رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم دهب عطية


 رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثامن والعشرون 


لكل بدايةٍ نهاية إلا بحورَ الهوى… عميقةٌ لا تُقاس ممتدةٌ بلا ضفاف...حتى لو كنتَ غواصًا ماهرًا ستغدو أمام عواصفها الهوجاء سبّاحًا مبتدئًا !...

فلا تعبثْ بالهوى فإما أن تصلَ إلى الضفة الأخرى بسلام أو أن تغرقَ حتى الموت !...

نظر بعينين باردتين إلى الدخان المتصاعد من فمه وأنفه يتراقص بجنون كأنه يسخر منه ومن أحزانٍ تثقل صدره بالوجع.

سحب مجددًا من مبسم الأرجيلة ثم نفث دخانها وبدأ يضحك بملء شدقيه.

فنظر إليه سلامة متعجبًا وكان يجلس أرضًا معه فوق السطح خارج الغرفة...

"إنت عايش الدور كده ليه؟ الشيشة نضيفة ما فيهاش نكهات عشان تتسلطن كده..."

نظر إليه أيوب وقوة الدخان المتصاعد جعلت جفونه تغلق قليلًا فابتعد عن الأرجيلة وهو يسعل بقوة حتى احتقن وجهه فلوى سلامة فمه مستهجنًا....

"وكأنك أول مرة تشيش يا أبو الصحاب..."

ثم ركّز سلامة عينيه عليه وسأله بهدوء...

"مالك يا صاحبي..."

زفر أيوب زفرة ثقيلة من صدره وهو يريح ظهره على السور قائلًا بصوتٍ يقطر ألمًا....

"موجوع منها أوي يا سلامة... معقول لحقت تنساني وتفكر في غيري..."

مطّ سلامة فمه قائلًا بقتامة...

"كلهم كده... بيجروا ورا الأحسن اللي المصلحة هتبقى معاه..."

تابع أيوب مع نفسه بمرارة...

"وكأنها ما حبتنيش..."

سخر سلامة معقبًا بتهكم وهو يرى في قصته الفاشلة معها صدى لكلمات صديقه...

"كان كلام في الهوا... أصل الكلام مش عليه ضرايب..."

صر أيوب على أسنانه وهو يقول بانفعال مكتوم..

"بعد كل اللي عملته عشانها... دا أنا كنت مستعد أضحي بكل حاجة لأجل عيونها
وفي الآخر تفكر إني بتاع مصلحتي وبجري ورا الفلوس...

يعني بعد كل ده طلعت ابن ستين كلب وبجري ورا الفلوس..."

ثم ابتسم في سخط مضيفًا....

"طلعت الواد الغلبان اللي بتعطف عليه... واللي وصلته للي ما كانش يحلم بيه..."

أطلق سلامة تنهيدة طويلة وهو يتمعن النظر إلى صديقه بحزن...

فكم كان مهمومًا حزينًا، مثخنًا بالجراح منها مشتاقًا وملتاعًا إليها... قد أذاقته ابنةُ الذوات هولَ المشاعر وتقلباتها حتى انتهى به الحال إلى هذا الوضع...

يتمتم بكلماتٍ مبعثرة لا يدري أيَّ خطأٍ فادحٍ ارتكبه في حقها ليصل معها إلى هنا.

ربّت سلامة على ركبة صديقه مشفقًا عليه وهو يقول بمؤازرة....

"انساها يا صاحبي... من الأول ما كنتوش لايقين على بعض... واحدة مولودة في بؤها معلقة دهب... مامي وبابي وبتدير شركة كبيرة بنفسها وإنت...

لمؤاخذة يعني حتى لو إنت شاطر وعندك موهبة بس برضو على قدّك والجاي على قد اللي رايح... ولا إيه..."

تضخّم صدر أيوب بالغضب وهو يرفض الاستسلام للظروف التي جعلت منه رجلًا بلا قيمة أمامها لمجرد أنه لا يمتلك الثروة مثلها

"مش ولا... الكلام ده كان زمان لكن دلوقتي
أنا ناوي أنحت في الصخر عشان أوريها أنا مين..."

أجفل سلامة من رده المحتدم ليسمع أيوب يردف بتهدج....

"هثبتلها إن الواد اللي بيبيع هدوم على الرصيف أحسن وأجدع من أي بيه من البهوات بتوعهم..."

رغم أمارات الصدمة المنتشرة على وجه سلامة من ردٍّ لم يتوقعه من أيوب

فقد ظن أنه على حافة الاستسلام لمصير محتوم مثله... أشاد بإعجاب حقيقي مشجعًا إياه.....

"جدع يا صاحبي... كمل في طريقك وما توقفش عشان حد... ما تخبّش خيبتي..."

انتبه أيوب إلى حديثه فهدأ من غضبه وخفف من حدة كلماته قدر المستطاع قائلًا بجدية...

"وإيه هي خيبتك بالظبط... ما احنا هنشتغل مع بعض... أنا مقدرش أستغنى عنك ولا ينفع أثق في حد غيرك... إنت معايا في الطريق ده للآخر..."

ظهر اليأس جليًا في عيني سلامة وهو يقول بكآبة....

"وأنا هعمل إيه يعني يا أيوب... أنا لا بعرف أصمم ولا أقعد على مكن خياطة..."

لم يبدُ على أيوب الاهتمام برده الأهوج بل 
قال بصوتٍ واثق....

لطالما انهزم سلامة أمام تلك الثقة والعزيمة الحديدية على الحياة والمعافرة فيها.

"أي حاجة... أكيد هيبقى ليك شغلانة 
اطمن... المهم نبدأ الشغل الأيام الجاية 
ونشغّل المشغل ونستلقط كام خياطة
وخياط كده عشان نبدأ..."

سأله سلامة بهدوء....

"طب هنوزع لمين البضاعة اللي هنعملها... عندك تجار؟"

تنهد أيوب بارتياح حقيقي وهو يخبره بأهم المستجدات....

"كمال الموجي كتر خيره وقف معايا وعرفني على كام تاجر محتاجين ملابس جاهزة رجالي وحريمي وأطفال كمان..."

ثم استأنف موضحًا بعض التنازلات التي يجب أن يفعلوها...

"بس هنخفض السعر شوية بحيث نبقى 
أحسن من برا... لحد ما نجيب رجليهم ونعمل زبون لينا... هي طبعًا مش هتيجي من أول مرة بس مع السعي ربنا هيجبر خاطرنا..."

أومأ سلامة برأسه متفهمًا وهو يقول....

"بس كتر خيره أبوها إنه عمل معاك كده..."

أخذ أيوب منه مبسم الأرجيلة وسحب منه نفسًا كبيرًا قبل أن يقول....

"هي حركة جدعنة بس طلب قصادها حاجة..."

تسائل بارتياب..... "اللي هي..."

رد أيوب واجمًا....

"إني أكمل شغل في الشركة يومين في الأسبوع على الأقل.."

حدجه سلامة بصدمة سائلًا بتروٍ...

"أوعى تكون وافقت؟..."

زم أيوب فمه قليلًا وهو يتسلح بالجمود قائلًا

"في الأول كنت رافض... بس في الآخر فكرت في المرتب اللي عرضه عليا وقلت ما يضرش أهي حاجة تسند لحد ما المشروع الجديد يقف على رجله..."

رفع سلامة حاجبيه معًا بصدمة وهو يحدق في صديقه بعدم تصديق كمن ينظر إلى مخلوق خارج عالمه....

نظر إليه أيوب بطرف عينيه مرتديًا قناعًا جامدًا يخفي فوران مشاعره منذ أن وافق على العودة إلى الشركة ولو ليومين فقط بعد إلحاحٍ عظيم من كمال وإقناعه بشتى الطرق فوافق على مضض…

لكن في قرارة نفسه هناك أشياء عديدة حثّته على الموافقة....

توقفت منابع أفكاره جافلًا وهو ينظر إلى سلامة الذي يضحك بقوة بملء شدقيه.

ركله أيوب بعنف وهو يصيح بتشنج....

"إنت بتضحك على إيه يا لا... هو أنا 
بقول نكتة... "

أكد سلامة وهو يقول من بين ضحكاته الخشنة...

"أصلي بصراحة مش بالِع حتة إنك وافقت ترجع الشركة عشان المرتب والفلوس والأونطة دي كلها..."

تجهم أيوب مبررًا ضعف موقفه....

"وبرضو عشان ما ينفعش أقوله لا... بعد ما ساعدني من ناحية التجار اللي هتشيل شغلنا..."

توقف سلامة عن الضحك تدريجيًا ثم غمز إلى أيوب قائلًا بلؤم....

"يا أبو الصحاب عيب... مش أنا اللي تلف وتدور عليا... إنت راجع عشانها... عشان تفضل تحت عينك..."

استهجن أيوب الحقيقة قائلًا بنزق....

"وتفضل ليه تحت عيني... هي بقت في أمان دلوقتي وما بقتش محتجاني..."

أكد سلامة بنظرة ثاقبة....

"إنت فاهم... أنا أقصد إيه..."

تأفف أيوب مزمجرًا بغيظ شديد...

"حتى لو اللي في دماغك... اللي بينّا انتهى هي اللي نهته وأنا كملت عليه... ما بقاش في بينّا غير شغل... شغل وبس... حتى كمال الموجي قالي إنه ناوي يرجع الشركة وهيبقى أغلبية شغلي معاه في المكتب..."

"بس أكيد هتقبلها..."

ضاقت عينا سلامة وهو يطلع إلى صديقه فتبرم أيوب غير مكترث...

"ما أقبلها... هي ماسكة عليا ذلة..أنا مبهربش"

عقّب سلامة وهو يشيح وجهه عنه....

"ساعات الهروب بيكون أحسن حل... والكل بيتراضى من وراه..."

انتبه أيوب إلى تلك النغمة الجديدة في صوته ما بين الندم والوجع...

