رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والتسعون
لم يكن المأدُب قد بدأ بعد...
فالحاضرون يتنقلون كأطيافٍ بين الأركان، يتفرّسون في تفاصيل العروض والديكورات كأنّهم يتلمّسون ملامح حلمٍ باهتٍ لا يريد أن يُولد.
غير أنّ ما فعَلَته كاليستا قبل قليل، حين استدعت سارة بتلك الطريقة المُهينة، جذب الأنظار كما تجذب النار فراشاتٍ تحترق دون أن تدرك.
انكمشت قسمات وجه أحمد، وارتسمت على ملامحه غمامةٌ من الضيق لا تخطئها عين.
لاحظت مارينا ذلك، فسارعت إلى الإمساك بذراعه، وكأنها تخشى أن يفرّ من بين أصابعها وهمست له بنبرة تختبئ خلفها نية التبرير:
"سارة وكاليستا... زميلتان قديمتان… بينهما خلافات تعود لسنوات الجامعة. لا يُستحسن أن تتدخل في نزاع لا يخصك، خاصةً في مناسبة كهذه."
لم يُجبها. فقط أبعد ذراعه عنها في صمتٍ حادّ، كأنّ لمسها صار ثقيلاً على جلده، ثم رفع يده إلى ربطة عنقه، وعدّلها ببطء كما لو كان يحاول ضبط فوضى داخله.
تجمدت مارينا في مكانها. لم تجرؤ على المتابعة أو حتى التقرّب منه.
فقط تمتمت، بصوتٍ بارد كأرضٍ لا تعرف الزرع:
"ثمّ... لا تنسَ، أنت وسارة قد انفصلتما. الناس تراقبك، وأيّ حركة نحوها ستُقرأ ألف مرة. زواجنا قريب، والمستشفى تغرق في الاستعدادات، وأي شائعة الآن ستُطيح بكل شيء. بأسهم المجموعة، باسمك... بي أنا. من المنطقي أن تبتعد."
حينها فقط التفت إليها، لكن عينيه كانتا خاويتين، كأنّه نظر إلى الماضي وتقيأه.
قال بصوتٍ خافت، كمن يُلقي كذبة في بئرٍ لا قاع له:
"ومن قال لكِ إنني سأساعدها؟"
ثم أدار ظهره ومضى دون أن ينتظر ردّها، كأنّ خطواته تُكمل ما لم يستطع قوله.
أما كاليستا فلم
تكن لتفوت فرصةً لتصنع منها دراما فاقتربت وهي تشير إلى سارة بنبرة تقطر سُمًّا مغلّفًا بالحرير:
"ألا ترون؟ لقد تسللت هذه اللصة إلى الحفل دون دعوة... أرجو من الجميع تفقد أغراضه، قبل أن نكتشف أنّنا استضفنا كارثة متنكرة في هيئة امرأة."
**تكدَّس الهواء بثقل الترقّب، فيما لم تكن المأدبة قد بدأت بعد. كان الحاضرون يتنقّلون كالفراشات حول وهج العروض، تلتقط أبصارهم الأضواء وتُثير فضولهم الزخارف.**
لكن الضجّة شقّت سكينة المكان…
ونظرات الزوار انحرفت صوب مركز الحدث، حيث وقفت **كاليستا** وقد انعقد حاجباها كبُركتين تعكّرتا فجأة، ثمّ صاحت باستهزاء لاذع:
ــ "من هذه؟ وكيف تجرؤ على اقتحام حفلٍ لم تُدعَ إليه؟"
امتدت يدها تشير إلى **سارة**، وكأنّها تُشهِر سيفًا في وجه البراءة.
لحظتها، بدا أنّ الأرض تميد من تحت سارة، لكنها تماسكت. لم تهرب، ولم تنكسر. وقفت وسط العاصفة، بثبات شجرةٍ ضاربةٍ بجذورها في عمق الأرض.
وفجأة…
خرج صوتٌ ذكوريٌّ متوتر، مدججٌ بالسلطة ومُحمَّلٌ بالغرور:
ــ "أين المسؤول؟ هل تقومون بعملكم أصلًا؟ لم ندعُ لصوصًا!"
إنه **شون كروسبي**، ابن صاحب الحفل، الذي ظهر كنيزكٍ غاضب من بين الحشود.
اقترب منها دون أن يعرفها، رمقها بنظرةٍ خاطفة، ثم قال ببرود:
ــ "آنسة، رجاءً غادري المكان."
ابتسمت **سارة** ابتسامةً خافتة، كانت أقرب لتهكّمٍ صامت منه لسخرية… وقالت:
ــ "ولماذا يجب أن أغادر؟"
ارتبك، ثم أجاب بنبرةٍ ممزوجة بالاحتقار:
ــ "كل مقعد هنا يُمنح حسب قدر التبرع… ولا يبدو أن لكِ مكانًا بيننا."
