف
كان "آدم" يقف في المطار وسط صخب المسافرين وهدير الإعلانات القادمة من مكبرات الصوت، إلا أن كل ذلك الضجيج لم يستطع أن يخفي ابتسامة قلبه وهو يمسك هاتفه ليتحدث مع "مكة"، فقد كان قلبه معلقًا بها وبذلك الطفل الصغير الذي أصبح عنوانًا لحياته كلها، كان يشعر أن صوتهما فقط هو القادر على تهدئة ارتباكه قبل صعوده إلى الطائرة:
ـ خلاص يا "مكة" هطلع الطيارة اهو خلي بالك من نفسك انتي و"أنس" ولما أخلص هرجع على عندكم اشوف ماما "ماجدة" ونرجع سوا
كان قلب "مكة" يخفق في بيت والدتها وهي تحاول إخفاء قلقها خلف كلمات تبدو مرحة لكنها تنبض بحب عميق، كانت تنظر إلى ابنها الصغير الذي يلعب حولها وهي تخشى أن يلتقط إحساسها بالخوف والحنين فيفتقد والده قبل أن يغادر فعليًا، كانت كلماتها مزيجًا من الحب والغيرة الخفيفة التي تعرف أنها تثير ابتسامته دائمًا:
ـ تمام يا حبيبي خلي بالك من نفسك وترجع لنا بألف سلامة ومتبصش لواحدة كدة ولا كدة انت فاهمني طبعاً يا أبو "أنس".
ضحك "آدم" بصوت خافت في صالة المطار رغم التعب الذي ارتسم على ملامحه بعد تجهيزات السفر، كان يحاول أن يزرع في قلبها الطمأنينة مستخدمًا مزاحه المحبب لها، ورغم كل شيء كان قلبه يحـ.ـترق شوقًا حتى قبل أن يبتعد، فقد اعتاد أن يرى وجهها كل صباح قبل أن يبدأ يومه:
ـ يا بنتي انتي دماغك فيها حاجة ولا مش واثقة فيا طب اللي هبص لها دي ايا كانت مين هتيجي ايه في جمالك ولا في دلالك ولا في سحر عيونك انا يا حبيبي متجوز روبانزل بذات نفسها اللي عيونها بس اول ما تلاقت مع عيوني خطفت قلبي وحبيتك بس من سحر عيونك ودبت في هواكي سنة بحالها من غير ما اعرف شكلك واول ماشفتك اعصابي اتقككت من جمالك يا موكتي تفتكري بعد ده كله هفكر بس ألتفت لواحدة تانية.
ارتسمت على شفتي "مكة" ابتسامة رغم محاولتها البقاء جادة، فقد كانت تعرف كم يعشق هذا الرجل إثارة غيرتها ليشعر بحبها المتجدد كل لحظة، كانت كلماته دائمًا قادرة على قلب مزاجها من قلق إلى دفء ومن خوف إلى شغف، ورغم ذلك ظلت تحتفظ بطريقتها الأنثوية الحادة في الرد:
ـ امممم مانت بقى دقت من عسل روبانزل لما اكتفيت وانتو يا صنف الرجال هتحبوا تنوعوا وتدوقوا من كل الاطعمة للستات.
لم يتوقف "آدم" عن ضحكه الداخلي وهو يسير بخطوات ثابتة نحو بوابة السفر، كان يشعر أن المزاح معها حتى في لحظات الرحيل يجعل المسافة بينهما أقصر، وكان قلبه يزداد تعلقًا بها كلما تذكر تضحياتها وتركها لأهلها وبلدها لتبدأ معه حياة جديدة:
ـ امممم افهم من كده ان الستات كل واحدة فيهم لها طعم شكل انتي اللي بتقولي اهو مش انا اللي بقول وانتي اللي بتفتحي عينيا.
ازدادت ملامح "مكة" دفئًا وهي تتذكر كل مرة كان يصر فيها على أن يجعلها محور اهتمامه الوحيد، كانت تعرف أنه لا يجيد المجاملة الزائفة بل يعبر دائمًا عن مشاعره بصدق طفولي لكنه يحمل رجولة حقيقية، وهو ما جعلها تزداد حبًا له في كل لحظة ولكنها أكملت مشاغبتها له :
ـ والله بقى كل كل الرجالة اللي خانت ستاتها وبصت لغيرها هيقولوا أسباب على كيفهم ويخترعوا في الست اللي حداهم ١٠٠ عيب شكل ما يكونوا عايزين يتجوزوا واحدة بمية شكل ونوع.
رفع "آدم" عينيه إلى شاشة المطار التي تعلن عن بدء صعود الركاب للطائرة، لكنه لم يرد أن ينهي المكالمة دون أن يزرع في قلبها طمأنينة حقيقية، كان يعرف أن غيرتها ليست شكًا بل حبًا خالصًا لا يريد أن يخسره أبدًا:
ـ يا بنتي ايه اللي جاب سيرة الخيانة دلوقتي انتي عايزه تدبي معايا خناقة وخلاص عشان انا مسافر وهرمونات النكد هتشتغل عندك دلوقتي جرى لك ايه يا موكتي مش كل اما اجي مسافر تفتحي لي الحوارات دي وعلشان تعرفي انتي بالنسبة لي اجمل واحلى وارق ست في الدنيا والله لو مين قدامي ما فيش واحدة ست تقدر تغريني انتي بيهم كلهم يا بابا.