"مالك يا عم الشاعر... إيه هي حلقتلك..."

أكد سلامة دون مواربة....

"من زمان... أو أنا اللي خدتها من قصرها وبعدت... المهم إني ناوي أتجوز..."

توسعت عينا أيوب بدهشة حقيقية....

"بسرعة دي... إيه ما فيش وقت للتفكير..."

ضحك سلامة ضحكة خالية من المرح وهو يجيبه ببرود أقرب للصقيع....

"وأفكر كتير ليه... إنت مش قولتلي اتجوز واحدة شبهك وبصراحة أنا فكرت في كلامك ولقيت إنك عندك حق... أنا هرتاح أكتر لو خدت واحدة دايس عليها الفقر والجهل 
وش وضهر زي حالاتي..."

تململ أيوب من هذا الرد الفج فقال معاتبًا..

"هترجع تاني للهبل ده..ما قولتلك مقصدش حاجة... ما كنتش حساس وبتمسك في الكلام كده إيه اللي جرى لك..."

رد عليه سلامة بصوتٍ مثقل بالجراح....

"حبيت... وطول ما إنت بعيد عن الحب جلدك تخين وما بتتأثرش بحاجة بس لما تحب... بتضعف... وبتبقى مش إنت..."

أراد أيوب الخروج من تلك الدائرة فقال بمزاح ثقيل....

"ومين تعيسة الحظ اللي هتشاركك حياتك وقلبك مع غيرها..."

ضربته الكلمة في الصميم فهي الحقيقة حتى إن قيلت من باب المزاح....

أجابه سلامة وهو ينفث الدخان بتروٍ....

"عزة... عزة اللي واقفة على نصبة الشاي في السوق..."

لم تأخذ الدهشة وقتًا طويلًا في عيني أيوب وهو يسأله...

"كلمتها يعني... فتحت سيرة الجواز..."

أكد سلامة بظفر....

"كلمتها وكلمت خالتها وناوي أكتب عليها الخميس الجاي..."

تلك المرة صُدم من الرد فعقب....

"الخميس الجاي؟!... إنت مستعجل كده ليه..."

أجابه سلامة بصوتٍ بعيد عن أي معالم الفرح أو الحماس...

"هستنى ليه... الأوضة موجودة هديها وش بياض أي لون... وأشتري أوضة نوم وهي عندها شوية حاجات... وخلاص ونلم الليلة..."

أومأ أيوب متفهمًا الوضع....

"على البركة... بس إنت معاك فلوس..."

رد بإيجاز.... "هتدبر يا صاحبي..."

ألح أيوب في المعرفة....

"ما هي هتدبر بإذن الله... بس إنت معاك كام..."

رد سلامة بلا مبالاة وكأنها معضلة سهلة 
الحل...

"تمن حتة الدهب اللي هجبها ليها مش أكتر..."

ابتسم أيوب قائلًا بمروءة....

"خلاص الباقي عندي... والفرح والفستان هدية مني ليك..."

رفع سلامة حاجبه متوجسًا...

"مش فاهم قصدك..."

زادت الابتسامة اتساعًا على محياه وهو يوضح بفرحة حقيقية له....

"يعني يا غشيم أوضة النوم وتوضيب الأوضة عليا... فلوسها موجودة... خدهم مني ولما نبدأ نشتغل هخصمهم منك حبة حبة...

"أما الفستان والفرح واللذي منه... هدية مني ليك... النقطة بتاعتك إنت والعروسة..."

رفض سلامة وهو يقول بجدية....

"وليه التكلفة دي يا أيوب... إنت داخل على مشروع جديد ومحتاج لكل قرش... أنا هتصرف هشوف أي حد أستلفهم منه..."

رمقه أيوب باستهانة قائلًا بمناكفة...

"تداين من أي حد وأنا موجود...اداين مني أنا وهكتب عليك وصلات أمانة ولا تزعل..."

ابتسم سلامة مندهشًا فضحك أيوب وهو يربت على كتف سلامة قائلًا بود...

"هتدبر يا سلامة هتدبر يا صاحبي... كلها لما بتنوي تتجوز بيحصل معاها كده... وسلف من هنا على جمعية من هنا وبنلم الدنيا وبعد كده ربنا بيفرجها وبتعدي..."

ثم شجعه على تلك الخطوة مسترسلًا...

"توكل على الله إنت... عزة بنت حلال وبتحبك ومصيرها تعوضك عن اللي راح منك..."

غامت عينا سلامة بالحزن وهو يلوي فمه في ابتسامة مريرة تهدلت فيها الحسرة وألم الفقد على امرأة خسرها دون معركة !...

"ياريتها تتعوض يا صاحبي بعزة أو بغيرها..."

ألجمت أيوب الجملة فلم يظن أن سلامة يعشقها إلى هذا الحد وكأنه يدفع نفسه إلى الهاوية وليس للزواج...

مسك أيوب كتف صديقه واتكأ عليه بخشونة يدعمه بالقول ناصحًا إياه....

"بلاش تحسبها كده وتظلم عزة معاك... بلاش تقارنها بالأول...أكيد هتلاقي فيها حاجة تعوضك عنها...ويمكن تلاقي حاجة ما
لقتهاش في الأولى وترتاح معاها..."

هز سلامة رأسه مؤكدًا أن هذا ما يبحث عنه الآن....

"وأنا مش عايز غير راحتي يا أيوب..."

"هتلاقيها يا سلامة بإذن الله..."

قالها أيوب بمساندة حقيقية له بينما أشاح سلامة بوجهه بعيدًا عنه شاعرًا بالخزي
الشديد نحوه....

فهو وبكل وقاحة يحكي لصديقه عنها يشاركه وجعه لكي يدعمه في قراره... قرار سينحر قلب أخته نحرًا أمام عينيه لو فقط يعلم...

................................................................ 
فتح أيوب الباب بالمفتاح ثم دلف إلى الشقة فوجد ندى في وجهه... اتسعت عيناه جافلًا مستعيذًا بالله من الشيطان الرجيم...

فقالت ندى بوجوم وهي تقترب منه وبين يديها فنجان من القهوة...

"في إيه يا بوب…شوفت عفريت؟"

رد وهو يزفر بتجهم....

"أنيل.. إيه اللي على وشك ده؟"

قالت ندى ببرود...

"ده ماسك...إيه أول مرة تشوف ماسك؟"

حرك أيوب أنفه يستنشق الرائحة النفاذة 
وهو يقول...

"استني… الريحة دي مش غريبة عليّا…"

أومأت ندى برأسها مؤكدة بابتسامة واسعة تقطر فخرًا...

"آه هي..... ما تفكرش كتير…"

ارتفع حاجباه في خطر جليًّا وهو يسألها
بتروٍ...

"بجد… هي؟!"

أكدت باستفاضة والفخر يلتمع في عينيها الشقية بالفطرة....

"بجد آه... هي القهوة اللي اشترتها إمبارح. خطيرة يا أيوب… ظبطت الماسك وودّته في حتة تانية... أنا حاسة إنها بتشد وشي… بجد بيقولك بتعمل نضارة وبتخفف التجاعيد."

استهجن حديثها معقبًا...

"تجاعيد؟!… تجاعيد إيه اللي بتطلع قبل العشرين؟"

لوحت بيدها ببلاده....

"ما هي مصيرها تطلع...تعالى أعملك ماسك لحسان.... إنت شكلك مرهق."

عقد أيوب حاجبيه قائلًا بوجوم....

"متغيريش الموضوع… مين هيحاسب على البُن اللي خلصتيه على وشك ده؟"

حركت كتفيها ببراءة مدعية الأسى...

"بس أنا مش معايا فلوس…"

رمقها بغيظ وهو يقول من بين أسنانه...

"وطالما مش معاكي فلوس بتاخدي من حاجتي ليه وتخلصيها؟..."

قالت ندى بعفوية مطلقة...

"عشان إحنا إخوات والفاضي يكب على المليان…"

قطب جبينه أكثر وهو يصحح لها الجملة...

"إنتي بتقولي إيه....اسمها المليان يكب 
على الفاضي…"

ابتسمت بلؤم قائلة...

"بالظبط... أديك قولت مين المليان…"

أشار على نفسه..... "أنا…"

ضاقت عيناها وهي تسأله
بعفرتة...

"ومين الفاضي؟.. "

أشار عليها بعد تفكير غير متأكد....

"إنتي…"

توسعت ابتسامتها أكثر وهي تصل معه إلى تلك النتيجة فقالت بتساهل....

"شوفت... مجبتش حاجة من عندي وبعدين دي وصفات كلها طبيعية مش مكلفة خالص بكرة هبقى أعملك ماسك الكركديه يحمرك
كده ويخلي الدم يجري في عروقك…"

وضع أيوب يده على صدغه سائلًا 
بحذر....

"هو أنا باين عليا حاجة؟"

أومأت ندى برأسها وهي تسحب أيوب من ذراعه قائلة بفضول....

"حاجة واحده.... دي حاجات... تعالى أعملك ماسك القهوة وتحكيلي عملتلك إيه بنت
الأكابر دي على رأي ماما…"

تنهد أيوب بسأم أإلى هذا الحد كان مكشوفًا أمامهن.... لم يبح لأحد حتى لوالدته بنيّته الزواج بها أو بحبه لها ومع ذلك كانوا يعلمون وكأن الأمر مكتوب على جبينه.... بأنه متيّم بها !..

شرعت ندى في وضع قناع القهوة على وجه أخيها بحرص شديد فقال أيوب باقتضاب
دون أن يمانع....

"إنتي عارفة لو الماسك اللي بتحطيه ده عمل حاجة في وشي.... أقسم بالله يا ندى هحرمك من المصروف شهر كامل…"

قالت ندى مبتسمة بزهو....

"عيب عليك يا بوب...معاك خبيرة التجميل ندى عبدالعظيم…"

لم يعقب أيوب وفضّل الصمت. أثناء وضعها للقناع سألته باهتمام...

