رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السابع والتسعون 97 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السابع والتسعون


كان الطريق الساحلي في الليل أشبه بعقدٍ من النور تناثر على جيد الأرض، أضواءٌ متلألئة ترصّفت على جانبيه، تُشبه درجًا زجاجيًّا يصعد نحو سماء لا تنتهي. بدا كل شيء ساكنًا في ظاهره، لكن داخلهما كان صاخبًا... موجٌ داخلي لا يُرى، يضرب شواطئ القلب بصمتٍ حاد.

فتحت سارة نافذة السيارة، فتسلّل النسيم البحريّ كأنفاس ملاك، يداعب وجهها الذي نحتت عليه الحياة خريطتها. بدا الهواء وكأنه يعرف الطريق إلى داخلها... إلى موطن الوجع.

قالت إيفرلي وهي تلمح بقلق خفيف انعكاس شعر سارة يتراقص في المرآة:
"كوني حذرة، لا أريدك أن تُصابي بنزلة برد."
ردّت سارة بصوتٍ واهن، لكنّه مغموس في سكينة مفاجئة:
"إنها لحظة واحدة فقط... لحظة أحتاج أن أتنفّس فيها الحياة، أو ما تبقى منها."
أسندت ذراعيها على حافة النافذة، وأسندت رأسها عليهما، ثم أغمضت عينيها كمن يهمس في أذن الريح: *"خذيني معك حيث لا يسكنني أحد."*

وصمتت لبرهةٍ، حتى نطقت فجأة بنبرةٍ بدت كقرارٍ لا رجعة فيه:
"لقد قررت... بعد موتي، أريد أن يُنثر رمادي في البحر."

شهقت إيفرلي، وضغطت على الفرامل بقوة حتى انزلقت السيارة نحو جانب الطريق، ثم استدارت نحوها مذعورة:
"سارة! لا تُلقي بمثل هذه النكات في منتصف الليل! هذا ليس مضحكًا... على الإطلاق!

"
لكن سارة كانت قد فتحت الباب، وخرجت تُنصت إلى هدير الموج وكأنها تنتظر منه جوابًا...

قالت بنبرة كأنها تقرأ سطورًا من وصيتها:
"كنت أُفكر في استعادة منزلنا القديم... كنت أريد أن يُدفن رمادي تحت الشجرة التي وُلدتُ في ظلّها. تخيّلتُ أن أكون قريبةً من أبي في موته كما كنتُ في حياته، لكن... يبدو أن أحمد قرر أن يُنهي حتى هذا الحلم. لا بأس... سنغدو ترابًا في النهاية. وما الفرق بين شجرةٍ في فناء أو موجٍ في محيط؟"

تقدّمت إيفرلي نحوها واحتضنتها بقوة، تبكي كما تبكي السماء قبل العاصفة:
"لكن كيف لا يهم؟ لو دُفنتِ في ذلك المنزل، كنت سأزورك كل أسبوع، أضع وردةً وأتحدث إليكِ... لكن إذا نُثر رمادك في البحر، سأضطر لسرقة قارب لرؤيتك!"

ضحكت سارة، وكانت ضحكتها أشبه بانفراجة غيمة، وقالت وهي تمسح دمعة من خدّ إيفرلي:
"أنتِ حقًا مهرّجة."
ردّت إيفرلي برجاءٍ يشبه التوسّل:
"سارة، أرجوكِ... ابتسمي. تبدين جميلةً جدًا حين تبتسمين."
أطلقت سارة ابتسامة وادعة، كأنها تعلم أنها الأخيرة في دفتر الزمن، وقالت:
"حسنًا... سأبتسم. بعد كل هذا، تعلمت أن أتقبل. أن الحياة لا تُعطي كثيرًا لمن يطلب بشغف. كلما اشتدّ تعلّقنا بأحد، كلما أصبح بعيدًا أكثر."