شعرت "مكة" بقلبها يخفق بقوة وكأن كلماته اختزلت كل قلقها في لحظة واحدة، كانت تعرف أنه صادق تمامًا وأن هذه الثقة المتبادلة بينهما هي ما جعلت حياتهما مختلفة عن أي حياة زوجية عادية:
ـ تمام يا "أبو أنس" خلي بالك من نفسك وما تتاخرش علينا ومليكش صالح بأي حد غير بالشغل وبس واي واحدة من بتوع نتصور يا شيخ نتصور يا نجم والحوارات داي انت عارفني أني غيرتي غشيمة .
ازدادت ضحكة "آدم" وهو يضع جواز سفره في جيبه ويمسك ببطاقة الصعود للطائرة، فقد أحب دومًا طريقة اعترافها بغيرتها الشرسة وكأنها تعلن أنها لن تسمح لأي شيء أن يخطفه منها، وكان يجد في ذلك الدليل الأجمل على حبها:
ـ تصدقي وحشتني الغيرة دي قوي بتعمل شغل عالي على فكره مع الستات ايه رايك لو تحبي تجربيها؟
كانت "مكة" في تلك اللحظة تمسك الهاتف بإحكام وكأنها تريد أن تُبقيه معها رغم المسافة، كانت تتظاهر بالقوة والمزاح بينما قلبها يتوسل ألا يبتعد عنها طويلًا، فهي لا تحتمل فكرة غيابه ولو لساعات قليلة ولكنه استفزها بشغبه معها فقررت اللعب معه بنفس الطريقة المحببة إليهم :
ـ وه ! انت اكده هتمسك على عِندي يا دومي ولما ترجع من السفر مش هخليك تشوف الدلع وخصوصي الفستان الجَديد اللي اشتريتَه مخصوص علشان اروق عليك بعد السفر بَعيد لماما و لما شفته عجبني وقلت هبهرك ،اديه بقي لـ"سكون" ولا "لأم الزين" علشان توبقى تمسك على عِندي قوي وتضيع الفرص اللذيذة من يدك.
كان "آدم" يسير بخطوات أسرع نحو الطائرة وهو يبتسم ابتسامة واسعة لم يستطع إخفاءها، فقد شعر أن حبها يتدفق في كلماتها رغم لهجتها القاسية، وكان قلبه يتوق للعودة قبل حتى أن يسافر ليتراجع عن موقفه فور علمه بشقاوتها اللذيذة تلك :
ـ لااااا اوعي تعمليها ده انا هرجع لك طاير على جناح الشوق والهيام علشان اشوف الهيئة والطلة الملائكية من روبانزل القمر حجي خلاص يا بابا متبقيش افوشة كده .
في تلك اللحظة امتلأت عينا "مكة" بالدموع رغم ضحكتها، فقد أيقنت كم هو متمسك بها وكم يخشى أن تفوته لحظة من لحظات حياتها، أما قلبها فامتلأ بالدعاء له أن يعود سالمًا وشعرت بالانتصار عليه في جولتهم الدعابية:
ـ اممم لئيم انت قوي يا فنان بتعرف تثبتني .
كان "آدم" يضع هاتفه على أذنه بينما يقترب من بوابة الصعود، وشعر أن هذه المكالمة الصغيرة كافية لترافقه طوال الرحلة، فقد حملت من الدفء ما يكفي ليُنسيه تعب السفر:
ـ هو من اللي لئيم ومكار؟ ده انا جنبك غلبان خالص يا "موكتي" وبتعرفي تلاعبيني على كيفك وعارفة نقطة ضعفي ايه دماغ شغالة بمكر حواء محصلش.
ابتسمت "مكة" رغم الدموع في عينيها وهي تدرك كم هو عاشق لها، وكم يحب أن يصفها بهذا المكر الأنثوي الذي يسلبه إرادته، كان قلبها يخفق حبًا وشوقًا أكثر مما تستطيع أن تُخفيه:
ـ ههه كيدهن عظيم يا بيبي روح بقى علشان متتعطلش معاي ومتنساش دعاء السفر وتطمني اول ما توصل بالسلامة استودعتك اللهم الذي لا تضيع ودائعه.
كان "آدم" في تلك اللحظة يرفع رأسه نحو الطائرة وكأنه يراها أقل قسوة لأنها ستعيده إلى محبوبته بعد أيام قليلة، وكان يشعر أنه يحمل قلبها في جيبه مع كل خطوة يخطوها:
ـ اللهم آمين ولكم بالمثل اجمل دعوة من حبيبه قلبي ما تقلقيش عليا .
بعد أن صعد الطائرة واستقر الركاب في أماكنهم أسند رأسه على الكرسي وأغمض عينيه كي يشعر ببعض الراحة ولكن لم يلبث أن يغمض عينيه حتى استمع إلى صوت أنثوى ناعم ورقيق للغاية يناديه برتابة وبنبرة أشبه للهمس:
ـ بعد إذنك يافندم ممكن الكرسي بتاعي.
فتح عينيه ونظر إلى مصدر الصوت وجدها فتاة قصيرة القامة بعض الشئ وترتدي جلباباً فضفاضاً باللون الأسود ويعتلي رأسها حجاباً بنفس اللون ووجهها آية في الجمال وللعجب أنه حينما دقق بالنظر تلقائياً وجد أن عينيها نفس لون عيناي زوجته فشعر بالقشعريرة في جسده من ذاك التشابه في الهيئة مما جعله شرد قليلاً ليسمعها تنطق مرة أخرى:
ـ بعد إذنك يا شيخ "آدم" مكاني لو سمحت اصلي بصراحة مفرهدة جداً من الجري علشان ألحق معاد الطيارة ومش قادرة أقف .
