رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والتسعون 91 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والتسعون

صعقت سارة كأنما صفعتها الكلمات شهقت بصمت ثم نظرت إلى الممرضة بعينين تشتعلان بجمر الصرامة وقالت بنبرة هادئة تخفي وراءها بركانا من الاستياء
آنسة لقد تجاوزت حدودك. أريد أن أتحدث إلى والدي على انفراد... رجاء اتركي الغرفة.
أومأت الممرضة دون احتجاج وأغلقت الباب خلفها بهدوء كأنها تنسحب من مسرح لا يخصها.
في الداخل عاد الصمت يملأ الفراغ تنهدت سارة وعادت إلى ما اعتادت عليه كل يوم... لمسة حانية تمسح بها جسد والدها ومقص صغير تهذب به شعره وأظافره كأنها تقاتل بيديها تآكل الزمن وتنازع الرحيل الذي يزحف خلسة لو لم يكن جهاز تخطيط القلب يرسم على شاشته خفقات منتظمة لظنت أنه قد غادرها دون وداع.
رفعت سارة بصرها إلى النافذة فوجدت النهار يبتسم لها أخيرا. لا ثلوج ولا ريح... السماء صافية فدفعت الستائر جانبا ببطء وإذا بأشعة الشمس تندفع إلى الداخل كأنها كانت تنتظر إذنها لتضيء هذا الركن الباهت من العالم.
استدارت إلى أبيها الراقد في صمت لا يشبه

النوم ومن ثم اقتربت لتجلس بجواره وأسندت جبهتها إلى يده الباردة ثم همست وكأنها تغني سرا
أبي... لن أستطيع البقاء طويلا. إن لم تستيقظ الآن... قد لا تراني مجددا.
تنهدت وأغمضت عينيها للحظة كأنها تعيد ترتيب الذكريات ثم تابعت بنبرة دافئة تحاول أن تخبئ فيها الشرخ المتنامي في قلبها
على أية حال... أنا وأحمد لم نعد معا الطلاق تم.
كانت الشمس قد استقرت فوق وجهها ترسم على وجنتيها وهجا ذهبيا كأنه مسحة رضا وهمي. فابتسمت لكن ابتسامتها كانت تحمل وجعا لا يرى.
لم يكن لطيفا في العامين الماضيين بل كان غريبا عني... كأنما يسكنه رجل آخر. لكن منذ انفصالنا... تغير فجأة. صار كريما أكثر مما توقعت منحني كل ما أستحقه منزلا سيارة بعض الأسهم... أتعلم أنا الآن امرأة ثرية.
ضحكت بخفة ثم أدارت وجهها عنه وكأنها تخجل من صدقها الموجع. بقي هو صامتا... ساكنا لكنها كانت واثقة أن في عمق سكونه من أن هناك روح تسمع وقلب يختبئ خلف الغيبوبة يتنفس ببطء ويتشبث بها كما تتشبث هي
بكل لحظة إلى جواره فاستكملت
أتذكر أنك قلت لي بعد رحيل أمي أن الحياة يجب أن تحمل في طياتها الندم لأنه حينها فقط سنتعلم تقدير الأشياء منذ ذلك الحين اعتززت بكل شيء وكل من حولي لكنني في النهاية لم أستطع الاحتفاظ بأحد بجانبي.
زفرت أنفاسها المتحشرجة وتابعت
لدي أخبار سارة أيضا يا أبي سمعت أن السيد كروسبي قرر بيع منزلنا بالمزاد سأفوز بالمزاد وأستعيد منزلنا وبعد أن يعالجك ليو وتتعافى ستعيش هناك أنا آسفة لأنني مضطرة لتركك ولن أستطيع توديعك.