"قولي بقى مالك... نغم مزعلاك في إيه؟"

دون مناورة في الرد أجابها بصوت
بعيد....

"مبقاش فيه نغم خلاص…"

توقفت عما تفعله بتساؤل تجلّت فيه 
الصدمة...

"سبتوا بعض؟.....طب ليه؟"

رد واجمًا.... "النصيب…"

ثم غير مجرى الحديث ببراعة....

"المهم… إنتي عاملة إيه في كليتك؟"

ردت ندى عليه بهدوء ولم تشأ فتح الحديث مجددًا طالما هو أراد إغلاقه...

"كله تمام يا بوب....الدنيا ماشية…"

سألها أيوب وهو يبحث في الأرجاء...

"أمال فين الدكتورة صحيح؟... مش
شايفها يعني…"

قالت ندى باستياء...

"في أوضتها يا سيدي... هاريا نفسها مذاكرة ليل ونهار… بتفكرني بأيام ثانوية عامة…"

صمت أيوب قليلًا مفكرًا في أمر ما قبل أن يقول بنبرة خافتة ممازحة....

"طب بقولك إيه…"

مالت عليه سائلة بهمس... "قول يا كبير…"

قال مبتسمًا بشقاوة...

"تعالي نعمل جريمة زي بتاعت زمان…"

لمعت عيناها حماسة للفكرة وهي 
تقول....

"سندوتشات حلاوة بالقشطة…"

أومأ مضيفًا..... "وشاي بلبن…"

هللت ندى مسرورة وهي تقول....

"هو ده الكلام... اعتبره حصل تعالى
أعمل معايا…"

رفض أيوب وهو ينهض متجهًا صوب باب غرفتهما....

"لا.... أنا هدخل أنكش في الدكتورة شوية وإنتي خلصي وحصليني... "

فتح أيوب الباب قليلًا يراقبها قبل أن 
يكشف عن حضوره فرآها جالسة خلف
المكتب الصغير تحيط بها كومة من الكتب الكبيرة ترتدي نظارتها الطبية تدقّق في كل سطر تمرّ به عيناها....

بدا عليها الإنهاك الشديد كأنها لا تفارق مقعدها ساعات طويلة.....

يشعر أنها تتعمد إرهاق نفسها فقد أصبحت أكثر هشاشةً وأقلَّ حيويةً وحديثًا نادرة الظهور بينهم تتخذ غرفتها ملاذًا آمنًا لها...

رفعت نهاد عينيها إلى الباب بعد أن شعرت أنها عرضة للمراقبة...

فابتسمت جافلة وهي تنزع النظارة عن عينيها

"إيه اللي أنت عامله في وشك دا يا أيوب؟"

اقترب أيوب منها وسحب مقعدًا وجلس بجوارها....

"ماسك القهوة... بيشد التجاعيد..."

ضحكت نهاد ضحكة خرجت من تحت ركام حزنها وهي تقول بمداعبة...

"وهو الحليوة بتاعنا ده عنده تجاعيد؟"

تمطّى أيوب رافعًا ذراعيه إلى الأعلى بتثاقل ثم أطلق تنهيدة عميقة وقال....

"الحليوة تعبان... ومش لاقي راحته..."

سألته نهاد باهتمام حانٍ....

"ليه كده يا حبيبي؟... في مشكلة في مشروعك؟"

هز رأسه ساخرًا....

"هو لسه بدأ... عشان يبقى عليه مشاكل..."

دققت النظر إليه قليلًا قبل أن تقول بنفس الاهتمام الجلي...

"طب مالك... زعلان أنت ونغم؟"

لن يتفاجأ أن الجميع يعرف القصة الآن...

"سيبنا بعض..."

الكلمة ضربت قلبها المكلوم ذكرتها بالمرارة التي ترافقها أيامًا وليالي...

"مين اللي ساب التاني؟!"

عبست نظرات أيوب وهو لا يجد للسؤال
معنى فالنهاية واحدة....

"تقريبًا إحنا الاتنين جرحنا بعض... بس هي اتكت بالقوي..."

قالت بغصّة.... "يمكن موجوعة..."

رد بجفاء.... "هي فاهمة غلط..."

قالت نهاد بلوعة..

"طب كنت حاول تفهمها الصح..."

التوى فكه بقساوة مجيبًا.... 

"فاكرة الصح كدبة جديدة من تأليفي..."

ازدردت نهاد لعابها وهي تقول بصوتٍ 
مختنق...

"مصيرها تهدى وتفهم إنك بتحبها... وأيًّا كان اللي عملته فهو أكيد مش هيضرها..."

ثم رفعت عينيها إلى أخيها قائلة...

"ولو عايزني أدخل بينكم وحلّها... أنا أقدر أعمل كده... إحنا يعتبر صحاب من فترة..."

رفض أيوب الأمر قائلًا بوجوم....

"ملوش لازمة يا نهاد... الموضوع انتهى وأنا مبقتش فاضي لا للحب ولا للحوارات بتاعته. خليني أركز في شغلي والحلم اللي كنت ناسيه ٨ سنين..."

ربّتت نهاد على ذراعه قائلة بعينين حالمتين بالفطرة....

"ربنا يوفقك يا حبيبي أنت تستاهل كل خير وبإذن الله توصل للعالمية بموهبتك..."

عقّب باستخفاف...."للعالمية مرة واحدة؟!"

أومأت بحرارة والأمل يبرق في عينيها الطموحتين....

"تقدر طبعًا أنت أي حد؟... دا أنت أيوب
عبد العظيم..."

ابتسم أيوب لها بحنان وهو يقول باهتمام..

"سيبك مني أنا... وطمنيني عنك يا دكتورة
أي أخبارك؟"

قالت بنبرة عادية هادئة....

"زي ما أنت شايف محشورة بين الكتب عايزة أجيب امتياز زي السنة اللي فاتت..."

عقب أيوب بنظرة ذات مغزى....

"إن شاء الله هتجيبي امتياز... بس مش ده اللي قصدي عليه..."

سألته بثبات...."أمال قصدك إيه؟"

أخبرها أيوب بعتاب....

"شايفك متغيرة... وفي الفترة الأخيرة بعدتي أوي عني... مبقناش بنتكلم ونسهر زي زمان..."

أجابته نهاد بهدوء...

"أنت الشغل الشهور اللي فاتت كان واخدك مني وأنا الجامعة و..."

قاطعها أيوب سائلًا باهتمام....

"إحنا فيها نتكلم...مالك بقا... مين مزعلك..."

لانَت شفتيها في ابتسامة مندهشة وقلبها يختلج بين أضلعها بتوتر...

"مفيش حاجة يا أيوب... ضغط المذاكرة بس زي ما أنت شايف..."

تمعن أيوب في النظر إليها سائلًا بتروٍّ...

"مفيش حاجة مخباياها عني يا دكتورة؟ حاجة كده ولا كده؟.... أنا أخوكي وصاحبك قبل أي حاجة... افتحي قلبك..."

بلعت ريقها متوجسة وهي ترجع خصلة من شعرها خلف اذنها قائلة بنفس البسمة
الهادئة...

"مفيش حاجة في قلبي عشان أقولها..."

سألها على نحوٍ مفاجئ...

"يعني مفيش حد كده ولا كده؟"

ظهر الارتباك جليًا عليها وقلبها انتفض مرتعبًا وهي تقول بثبات....

"مفيش حاجة يا أيوب... أنت جيبلي عريس ولا إيه؟"

عقد أيوب حاجبيه بغيرة رافضًا الفكرة...

"عريس مين؟.... حتى لو جه هيتطرد من
على الباب... انتي لسه صغيرة..."

ارتاح قلبها قليلًا وهي تضحك معقبة 
باعتداد...

"الصغيرة دي كلها كام سنة وتبقى دكتورة رسمي..."

تأملها أيوب بمحبة كبيرة قائلًا...

"لسه شايفك عيلة بضفاير... بتلعب في الشارع معايا..."

ابتسمت نهاد وهي تسبل عينيها أرضًا فقال أيوب متذكرًا....

"فاكرة لما حبيتي تقلديني وتركبي عجل وانتي مبتعرفيش تسوقيه؟"

ظهر صف أسنانها الناصع وهي تقول بدهشة تعيد الذكرى بينهما....

"دا يوم يتنسي؟.... قولتلي أعلّمك الأول قولتلك لا أنا هعرف... سبني بس أجرب لوحدي..."

ثم زمت فمها بإحباط...

"ومفيش خطوة ووقعت على رجلي واتعورت..."

ذكرها أيوب....

"ووقتها قولتلك إيه؟"

قالت مبتسمة...

"خدي بالك من نفسك يا نهاد..."

أومأ أيوب برأسه ثم مد يده إلى خدها يقرص وجنتها برفق وهو يكرر نصيحته المحذِّرة لها بقلق حقيقي يسكن قلبه عليها تجاه التغيّرات التي طرأت عليها في تلك الفترة التي انشغل فيها عنها....

"ودلوقتي بقولك خدي بالك من نفسك يا دكتورة... واوعي تروحي ناحية حاجة متعرفيهاش... ومتعرفيش الأذى اللي 
هيصيبك من وراها..."

غامت عيناها بالحزن وهي تحدق في أخيها وصدرها يشتعل بالحسرة على نصيحة لم تستطع التمسك بها أمام سطوة الحب...

قد أغراها حبيبها بوعودٍ كاذبة ثم تركها تتجرع وحدها مرارة الفراق بينما هو ماضٍ في طريقه لا يعبأ بقلبها المكلوم...

"متأخرة أوي يا أيوب النصيحة دي..."

نزع أيوب يده عنها ببطء ناظرًا إليها بصدمة فقالت نهاد بعد نحنحة...

"قصدي يعني كان المفروض تقولي كده قبل ما أبعت التنسيق بتاعي وأبقى في طب..."

ظهرت أمارات التعجب عليه وهو يقول بذهول....