اندهش من طريقتها هي الأخرى إنها نفس طريقة زوجته في الشغب والأخذ والرد في الحوار فقام من مكانه كي تجلس في الكرسي المحجوز لها بجانبه وهو يسألها بدهشة :
ـ انتي تعرفيني ؟
أجابته بهدوء دون أن تنظر له وهي تعدل هيئتها وتظبط نقابها في هاتفها :
ـ ومين في مصر ميعرفش النجم "آدم المصري" اللي ساب طريق الغناء واللهو واتجه لطريق الدعوة الإسلامية ده انت اشهر من النـ.ـار على العلم يا شيخنا .
استقر في مقعده بنفس التيهة ثم حاول تنظيم أنفاسه وارتباكه وهتف بحزم :
ـ اه ، تمام ، متشكر جدا لذوقك .
التفتت إليه وسألته بفضول :
ـ ياترى حضرتك استريحت اكتر في طريق الدعوة احسن من طريق الأغاني ولا حاسس انك ضحيت بحلم النجومية واللمعان وانك ندمان ؟
أجابها بنفس راضية مرضية عن توبته وعن رضاه الكامل بطريقه الجديد :
ـ ندمان ! وهندم ليه ؟ وعلشان ايه ؟
ده انا ربنا بيحبني إنه هداني واهتدى بيا غيري الحمدلله وبعدت عن طريق مزامير الشيطان وراضي كل الرضى عن نفسي وعن اللي وصلت له اللهم لك الحمد.
ابتسمت بانتصار من تحت نقابها وقد استطاعت جذب انتباهه للحديث معها بكل أريحية وهي تدعي الانبهار بجوابه:
ـ واو بجد حلو قوي اصرارك على التوبة وانك بقالك سنين بعيد عن الطريق ده وانك ما ضعفتش ولا استسلمت لأي اغراءات اتعرضت عليك، ولا استسلمت لوساوس الشيطان في أنك بقيت نجم وصوتك حلو وكان ليك جمهور كبير جداً في جميع أنحاء الوطن العربي كله بجد شابووو ليك يا شيخنا،
ثم سألته وهي تنظر جانباً كي لا تجعله يشك بأمرها وتصطنع الجدية والوقار والرتابة في حديثها :
ـ يا ترى هل زي ما سمعنا برده ان جوازك من مراتك المنتقبة كان له أثر في إنك تتغير وانك تسيب الطريق ده ولا قرار الاعتزال نابع من نفسك ؟
ابتسمت عينيه تلقائياً عند سماع سيرة زوجته لتشعر الأخرى باحـ.ـتراق داخلها عند رؤية بسمته تلك واجابها باستفاضة:
ـ حقيقي زوجتي كانت زي الملاك اللي ربنا بعته لي علشان يبعدني عن كل حاجة وحشة في طريقي يمكن حبي ليها واني اتعلقت بيها كان السبب في قربي من ربنا واني أبعد عن الطريق اللي انا كنت ماشي فيه،
و زي ما بقول لك كده هي ملاك بعته لي ربنا علشان رايد لي إن التوبة والخير يكونوا على ايديها هي .
سألته بمكر :
ـ ياااه ! شكلك بتحبها قووي لدرجة عينيك اللي بتلمع اول ما جت سيرتها ؟
بجد يا بختها بيك وبإن واحد راقي زيك في حياتها ، وبصراحة اكتر انا بحسدها عليك يا شيخ .
اندهش من صراحتها في الحديث وبالرغم من أنها لن تتدلل في طريقة كلامها إلا أنها لديها جرأة خفيفة في الحديث معه ولديها ذكاء في التحاور معه لدرجة أنها استطاعت جذب انتباهه في تداولها لحياتهم الشخصية بكل تلك الأريحية دون أن تظهر بمظهر غير لائق فردد باختصار أحزنها وأفشل محاولتها في الحديث معه وخاصة حينما أخرج مصحفه من جيبه بعد أن أجابها ليمنع بقية التحاور معها :
ـ الحمد لله على وجودها في حياتي وجودها نعمه هفضل اشكر ربنا عليها ليل ونهار .
بعد أن أنهى كلماته أمسك مصحفه وبدأ في التلاوة مما أثار حنقها تجاهه فأمسكت هاتفها تعبث به قليلاً ثم أراحت رأسها على الكرسي وأغمضت عينيها وبعد مرور خمسة عشر دقيقة وأثناء تعمقه في القراءة لآيات الله وجد تلك الرأس التي وقعت على كتفه واقتربت أنفاس تلك الماكرة من وجهه فاستغفر ربه سراً وحاول ظبط انفعالاته من حركتها تلك ثم همس بصوت منخفض :
ـ يا آنسة ، لو سمحتي .
وفي تلك اللحظات التقطت كاميرات الفيديو لأحدهم وهو يصور المشهد بطريقته المفتعلة من إحدى الزوايا التي تدل على تعمقهم وبالتحديد أنه صور حديثهم وتبادل الابتسامة معها وطيلة حديثهم ومن يراهم يظن أنهما عاشقان ،
تململت تلك الأخرى على كتفه بدلال ونعومة وكأنها ما زالت في نومها غائبة عن الوعي مما جعلها اقتربت أكثر وتمسكت بذراعيه وهتفت بنعومة وما زالت عينيها مغمضتين :
ـ سيبني نايمة كمان شوية يا بابا .
اما هو أصبح في موقف يحسد عليه لايريد لمس وجهها ولا الاقتراب من جسدها فنطق بهدوء ثانية كي لا يثير الإنتباه إليهم فهو هي معروفه وأغلب من بالطائرة قد اقتربوا منه وسلموا عليه في اول لحظة من دخوله الطائرة:
ـ يا انسة فوقي احنا في الطيارة مش في البيت .
لم تستجيب لندؤاه مهما حاول إفاقتها لينطق بنفاذ صبر :
ـ شكل نومك تقيل ، لاحول ولاقوة الا بالله ، اعمل ايه دلوقتي .
