رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السادس والتسعون
كانت أنفاس إيفرلي تتقطع كأنها تتجرع الرماد وأسنانها تطحن الغيظ في صمت متقد. لم تستوعب بعد كيف يمكن للشر أن يتجسد في هيئة بشرية بهذا القدر من الخبث... شخص يثير الغثيان بابتسامة لزجة ونظرات كأنها تحقنك بسم غير مرئي.
خفضت صوتها وكأن الكلمات ثقيلة على لسانها لكنها لم تملك إلا أن تلقي بها
لقد سلبت منها رجلها... أما يكفيك أنك أصبحت السيدة ميلر أما شبعت
رمقتها مارينا بنظرة كحد شفرة ثم ابتسمت ابتسامة مشوهة.
أنا سرقته يا للسخرية... لولا تلك المخلوقة لكنا أنا وأحمد الآن نرتدي خواتم العهد منذ زمن. سارة هي اللصة لا أنا...
قهقهت إيفرلي لكنها كانت ضحكات ممزوجة بالمرارة والدهشة. ومن ثم اتسعت عيناها وكأنها ترى أمامها عرضا مسرحيا عبثيا.
يا آنسة كارلتون... بوقاحتك هذه أظن أن بإمكانك تحطيم رقم قياسي والدخول إلى موسوعة جينيس من أوسع أبوابها. أقسم أن لا أحد سيجرؤ على مجاراتك لقرون. ظننت نفسي سيئة بما يكفي... لكنك جعلتني أبدو ملاكا متقاعدا مقارنة بك. لقد حلقت بسقف النذالة إلى مستوى لم تصل إليه الطائرات.
رفعت مارينا ذراعيها وعقدتهما عند صدرها كتاج من الجليد يزين عرشها البارد وقالت بنبرة تحمل في طياتها التهديد
إيفرلي... لو كنت مكانك لبدأت بمخاطبة نفسي بأدب.
لكن إيفرلي لم ترد التراجع بل أشعلت وقود التحدي بعينيها وابتسامة ساخرة
كالرماد المشتعل
أوه... يبدو أن أحدهم بدأ يغلي!
لم تزل مارينا تحاول التماسك وجهها جليدي كأنها تعلم أن انهيار رباطة الجأش في هذا المكان بالذات سيكون هزيمة لا شفاء منها.
أنا لست غاضبة.
زجرتها إيفرلي
بل أنت غاضبة... فقط تتقنين الكذب كما تتقنين الخداع والتمثيل. لكن لا تقلقي... الوجوه المقنعة تنهار حين تسقط الأضواء.
في الطرف الآخر من القاعة كانت سارة تغلي كأن بداخلها مرجلا فوق نار مستعرة. كل شيء فيها كان يصرخ... الصمت النظرات حتى أنفاسها المتقطعة كانت تفضح البركان المتأهب تحت جلدها.
كانت قد رفعت العرض إلى خمسة مليارات دولار رقما يقطر بالعناد والرجاء معا.
أحمد يعرف حدوده جيدا... كان بإمكانه أن يربح ببساطة فقط لو أضاف عشرة ملايين أخرى. لكنه ظل ساكنا كصخرة تنظر إلى النهر ولا تقفز فيه.
صوت شون بائع المزاد قطع الهواء بسكين من توقع
هل هناك من يزيد
خمسة مليارات دولار... مرة أولى.
وفي تلك اللحظة اهتز هاتف أحمد كأن القدر نفسه قرر التدخل.
خمسة مليارات... للمرة الثانية.
كان قلب إيفرلي يتخبط في قفصه وكأنه يريد الهرب من صدرها. لم يعد الأمر مزادا على منزل... بل أصبح ساحة معركة تتقاتل فيها سارة ومارينا لا على جدران وأسقف بل على رجل يملك مفاتيح الماضي والمستقبل.
اهتز هاتف أحمد مرة أخرى.
وقبل أن ينطق شون الكلمة الأخيرة... انسل صوت أحمد
أخيرا هادئا كالسم
خمسة مليارات وواحد من عشرة.