"زعلانة إنك دخلتي طب؟!... دا حلم ناس 
كتير وضاع منها يا نهاد... لازم تحمدي ربنا إنه حققلك حلمك... ومضيعش تعب السنين اللي فاتت في المذاكرة والسهر..."

لسعتها حدقتاها بدموع توشك أن تفلت من سجنها المشدد فآثرت أن تشيح بوجهها عنه قبل أن ينفضح أمرها...

"عندك حق... واضح إن تأثير المذاكرة والسهر قصر عليا... شكلي لازم أريح دلوقتي وأدخل أنام..."

أغلقت الكتاب تنوي الهروب إلى سريرها فلم تعد الغرفة مصدر أمان الآن...

رفض أيوب قائلًا بمزاح...

"تنامي فين؟...فيه جريمة هتحصل دلوقتي ولازم تكوني مشركانا فيها..."

سألته متعجبة.... "جريمة إيه؟"

دخلت ندى عليهما بالصينية مشيرة عليها وهي تقول بشقاوة....

"الجريمة حضرت... يلا بسم الله..."

أشار لها أيوب أن تقترب نحو المكتب....

"هاتي هنا يا ندى..."

لوت ندى شفتيها بعدم رضا....

"فيه إيه يا بوب؟...هو أنا الخدامة الفلبينية بتاعتك؟"

أكد أيوب وهو يشير على وجهها...

"تمن القهوة اللي على وشك يا جزمة..."

"إذا كان كده ماشي..."

ثم قام أيوب ونهاد بلمّ الكتب جانبًا بينما اقتربت منهما ندى ووضعت الصينية مكانهما...

فقال أيوب بوجوم وهو يلمس بأصابعه القناع البني الجاف....

"أنا حاسس إن وشي شقق..."

قالت ندى بفخر...

"يبقى الماسك عمل مفعول..."

قالت نهاد هازئة...

"أو ممكن يكون قشر جلده..."

جحظت عينا أيوب بصدمة فقالت ندى
بسرعة...

"دي حاجة كويسة يا دكتورة... ولا أنا اللي هقولك..."

مطّت نهاد فمها بلا مبالاة...

"أنا مش تخصص تجميل عشان أفتي..."

ثم نظرت إلى الصينية والتقطت شطيرة وهي تقول بدهشة مصحوبة بالسعادة والشوق لوجبة الطفولة التي تحمل أجمل وأدفأ الذكريات بينهم....

"الله... سندوتشات حلاوة بالقشطة..."

أكد أيوب وهو يوزّع أكواب الشاي بالحليب عليهن....

"وشاي بلبن... جريمة متكاملة الأركان... فاكرين؟"

ضحكت الفتاتان معًا وقالت ندى بتذكر...

"لما كنا بنعمل السندوتشات دي ونكلها فوق السطح في نص الليل... من ورا ماما..."

تابعا الأكل والحديث يسترجعان الذكريات الجميلة والبريئة التي جمعتهما في طفولتهما قبل أن تُعكّر صفو قلبيهما مآسي الحياة وعواصف القدر......
..............................................................
سارت في الممر تقرع الأرض بحذائها العالي بخطواتٍ أنيقة تتشبّع بالخيلاء كعادتها متأنّقةً بطاقمٍ عصري يليق بمقرّ العمل ترفع شعرها للأعلى وتنسدل خصلتان من الجانبين تنتهيان عند فكّيها من الجهتين....

تشوّشت قليلًا في الممرّ عندما داهم أنفَها عطره المميز ذاك الزهيد في نوعه والقويّ
في تأثيره على حواسّها...

أغمضت عينيها لثانية ثم فتحتهما لتراه بالفعل يخرج من بابٍ كان مفتوحًا قبل أن تخطو على مروره ممّا جعل ادعاءها عدم رؤيته صعبًا فهو أمامها بالفعل لكنه لم يرها بعد.

بلعت ريقها بتوتر متسلحة بالثبات وتابعت خطواتها وكأنها لا تراه مع أن جزءًا منها ينتفض شوقًا كلّما قطَع المسافة بينهما.

وضع أيوب الهاتف في جيبه وهو يستدير لنداءٍ أنثوي من داخل الغرفة....

استدار مبتسمًا بكياسة لتصطدم عيناه بحضورها على الجهة الأخرى تخطو بأناقة تتجلّى منها العجرفة المقيتة بالنسبة له...

لم تنظر إليه وكأنها إنسانةٌ آلية تسير نحو وجهة محددة.... هو أيضًا وضع حجرًا على قلبه وتسلّح بالجمود وهو يعود إلى النداء الأنثوي...

خرجت ليان تزامنًا مع مرور نغم التي قالت بعفويةٍ دون ملاحظة....

"هستناك بعد الميتنج… نفطر سوا."

توقفت نغم للحظة جافلة… لحظةً واحدة وهو يوليها ظهره موافقًا على دعوة ليان. تابعت سيرها لكن بعصبية والنار تتضرم في صدرها بعد رؤيته مع أخرى....

هل عليها حقًا أن تتحمّل وجوده معها حتى ولو ليومين في الأسبوع؟....

دخلت قاعة الاجتماعات الكبيرة قبل الجميع فما زال هناك بضع الدقائق حتى يبدأ الحضور.

نزعت نظارتها السوداء بعصبية وألقتها على سطح الطاولة اللامعة ثم انحنت برأسها بأنفاسٍ متهدّجة غاضبة ووجهٌ محتقن بالغضب..... 

انعكست صورتها على مرآة الطاولة لتظهر عواصف عينيها الرماديّتين مع احمرارٍ طفيفٍ فيهما أثرَ ما تشعر به نحوه. يأبى قلبها تركه…

والغيرة تنهش صدرها وتجاهلٌ تتبرع في إيصاله إليه لكنها في الحقيقة تحترق على صفيحٍ ساخن.....

فتح الباب ودلف إليها والدها قبل الجميع على مقعده المتحرك وحين رأى انفعالها الغريب في صباح يومٍ لم تتضح أطرافه بعد قال وهو يقطع المسافة بعجلات الكرسي....

"مالك يا نغم… في حاجة حصلت؟"

وجهت إلى والدها نظرةً غاضبةً بملامح مكفهرّة والتزمت الصمت... لم يشأ سؤالها مرة أخرى فالإجابة واضحة الآن....

تنهد بتعب وهو يترأس الطاولة ثم بدأ الموظفون يتوافدون من بينهم أيوب برفقة ليان مجددًا....

عليها أن تكون صريحة مع نفسها ليان هي من تلتصق به كالعلكة منذ أن اكتشفت أنه يشاركها نفس الشغف في حب التصميم وبراعته فيها...

هل تقترب منه لهذا السبب أم هناك أسباب أخرى تجهلها؟....

تلاقت عينا أيوب بعينيها في لمحة سريعة 
ثم خفض نظراته شاعرًا بالنار تحرق جوفه وكلماتها السامة تنفذ إلى أذنيه مجددًا.

لن ينسى ما قالته ولن ينسى وقوفها مع جاسر العبيدي وباقة الورد في أحضانها.....

بدأ كمال الموجي الاجتماع بطريقة عملية منمقة مختارًا الكلمات بعناية.

ظهر على أيوب اهتمامٌ شديد بالحديث والتركيز عليه فخطّة الشركة القادمة هي النهوض بها ولن تبخل عليه بنشر اسمه على تصاميمه حتى يعرف أكثر في هذا المجال وتعرف الشركة أكثر من خلال أعماله المميزة مع إرشادات معلمه كمال الموجي الذي يفسح له المجال للانطلاق سواء في شركته الكبرى أو في مشروعه الصغير.

توالى الجميع في الحديث وأيوب يستمع إليهم دون تدخل فهو وإن كان بارعًا في مجال الأزياء بشهادة الجميع لا يواكب بعدُ نظرتهما العملية في إدارة صرحٍ كبير....

كان يسمع بصمت يلتقط المعلومة الجيدة ويلقي بالأخرى فهو يدرك أنّه سيحتاج يومًا أن يكون قائدًا ككمال الموجي ويدير فريقًا كاملًا مثله.....

حين جاء دورها للحديث تكلّمت بعمليةٍ شديدة ضاغطةً على الكلمات كمن يقذفها في البحر كانت منفعلة رغم هدوء ملامحها وثباتها.

طال النظر إليها وشرد فيها رغمًا عنه...تلاقت عيناهما فارتبكت أحرفها أصبحت تشدد على الكلمات لكنها تتفلت منها دون اتزان....

لاحظ كمال تلعثم ابنته الغريب فنظر إليها بتركيز ليرى عينيها تبحران في بحر عيني أيوب بضياع كمن تضربه الأمواج دون هوادة ولا يعرف ضفةً آمنة....

تجهم كمال وهو يقاطعها ليستلم دفة الحديث عنها قبل أن يلاحظ الموظفون...

حينها ارتجفت داخليًا وهي تهرب من عينيه القادرتين على سلب روحها دون أن يمسّها بيده....

أطلقت شهقة خافتة دون صوت وهي تعود إلى والدها بحرجٍ شديد بينما هو أبقى عينيه عليها بعذاب كيف سيتحمّل وجودها هنا أمامه جامدة قاسية بلا رحمة؟...

لماذا أحبّها وسمّاها كلّ الحب؟!

إنها كلّ الحب… وعذابه.

انتهى الاجتماع وعاد الجميع إلى عملهم ثم في وقت الاستراحة وكما اتفق مع ليان تناولا وجبة الإفطار في مكان قريب من الشركة....

تأملته ليان أثناء تناوله وجبته التي كانت عبارة عن شطائر بحشو صحي يساعد على التركيز لبقية النهار.....

بدا بعيدًا وهو أمامها يمضغ الطعام بصمت كئيب وملامح صخرية جامدة.

قالت برفق....

"مالك يا أيوب؟..... الفطار مش عاجبك؟"

انتبه أيوب لها وقد لاحظ للتو أنه يشارك الجلسة مع أحد فرد عليها بفتور....