لم يجد حلاً غير أن يمرر سبابته على كتفها مكملا إيقاظها بعدم ارتياح :
ـ يا ماما فوقي بقي مينفعش كدة ، فوقي يا آنسة .
لم تستجيب وتشبست بذراعيها أكثر ونامت على صدره وهي تتملس بوجهها الناعم على عظام صدره بحركة جعلته تنفس بصعوبة من ذاك الاقتراب المثير منها ورائحتها التي عبئت صدرها من اقترابه فلم يجد حلاً لإنهاء تلك المهزلة إلا أنها ملس بإحدى يديه على وجنتها كي تفيق وإذا به ينصدم انها تمسكت بكف يده وقبلت باطنة قبلة ناعمة مثيرة بشفاه منفرجة جعلته ابتلع ريقه هو الآخر بصدمة من فعلتها فسحب يده على الفور وأمسك رأسها بحدة وأراحه على ظهر الكرسي مرة أخرى وهو يستغفر ربه :
ـ استغفر الله العظيم يا رب ،لا حول ولا قوة الا بالله، استغفرك يا رب واتوب اليك استغفر الله العظيم يا رب .
اما هي حينما أسندها على الكرسي أدارات وجهها للجهة الأخرى وهي تنظر للكاميرا التي تصورهم وتغمز له بشقاوة تدل على نجاح خطتها وتابعت نومها حقيقياً براحة وهي تبتعد عنه بعدما نالت مبتغاها ،
بعد قليل وصلت الطائرة فوجد تلك الفتاة ما زالت نائمة فاعتلى صوته كي يوقظها :
ـ يا آنسة الطيارة وصلت ، فوقي بقى.
استمعت إلى صوته وأفاقت على الفور وهي تنظر إليه بابتسامة مشوشة فهي قد نامت حقا تلك المرة ثم شكرته بامتنان :
ـ ياه ، وصلنا أخيراً ، شكراً لذوقك يا شيخ "آدم" ومبسوطة قوي اني اتكلمت معاك وتقابلنا النهاردة بس انت ما تعرفش اسمي لحد دلوقتي.
وتابعت بدلال ونعومة وهي تعرفه اسمها :
ـ اسمي "سيلا" على فكرة .
حمل حقيبة يده ثم ودعها بابتسامة باهتة :
ـ تشرفنا يا آنسة "سيلا" عن إذنك .
انصرف أخيرا من أمامها وهو ينفخ بضيق مما حدث وقد أثارت حنقه بأفعالها الغير مقصودة من وجهة نظره أما هي فور مغادرته بعيداً عنها ذهبت إلى المصور الذي كان معها وهي تردد :
ـ اظن حصل اللي انت كنت عايزه واكتر كمان عايزه اخلع بقى الجلابية اللي انت ملبسها لي دي مش طايقاها والخيمة اللي على راسي .
ابتسم لها بخبث :
ـ جرى ايه يا "سيلا" مش متعودو على إنك تبقي محترمة شوية يا حبيبتي؟
مش طايقه نفسك خالص إنتي ، اصبري لما نركب العربية وبعدين اخلعي اللي على كيفك، واعملي حسابك طول الرحلة وطول الاسبوع اللي موجود فيهم ده هيبقى لبسك يا ماما،
انتِ مش قبضتي على الحوار ده كله يبقى تتحملي وتسمعي الأوامر وتنفذيها زي ما بيتقال لك بالظبط .
هتفت وهي تنفخ بضيق :
ـ أوووف الجو حر وانا مش متعودة على اللبس ده ومش طايقه نفسي ما كنتش اعرف ان المهم هتبقى صعبة قوي كده كلم "سيف" بيه يخليني من غير الحجاب فيها ايه يعني وانا والله العظيم هعمل له كل اللي هو عايزه وأحسن كمان ، ولو حتي طلب اني اروح لأوضة النوم بتاعته واخليه يضعف كمان ما عنديش مشكلة بس يسمح لي ألبس اللي على كيفي .
نظر إليها نظرات حـ.ـارقة آمرا إياها بعـ.ـنف:
ـ بس يا بت احترمي نفسك شوية هو انتِ مفكرة ان ده زي اللمامة اللي بتروحي لهم شققهم في مصر ؟!
انتِ تعملي اللي احنا بنقول لك عليه وسيبك من السفالة والقذارة بتاعتك دي مع "آدم" ده بالذات وعلى الله تبيني عكس الخطة اللي احنا متفقين عليها هشيعك لعشماوي راكبة طيارة يا روح امك .
*********
كان الليل قد أرخى سدوله على القرية، وبدت الأضواء الخافتة المتناثرة من البيوت تلمع وسط السكون الذي يقطعه بين حين وآخر نباح بعيد لكلاب الحراسة، في الحديقة الخلفية للبيت، جلست "زينب" على المصطبة الحجرية، وقد وضعت يدها على فخذها، تراقب بعينيها الحانيتين وجه "نورا" الذي كان شاحبًا ومبللًا بالدموع ،الهواء العليل حمل رائحة الزهور المزروعة في أطراف الحديقة، لكن الدموع التي أغرقت مقلتي "نورا" جعلت كل شيء حولها باهتًا بلا طعم،
رفعت "زينب" رأسها قليلًا وهي تقترب منها بحنان أموي لا يخلو من قلق ظاهر:
ـ مالك يا "نورا" يا بتي حالك مش عاجبني وشك مخـ.ـطوف اكده وعينيك دبلانة وحالك ما يسرش عدو ولا حبيب اليومين دول ؟
ترددت "نورا" في الكلام وهي تمسح دموعها سريعًا ثم استجمعت شجاعتها، وصوتها يكاد يخـ.ـتنق:
ـ الحقيقة يا ماما الحاجة انا عايزة احكي لك على حاجة مهمة وضرورية ولازم تعرفيها بس اذا سمحتي لازم بشمهندس "عمران" يكون موجود لأن الموضوع خطير وما ينفعش يحصل لكم ضرر بسببي فاتصلي بيه يجي ضروري معلش .