ثم صمتت لبرهة، وأردفت كأنها تخلع قلبها وتضعه على الطاولة:
"

أحببتُه بكل ما أملك من حياة... جعلني أشعر بأشياء لم أعلم أنها موجودة داخلي. لكنّه رحل. كما يرحل الضوء عن آخر النهار. لقد انتهى كل شيء... وحان الوقت كي أمضي."
ثم سارت بخطى هادئة على الرصيف، فيما تبعتها إيفرلي كظلّ لا يعرف كيف يحمي صاحبه من الزوال.

فجأة  إيفرلي كما لو كانت لحظةً خائفة من الفرار... ، كأنّ الزمن تجمّد بين نبضتين، وكأنّ الروح أبت أن تفلت من سكونها. لم تكن جسد سارة فحسب، بل كانت تحاول، بيأس، أن تحتوي كل خيباتها وأوجاعها المتراكمة منذ زمنٍ لم يعد يُقاس بالساعات.

وفي تلك اللحظة... ولأوّل مرة، كرهت إيفرلي ذاتها.

كرهت ذلك العجز المزمن المتسلّل في عروقها، ذلك الفقر الغبيّ الذي قزّم أحلامها، وقزّمها معها. كرهت كونها مجرّد نقطة في بحرٍ تتحكم به زمرة الرأسماليين الذين يسرقون الضوء من العيون، والدفءَ من القلوب، بكبسة زرّ فوق مكاتبهم الباردة. تمنّت لو استطاعت أن تشتري لعزيزتها بعض الأمان، بعضًا من الحنان المؤبّد.

وفي قلبها، قطعت وعدًا لم تسمعه إلا دموعها: أن تجمع من المال ما يكفي لتصير قوة لا تُكسر... أن تصعد فوق تلك السلالم الملوّثة التي طالما ازدرتها، فقط لتُطل من القمة وتقول: "لقد فعلتها... لأجلها."

لكن هل ستكون سارة هناك؟ هل تبقى من تحبّها بصدق عندما

تصل؟ أم يكون كل شيء قد صار رمادًا فوق رمال النسيان؟
فيما بعد، وجدن مطعمًا صغيرًا على الشاطئ، تحمله رائحة الفحم والذكريات. جلسن على طاولة خشبية يحيطها ضوء المصابيح المتأرجحة كأنها نجوم مكسورة تسكن السماء السفلى. طلبت سارة طبقًا من الحساء، بينما راحت إيفرلي تلتهم طعامها بنهمٍ غاضب، ثم تمتمت وهي تلوّح بملعقتها كأنها سيف:
"أقسم... لو أتيحت لي فرصة، لشويت أحمد ومارينا فوق هذه الشواية، كرّة بعد كرّة. بل سأتبّلهم بدموعك، ليكتووا بنارك!"

ضحكت سارة، ضحكة واهنة خافتة، كأنها نُزعت من بين الأنقاض. ثم تناولت هاتفها وفتحت محادثة وحيدة كانت تتصدر قائمتها، ثابتة فوق كل الآخرين...
"السيد ميلر."

تأملت صورته الشخصية بصمتٍ ثقيل. لم تتغير. كانت نفس الصورة التي أرغمته ذات يوم على التقاطها. هو بالأسود... وهي بالأبيض. ضدان، لكنّهما تكمّلا، آنذاك.

عندما كبّرت الصورة، لاحَ في الخلفية ظلٌّ لامرأة، يلوّح غير مُعلنة، كطيفٍ لم يكن يومًا بعيدًا بما يكفي كانت مارينا.

وفي المقابل في صورة سارة الشخصية، كان ظله أيضًا هناك، كما لو كانا جزءًا من بعضهما البعض، كما لو أنّ حتى الظلال تآلفت، ثم افترقت...

أخذت نفسًا عميقًا، ثم ضغطت بإصبعٍ مرتجف على زر الحظر.
رحل الرقم... رحلت المحادثة.
رحل كأنه لم

يكن.
وغابت عنه كما يغيب وجهٌ عن مرآة... لا انعكاس، لا أثر، لا شيء.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1