"بالعكس المكان كويس والأكل كمان..."

قالت برقة...

"بس شكلك مش مبسوط..."

رد بلا اهتمام حقيقي...

"عادي يعني..."

نظرت إليه ليان بمشاكسة أنثوية تروق لأي رجل لكن في وضعه لم تُحرِّك فيه ساكنًا...

"ممكن تكلمني عنك شوية على ما نخلص الفطار؟...."

سألها ببلادة...

"نتكلم في إيه؟"

قالت بنظرة ذات مغزى...

"في نغم مثلًا... قولتلي قبل كده إنك بتحبها."

قطب جبينه بحيرة...

"إمتى قولت كده؟"

ارتفع حاجبها بدهشة حقيقية تدل على صدق كلماتها...

"مش فاكر؟...... معقول؟"

رد بملامح مقتضبة....

"مش فاكر حاجة... على العموم ما فيش حاجة عندي تخص نغم عشان نتكلم فيها."

"سبتوا بعض يعني؟"

أخفت فرحتها قدر المستطاع وهي تنتظر جوابه على أحر من الجمر فرد عليها بوجوم شاعر بعدم الارتياح للخوض في شيء يخصه

"حاجة زي كده... التحقيق خلص."

احمر وجه ليان بالحرج الشديد بعد رده الفظ فقالت بتراجع...

"أنا ما قصدتش حاجة... أنا بطمن عليك."

خفف أيوب من حدته قائلًا بهدوء...

"أنا بخير يا ليان... كل اللي بفكر فيه 
شغلي... شغلي وبس.... "

ابتسمت باستحسان وهي ترى بابًا جديدًا يفتح إليها فقالت بحبور...

"سمعت إنك هتفتح مشروع خاص بيك. ألف مبروك... بجد يا أيوب إنت تستاهل كل خير. وأتمنى تفتكرني بوظيفة عندك."

سألها أيوب متعجبًا...

"وتسيبي شركة الموجي؟"

أكدت بلا اهتمام.... فكل الاهتمام له وحده وتبًا للجميع...

"وايه المشكلة؟"

رفض أيوب بنظرة مستنكرة تفكيرها....

"شغلك في الشركة أحسن طبعًا والمرتب اللي بتاخديه منها مش هييجي حاجة جنب اللي هعرضه عليكي..."

قالت ليان دون تفكير...

"ما عنديش مشكلة حتى لو اشتغلت معاك من غير مرتب...."

ارتفع حاجبه بريبة وانتشرت الصدمة على محياه محدقًا فيها فهدأت ليان من روعها محافظة على رباطة جأشها وهي توضح...

"قصدي يعني على ما المشروع يقف على رجله وبعدها نتحاسب...."

تسلح أيوب بالصبر وهو يخبرها...

"المشروع لسه جديد يا ليان... ويا عالم إيه اللي مستنيني فيه..خليكي مكانك أحسن."

لم تيأس وهي تقترح عليه بحرارة تشعره بعدم الارتياح لتلك الخطوة....

"طب إيه رأيك أفضل في الشركة زي ما أنا وآخر ساعتين بالنهار أبقى معاك؟"

استنكر الاقتراح....

"وليه التعب ده كله؟"

قالت بنظرة ترجوه بالموافقة....

"مش تعب ولا حاجة... أنا عايزة أشتغل معاك وأتعلم منك أكتر... قولت إيه؟"

حدق فيها للحظات وفي رجائها المرسوم على وجهها وعينيها ثم أطلق زفرة مثقلة وهو يتمتم باستسلام....

"قولت لا إله إلا الله..."

لمعت ابتسامتها بالأمل وهي تقول بتغنج...

"محمد رسول الله... مبروك عليك موظفة مجتهدة وشاطرة زيي."

ابتسم أيوب لها من باب الذوق لكن في أعماقه كان يشعر أنه تسرع... تسرع في مرافقتها إلى الإفطار ثم في قبول وجودها معه في مشروع لم يبدأ بعد ولا يعرف له مستقبلًا حقيقيًا...

ورغم ذلك ظلّ قلبه معلقًا بالأمل يطمع في الأفضل ويكابد في سبيل الوصول واثقًا في موهبته كما يثق أن الله لا يضيّع سعي إنسان مهما كان شقاء الطريق.....

في الشركة وتحديدًا في مكتب نغم اعتدلت في جلستها التي بقيت عليها لفترة طويلة حتى شعرت بتشنجات في عضلاتها خصوصًا في رقبتها التي ظلّت تمسّدها بيدها برفق باحثةً في الدرج عن دهان يخفف هذا
الوجع....

أثناء البحث وقعت عيناها على علبة صغيرة فتحتها وهي تعرف ما بداخلها فقد خبأتها بعناية منذ فترة طويلة ونَسِيتها تمامًا حتى عرفت طريقها إليها في أصعب لحظاتها يأسًا وعذابًا....

لمست بأطراف أصابعها الأسوَرة الكروشيه الناعمة والتي صنعها لها يومًا وأهداها إياها لتكون بداية جديدة بينهما بداية تلت حكاية حب لم تكتمل كما تمنَّيا....

بلعت ريقها بعذاب والغصّة تنمو في حلقها كالشَّفرة الحادة....

تنهدت بتعبٍ حقيقي من تلك الجلسة ومن العلبة الصغيرة التي أضحت سردابًا لذكرياتٍ تأبى تركها تتشبث بها بضراوة....

وقفت أمام الواجهة الزجاجية تمسّد على معدتها المستغيثة بالطعام يبدو أنها تناست الإفطار كعادتها شاربةً أكبر قدر من القهوة المُرّة حتى تملأ فراغ معدتها بما يُتعبها كما ملأت فراغ قلبها باالفراق وأضحت متشبعةً بذكرياتٍ دافئة جمعت بينهما في قصة لم تكتمل بعد....

اتسعت عيناها بدهشة دهشةٌ نتجت عن شررٍ يتطاير منهما وهي تراه في الطريق أمام الشركة يقطع الشارع ممسكًا بيد ليان يساعدها على المرور معه ثم دخلا معًا والحديث بينهما لا يتوقف كالابتسامات التي تتحول إلى ضحكات مرحة بعض الشيء....

يبدو أنه وجد أنيسته بسرعة قصوى وكأن خروجها من حياته لم يشكّل فارقًا معه وكأنه كان ينتظرها على أحرّ من الجمر....

نظرت إلى الأسوَرة الكروشيه ببغض ثم في اللحظة التالية ألقتها في سلة المهملات فصدح الهاتف وقتها معلنًا عن اتصال من جاسر العبيدي....

ردّت على مضض مُلبّيةً دعوته السابقة بقلبٍ يحترق وعينين تتابعان بنيرانٍ هوجاء دخولهما إلى الشركة معًا بمنتهى الوقاحة....
................................................................
أخذ سلامة نفسًا طويلًا كمن يخطو على حافة الهاوية، يتأهّب للسقوط في أيّة لحظة...

دلف برفقة عزة وخالتها إلى محل الصاغة. توقفت عزة أمام الذهب البراق المعروض بأشكال متنوعة تأسر عينيها فتحدّث الصائغ بعملية....

"أهلًا وسهلًا... تحبّوا أجيبلكم إيه؟"

هتفت الخالة بنظرة ذات مغزى....

"هاتلنا خاتم... ودبلة..."

جفل سلامة وتبادل مع عزة النظرات فقد اتفق معها على قطعة واحدة من الذهب والآن الاتفاق يتغير أمام الصائغ...

امتقع وجهه بالغضب وبلع ريقه بحرج شديد من الموقف الذي وُضع فيه الآن...

ذهب الصائغ ليحضر ما طلبته الخالة بينما اقتربت عزة من خالتها ولكزتها في كتفها هامسة من بين أسنانها...

"في إيه ياخالتي... خاتم إيه ودبلة إيه...
إحنا اتفقنا على حتة واحدة..."

لوت خالتها شفتيها بخبث هامسة...

"حِتّة واحدة؟... ما تصبري يمكن يكون معاه تمن الحتتين..."

فارت الدماء في عروق عزة وهي تتوسل إليها بنبرة باكية...

"ياخالتي حرام عليكي... مش شايفة وشّه عامل إزاي... بلاش تحرجيه وتبوظي الجوازة ياخالتي..."

امتعضت خالتها من تساهلها في تلك الزيجة وقالت بحزم غليظ....

"افضلي رخصي في نفسك يا عزة وفي الآخر هترجعي تقولي يا ريتني... يابت اعملي لنفسك قيمة قدامه مش كده..عايزاه يتجوزك ببلاش "

زفرت عزة بتعب حقيقي معقبة بقنوط...

"هنعيدها تاني..... وهنا؟... حرام عليكي ياخالتي..."

ثم استرسلت ببغض...

"وبعدين دهب إيه اللي هيعملي قيمة... مش بالدهب ولا بالفلوس..."

ابتسمت خالتها هازئة...

"أمال بإيه بقا يا مايلة؟"

قالت عزة بنظرة حالمة مترجّية...

"بالراجل اللي هيصوني ياخالتي ويحطني في عينيه... بالله عليكي ما تكسري فرحتي..."

وقبل أن ترد عليها خالتها بالرفض أو القبول أتى الصائغ ومعه قطعة خشبية مخملية بها مجموعة من الخواتم وأخرى مثلها عليها حلقات ذهبية....

"عندي حاجة زي دي...اتفضلي شوفي كده..."

عرض عليهما البضاعة مبتسمًا لكن عينيه حذرتان على بضاعته... اختارت الخالة خاتمًا ثقيلًا بعض الشيء بنقشة رائعة وسألته عن الثمن....

فأجابها بعملية..حينها شهقت عزة أمام الرجل وهي تخطف الخاتم من خالتها وتضعه مكانه ثم اختارت أقلّهم ثقلًا ونقشته بسيطة....

