رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخامس والتسعون 95 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الخامس والتسعون


ما إن استقرت إيفرلي في مقعدها، حتى خمدت الأضواء تدريجيًا، وكأن أحدهم أمر الليل أن يحطّ بثقله على القاعة. كل شيء حولها تضاءل، حتى الأصوات، حتى التنفس، حتى الحقيقة نفسها بدت كأنها تنكمش في زاوية مظلمة من العقل.

من بين تلك الظلال، جاءت همسة مارينا، كحدّ سكين يمرّ على جلد الروح:

"لا تخاطري بحظكِ، إيفرلي."

لكن إيفرلي لم ترفّ لها عين، وكأنها تعرف جيدًا كيف تُصنع المعارك في العتمة. التفتت نحوها ببطء، والشرر يتراقص في عينيها:

"أراهن على حظي؟ يا مارينا... لم أكشف أوراقكِ بعد. لم أفضحكِ كهادمة بيوت، رغم أن كل الأدلة ترقص في يدي كأفعى على إيقاع الحقيقة."

رغم خفوت الضوء، استطاعت أن ترى مارينا... 
وجهها شاحب، كأن الدم قد فرّ من مسامه، وتركها كتمثال من رخام مذعور. منظرها ذاك منح إيفرلي ابتسامة عريضة، ابتسامة المنتصر قبل أن ينطق بالحكم.

تمتمت، ونبرتها تنبض بالثقة:

"أعجبني عجزكِ أمامي رغم أنكِ لا تطيقين وجودي… انتبهي لديّ من الأدلة ما يكفي لهدم القصور التي شيّدتها بالكذب. وإن تجرأتِ على استفزازي أنا أو سارة مرة أخرى، سأفتح الباب على مصراعيه، ليرى العالم مارينا الحقيقية. لو كنتُ مكانكِ، لتوقفتُ هنا... عند هذه الحافة... قبل أن تنزلقين نحو هوّة لن ينقذكِ منها أحد. لا تتكلمي من منبر الغطرسة مرة أخرى، وأنتِ لستِ سوى ثعلب مكسور الذيل، يختبئ بين الأعشاب."

ثم ثبتت عينيها في مارينا، كأنها تخترق طبقات الصمت والصورة والزيف. وكانت مارينا صامتة، كأن الكلمات

خذلتها، أو كأن الخوف كمّمها قبل أن تنطق.
في الجهة الأخرى من القاعة، كان هناك صمتٌ من نوع آخر، أكثر قسوةً، أكثر غرابة.

سارة لم تكن تظن أن الزمن سيختار هذا المساء، بهذه القسوة، ليقذف بها مجددًا في عيني أحمد. لم يكن بينهما حديث، لم يتبادلا حتى نظرة صريحة، كأنهما غريبان تقاطعت طريقاهما في لحظة صماء.

جلسا كتمثالين من حجر، بلا أي تفاعل. كأن الماضي قد كبّلهما بقيود غير مرئية، تمنعهما من الكلام... من الالتفات... من أن يرف لهما قلب. العروض تتصاعد، الأرقام تُعلن، والمزاد يتقدّم... لكن كلاهما كان خارج اللحظة، خارج العالم، خارج أنفسهما.

كانت المسافة بينهما قريبة كأنفاس، وبعيدة كعمرٍ كامل ضاع.

مع اقتراب المزاد من إسدال ستاره الأخير، صعد "شون" إلى المنصة بخطى هادئة واثقة، وكأنما يتهيأ لإلقاء تعويذةٍ قد تغير مصير أحدهم للأبد عن غير عمد.

اعتدل واقفًا، تطلّع إلى الحضور بعيني من يعرف قيمة اللحظة، ثم أعلن بصوتٍ رخيم فيه وقار:

"العقار التالي... حديقة عتيقة يناهز عمرها المئة عام، تحمل بين جدرانها أنفاس مَن سكنوها، وخطى مَن مروا بها ذات حلمٍ."

على الشاشة، ظهرت صورة لحديقة كلاسيكية؛ بهوٌ مترامي الأطراف يحتضن أشجارًا تشيخ ببطء، وكأن الزمان يحنو عليها.

