رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثالث والتسعون
توقف برنت للحظة وقد تلعثم صوته حينما حاول مناداتها بالسيدة ميلر…..
ثم صحّح عبارته بحذر:
"الآنسة سارة... هل تأذنين لي بمرافقتكِ إلى الداخل؟"
هزّت سارة رأسها بالرفض وعينيها تبتعدان عن عينيه:
"لا حاجة لذلك… إنني بانتظار صديقة... ها هي قد وصلت."
كان في الجهة المقابلة من الشارع شبح امرأة يتهادى بخيلاء ترتدي معطفًا أحمرَ من الفرو فاقعًا كصرخة في وجه السكون تحته جوارب رقيقة لا تكاد ترى وكعب عالٍ يضرب الأرض بنغمة تعالٍ وارتباك... مشيتها أقرب لنعامة تهرول فوق الجمر مزيج من طرافةٍ وحرج من محاولةٍ للثبات في عالم يهتز من تحتها.
أدركت سارة في تلك اللحظة أنها لا تودّ أن تُقرّ بأنها تعرف هذه المرأة… لم يخطر ببالها أن تأخّر إيفرلي كان لأنّها غيّرت ملابسها في المقعد الخلفي لسيارتها.
دخلت تلك القادمة بثقة عمياء، تلفّها رائحة عطر نفّاذ، وحجابٌ من الغرور تُزينه نظارة شمسية ضخمة تخفي نصف وجهها.
أدارت سارة ظهرها لذلك المشهد الذي أثار فيها خليطًا من الحرج والخجل، وتقدّمت بخطًى سريعة نحو المدخل، هامسةً:
"عذرًا لقد أخطأت… سأدخل وحدي."
لكن صوتًا مألوفًا أوقفها:
"سارة! لا تذهبي وحدك انتظريني!"
توقفت إيفرلي أمام برنت ومن ثم انتزعت نظارتها ببطء وبتحدٍّ سألته:
"هل قلتَ لها شيئًا؟ أكنتَ السبب في إغضابها مجددًا؟
"
برنت الذي لم يكن ممّن يتدخلون في اختيار النساء لأزيائهن وجد نفسه ولأول مرة عاجزًا عن تجاهل ما رأى.
نظر إليها طويلًا وقال بسخرية لا تخفى:
"هل تظنين أنكِ على وشك الدخول إلى ملهى ليلي؟ هل تنوين الرقص هنا الليلة؟"
اشتعل الغضب في وجهها وقد كانت مستاءةً من أحمد من قبل فجاءت رؤيتها لتابعه هذا فزادت النار اشتعالًا… وإذا بها تقتربت من برنت وهمست ببرود:
"حين تموت... سأرقص على قبرك بهذا الفستان."
ردّ بهدوء لا يخلو من الاستخفاف:
"تفضّلي بالدخول إذًا."
لكنها أخرجت بطاقة دعوة من حقيبتها الصغيرة ولوّحت بها كما لو أنها تصريح عبور إلى عالم النخبة:
"لا حاجة لمرافقتك لديّ دعوة خاصة بي."
في تلك اللحظة كانت سارة قد بلغت الطابق الثاني بالفعل.
بدا المكان كقصيدة من الزمن القديم حيث امتزجت رائحة الغبار العتيق بعبق الذكرى وتراقصت أضواء الثريات على الجدران المزخرفة مثل أحلام تتكسر على مرايا القلب.
هُناك داخل هذا المبنى عادت بها الذاكرة إلى والدها… شردت في أيامها الخوالي إذ كان أبيها يحب هذا المكان… لم يكن مهتمًّا كثيرًا بالحفلات أو المظاهر لكنّ شيئًا ما في رائحة التحف، في ملمس العصور الغابرة يُغريه، يشبهه… كانت تُرافقه أحيانًا تنظر إليه وهو يتأمل التماثيل ويتحدث عن النحت بشغف.
تذكرت حينما كانت عائلتها لا تزال غنيّة،
ومنزلهم الذي بدا كمزيج من الحضارات أشبه بمتحف صغير يضجّ بالحكايات… قطعٌ من القرون الوسطى، تماثيل عصر النهضة، ورسوماتٌ تعبق بالحياة وأسرارٌ لا تُفصح عنها إلا أنامل الفن.
وفجأة وبينما كانت تمرّ عبر أحد الممرات الباروكية المزينة بأقواسٍ مزخرفة وأعمدةٍ مثل أذرع الآلهة رأت تمثالًا صغيرًا في خزانة زجاجية بدا مألوفًا كوجهِ حلمٍ قديم. تمثال من الخشب وهناك نقشٌ صغير يزيّن ذراعه كندبة قديمة… كان هو ذاته التمثال الذي ظنّت في صغرها أنه مصنوع من الشوكولاتة فعضّته وصرخت ظنًّا أن أسنانها ستسقط من شدّة الصلابة… آنذاك كانت في السادسة من عمرها أما الآن فتأملت الندبة كأنها أثر طفلة على خاصرة الزمن.
ارتعشت دمعة في زاوية عينها لم تسقط، بل تأرجحت، تتأمل وحدها المسافة بين الذاكرة والحقيقة. ظلت واقفة هناك كأن الأرض تثبّتت تحت قدميها كل شيء من حولها يمضي إلا هي.
وأخيرًا تنبّهت كمن استيقظت من غيبوبة دهشة فابتعدت عن الخزانة بخطًى بطيئة تتمتم في سرّها:
"أنا هنا لشيء آخر... تذكّري، يا سارة... تذكّري."
وبينما كانت تُشيح بنظرها عن زُخرف المكان وصخبه تلاقت عيناها بعينيه…
كان واقفًا هناك، قبالة المسرح، كأنّه خرج للتو من قصيدةٍ لم تُكتب بعد. معطفه الصوفيّ الأسود ، وشعره المصقول يتهادى برفقٍ كهمسٍ لا يُقال.
لم يرمقها بنظرةٍ عابرة،
بل تسللت عيناه إلى داخلها كما تتسلل الذكرى إلى صدرٍ ما زال يرتعش كلّما مرّ اسمها في الخفاء.
تجمّد الزمن لحظة، تلك اللحظة التي اتسعت فيها عينا سارة كنافذتين على بيتٍ كانت قد أقفلته منذ دهور. لكنه، وبهدوءٍ غريب، أزاح بنظره عنها… كأنّ شيئًا لم يكن.
مرت بجانبه بخطى ثابتة، تُخفي زلزالًا يعصف بداخلها، وهمست بكلمة مقتضبة:
عذرًا...
كأنها تمرّ بجانب رجلٍ غريب لم تذُق روحه من قبل، ولم تعرف يومًا عطر أنفاسه ولا رعشة يده حين كان يلامس قلبها عن غير قصد.
أكملت سيرها، تُخفي في عينيها خنجرًا، وفي قلبها مقبرة.
وبعد برهة، تقدمت نحوه مارينا، يكسو وجهها قناع من البهجة المصطنعة، كأنها تحاول احتلال لحظة لا تنتمي إليها.
اقتربت منه وهمست، والابتسامة لا تفارق وجهها:
أحمد... ما الذي أتى بك إلى هنا؟
لكن كاليستا لم تمهله الإجابة، وتقدمت كمن تظن أن لها الحق في توجيه المشهد، قائلةً بنبرة لا تخلو من الادّعاء:
بالطبع، حضر من أجلكِ... ومن غيرك؟ أنتما لا تفترقان أبدًا، إنكما تحبّان بعضكما حدّ الذوبان، حدّ أنكما... تذوبان في بعضكما كقطعتين من الثلج داخل كأسٍ واحد."