ظلت سارة تحدث والدها حتى انزلق المساء على زجاج النافذة مطفئا بريق النهار. كانت كلماتها تنساب إليه كأنها تلقيها في بئر بلا قاع لا صدى يعود ولا إشارة تنذر بصحو وحين ساد الصمت ضحكت ضحكة واهنة كأنها ترثي أملا كان هشا من البداية تتمتم بأعين قد جف دمعها
كما توقعت... المعجزات لا تولد إلا في كتب الطفولة تلك التي لا يقرؤها أحد.
وفي طريق عودتها داهمت عينيها صورة من نوع مختلف عنوان صاخب يتصدر الشاشة
رئيس مجموعة
ميلر يهدي فستان زفاف لا يقدر بثمن لخطيبته.
ظهر الفستان تحت العنوان مطرزا بفخامة لا تعرف الخجل يكاد يتحدث عن نفسه. كان نصلا مخمليا غاص في خاصرة قلبها.
لم يكن يوجعها زواجه لم يكن يحزنها أن يختار امرأة أخرى يهبها ما حرمت هي منه... لكنها لم تكن تتوقع أن يمنح ذلك الفستان تحديدا لسواها.
أغمضت عينيها فاستحضرت المشهد منذ ثلاث سنوات.
كانت قد خرجت للتو من الحمام يغلف جسدها دفء البخار وتستقر فوق الأريكة بتكاسل محبب. شاشة التلفاز أمامها تنقل مؤتمرا صحفيا لدار أزياء عالمية وخلف الزجاج اللامع كان هناك فستان شد أنفاسها
يا إلهي... تصميمات إيمي تشبه القصائد! أنيقة بلا تصنع ملفتة دون صخب. كم أحب أن أرتدي فستانا كهذا للأسف لم نقم زفافا.
اقترب أحمد ثم قال بنبرة فيها دفء الكون كله
من قال إن الفستان يجب أن يرتدى في زفاف سأهديك فستانا يشبهك... فريدا خالدا لا يليق بغيرك.
بعد أسابيع وجدت سارة مسودة رسم على مكتبه أوراق مبعثرة كأنها أوراق خريف لكنها لم
تكن كذلك كانت بذورا لحلم حاكه من أجلها. خطوط بقلم رصاص بعضها حاد وبعضها مهتز لكنها كانت تنطق بشيء واحد
أنا أفكر بك حتى وأنت نائمة.
هل... هذا لي همست.
ظهر أحمد من العدم كأنه خرج من ضوء ناعم. وقال بنبرة تتسلل إلى القلب بلا استئذان
مثل هذا وأكثر... ناقشت المصمم. سيستغرق بعض الوقت لتوفير الأجود من الخامات وسيصنع يدويا إلى آخر غرزة.
قالت وهي تبتسم وفي صوتها نذر ولاء
حتى لو استغرق ثلاثين عاما سأنتظره. فلنسمه نجمة أملنا.
ضحك بخفة كأنه يأمن الغد ثم همس
كل شيء لك... وكل شيء بك.
ابتسمت بحب وتمتمت والفرحة لا تكاد تسعها
سأرتديه لأجلك فقط.
كان ذلك وعدا مزينا بالماس محفورا بين قلبين. ووحدها تتذكره الآن وكل ما عليها فعله لتسترجعه أن تغمض عينيها رأت ضوء ابتسامته وشعاع عينيه. ودفء الوعد لكنها لم تعد تنتظر الفستان.
لم يعد الفستان يعني لها شيئا سوى أنه صار لغيرها... لامرأة أخرى. تضع إصبعها مكان خاتمها القديم وتعيش حلمها المؤجل على منصة لم تدع إليها الآن...
صار حلمها لغيرها.
استجمعت سارة شتات ذاتها قبل
أن تخطو إلى عتبة البيت خلفها كانت ذكرى يوم طويل تدوي في صدرها كندبة لا تزال تنزف لكنها آثرت أن تطويها مع تنهيدة.
أما إيفرلي فقد سبقتها بخطوة في مواجهة الألم إذ جمعت حاجياتها البسيطة وانتقلت إلى منزلهما الجديد أمس وكأنها تعلن انسلاخا من ماض كان يؤلمهما معا.