ذاك هو منزل "سارة"، بُني بأيدي أسلافها، حجارة فوق حجارة، تاريخٌ يعانق الذاكرة. أُعيد ترميمه لاحقًا، لكن بحذر، وكأن من جدّده كان يربّت على أطرافه خشية أن يوقظ الأرواح النائمة في زواياه، فأضفى عليه لمسة عصرية دون أن يبدّد

عبق الماضي فيه.
يقع في قلب المدينة النابض، في تلك البقعة التي لا تنام، حيث تختلط الأصوات بالحكايا، وتتماوج الأرواح بين الجدران. عقارٌ لا يقدّر بثمن، لا لسعره فقط، بل لما يختزنه من حياةٍ مضت.

تعلّقت عينا "سارة" بالشاشة، تحدّق في ذلك الفناء المألوف... حيث تلك الشجرة التي كادت أزهارها تتفتح، كما لو أنها كانت على وشك الكلام. هناك، في عمق التراب تحتها، يرقد وعدٌ قديم: زجاجة مشروب نادرة دفنها "جيف" ذات يوم، وقال وهو يبتسم: *"سأخرجها حين تهدينني طفلاً... سيكون نخب الحياة القادمة."*
لكنه لم يصبر... والطفل لم يأتِ... والوداع جاء أولاً.

"سنبدأ المزايدة من مليار دولار،" قال شون، "لا تترددوا في رفع العرض إن رغبتم. موقع كهذا لا يُعوّض."

رفعت "سارة" مجدافها، وفي اللحظة ذاتها، ارتفع مجداف "أحمد".

"ملياران." قالاها معًا، فالتفتت نحوه كمن رآه لأول مرة.

نظرت إليه نظرة مشحونة بالحيرة والخذلان... ما الذي يعنيه له هذا المنزل؟
ألم يكن يعلم أنه وطنها؟ ميراث قلبها؟ حائط ذاكرتها؟

لكن هاتفه ارتجف بين يديه، وظهرت رسالة سريعة من "مارينا":
**"أحمد، أريد منزل سارة."**

ارتجف شيءٌ في قلب "سارة" لا تراه العين. كانت قد جمعت خمسة مليارات، مبلغًا ظنّت أنه كافٍ لتستعيد به طفولتها، ذكرياتها، وحقيقتها.
منزلها هذا كان جوهرة نادرة في سوقٍ مزدحم بالطمع، وقدّر الخبراء قيمته بين 2.5 و3 مليارات.

"اثنان فاصلة واحد مليار." قالتها سارة بإصرارٍ كالسيف، ورفعت مجدافها مجددًا، وكأنها ترفع

سلاحًا لا يُهزم.
تبادل الحضور النظرات... ومع كل جولة، كان أحمد يواصل، بإصرار غامض، وكأنه لم يأتِ ليفوز، بل ليفرض الهزيمة.
"ثلاثة مليارات." قالها بصوتٍ ثابت، عينيه لا ترمش، وكأنه يخبرها أن تتوقف، أن تستسلم، أن تُفلت يدها من الحلم.

كان يعرف حدودها... يعلم أنها لم تعد تمتلك سوى خمسة مليارات، بعد أن تبرعت بنصف مالها ذات مرة بدافع نقي، لا يعرفه هو ولا من معه.
خمس مليارات كانت بالنسبة لها خط الحياة، أما بالنسبة له... فكانت مجرد تفصيل ممل.

صرّت على أسنانها، شدّت قبضة المجداف كمن يتمسك بباب لا يريد أن يُغلق، ثم قالت:

"ثلاثة فاصلة خمسة مليار."

نظرت إليه نظرة تحمل كل الألم، وكأنها تقول له دون صوت: *"لن أتنازل، ولو بقي معي أنفاسي الأخيرة."*

لكنه رفع مضربه مجددًا، وصوته لا يرحم: "أربعة مليارات."

في المقاعد الخلفية، كانت "إيفرلي" قد انتهت تواً من شجار مرير مع "مارينا"، لكن المزاج الذي سكنها الآن لم يكن سوى غضبٍ متوهّج.
همست لنفسها:
*"هو يعرف تمامًا ما يعنيه هذا المنزل لها... فلماذا يفعل ذلك؟"*

ابتسمت مارينا ابتسامة مائلة، وقالت وكأنها تُشعل فتيلًا:
"ما رأيكِ بما ستفعله سارة إذا وصلنا إلى خمسة مليارات؟"

في تلك اللحظة، رأت "إيفرلي" الصورة كاملة، بوضوح مؤلم.

"أنتِ... أنتِ من تريدين المنزل، أليس كذلك؟ ليس أحمد."

أجابت مارينا وهي تبتسم كمن قبضت على فوزٍ شخصي:
"أحمد يمنحني دومًا ما أريد."

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1