رواية للهوى رأي اخر الفصل التاسع 9 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل التاسع 

أصابعه الطويلة تطرق على المنضدة بحركة رتيبة، وجهه صلب ونظراته حادة متجهة لباب المطعم، منتظر صاحبة المكالمة الهاتفية غير المتوقعة، والتي هاتفته أمس راغبة في مقابلته شخصيًا بعيدًا عن العمل وبالتأكيد المنزل..
اشتدت عيناه قسوة عندما اتجهت إليه وجلست أمامه، مرت سنوات على آخر لقاء بينهما، كان وقتها صغيرًا، يشاهد حربًا بين والدته وصائدة الرجال تلك على والده الذي أُخذ بسحرها، يتذكر ليالي بكاء والدته الطويلة، وحفاظها على البيت ووالده من التشتت، حتى عاد... وخسرت هي.

لم تعد بجمالها في صغرها، لكن هناك لمحة تؤكد أنها كانت تملك جمالًا آخاذًا في صغرها.. ومجهودها لتصبح أصغر واضح من تلك المساحيق التجميلية ولون الشعر المصبوغ والملابس الأنيقة...
قالت كاميليا بابتسامة صغيرة:
_ مر وقت كتير عن آخر مرة شوفتك فيها يا موسى، ماكنتش أتخيل إنك كبرت كده.
تحدث وعيناه بنظراتها المخيفة تربكها وتجاهد كاميليا بالظهور بالثبات:
_ أكيد ما اتصلتيش بيا عشان كده.
تململت قليلًا وابتسمت بخبث:
_ سبحان الله فيك من باباك كتير، حتى طريقته في اختصار الحوار.
احتدت عيناه هاتفا بها بتحذير:
_ بلاش السكة دي معايا.
تنحنحت واضطربت من حدته، فقال متسائلًا بوضوح:
_ عايزة إيه.

اللعنة على ذلك الشبه بينهما، الوجه والشعر، وخصوصًا رسمة العينين، لكن باختلاف النظرات، عينان دهب رغم ما تملكه من الذكاء والدلال وبعض المراوغة إلا أنها ليست بخبث تلك العينين...

ترددت كاميليا قليلًا قبل أن ترفع رأسها وتنظر إليه قائلة بثبات:
_ دهب.
ضيق حاجبيه منتظرًا أن تستكمل حديثها، فأكملت كاميليا ببطء خادع:
_ بترفض كل العرسان اللي بيتقدملها، حتى من غير ما تشوفهم، وجاي لها عريس لقطة مافيش فيه غلطة وأنا مش هاسيبها تطيره من إيديها زي اللي فاتوا.
نظراته ثابتة عليها، وثاقبة، متبلدة وغير مقروءة، ووجهه لم يظهر منه أي ردة فعل تستشف بها مدى تأثره.

وعندما لم تجد أي رد صدر من موسى أكملت بتأني:
_ مش عايز تعرف بترفض العرسان ليه...
ثم عادت بظهرها للخلف وابتسمت متسائلة:
_ إنت ما اتجوزتش لحد دلوقتي ليه يا موسى؟
ارتفع أحد حاجبيه بسخرية قال:
_ اشتغلتي خاطبة على كبر يا كاميليا؟
ابتلعت إهانته دون أن تعترض قائلة:
_ إيه رأيك في دهب؟
اتسعت عيناه قليلًا فأكملت بنظرة ذات مغزى وقح:
_ دهب جميلة، وذكية وتعجب أي راجل، وأكيد إنت...
قاطعها موسى بغضب:
_ أعدلي كلامك يا كاميليا، وهاتي آخرك.
طرقت بيدها على المنضدة ومالت بنصفها العلوي للأمام وأمام عينيه قالت بفحيح:
_ البضاعة الحلوة زباينها كتير، إيه رأيك تكون الشاري؟

وقحة! لم يرَ بوقاحة تلك التي أمامه أبدًا، لو لم تكن فقط امرأة، لاندفع إليها بكل ما يحمله من غضب وكراهية حتى يزهق روحها...
تبيع ابنتها وقد تنازلت عن ابنها الأول من قبل، ألا تملك القليل من تلك المشاعر التي تُسمى الأمومة أو حتى الإنسانية...
عيناها الخبيثتان تنظران إليه بفارغ الصبر منتظرة الحصول على إجابة،
قال موسى وعيناه تنظران إليها بازدراء:
_ مش مكسوفة من نفسك وإنتي بتبيعي بنتك؟
أجابته قائلة:
_ دهب بتحبك، سواء عارف أو عامل نفسك مش عارف، بس بكرة تشكرني على عرضي ده، إنت وهي.
ثم صمتت قليلًا وقالت بعدها بتأني وصوت بارد:
_ إلا لو كنت مش عايز، دي حاجة تانية.