كان سعره مناسبًا بعض الشيء ثم أعادت الخالة الكَرّة في الحلقة الذهبية فتدخلت 
عزة وهي تأخذ الأخف وزنًا حتى وصل ثمن القطعتين لمبلغ لم يكن في حوزة سلامة إلا نصفه فقط...

وقتها توتر سلامة أمام الصائغ واستأذن منهما ووقف بالخارج يُعد المال الزهيد مجددًا وكأن المعجزة ستحدث ويزيد الضعف من تلقاء نفسه !...

لكنها المعجزات التي لا تتحقق عندما نريد...

أرجع خصلات شعره الناعمة للخلف بعصبية وهو يشعر أنه في مأزق إما أن يدفع ثمن القطعتين أو ينهي تلك الخطبة التي لم تبدأ بعد ويعيد الكرة بالهروب مجددًا...

يريد أن يخرج من هذا القاع العميق...

يشعر بأنه مكبّل بحجر كبير في محيط عميق يزيد الاختناق لديه كلما قلت فرصة النجاة يحاول الخروج للهواء لكن الحجر يزيد ثقلًا وألمًا والهواء ينسحب من بين رئتيه...

هذا شعوره كلما حاول السير قدمًا... يرى نفسه خائبًا فاشلًا لا يصلح لشيء...

"سي سلامة..."

صوتها أتى من بين عواصف أفكاره كنسمة ناعمة لكنها لن تبدّد العاصفة إلى ربيع مهما حاولت !....

بلع ريقه والغصة تجرح حلقه... استدار إليها يواجهها بنظرة جافية خالية من أي تعبير...

وجدت صداها في صدرها فقالت بابتسامة مطمئنة...

"متشلش هم... أنا كنت عاملة حسابي..."

في اللحظة التالية وجدها تخرج في الخفاء من صدرها رزمة صغيرة من المال...

"خد دول يا سي سلامة يكملوا على المبلغ اللي معاك..."

تجهم سلامة وهو ينظر إلى المال ثم لعينيها الحانيتين في تعبيرهما....

"إحنا اتفقنا على حتة واحدة... إيه اللي خالتك عملته جوا ده... هي قاصدة تحرجني قدامك وقدام الراجل..."

ربّتت عزة على صدرها بمحايلة تقول...

"حقك عليا... ونبي ما تزعل... خالتي بس من عشمها فكرت إنك ممكن يكون معاك فلوس زيادة ولا حاجة..."

تشنج سلامة واشتدت ملامحه حتى انتفخت عروق رقبته...

"حتى لو معايا زيادة... في مصاريف تانية... وأنا مضحكتش عليكي قولتلك ظروفي... واللي هجيبه لزومه إيه الشغل ده..."

عادت تسترجي عطفه بالقول...

"بالله عليك ما تزعل يا سي سلامة... ومشي الدنيا معايا... خالتي بتتلكك..."

لوّح بيده وصدره يموج كمرجل ناري...

"طالما بتتلكك يبقا نفضها أحسن يا عزة..."

جحظت عينيها بصدمة وشعرت بقلبها يهوى من أعلى جبل معاتبةً إياه...

"أخص عليك يا سي سلامة... مكنتش أعرفك بياع كده... بساهل كده..."

تأفف سلامة وهو يشيح عينيه عنها قائلًا بوجوم...

"مش بساهل... بس أنا مش داخل حرب... دا جواز... يعني لو مفيش قبول يبقا بلاها..."

قالت عزة بحزن...

"في قبول مني... أمال جيت معاك لحد هنا ليه..."

سألها واجمًا...

"طب وبالنسبة لخالتك..."

قالت بعنفوان محتدة...

"إنت هتجوزني ولا هتجوز خالتي... طول بالك يا سي سلامة مش كده..."

زاد تجهمه وهو يقول بقلة صبر...

"مطولة يا عزة...بس هنرجع حتة من
الدهب... يا تاخدي الخاتم يا الدبلة...
دا اللي في استطاعتي يا بنت الناس...
وشِيلِي فلوسك أنا مش عايزها..."

نظرت عزة إلى يدها التي ما زالت تقبض على المبلغ الذي ادخرته لأشهر طويلة بعيدًا عن عيني خالتها...

اقتربت منه خطوة تقنعه همسًا....

"وفيها إيه يعني يا سي سلامة لو خدنا الحتتين... ما أنا عاملة حسابي وجايبة الفلوس اللي قولتلك عليه قبل كده...

"خلينا نجبهم قدام خالتي وخلاص... وكده كده جبت اتنين أو تلاتة... أهم في إيدي الدهب مش بيخسر وكل يوم سعره في العالي..."

صاح سلامة مستهجنًا الوضع...

"وأنا مش عايز كده يا عزة... مش هاخد منك فلوس... أنا مش عويل..."

رق قلبها ونظراتها نحوه وهي تقول بصدق مس قلبه بشدة....

"والله ما أقصد كده... دا إنت سيد الرجالة... بس بالله عليك ما تكسر فرحتي... مشي الدنيا معايا وخد الفلوس مني... بلاش تحرجني وتحرج نفسك..."

رفض سلامة بملامح منزعجة....

"يا عزة اسمعي..."

قرّبت المال من يده برجاء....

"بالله عليك... يا سي سلامة..."

وقبل أن يبعد يدها عنه ظهرت خالتها من خلفهما تسألهما بتجهم...

"إنتوا واقفين برا بتعملوا إيه... الراجل زهق وقرب يشيل بضاعته مكانها..."

دفعت إلى سلامة المال بسرعة فأخذه منها على مضض وهو ينظر إلى خالتها بضيق والتي بدورها رفعت حاجبها متوجسة من التصاقهما هكذا... ثم سألته بتهكم....

"إنت مش معاك فلوس ولا إيه يا سلامة؟"

رد بحنق مكتوم...

"لا معايا يا حماتي... الجيب عمران..."

امتقع وجهها أكثر وهي تعقب...

"حماتك؟!.... طيب... وطالما الجيب عمران مدفعتش ليه وخليت الراجل يكتب الفاتورة... ليه العطلة دي..."

ثم أضافت بغلاظة....

"هو إنت ياخويا ناسي إننا لسه هنطلع على أوضتك ونشوفها ناقصها إيه...وإيه اللي هتجيبه وإيه اللي علينا... خلينا نلحق
لحسان... الأيام بتجري وإنت مسربعنا..."

اقتربت عزة منها تهدئها قائلة....

"أهدي بس ياخالتي ما إحنا كنا واقفين بنتكلم في كده..."

نظرت إليها خالتها بعينين ثاقبتين جعلت عزة ترتجف داخليًا خوفًا من أن ينكشف أمرها...

"بتتكلموا قدام محل الصاغة؟...طب استنوا 
لما نخلص... كسفتوني قدام الراجل..."

ثم عادت إلى سلامة ترمقه بنظرة محتدمة..

"ساكت يعني يا سلامة؟"

تململ سلامة بعصبية....

"لا ساكت ولا متنيل... أنا هدخل أدفع تمن الدهب...خلينا نمشي..."

وحين غادر إلى المحل بخطوات غاضبة ووجه مقتضب قالت الخالة بدهشة....

"ماله ده..."

تنهدت عزة بعذاب...

"وبتسألي كمان ياخالتي..."

تطاير الشرر في عيني خالتها التي وبختها بالقول....

"بطلي هبل... ما طلع معاها أهوه... وبعدين 
هو الدهب بيخسر؟... دا قيمته بتعلى كل ما قعد..."

هتفت عزة بعينين متوسلتين ونبرة توشك على البكاء....

"لو بتحبيني ياخالتي مشي الدنيا معايا وكفاية اللي عملتيه هنا... بلاش وإحنا في شقته تقعدي تطلعي القطط الفطسانة وتحَمّليه
فوق طاقته..."

مطّت خالتها فمها ساخطة....

"شقة؟!.... دي أوضة فوق السطوح يا مايلة..."

صرّت على أسنانها بغيظ شديد منها....

"عجباني ياخالتي... بالنسبة ليا قصر على النيل... عايزة إيه إنتي بقا..."

لوّحت خالتها بيدها باستياء وهي تنظر إلى محل الصاغة بقلق...

"هعوز إيه منك اتنيلي... أما أروح أشوفه عمل إيه... لحسان يبدلهم بدهب صيني ويضحك علينا..."

صاحت عزة من خلف ظهرها...

"ياخالتي حرام عليكي مش كده..."

بينما تمتمت الأخرى هازئة...

"ما إنتي هبلة ومتعرفيش حاجة..."

ارتسمت على وجه خالتها أماراتُ التجهم وعدم الرضا وهو حالٌ لازمها منذ ان عُرضت 
هذه الزيجة ووافقت ابنة أختها عليها..

كانت الغرفة أقلّ من بسيطة جدرانٌ باهتة أكلعليها الزمن وأرضيةٌ من بلاط قديم يعود إلى أيام المماليك رديئةٌ وباردة....

يوجد الحمام في زاوية صغيرة بالكاد تكفي لوقوف شخص واحد لا يتحمّل اثنين مهما كانت الظروف الطارئة...

وفي ركن آخر مفتوح على الغرفة طاولة صغيرة وموقد سطحيّ يُفترض أنه المطبخ !

ما هذا البؤس الذي تسير إليه ابنة أختها 
بنظرة حالمة !....

حتى الأثاث بسيط ومتهالك سريرٌ صغير مقعد وأشياء اخرى لا داعي لها تضيف إحساسًا بالضيق لا بالترحاب....

غرفةٌ كهذه…في النهاية هي غرفة ستعيش فيها وتنجب أطفالًا يخرجون إلى المجتمع ساخطين أوّلهم على والديهم الذين لم يوفّروا لهم حياةً كريمة واللذين ظنّوا أن الزواج بدايةٌ لفكّ العقد بينما هو عقدةٌ جديدة في سلسلةٍ لا تنتهي !....