أمالت "زينب" رأسها في اهتمام وهي تجلس قبالتها وتضع كفها على كتفها في محاولة لتهدئتها:
ـ طب ما تحكي لي يا بتي واذا كان لابد من دخول "عمران" نبلغه ،ممكن تكوني انتي مكبِرة الموضوع واصل .
أطرقت "نورا" بعينيها نحو الأرض، والدموع عادت تنهمر من جديد دون أن تملك كبحها:
ـ متهيأ لك ،معلش لازم يكون موجود رني عليه خليه يجي انا ما رضيتش اكلمه وقلت هسيب حضرتك انتِ اللي تبعتي له .
تنهدت "زينب" وهي تمسح على يدها بحنانٍ ظاهر لتبث فيها الاطمئنان، ثم أخرجت هاتفها المحمول لتجري اتصالًا:
ـ حاضر يا بتي، انتِ اكده وغوشتيني وقلقتيني عليكي وخصوصي لما سمعتك المخبولة "توحة" وانتِ هتبكي أولة امبارح .
وبينما كانت نبرات القلق تتصاعد في صوتها، ارتفعت مكالمة الهاتف بصوت واضح:
ـ ايوه يا "عمران" يا ولدي تعالى دلوك علشان في حاجة مِهمة عايزاك فيها ضروري، اني في الجنينة الخلفية للبيت مع الداكتورة "نور" .
جاء صوت "عمران" ممتزجًا بالاستفهام والوجل:
ـ في حاجة ولا ايه يا حاجة قلقتيني ؟
أجابت "زينب" بحزم ممزوج بالهدوء وهي تحاول أن تبدد خوفه:
ـ ما تقلقش يا ولدي تعالى وان شاء الله كله خير .
لم تمض دقائق حتى وطئت قدماه أرض الحديقة بخطوات متسارعة، وعيناه تجولان بين أمه والطبيبة الشابة التي كانت تمسح دموعها بطرف كمها، جلست "زينب" وأشارت إليه بجوارها وهي تتحدث بحنان ظاهر:
ـ تعالى يا ولدي اقعد جاري اهنه الداكتورة "نورا" هتقول ان حداها مشكل كَبير ولازمن نسمعها ،
وانتِ يا بتي احكي اللي عندك واحنا هنسمع .
التقطت "نورا" أنفاسها في محاولة للسيطرة على صوتها المرتجف، بينما قطرات الدمع تسابق كلماتها:
ـ انا الحقيقة مش عارفة اقول لكم ايه بس انا حكايتي حكاية كبيرة قوي ومزعجة، انا شغالة عندكم بقى لي سنة وعمري ما أزعجت حد ولا عملت مشكلة مع حد ودايما في حالي بس للأسف المشاكل بتجري ورايا ورايا مهما، اروح أنا ... كنت متجوزة وخلعت جوزي .
فتحت "زينب" عينيها في دهشة وهي تضع يدها على صدرها كأن الخبر باغتها:
ـ واه ! يعني انتِ كنتِ متجوَزة قبل سابق وكمان خلعتي راجلك ليك دي يا بتي ؟! ولما انتِ ما هتحبيهوش اتجوَزتيه من الاول ليه بدل ما خلعتيه ؟
مسحت "نورا" دموعها لتبدأ الحكاية كاملة، وصوتها يرتجف مع كل تفصيلة موجعة، بينما "زينب" تميل نحوها بين الحين والآخر لتمسح على كتفها أو تمسك بيدها بحنان الأم التي تحتضن طفلتها الباكية:
ـ انا هحكي لك يا حاجة كنت متجوزة واحد اسمه "مكرمي" كنت متجوزاه وهو حارس مرمى للناشئين في نادي المقاولون ما كنتش لسه دخلت الجامعة، و بعد ما خلصت الثانوية على طول كنا بنحب بعض جدا وكمان كان دايماً ينقذني من اخو مرات بابا لما كان بيستقصدني في كل مكان وبيحاول يتهجم عليا ومرات ابويا كانت مشجعاه وخصوصا ان ما كانتش بتلاقي حد يقف لها في اللي بتعمله معايا لأن أبويا مريض وكمان عنده الزهايمر فما كانش حد بيدافع عني ولا بيحميني منه غير "مكرمي" هو كانوا جارنا وكان عارف كل حاجة عني واحنا كنا بنحب بعض من أول ما دخلت أولى ثانوي،
"مكرمي" كان إنسان كويس جدا وكنا بنحب بعض بجنون وهو كمان ما كانش يقدر يستغنى عني فقررنا اننا نتجوز بعد ما اخلص ثانوية على طول وكملت الكلية واحنا متجوزين وهو بصراحة كان ونعم الزوج معايا كان حاططني في عينيه وشايلني فوق راسه شيل، وكان خلاص هيتأهل من الناشئين ويلعب في النادي لأنه كويس جدا في حراسة المرمى ومهارته كانت عالية جداً ،لحد ما ابن مرات بابا سلط عليه واحدة جريت وراه وخليته يشرب ودخل طريق المخـ.ـدرات واتدمـ.ـر خالص في لِعبُه وسنة ورا سنة لحد ما بقى مدمـ.ـن من الدرجة الأولى وخسر كل فلوسه على الإدمان،
وطبعا النادي رفده بعد ما كان خلاص هيوصل ومستقبله بدأ يتفتح قدامه وانا طبعا ما عرفتش بموضوع الإدمان إلا بعد ما داس في الطريق ده وكل الفلوس اللي معانا وكل الفلوس اللي كان بيكسبها راحت على الشرب، كنت انا خلصت كلية واتعينت في الوحدة تبع المركز بتاعنا وكل شوية ضـ.ـرب وإهانة ويعتدي عليا لحد ما اخلص كل الدهب اللي معايا اللي كان جايبه لي واللي كان بابا كمان جايبه لي وكل الفلوس لحد ما بقينا مش لاقيين ناكل وحالته اتبدلت خالص،