ماذا؟! ستعرضها على رجل آخر، ليكون آخر يوم في حياتها ويقسم على ذلك، رغم رفضه لكل ذلك العبث والرخص، إلا أنه بالتأكيد لن يتركها لعبة بين يدي تلك.
لن يتركها لمصير مظلم مع تلك المختلة، لن يتركها لمجهول لا يعلم مصيرها...

وإذا كان ذلك عرضًا، سيقبل... وما عليه إلا أن يغير فقط المسمى... سيفعل أي شيء.
ثم قال موسى بصوت قاطع متحملًا النتائج والعواقب:
_ دهب مش سلعة... دهب تخصني ومافيش راجل يقدر يقرب منها يا كاميليا.
ضحكت بدلال لم تفقده قائلة:
_ يبقى نقول مبروك.

....... ...... ...

دخلت غرفة أخيها وعلى وجهها مرتسم الغضب والسخط، حتى لكزت أخيها النائم على بطنه بكتفه بعنف ناهرة إياه مروة بصوت مرتفع:
_ قوم، قوم يا منيل شوف اللي أنا شايفاه، اللي كانت عملالنا الخضرة الشريف في حضن راجل غني، شوف اشتراها بكام.
تململ رامي متأففًا وعقله لم يستوعب حديث شقيقته بعد:
_ في حد يصحي حد ما تبطلي أم طريقتك دي بقى.
لكزته بعنف أكبر صارخة به بحدة:
_ قوم وشوف اللي أنا شايفاه وقولي عندي حق ولا لا.
اعتدل، جذب منها هاتفها بحنق ونظر إليه، للحظة اتسعت عيناه حتى إنه فركها لعله بسبب غشاوة النوم لا يرى جيدًا، لكنها هي، ولكن كيف ومتى وأين؟
مسح على رأسه بقوة ناظرًا لأخته الواقفة تهتز بجسدها من ضيقها وهتفت مروة بسخرية:
_ ها، إيه رأيك، حقي أولع ولا لأ؟
بحيرة تساءل رامي:
_ دي هي فيروز، لكن إزاي وصلت لناس زي دي، ومين ده اللي بترقص معاه، وإزاي وصلتي للصورة دي؟
أجابته وهي تقضم أظافرها بعد أن جلست بجانبه:
_ لاقيت الصورة دي بالصدفة على موقع من بتوع الفيس بوك، مش كاتبين اسمها لكن كاتبين اسمه هو، وكان ليهم كمان فيديو وبيقولوا بعلاقاته اتمسح من كل المواقع، بس بحثت على اسمه وطلع رجل أعمال غني وله وضعه، ودي حفلة من حفلاتهم.
قضب رامي حاجبيه ومسح أنفه بتقزز:
_ وإيه وصلها للناس العُليا دي يعني، اللي أعرفه إنها مالهاش حد غير أمها وماتت.
قضمت شفتيها حتى أدمتها وبغيظ خمّنت:
_ أمها كانت بتقول إن لها عم غني مسافر برة، وقبل ما تموت سمعتها بتقول إنه رجع، بس عرفت طريقه منين وإزاي وصلت للي هي فيه ده مش عارفة.
وبعينين ضيقتين همست مروة:
_ طول عمرها الحظ في رجليها.
مال عليها أخيها مؤنبًا تدخلها في اللحظة الأخيرة بعد أن كاد يحصل عليها قسرًا:
_ مش كان زماني أخدت اللي كنت عايزه ومشتيها، كان زمان أخوكي معلّم عليها، منك لله يا شيخة قطعتي رزقي.
وقفت باندفاع هادرة به:
_ وإنت كنت عايزني أعمل إيه وإنت عايز تلبسها لنا هنا، ما صدقت خلصت من أمها هاتلبد هي هنا قدام عيني كل شوية وتتجوز هي قبلي وأنا اللي أفضل قاعدة، وشوية شوية أبقى أخدم أنا عليكم إن شاء الله.
لوى فمه بلامبالاة من حديث شقيقته ووقف ملوحًا لها تعبيرًا عن حنقه وسوء تدبيرها:
_ أهي مشيت وشكلها واقعة مع راجل علوي وسبق هو وكل النبأ.
التمعت عيناها فجأة وتسائلت بترقب:
_ يعني تفتكر تكون سلمت له نفسها؟
مط شفتيه بجهل وسوء ظن:
_ يمكن، وأنا إش عرفني.
تصنمت مكانها وعيناها ثابتتان عليه لا تحيدان، وعقلها كالمرجل، وحقد دفين وغيرة قاتلة بدأت تطفو على السطح، بترقب تساءل رامي:
_ مالك يا بت متخشبة كده ليه؟
_ إيه رأيك ينوبك من الحب جانب؟
ضيق حاجبيه بريبة منها ومن عقلها الذي يعرفه جيدًا ويعلم مدى سوء تدبيره:
_ يعني إيه؟
ببطء التوى فمها بابتسامة مقيتة تنذر بشر ما:
_ هاقولك... بس الأول لازم نعرف عنوان عمها، وعنوان الراجل اللي كانت بترقص معاه، ده كان اسمه... قاسم عمران.
.......