"حلوة أوي يا سي سلامة وواسعة...."

قالتها عزة بسعادة لا تُوصف وكأنها ترى شيئًا آخر لا تراه خالتها التي تزداد ملامحها قتامة بعد ردها....

ابتسم سلامة وهو يوضح الخطوة القادمة...

"هي الحيطان محتاجة تاخد لون... كمان لسه في أوضة النوم...."

قالت الخالة بملامح مكفهرة...

"والتلاجة...... والبوتجاز...."

رد سلامة وهو يشير إلى الموقد السطحي الذي يحتل الطاولة الخشبية الصغيرة....

"البوتجاز موجود أهوه هيتغسل غسلة نظيفة وهيبقى شامع ومنور..."

ثم أشار إلى ثلاجة صغيرة قديمة الطراز بالقرب منه....

"والتلاجة بتاعتي أهيه... صغيرة بس شغالة...."

قالت خالتها بضيق...

"بس دي قديمة أوي... وعزة عروسة و..."

بلغ الصبر منتهاه عند سلامة فهو لم ينسى فعلتها في الصاغة...

"هي شغالة...وده اللي في استطاعتي.. مش معايا أجيب تلاجة جديدة إنتي عارفة أسعار الأجهزة...."

قالت الخالة بتهكم...

"على كده مفيش تلفزيون... هتقعد تكلم الحيطان...."

تدخلت عزة بمداهنة تقول...

"واحدة واحدة نجيب كل حاجة يا خالتي...  نجيب المهم الأول...."

استشاطت الخالة غضبًا منهما...

"هو في أهم من التلاجة والبوتجاز والتلفزيون؟.... انتوا عايزين تنقطوني
ولا إيه؟....."

قالت عزة برجاء...

"صَلِّي على النبي يا خالتي... كل حاجة محلولة..."

قالت خالتها بعد تنهيدة...

"عليه أفضل الصلاة والسلام...."

ثم استأنفت عزة قائلة...

"التلفزيون بعدين... والتلاجة موجودة أهيه الحمدلله والبوتجاز كمان... هعوز إيه تاني؟"

قالت الخالة معترضة...

"طب والحمام... السباكة فيه عايزة تتظبط.."

وافقها سلامة بهدوء محاولًا دفع المركب مع عزة لتسير  بسلام....

"هعمله إن شاء الله... وهغير الحمام كله..."

قالت الخالة بتحكم....

"وأوضة النوم تيجي جديدة... مش عايزين حاجة مستعملة...."

قالت عزة بسرعة...

"حتى لو مستعملة ما فيهاش حاجة...."

رفض سلامة وهو يوافق خالتها مجددًا فهذا ما ينوي فعله لو فقط تصبر قليلًا...

"لا يا عزة......الجديد كله يجيلك... هشتري أوضة نوم محدش نام عليها قبلنا...."

نال الرد رضاها فقالت الخالة بصلف...

"وانت ما تشيلش هم التنجيد... إحنا هنجد بكرة ولا بعده... وكمان بقيت الحاجات اللي ناقصة هنكملها... وبرضو على قد ما ربنا يقدرنا..."

اغتصب سلامة الابتسامة قائلًا...

"على بركة الله يا حماتي... يبقى اتفقنا... والفرح في معاده...."

قالت باقتضاب...

"إن شاء الله بس انت شِهِل في الأوضة دي..."

قال بصعوبة...

"هبدأ من بكرة إن شاء الله...."

قالت بعد تنهيدة طويلة...

"على الله...."

ثم فجأة وضعت يدها على صدرها جافلة بفزع بعد أن أطلقت عزة زغروطة عالية تعبر عن فرحتها العارمة باقتراب حلمها بالزواج منه....

ابتسم سلامة ابتسامة باهتة لم تبلغ الفرحة

بينما أطرقت خالتها برأسها داعية لها بصلاح الحال فهي لا تتمنى سوى فرحتها وراحتها بعد سنوات الشقاء التي عاشتها في الشارع.
...............................................................
جلست أمام مرآة الزينة تمشّط شعرها الطويل الأسود يتهادى على كتفيها كموج بحرٍ ثائر يحمل في تموّجاته شيئًا من روحها المتمرّدة وصلابة عقلها…

تلونت ابتسامتها برقة وعيناها تشردان في جمال التفاصيل التي عاشتها معه أسبوعًا كاملًا قَضته في أحضانه.... تلك الشقة التي كانت في السابق مكانًا مؤقتًا للعيش أصبحت جنّتها وبيتها الآمن بعد أن أصبحت زوجة الشيخ…

تنهدت بأنوثةٍ ناعمة فتلك الأيام أفقدتها عقلها في حضرته وأذاب قربُه قلبَها حتى أصبحت تذوب بين يديه أسيرةً لسحره وسطوته…

الشيخ يشبه الربيع في حياتها أتى ليغيّر كل شيء للأفضل ليجعل بتلات الورد تتفتح بين يديه والفرحة تعرف الطريق إلى عينيها التي أصبحت تلمعان كالنجوم في سماه…

ستتذكر جمال تلك الأيام وأيامًا قادمة
معه..

أتى في عقلها ذكرى صباح اليوم وهو يندس إلى الفراش بجوارها بعد صلاة الفجر وبعد أن قضتْ فريضتها هي أيضًا ودخلت إلى الفراش قبله...

رأته يضمها إلى صدره كعادته في أول يوم
لهما والأيام التي تلت...بدأ يردد أذكار الصباح بصوتٍ رخيم مسموع قليلًا... فتحت عينيها ونظرت إليه فسألها...

(بتقولي معايا؟...)

أكدت بابتسامة تقطر شهدًا في عينيه...

(زي كل يوم يا شيخ..)

ارتاح قلبه وهو يعلمها عادة جميلة يتشاركانها بعد الفجر حتى الشروق...

بعد أن انتهى من قول الأذكار سألها
بهدوء...

(مبسوطة معايا يا شروق؟..)

بعد أسبوع كامل يسألها هذا السؤال تأخر كثيرًا.... إنها تحلّق في سماء الحب منذ أن وقعت على وثيقة الزواج...

(الحمد لله..)

رد جميل لكنه لم يُشبع فضوله بالقدر الكافي فسأل بنفس وتيرة الهدوء...

(مش ندمانة صح؟..)

عقدت حاجبيها متوجسة وهي تستكين على صدره كوطنٍ آمن لها....

(إيه السؤال ده يا صالح؟.... ليه هندم مين المجنونة اللي تندم إنها اتجوزت واحد زيك انت النصيب الحلو اللي ربنا كان شايله ليا.)

لم تدعي عكس ما هي عليه لطالما انهزم أمام جسارتها كأنثى وصراحتها في كثير من الأحوال....

(انت بقى....مبسوط معايا ولا نص نص؟)

أتى دورها في طرح الأسئلة فأجابها بجدية أَجفلتها...

(نص نص…)

زمت شروق فمها عابسة وهي ترفع رأسها عن صدره تواجه عينيه الخضراوين المشاغبتين لها....

(اتقي الله يا شيخ… انت لسه مصلّي ليه بتكدب…)

ابتسم صالح قائلًا بمراوغة...

(ما ممكن تكون الحقيقة يا غزالة الشيخ…)

عضّت على شفتها السفلى وهي تفكر في
الأمر بجدية ثم قالت فجأة...

(يعني أنا مقصرة معاك؟ أحلف... أنا كنت حاسة.... أنا هقوم أغير القميص ده وألبس واحد أقصر...)

اتسعت عيناه قليلًا وهو يسألها 
بدهشة...

(وإيه دخل هدومك في التقصير؟)

اندفع لسانها يفصح عما أبدعه عقلها فيه
بعد تفكير....

(ماهي الحاجات دي اللي…)

توقفت مصدومة من نفسها فظهر الاهتمام جليًا في عينيه وهو يحثها على المتابعة...

(كملي اللي إيه...)

مطّت فمها عابسة بشدة وهي تقول...

(انت بتجر رجلي عشان نتكلم في الحاجات دي وكده مـ...)

تابع عنها ببراءة...

(حلال شرعًا نتكلم فيها... انتي مراتي...)

حرّكت شروق بؤبؤ عينيها يمنة ويسرة تفكر في الأمر بجدية ثم قالت بوقاحة...

(يعني التقصير من هنا....خلاص نتكلم قول وأنا أقول...)

ضحك صالح بملء شدقيه فتأملته شروق بعينين مبتسمتين بالحب فكلما ضحك من قلبه صغر سنًا وزادت وسامته خطورةً على قلبها الهائم في حضرته…

وحين توقف عن الضحك وتعلقت بقايا الضحكة بسمته المشاكسة على محيّاه 
فقال بمناوشة....

(استغفر الله.... هتفسدي أخلاقي...)

ارتفع حاجبها وابتسمت قائلة...

(على فكرة هي مفسودة... بطل كدب...)

قال صالح بمراوغة...

(انتي السبب... تحبي أفكرك.. برج
الحمام مثلًا...)

(كانت صُدف…)

قالتها وهي تهرب من نظرات عينيه فقال صالح بشك...

(أصدقك لو أقسمتي…)

ضحكت وهي تعترف بحرج...

(مش كلها... في أوقات كنت بتلكّك وانت
كمان كنت بتتلكّك صح…)

أكّد صالح دون مواربة...

(أصلك معدية يا غزالة وكان لازم أتلكّك أنا كمان زيك.... لحد ما أشوف آخرتها…)

قالت بانتصار أنثوي...

(وآخرتها أهيه بقيت في حضنك…)

رد بامتنان حقيقي...

(الحمد لله إنها انتهت بالحلال…)

ثم رأته يبتعد عنها بهدوء مغادرًا الفراش
بعد أن ظهرت أول خطوط الشمس من
بين فتحات الشباك....

(رايح فين؟...)

رد عليها بهدوء...

(الشغل يا شروق…)

عبست محبطة...

(الشغل... بالسرعة دي..)