حاولت أعالجه وأقف جنبه بدل المرة عشرين مرة واتفقت مع مصحة من غير ما يعرف و جم خدوه لكن هرب منها لأنه ذكي جدا ومهاري جدا في جسمه لكن للأسف المخـ.ـدرات لحست دماغه خالص ،
فضلت أكتر من تلت سنين أعاني معاه لحد ما ايده علمت في كل حتة في جسمي ،فقدت الأمل في إصلاحه وطلبت منه الطلاق كذا مرة كان يقعد تحت رجلي يترجاني ما اسيبهوش وان هو بيحبني وان هو هيتعالج وكلام الليل اللي كان بيقعد يقوله لي وتوسلاته يصحى النهار كأن شيئا لم يكن ،وفضلت على الحالة دي من الإهانة والبهدلة، ويجي لي الشغل يبهدلني قدام صاحباتي لحد ما بقيت مش قادرة أستحمل خلاص ما كانش قدامي حل غير اني أدعي ربنا انه يخلصني منه ،
كل ليلة وانا ببكي بدل الدموع دم بسببه لحد ما الإدمان وصله ان هو يسـ.ـرق ما سابش بيت في الشارع اللي احنا ساكنين فيه إلا وسرقه والناس علشان كانوا بيحبوه لأنه كان جدع معاهم جدا كانوا بيعطفوا عليه وما كانوش بيرضوا يبلغوا عنه لحد ما سـ.ـرق سلوك نحاس من كابلات النادي الرياضي اللي جنبنا وطبعا الكاميرات جابته وقبضوا عليه رحت له السجن وعرفت ان المساجين جوة معاهم حشـ.ـيش ومخـ.ـدرات وكل حاجة شكل ما يكون عايش بره بالظبط وحالته جوة السجن سائت وزادت وقوته البدنية راحت في الأرض، حاولت أبلغ المسؤولين عن السجن عن اللي بيحصل جوه لكن ولا حياة لمن تنادي ،
ما كانش قدامي فرصة غير اني استغل إنه دخل السجن واخلعه لأني ما بقيتش قادرة عليه ولا على مشاكله ولا على الإدمان اللي مشي فيه ،
ودلوقتي هو خرج من السجن بعد ما خد خمس سنين سجن ولسه خارج من اسبوع وصاحبتي كلمتني ان هو بيدور عليا ومش سايب مكان إلا وقالب الدنيا عليا وأكيد هيعرف ان انا هنا لأن "مكرمي" مش سهل أبدا وأنا بصراحة خايفة منه قوي .
كان "عمران" طوال القصة يتابع بتركيز، تعلو وجهه علامات الغضب تارة والحزن تارة أخرى، بينما قلب "زينب" يعتصر ألمًا على ما تسمعه، كلما انقطع صوت "نورا" بسبب بكائها، مدّت "زينب" يدها تمسح دموعها وتضمها إلى صدرها قائلة بحنان:
ـ يا عيني عليك يا بتي كل الحِزن دي شايلاه في قلبك وكل القهر دي عشتيه وحدك ولا ليكي ام تحضنك ولا تقول لك معلَش وتطبطب عليكِ، تعالي في حضني يا حبيبتي ما تخافيش ما حدش هيقدر ياجي جارك ولا يأذيكي ما تخافيش .
تدخل "عمران" بين الحين والآخر، جالسًا متأملًا، يعبر عن رأيه القوي الواثق وهو يسألها بدهشة :
ـ طب ما حاولتيش تزوريه كذا مرة في السجن يا داكتورة وتفهميه ان الإدمان خسره كل حاجة وخلاه من إنسان ناجح ورياضي وكان هيبقى له شأن زين لانسان متدمر ورد سجون وحرامي ؟!
ما وصلتيش ليه جواه روح التحدي ان في السجن قدامه فرصة إنه يتعالَج من الإدمان ولازم يقوي حالَه لجل ما يرجع احسن من الاول وحبكم الكَبير ما يضيعش في الارض ؟
أجابته بتأكيد وهي تتذكر كم المعاناة التي عاشتها كي تحاول إصلاحه :
ـ والله يا باشمهندس "عمران" حاولت فوق ما تتخيل ،عملت كل حاجة بس انا ست ويعتبر ما ليش أهل وضعيفة ما قدرتش أصد قصاده لوحدي وخصوصا إن الإدمان ده أخطر حاجة في الدنيا ممكن تقهر الراجل وتخليه مش شايف نفسه ولا شايف اللي قدامه .
نطق "عمران" بأسى وهو يرى جميع الأمور نصب عينيه :
ـ وهو طبعا دلوك خارج من السجن شايف انك اتخليتي عنيه وغدرتي بيه وخلعتيه فبالتالي خارج عايز ينتقم منيكي وبيدوِر عليكي علشان اكده .
حركت رأسها بحزن شديد وهي تشعر أن الهلاك قادم لا محالة عليها:
ـ بالظبط يا باشمهندس وانا طبعا ما ينفعش اسبب لكم الأذى وخصوصاً انه هيوصل لي يعني هيوصل لي وبصراحة انا مرعوبة منه جدا ومن ساعة ما عرفت إن هو خرج وانا حالتي النفسية تحت الصفر مش عارفة أصلا هشوفه ازاي ولا هقابله بعد كل اللي حصل بينا ازاي وبعد كل السنين دي ؟!