استمعت لطرق باب مكتبها فأذنت بالدخول، فتح الباب واستند على إطاره بكتفه وعقد يديه على صدره مبتسمًا لتلك المنشغلة في الكتابة على جهاز الكمبيوتر، انتظرت أسيل من الطارق أن يتحدث ولكن لم يتفوه بشيء، فرفعت رأسها عن الورق ثم ضيقت عينيها باستغراب متمتمة اسمه بخفوت
_ ياسين
ابتسم لها برقة، أغلق الباب من خلفه واقترب منها بتمهل حتى أصبح قبالتها قائلًا
_ صباح التفاح
ارتفع حاجباها مع بسمة بدأت تتشكل على شفتيها الورديتين
_ بتعمل إيه هنا
أجابها بعد أن جلس قبالتها غامزًا بإحدى عينيه
_ هيكون في بين شركتنا وشركتكم شغل قريب، يعني هتلاقيني كل شوية ناطط ليكي هنا
استراحت أسيل بظهرها للخلف وهتفت لاوية فمها
_ لا وإنت فاضي أوي للشغل، ده إنت كل فين وفين لما تفكر تنزل تشوف شغل باباك
_ الله الله وأنا عملت حاجة؟
هتفت به ملوحة بقلمها بوجهه حتى إنه تراجع بظهره للخلف
_ فعلًا إنت ما بتعملش حاجة غير السهر وقلة الأدب
مال عليها واختطف القلم منها وابتسم تلك الابتسامة الآسرة لها
_ سهر ماشي، لكن قلة أدب لا
رفعت إحدى حاجبيها وتسائلت بسخرية
_ وإيه يثبت؟
مال عليها أكثر هامسًا بعينين تضوي بتلك الطريقة التي يرتجف قلبها لها وتبدأ في هدم حصونها له
_ لأني مش عايز، ولأني بعرف نفسي قد إيه متحصن بيكي
على عكس المتوقع، التمعت عيناها وبحزن قالت
_ ولما تتحصن بيا أنا هاطمن، لما تخاف ربنا يا ياسين وقتها بس هاطمن
ضاق ما بين حاجبيه متمتمًا
_ بعترف إني بغلط، لكن كمان كلنا بنغلط، وأنا مش سيئ أوي كده يا أسيل
_ ما قلتش إنك سيئ، لكن كمان تصرفاتك مش صح، السهر اللي بيبقى فيه شرب مع لمة البنات حواليك وده طبعًا بيبسطك
عاد لكرسيه فاردا ظهره وطرق بأصابعه على مكتبها ببطء مع عينيه الثابتة عليها، وملامحها التي بهتت بعد دقائق من دخوله بعد أن كانت متوهجة عند رؤيته في المقدمة
_ إنتي شايفة إنك في علاقة متعبة؟
_ علاقة بتستهلك روحي يا ياسين
بهتت ملامحه هو هذه المرة، وتوقفت أصابعه عن الطرق، استمرت عيناهما في النظر لبعضهما باختلاف شعور كلٍّ منهما، هي وقد ألقت بجزء مما بداخلها وهو بتفاجؤ من قسوة تعبيرها، فقال متسائلًا بصوت هادئ رغم ملامحه الجامدة
_ وليه مكملة؟
أخفضت عينيها للحظات ثم رفعتهما قائلة
_ أنا فكرت قبل ك...
قاطعها مستقيمًا فجأة وانحنى على مكتبها مستندًا بكفيه عليه، وقد أصبح وجهه قبالة وجهها، حتى إنها عادت للخلف والتصق ظهرها بالكرسي بدهشة من اندفاعه، وصوته الصارم رغم حنو عينيه
_ إنتي ما عندكيش حرية الاختيار للأسف، قدرك أنا، بعيوبي اللي بحاول أصلحها بس علشانك، وبقلبي اللي مش هاتملكه في يوم بنت غيرك، وإنتي يا أسيل قلبك بتاعي وبس... بتاع ياسين
رمشت بعينيها عدة مرات، وتخضب وجنتاها أخيرًا بلونٍ غير شحوبهما، لون وردي جعلهما شهيتين للأكل، وبسمة خائنة على شفتيها وعينيها الزائغة عن عينيه القريبة منها متمتمة بصوت ضعيف للغاية
_ ياسين ابعد
واقترب ياسين أكثر، لكنها وضعت يدها على صدره تبعده برقة، فامتثل لها وعيناه تتآكل ملامحها وقلبه يدفعه للمزيد، لكن ليس هي من يتعدى معها الخطوط.
استقام مبتعدًا وأخذ نفسًا عميقًا مقتربًا من الباب وفتحه، وقبل أن يغلقه ألقى عليها نظرة أخيرة وبصوت عابثٍ كعادته قال
_ أهو من الصباح ده هاجي وأاخد كل يوم
قذفته بملف أمامها محاولة أن تداري خجلها وغيظًا من تجرؤه عليها، ضحك وتفادى الملف وخرج وأغلق الباب من خلفه، وضعت يدها مكان قبلته وعضت على شفتيها بغيظ رغم ابتسامتها الخجولة ولمعة عينيها.
........
على مائدة الإفطار التي لم تحوِ سوى كمال ونازلي هانم، سألت الخادمة وهي تحتسي فنجان الشاي بعد أن تركت السكين والشوكة على حرف صحنها بأتيكيت شديد
_ فين أسيل، ليه ما نزلتش لحد دلوقتي؟