لحظات سكنت فيها الأرض... ثم اهتزت كل خلية في جسد سارة. شعرت بأن الأرض تميد بها. إنها النهاية. الهزيمة لم تكن فقط مادية... بل كانت روحية موجعة تشبه خسارة الإيمان فقد اعتقدت أنه ترك لها القصر لأجل يوم يذكره بينهما ولكنه أعطاها أمل كاذب وفجأة سلبه بواحد من عشرة كأنما يقول لها أنت لا شيء.
ابتسمت مارينا ابتسامة امرأة تعرف أن الحظ يعشقها وقالت بنبرة نصر مطلية بالخبث
كما قلت... أحمد يعطيني كل ما أريد.
أما إيفرلي فكانت تحدق في مؤخرة رأس أحمد وتمنت لو أن نظراتها تخترق جمجمته وتحرق ما تبقى من خلايا ضميره. كانت تريد أن تخرج قلبه وتعلقه على المسرح كتحفة خالية من الشعور.
أما سارة في الجهة الأخرى عضت على شفتها حد الألم. عيناها تلاحقان مارينا وهي تصعد بخطوات واثقة إلى خشبة المسرح لتشكر أحمد... لا بل لتطعنها أمام الجميع.
ورغم السترة المكسوة بالريش التي تحيط جسد سارة ورغم دفء القاعة... شعرت أن البرد قد اخترق عظامها. لحظة واحدة بهت فيها كل شيء... السقف الأضواء الوجوه... حتى الأمل أصبح رماديا فاضطرت لإغلاق عينيها والتشبث بمسند الذراع كمن يغرق في سفينة تترنح.
شعرت إيفرلي بأن كل خلية في سارة تنطق بالخذلان. كانت على بعد أنفاس من الفوز من استعادة شيء يشبه العدالة... لكن أحمد قرر أن يفسد اللوحة
بكلمة واحدة.
دعينا نذهب تمتمت سارة وهي تنهض بتثاقل كمن يحاول أن ينجو من بين الأنقاض.
أسرعت إيفرلي لتساعدها. كانت تعلم أن أيام سارة معدودة وأن الوقت لا ينتظر ولهذا أرادت أن تحقق لها ما تبقى من أحلامها قبل أن يقفل هذا العالم أبوابه عليها إلى الأبد لكنها كانت تعلم أيضا... لا أحد يستطيع أن يعيد إليها منزلها سوى أحمد ذو القلب الجاحد.
سارة... كانت الكلمة ثقيلة كأنها تحمل كل الحزن في قلب إيفرلي.
رسمت سارة ابتسامة محطمة على شفتيها كقوس قزح يرسم فوق سماء تمطر دما.
أنا بخير. ربما لم يكن قدري أن أفوز به من الأساس...
أحمد
لقد أصبح حب مارينا الجديد. أما هي... فلم تكن سوى نغمة عابرة في أغنيته القديمة لذا لا يتطلب الأمر عبقريا ليدرك من اختاره القلب ومن نبذه ولأن القسوة قد استوطنت عيني أحمد لم يكن مستغربا أن يستغل هذه الفرصة لتصفية حساباته بدم بارد.
رأت إيفرلي ذلك الحزن العميق يطفو في عيني سارة حزنا لا يقال بل ينزف بصمت. لم تعرف كيف تواسيها فالكلمات كل الكلمات بدت تافهة. جل ما استطاعت فعله هو أن تهمس
هيا بنا.
وفي طريق العودة التزمت سارة الصمت. كانت خيبة الأمل تشع من وجهها كجمر مستتر تحت رماد الصبر. أسندت خدها إلى كفها وعيناها تتأملان النافذة كمن يبحث عن ضوء في آخر النفق.
ثم همست دون أن تنظر إلى إيفرلي
إيف...
دعينا نتمشى على الطريق
الساحلي.
أجابت إيفرلي بابتسامة ودودة
بالطبع.