وفي كل مرة ترتفع فيها شهقات البكاء، كانت "زينب" تضمها إلى صدرها كأنها ابنتها وتربت على ظهرها، بينما "عمران" يعقد حاجبيه ويعدها بحماية أكيدة و"زينب" مازالت تؤازرها:
ـ ما تعيطيش يا بتي اهدي، ربك رب قلوب وما هيفوتكيش ابدا ولا هيضرك ما تخافيش طول ما احنا جارك ما حدش هيقدر يمسك ابدا .
هتفت بحرقة :
ـ انا مش عارفة أروح فين ولا أهرب منه لأي مكان ولا أعمل ايه ؟
انا كرهت نفسي وكرهت دنيتي يا رب اموت علشان استريح من الدنيا الوحشة اللي انا عايشه فيها بسبب ان انا وحيدة وما ليش حد .
حاول "عمران" طمئنتها وتهدئتها :
ـ ما تقوليش اكده يا داكتورة هدي حالك البكا مهيحلش عاد دي هيعقد ، انتِ اهنه ضيفة عِندنا وحمايتك واجبة علينا ،وقت ما يوصل ما تقلقيش احنا بعون الله نسد قصاد اتخن تخين واعتبرينا أهلك واني كيف أخوكِ الكَبير والحاجة "زينب" كيف والدتك وما تبكيش عاد البوكا ما هيحلش حاجة .
مسحت دموعها بكف يديها ونطقت بلسان يرتعش :
ـ انا والله ما عايزة ادخلكم معايا في مشاكل انا هربت وقلت هاجي الصعيد آخر بلاد المسلمين علشان ما يوصليش وعلشان يخرج وينساني ويفقد الأمل فيا لكن "مكرمي" عمره ما يقدر ينساني بسهولة ولا يبعد عني وانا عارفة ان خلاصي وروحي هتطلع على ايده .
ردد "عمران" بثقة ورجولة كي يهدأ روعها :
ـ ما تقلقيش يا داكتورة ما حدش هيموت ناقص عمر واصل وربنا هيوضع في طريق كل إنسان محتاج اللي هيقدر يحميه من غدر البشر .
شكرته بامتنان بعدما رزقت بالسكينة قليلا من حنوهم عليها :
ـ مش عارفة اشكرك ازاي يا باشمهندس، ولا انتِ يا ماما الحاجة بجد انتوا اهلي بعد اهلي انا عمري ما حسيت بالأمان إلا في وسطكم .
ربتت "زينب" على ظهرها وهي تدعو الله لها :
ـ ما تخافيش يا بتي ربنا يهدي لك طليقك يا رب ويبعد عنه العفش ويهديه ويصلح حاله ويشفيه .
*********
كان يجلس أمامها في مكتبها، كأن المكان قد ضاق بهما معاً، فيما يملأ دخان سيجارته الأجواء برائحة ثقيلة خانقة، وفي عينيه بريق قاسٍ يشي بالشماتة أكثر مما يشي بالحديث، ملامحه المتصلبة توحي بأنه جاء لا ليحاور بل ليهدم، و"فريدة" تراقبه وهي تمسك نفسها عن الانفعال، تنظر إلى وجهه محاولة أن تفهم كيف يستطيع الأب أن يحمل كل هذا القدر من الشر تجاه ابنه:
ـ صدقتيني لما قلت لك إنه ابني وانا عارفه وحافظه وانه بيخونك والمرة اللي فاتت لما جيت لك عملتي نفسك الأميرة البرنسيسة اللي ما ينفعش جوزها يخونها وان هو بيحبك والحوارات اللي مش بتاكل عيش دي وفي الآخر مشيتي ورا كلامي وراقبتيه وضحك عليكِ واعتذر لك وصدقتيه ان عمره ما هيخونك تاني ولولا الساعة اللي انا اديتها لك تديها له ما كنتيش اكتشفتي خيانته ليكي وسمعتيها بودانك.
كانت "فريدة" تستمع إليه والمرارة تتصاعد في حلقها، قلبها يتأرجح بين الغضب والحزن، لا على نفسها فقط بل على "فارس" الذي يملك أباً كهذا، نظراتها الحادة حملت رفضاً قاطعاً لأسلوبه وكلماته، وكأنها تضع درعاً خفياً يمنع سهامه من اختراقها:
ـ انت ليه خليتني أدور وراه ،ودخلت الشك في قلبي من ناحيته ؟
ليه دمرت حياتنا بالشكل المؤذي دي ؟
كنت سبتني على عماي، كنت سبتني اني وهو كويسين مع بعض،
ليه بتعمل اكده ليه ؟ مش بعيد تكون انت اللي زقيت البت داي في حياتَه علشان ينجرف وراها وينسى بيته ومرَته وبته لانك انت اساس كل شر في حياتنا واذا كان هو عيمل حاجة فـاني واثقة ومتوكدة انه عميلها غصب عنيه وانت السبب فيها والسبب في كل حاجة وحشه بتحصُل لنا.