أجابتها الخادمة بتهذيب
_ خرجت من بدري يا هانم

وجهت سؤالها لكمال بحنق
_ إزاي تخرج من غير ما تفطر؟ وجبة الفطور أهم وجبة في اليوم

أجابها كمال بهدوء
_ سبيها براحتها يا نازلي، ممكن تكون هتفطر في الشغل

ثم قال للخادمة
_ استعجلي فيروز للفطار بسرعة

باستنكار تركت نازلي الفنجان وقالت بضيق شديد
_ لامتى يا كمال هتفضل البنت دي هنا؟ أنا سكت الفترة اللي فاتت على أمل إنك هتسيبها تمشي وترجع ما كان ما جت

التفت لها كمال وبصوت قاطع وملامحه توحي بضيقه ورفضه لحديثها بتلك الطريقة
_ تمشي! وتمشي ليه يا نازلي؟ فيروز قاعدة في بيت عمها مش حد غريب

ألقت المنديل على الطاولة بغضب
_ لكن عايشة معايا أنا ومع أسيل، إنت إزاي سامح لده بالبساطة دي؟

_ بنت أخويا مش من الشارع علشان أخاف عليها من بنتي

وقفت بأنفاس غاضبة ورفض لمكوثها هنا أكثر من ذلك، وكلما ازداد رفض كمال لطردها ازدادت اشتعالًا. لأول مرة كمال يرفض لها رأيًا، خصوصًا لو أتت باسم أسيل أو مصلحتها.
_ وإنت تعرف كانت عايشة إزاي ولا عملت إيه قبل ما تيجي هنا؟ تعرف سلوكها كان كويس ولا بطال؟ إزاي مصدق الوش الطيب بتاعها ده؟ إزاي تسمح لحد عاش في بيئة أقل مننا بكتير واتربى في الحواري يختلط بأسيل، اللي اتعلمت في أحسن مدارس الإنترناشونال، اللي علمتها بنفسي أصول الأتيكيت والأكل والشرب واللبس؟ إزاي بتهد كل اللي عملناه واللي اتمنته أختي؟ علشان إيه؟ علشان واحدة دخيلة علينا؟