حين عادت سارة كانت رائحة الطعام تتسلل من تحت باب المطبخ تحمل في طياتها سكينة ما دخلت لتجد إيف تدندن بلحن هادئ تلوح بالملعقة في الهواء كعصا ساحر يعيد تشكيل الفوضى إلى نظام وهي تحضر الطعام بشغف يشبه صبر العاشقات ربما كانت السنوات التي قضتها تطارد الفواتير وتراكم الخيبات قد علمتها أن الطهو أحيانا يكون شكلا من أشكال البقاء... أو العزاء.
كانت تقلب المرق في القدر تضيف المكونات بحذر وتحركها بحب. وهي تقول بحب خالص
طعمه شهي حتما ستحبه عزيزتي سارة.
عم العطر المكان ولامس شيئا ناعما وعميقا في قلب سارة... شيء يشبه النجاة
استنشقت سارة الرائحة ببطء ثم همست لإيفرلي بصوت ممتن كرجع صدى لذكريات ناعمة
أحب كل ما تطبخينه دائما.
..
رفعت إيف رأسها ترمقها بعينين فيهما دفء السنين مجيبة
لقد عدت! كيف حال والدك
أجابت سارة وهي تخفض نظرها
كما هو... لا جديد.
هزت إيف كتفيها بدعابة خفيفة
لا تقلقي سيتعافى قريبا. على كل حال لقد كنت سخية اليوم وتبرعت بكل هذا المال... كم أنت نبيلة يا للأسف! لو كنت مكانك لربما اشتريت به جزيرة صغيرة وهربت من هذا الكوكب البائس.
ضحكت سارة ضحكة خفيفة لكن صادقة وقالت بنبرة هادئة
يكفي أن نظل أحياء لننفقه المال لا قيمة له إن لم ينقذ أحدهم من غرقه. إن لم نضيئ به طريقا لغيرنا فما نفعه
ردت إيف وهي ترفع حاجبا
تماما. ثم إن هذا المال أتى من شخص لا يستحق الاحترام اصرفيه كما تشائين قبل أن تسرقه تلك الخبيثة.
ثم رمقتها بعينين اشتعل فيهما حقد خفيف
لن أنسى أبدا كيف رماني من أعلى التل. وحتى الآن لا يمر أسبوع دون أن أراه في كوابيسي وأنا أركله بكل ما أوتيت من قوة.
قهقهت سارة في ضوء المطبخ الخافت بينما ظهرت الكاميرا فجأة بين يدي إيفرلي وكأنها ساحرة تخرج أدواتها من العدم.
تجمدي! أمرت
وابتسمت بمكر مضيفة. هذه هي الابتسامة التي أريد أن أحتفظ بها.
غطت سارة وجهها براحة يديها وقالت بخجل رقيق
تعلمين أنني لا أحب الصور.
لكن إيف اقتربت وهمست بصوت حمل ارتعاشة مريبة
علينا أن نوثق هذه اللحظات... لو حدث شيء لك لا قدر الله أريد ما أتذكرك به حين يخذلني الزمن وأصبح وحيدة.
ساد صمت خفيف كنسمة باردة مرت بين أرواحهن ثم مدت سارة يدها وسحبت الكاميرا منها بهدوء ورسمت على ثغرها ابتسامة ملؤها الحنو والحزن
إذن التقطي لي صورا كثيرة لكن لا تنسي أن تضعي بعض الفلاتر الجميلة فحتى النساء الحزينات يحتجن لبعض الجمال كي لا يراهن الحنين خاملات في ذاكرة من أحبهن.
ثم أضافت وهمست كأنها تعاهد زمنا آخر
سأبتسم كثيرا لأجلك فقط... كي لا تشعري بالوحدة في المستقبل وأنت تنظرين إلي عبر هذه الصور.


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1