ارتسمت على وجهه ابتسامة باردة كأنها سخرية قدر، لم يتأثر بدموعها المحبوسة ولا بحزنها الواضح، بل ازداد صلابة وغطرسة، وفي عينيه لؤم لا يخفى، وكأنه يتلذذ بكسرها من الداخل:
ـ ياه لسه بتدافعي عنه بعد ما سمعتي خيانته ليكي مع واحدة غيرك ؟
أيا كانت بقى الأسباب ديل الكلب عمره ما يتعدل ،وهو من قبلك ياما عرف ستات وبنات ما لهمش أول من آخر فطبيعي إنه لما ياخذ منك اللي هو عايزه يزهق، فـعايز يشوف صنف غيرك ،يتمتع مع بنات وستات أشكال وألوان ما دي طبيعته اللي هو كان متعود عليها والطبع عمره ما يتغير ابدا يا دكتورة.
تحركت أنفاس "فريدة" بسرعة، ورغم الألم الذي يعتصرها إلا أن كلماتها خرجت ثابتة قوية، كأنها تستمد قوتها من حبها لذاك الفارس معذبها وإيمانها به رغم كل شيء، تحدق فيه بعينين دامعتين لكنهما لا تنكسران :
ـ انت راجل مؤذي قوي، إنت إنسان عمري ما شفت في حقدَه ولا في غلَه في الدنيا داي كلاتها انسان حتى ابنه ما سلمش من اذااه انت اكيد غير طبيعي، انت عايز تتعالج يا مؤذي يا خراب النفوس والبيوت، واذا كنت هشفق على "فارس" من أي حاجة بيعمِلها فهشفق عليه علشان إنت ابوه بالغل دي كلاته.
ازدادت نظراته قسوة وهو ينفث دخان سيجارته بعصبية ويزيح الرماد بلا مبالاة، بدا كأنه يستمتع بكل كلمة غضب تنطق بها، كأنها شهادة نجاح له في خطته السوداء، لم يبالِ بدموعها ولا برجائها :
ـ انا همشي لأن الكلام اللي انت بتقوليه ده بيعتبر بالنسبة لي هراء، انا حلفت ان انا لازم أدمره زي ما بعد عني وسابني بطولي وهو ابني من صلبي، حلفت لازم أخليه يبعد عنك وعن بنته علشان يعرف إن الله حق ويعرف ازاي يعمل مع ابوه اللي رباه وكبره وصرف عليه لحد ما بقى بني ادم، شابووو ليا بجد ، باي.
تكسرت ابتسامة "فريدة" وهي ترد بعنفوان أنثوي يحمل ألماً دفيناً، كلماتها خرجت كأنها جدار دفاع أخير تحمي به بيتها وزوجها من سمومه:
ـ واني مش هسمح لك ان انت تهد بيتي وتفرق بتي عن ابوها علشان اني عارفاه زين ،واني واثقة ومتوكدة ان جوزي عمره ما يخوني أبداً بإرادته وأكيد انت عميلت فيه حاجة أو سلطت عليه الشيطان اللي هتحوم حواليه دي ،وطالما انت دخلت في الحوار يوبقى أكيد "فارس" مظلوم ومش اني الست الضعيفة الهبلة اللي تتنازل عن بيتها وجوزها بالسهولة داي ،
في مواقف ساعات التنازل فيها بيبقى أسمى مرتبة في التسامح علشان الحياه تمشي وطبعا انت مش هتفهم الكلام دي لانك ما بتفهمش غير الأذية وبس ،مع السلامة يا باشا ويا ريت ما توريناش خلقتك تاني.
وقف من مقعده ببطء كأنه يعلن نهاية المعركة، لكن عينيه بقيتا مشتعلة بشرٍ دفين، لم يكتفِ بسهم واحد بل أراد أن يترك جرحاً مفتوحاً في قلبها قبل أن يرحل:
ـ هبلة وغشيمة وهتفضلي طول عمرك كده تبقى انتِ بالنسبة له الفازة اللي حاططها في البيت وقت ما يحتاجها يتملى في جمالها شوية وبعد كده يروح يملي عينه مع غيرها وغيرها من تحف من أرقى الأنواع وانتي عايشة معاه وعاجبك دور المضحية.
رفعت رأسها في تحدٍّ أخير، صوتها ارتجف من شدة الانفعال لكنها لم تتراجع خطوة واحدة، كلماتها خرجت كالسكين المشتعل الذي يجرح وهي تؤكد له أن حقده لن يغيّر شيئاً:
ـ مليكش صالح إن شاء الله يعملني مداس في رجله أبو بتي ويعمل اللي على كيفَه واني بت أصول وهتحمَل علشان هو عارف هو اتجوَز مين بالظبط ، اتجوَز بت أصول ، متربية إن البيوت العمرانة متنهارش بسهولة ، وجوزى هيعشقني واني عارفة اكده زين فاطلع انت منيها يا مؤذي.
هز رأسه بازدراء وهو يغادر بخطوات باردة كأنها تهديد صامت، تاركاً وراءه سحابة دخان كريهة وألماً يحاصر المكان:
ـ هبلة وهتفضلي طول عمرك كدة ، باي يا مضحية يا عظيمة.
بمجرد أن أغلق الباب خلفه، انحنت "فريدة" على مكتبها وانهارت دموعها كأنها فيض لا يتوقف، شعرت بأن قلبها يتمزق بين خوف على ابنتها وبين صدمتها من "فارس" وخوف من أبيه، دقائق طويلة وهي تبكي حتى ارتمت على الأريكة تستجمع بقايا نفسها، ثم عادت إلى بيتها وهي تحمل وجعاً صامتاً،
فتحت الباب لتجد "فارس" قد عاد، كان صوته دافئاً وهو يناديها، اقترب منها بخطوات مشتاقة وذراعاه تفتحان ليحتضنها، لكنها دفعته بقوة مفاجئة والدموع ما زالت تغمر عينيها، نظراته ذهبت للحيرة بينما قلبها يصرخ بلا صوت :
ـ بعد يدك داي عننننننننننني ، متلمسنيش يا قذر ، ابععععععد .