استمر صمته المهيب حتى بعد نهاية حديثها لعدة دقائق وهي منتظرة أن يتفوه بما يرضيها بعد أن ألقت بكلماتها لعلها ترجعه عن قراره الخاطئ.
لكنه بصوته الصارم وملامحه الجامدة أدركت أن ما سيتفوه به لن يعجبها
_ فيروز بنت أخويا، من دمي، أمها ربتها كويس وعلمتها لحد ما وصلت للكلية. مش محتاج أعاشر حد علشان أعرف هو كويس ولا وحش، يكفي أبص لعينيه وأعرف معدنه كويس. أنا اشتغلت وكسبت وكبرت شغلي وبقى معايا فلوس وعمال مسؤولين مني وبيوتهم مفتوحة من شغلي، من غير ما أروح مدارس إنترناشونال ولا أتعلم الأتيكيت، وعشت في مناطق شعبية إنتِ ما تسمعيش عنها يا نازلي هانم. ولو على فريدة الله يرحمها، أنا متأكد إنها كانت هتاخدها في حضنها وتديها من حنانها. ياريت تتقبلي وجودها علشان نقدر نعيش في بيت واحد بهدوء

ثم ترك المائدة بعد ما ترك نازلي متخشبة مكانها تنظر لأثره. ارتفعت عينيها لأعلى ثم ضيقت عينيها بعداوة ازدادت بعد ما أوصلتها لتسمع تلك المحاضرة العقيمة، وفي النهاية تستسلم لوجودها غير المرغوب به من قبلها كأمر واقع. هي أيضًا نازلي هانم ولها سلطة خاصة بمنزلها وبأسيل، ولذلك لن تنتظر خروجها برغبة كمال، يكفي أنها لا تريدها بمنزلها.

...

أغلق الهاتف مع موسى وملامحه مكفهرة غاضبة. أزاح رابطة عنقه بضيق آخذًا أنفاسًا ببطء لعلها تهدئه، بعد ما استمع لحديث صديقه مع والدته، وعرضها المهين ببيع ابنتها لرجل لم ترَ منه سوى ثرائه. هب واقفًا واستند بساعديه على المكتب وأخفض وجهه لأسفل قليلًا، وتنفسه السريع الغاضب لم ينتظم بعد.
ألن تتوقف؟ لمتى سيستمر طمعها وقلبها الخالي من المشاعر في أذى أبنائها؟ لمتى ستبقى روحها السوداء تبتلع كل ما هو جيد في نفس أيٍّ من أولادها؟ لماذا تصر على إظهار أسوأ ما به في حرب بينهما لن تكون هي الفائزة أبدًا؟

جذب قاسم مفاتيحه وهاتفه وتحرك لخارج مكتبه غير راغب بالمكوث بين جدران تكاد تكتم على صدره. أخذ المفاتيح من السائق وأمره بالركوب مع حراسته خلفه. تولى القيادة وأسرع بشدة، والهواء من النافذة يلفح وجهه وعينيه القاتمتين تنظران للطريق شبه الخالي أمامه، وعقله تتسرب إليه ذكرى سوداء في ليلة باردة، وكلما ازدادت الذكرى في اختراق عقله كلما ازدادت سرعته الجنونية في التنفيس عن غضبه.

هدأت سرعته رويدًا رويدًا، واستراحت قبضتاه التي كانت تمسك بالمقود حتى ابيضت مفاصلها، وهدأت ملامحه نوعًا ما. ظن حراسه أنه عائد لبيته، لكنه توقف أمام إحدى الفلل وأخرج هاتفه واتصل بالرقم المعني، فقابله صوتها الخافت على الجهة الأخرى، ولغرابة الأمر ابتسم ماسحًا على جبينه ووجهه راغبًا برؤيتها.

نظرت فيروز للرقم غير المسجل بحيرة، اعتدلت ومسحت على وجهها لتعيد تركيزها بعد أن أيقظها رنين هاتفها من نومها. من سيهاتفها ومن يعرفها لطلبها من الأساس؟ لكن صوت النفس الخافت جعلها تنتبه وتصمت منتظرة أي صوت يصدر منه
_ عايز أشوفك

سقط الهاتف من يدها فجأة، جذبته مرة أخرى وأمسكته بيديها الاثنتين خوفًا من سقوطه مرة أخرى، فأعاد قاسم طلبه بهدوء
_ فيروز... عايز أفطر معاكي

بصوت متحشرج أجابته هي
_ فطرت
_ كذابة، إنتِ لسه صاحية أصلًا
_ مش هنزل
_ أنا واقف تحت بيتك، لو ما نزلتيش بعد 10 دقايق هدخلك أنا

أغلق الهاتف من بعدها، تحركت عيناها بحيرة من تلبية طلبه، عقلها يحثها على الصمود وعدم النزول، وشيء آخر منزوي بركن بداخلها يدفعها للتجربة، وبين ذلك وذاك عقدت نيتها وحسمت أمرها... واستمتعت لذلك الركن المنزوي.

تعليقات