وقبل أن يُكمل،
قفزت كاليستا تُكمّل الهجوم، كحيةٍ وجدت فريسةً تنهش فيها:
ــ "لا تضيّع وقتك، إنها قاسية القلب! من يدري إن كانت قد اغتسلت أصلاً قبل المجيء! انظر إلى ملبسها! وجودها وصمة وسط هذا الحفل الراقي."
كلماتها، وإن لم تتحوّل إلى صفعات، كانت كالسياط على جلد سارة، لكن الأخيرة لم ترمش حتى…
نظرت إليهم بعينين خاليتين من الانكسار، وقالت بهدوءٍ يخفي إعصارًا:
ــ "لقد تبرّعت… بالفعل."
دوّى صوتها في القاعة كرصاصةٍ تُصيب كبرياءهم في مقتل.
ضحكت كاليستا باستهزاء خالص:
ــ "أنتِ؟ تبرّعتِ؟ كم؟ خمسة دولارات؟ ثلاثة؟ هيا، فاجئينا…"
ارتعش قلب سارة للحظة، لكن لم يكن هناك مفرّ من الرد. كانوا قد حاصروها بالكلمات، وحشروا كرامتها في زاويةٍ ضيقة.
فقالت دون تردد، وصوتها يلامس جدران القاعة بثقةٍ هادئة:
ــ "خمسة ملايين دولار."
ساد الصمت.
انكمشت ضحكات الاستهزاء فجأة.
التفت **أحمد** نحوها، وجبينه يقطّب كمن سمع شيئًا يعجز العقل عن تصديقه. هو يعلم أنّها ليست من هواة الكذب… وهي تعلم أنّه كان قد منحها عشرة ملايين… فكيف تجرّأت أن تنفق نصفها هكذا؟
كاليستا، بعجزٍ عن استيعاب الأمر، قالت بتهكم:
ــ "خمسة ملايين؟ أكاد أراكِ كـ"بينوكيو"! أنفكِ سيخترق السقف قريبًا من فرط الكذب!"
أما **مارينا**، فلم تترك الهجوم يفتر:
ــ "كوني صادقة يا سارة… نحن نعلم أن الحقيقة ستظهر. وأنتِ لا تملكين حتى دعوة دخول! كفى ادّعاء!"
وهنا… انشقت القاعة على مفاجأة.
دخل **مايكل كروسبي** و**إيفرلي** من اتجاهين متقابلين كأنّ القدر استدعاهما ليُنقذا المشهد.
قالا معًا، كجوقةٍ مُنقذة:
ــ
"من قال إنها لم تُدعَ؟ من قال إنها لم تتبرّع؟"
صمت الجميع كمن أُسقط في أيديهم.
تقدّم **مايكل** نحو **أحمد** أولًا، مصافحًا إيّاه بحرارةٍ رسمية:
ــ "لم أرك منذ زمن يا سيد ميلر. كنت واثقًا من مجيئك، وطلبت أن يُرتّب لك مقعد خاص."
أومأ أحمد برأسه، وردّ بجفاءٍ خفيف:
ــ "شكرًا."
لكن مايكل لم يتوقف. أسرع نحو **سارة**، ووجهه يفيض ودًّا واحترامًا نادرين:
ــ "سيدة سارة، أعتذر لتأخّرنا في استقبالكِ."
ارتبك **شون**، الذي لا يزال غير مستوعب، فاندفع نحو والده يسألهم همسًا:
ــ "أبي، هل حقًا تبرّعت بخمسة ملايين؟"
رمقه والده بنظرةٍ كالسوط:
ــ "السيدة سارة تملك قلبًا من ذهب… على عكسك تمامًا!"
ثم عاد إلى سارة بنبرةٍ لطيفة:
ــ "لقد طلبتُ تجهيز مقعد خاص لكِ، تفضّلي من هنا."
تجمّد الحاضرون في أماكنهم.
بعضهم شهق، والبعض بلع ريقه، والآخر نظر إلى ملابس سارة مجددًا وكأنه يرى للمرة الأولى.
**أما كاليستا ومارينا، فقد تلقّت كلٌّ منهما صفعة معنوية جعلت جباههن تحمرّ بالصمت.**
وقفت **إيفرلي** بجانب سارة، ثم التفتت صوب مارينا وقالت ببرودٍ ساخر:
ــ "آنسة مارينا، أليست هذه مهزلة؟ ستصبحين السيدة أحمد، ومع ذلك تجلسين خلف سارة؟ من سمح لكِ بإحداث جلبة أمامها؟"
هتفت مارينا غاضبة، تتلاعب بالفواصل بين كلماتها كأنها تطعن بها:
ــ "إيـفـرلي… لا تـكـوني… سخيفة."
رفعت إيفرلي حاجبها بابتسامة باردة كخنجر:
ــ "ثقي بي، عندما تموتين، سأفعل شيئًا أكثر سخافة أمام قبرك."
ثم، وعلى غير توقّع، التفتت إلى مايكل وقالت:
ــ "سيدي، أنا صديقة
مقرّبة للسيدة سارة. أرجو أن تُجهّز لي مقعدًا بجانبها."