أكّد صالح بصوته الهادئ...

(أسبوع بحاله مقضيه معاكي وخلص…
لازم أنزل الشغل...الحمل كله كان على
ياسين الفترة اللي فاتت... كفاية كده…)

أومأت برأسها توافقه الرأي...

(عندك حق... ربنا يقويك... دقايق والفطار يكون جاهز...)

بعد مدة من الوقت أنهت الفطور ووضعته على السفرة ثم دلفت إلى الغرفة فوجدته قد انتهى للتو من تمشيط شعره بعد أن تأنق في حلّة فخمة ورش عطره الفوّاح العود…

أخذت نفسًا عميقًا من عبق العطر لكنه لم يَرُق لها بالقدر الكافي فهي تفضل أن تستنشق عبير العود بين أحضانه ممزوجًا برائحته الرجولية ليمنحها إحساسًا بالدفء… إحساسًا بصالح الشافعي حبيبها…

تنهدت وهي تكبح مشاعرها المتلهفة له فهو ولمدة أسبوع من زواجهما لم يبادر بقول 
شيء يريح قلبها…

أفعاله تحكي الكثير لكن لسانه ينحسر في مكانٍ معيّن لا يفصح عن أي شيء عاطفي بينهما...

مع أن كل لمسة وكلمة بينهما تحكي عن بحر عاطفة لا ينفد…

(الفطار جهز يا صالح...)

قالتها وهي تخطو نحو بقميصها الناعم الذي يرسم قدّها الفاتن وشعرها الغجري الأسود الذي ينطلق بجنون يضاهي مشاعرهما معًا…

تأمّل صالح بُنيتها الشبيهة بعيون الغزلان وحسنها وهي تمد يديها بحنو تهندم ياقة قميصه قائلة ببعض الغيرة...

(عيني عليك باردة... أخاف تخرج حد يبصلك كده ولا كده…)

رد صالح وعيناه تنهالان من حسنها...

(مش مهم....المهم أنا عيني فين...)

قالت بتسلط أنثوي...

(في الأرض طبعًا... غض البصر يا شيخ...)

ابتسم صالح وهو يداعبها بعينيه ولسانه...

(ده اللي بيحصل... الحاجة الوحيدة اللي ماعرفتش أغضّ البصر عنها هي انتي…
وشاء الله تكوني حلالي…)

تعثر قلبها بالخفقات حتى أصبح خارج السيطرة وهي تتنهد قائلة بدلال...

(مش بعرف أغلبك بالكلام... ومش مصدقة
إن الأسبوع خلص بسرعة…)

وضع صالح يده على خصرها يتحسّسه قائلًا بهمسٍ أجش...

(إحنا مع بعض كل يوم يا شروق... آخر النهار هتلاقيني عندك...)

سألته وهي تميل عليه...

(طب تحب تاكل إيه على الغدا؟)

رد مبتسمًا...

(اللي تعمليه هاكله... اختاري انتي..)

ثم سألها هو بدوره...

(تحبّي أجبلك حاجة وأنا راجع؟)

رفضت شروق برقة...

(مش عايزة حاجة...التلاجة فيها كل حاجة)

أخرج مبلغًا ليس بسيطًا من المال ووضعه في يدها قائلًا برفق....

(خلي برضو الفلوس دي معاكي يمكن تحتاجي حاجة... ووأنا مروّح بإذن الله هبقى أكلمك أسألك تاني يمكن تغيّري رأيك…)

نظرت إلى المال ثم إلى عينيه ولا تصدّق
أنها تُعامَل كأمَرة بعد كل تلك السنوات تنال الاحترام والحب على يد رجل في روعته…

قالت بعينين تلمعان بالحب والامتنان لوجوده في حياتها...

(ربنا يخليك لينا ويبارك لنا فيك ويوسع رزقك…)

عادت تتنهّد مجددًا وكأنها تلتقط أنفاسها بين كل ذكرى وأخرى ومع كل خفقة وأخرى…

شعرت بيده تلتقط خصلات شعرها وتُرجعها إلى الخلف.... نظرت شروق إلى صورته المنعكسة في المرآة غير مصدّقة أنه أتى
بعد كل تلك الساعات الطويلة التي قضتها تفكّر فيه…

"صالح.... جيت إمتى؟.... أنا ما سمعتش الباب…"

نظر صالح إلى صورتها المنعكسة في المرآة أثناء وقوفه خلفها…

"أنا بدأت أقلق عليكي من السرحان ده…
انتي كويسة؟..."

ابتسمت بخجل قائلة...

"لما شوفتك بقيت أحسن... جيت بسرعة."

"عشانك... "

قالها وأصابعه تسبح في خصلات شعرها وعيناه هائمتان في تموّجاته الطبيعية الفاتنة…

سألته شروق...

"بتعمل إيه؟"

"ضفيرة… حاسس إنك بيها هتبقي أحلى."

أجابها وهو يشرع في نسج جديلة طويلة وجميلة من تلك الأمواج الثائرة لعله يهذبها ولو قليلًا فهي تثير مشاعره أكثر نحوها مثل عيني الغزال مثل كل شيء تمتلكه تلك المرأة قلبًا وقالبًا…

قالت ضاحكة...

"متأكد؟.... كده هبقى أصغر من ملك…"

داعبها بالقول...

"ومين قالك إنك أكبر من كده…"

رأت شروق تركيزه الشديد فيما يفعل فقالت وهي ما زالت تجلس على مقعدها....

"كان يوم حلو؟... "

قال بعد تنهيدة طويلة....

"يوم مليان بألف مبروك... عقبال ما نشيل عيالك.... "

قالت بدهشة والضحكة لا تفارق شفتيها...

"بجد؟.... شكلك زعلان مش عايز تجيب عيال…"

هز رأسه موضحًا بصوتٍ حانٍ...

"أكيد عايز... مين يقول لا لنعَم ربنا… انتي بقى عايزا؟... "

أومأت برأسها بحرارة...
"طالما انت أبوه ليه لا… ياريت يا شيخ…"

رد بهدوء كالبلسم....

"كله بأمر الله يا غزالة الشيخ…"

"إيه رأيك…"

قالها وهو يتركها بعد أن انتهى في وقتٍ قياسي... نهضت شروق وهي تتلاقى بعينيه الحبيبتين لقلبها…

لمست ضفيرتها الطويلة السوداء التي جعلتها تبدو كـفتاة في بداية العشرين من عمرها…

"اتعلمت التضفير فين؟..."

سألته بإعجاب لا يخلو من الدهشة فذكرها هو بفخر أبوي...

"انتي ناسية إني أب لبنت ولا إيه... دي
أول حاجة بتعملها... "

قالت بابتسامة ناعمة...

"صحيح إزاي نسيت... طيب أنا هلبس وهطلع أحضر السفرة عشان نتغدى كلنا سوا…"

رفض صالح وهو يحيط خصرها بكلتا ذراعيه بتمَلّك رجولي...

"مش دلوقتي…"

سألته بغباء منقطع النظير.....

"ليه مش دلوقتي؟...زمانهم مستنيينك من بدري.... خليني ألحق قبل ما خالتي تنادي 
عليا …"

رد همسًا وهو يقترب أكثر من وجهها 
المليح....

"مش هتنادي...... يــا شـــروق..."

خفق قلبها بقوة منتبهة بعد همسته الثقيلة باسمها.... تبادلت معه النظرات بشوق أكبر فقال صالح وهو يلمس ضفيرتها بإعجاب....

"تعالي نفك الضفيرة تاني…"

سألته شروق بوجنتين حمراوين...

"انت إيه حكايتك مع شعري بالظبط؟"

رد بصوت عميق وعيناه تجوبان تفاصيل وجهها المليح...

"نفس الحكاية اللي مع عنيكي… الثبات صعب قدامهم…"

ضحكت بصوتٍ أنثوي...

"هتغرّ كده…"

أجابها وهو يجذبها إلى صدره...

"يحقلك يا غزالة...الغرور ليكي مباح..."

ثم بعد لحظة شعرت بساقيها ترتفعان عن الأرض لتصبح بين ذراعيه يحملها وهو يمارس فنون الهوى على قلبها والقيد بينهما يشتد إلى ما لا نهاية...
.................................................................
دلف ياسين إلى الشقة في الطابق الثالث فوجد جدته تجلس تشاهد التلفاز وبرفقتها ملك الصغيرة التي تمسك دفتر الرسم وتُلوّن فيه بتركيز شديد...

"سلام عليكم..."

ابتسمت الجدة وهي ترفع عينيها إليه بمحبة

"وعليكم السلام.... كلمتك وقت الغَدا مش
بترد ليه؟..."

"كنت قاعد مع صحابي... "

أجابها ياسين وهو يخطف الدفتر من ملك بمناوشة سائلًا...

"بتعملي إيه يا ملوكة؟... "

قالت ملك بابتسامة رقيقة...

"بلوّن الأميرة.... حلوة؟!"

أجابها وهو ينظر إلى تلك الرسمة

"جميلة... "

سألته ملك...

"تقدر تخمن شبه مين؟"

قال دون تفكير...

"شبهك أكيد... "

هزّت رأسها نفيًا قائلة ببراءة...

"لا غلط... عينيها سودا وبتلمع وشعرها طويل... تبقى شبه أبرار..."

تمعن ياسين في تلك الرسمة وشعر الأميرة الطويل الناعم فبلع ريقه سائلًا بعاطفة متأججة...

"شعر أبرار طويل كده؟!..."

أكدت ملك بغيرة طفولية...

"آه.... لحد آخر ضهرها وناعم أوي…"

تدخلت الجدة بحزم تُوبّخها برفق...

"عيب يا ملك... أبرار محجبة مينفعش توصفيها لحد.... حتى لو لياسين... "

اعتذرت ملك بأدب...

"حاضر يا تيتة أنا آسفة... مكنتش أعرف... "

تمالك ياسين أعصابه قدر المستطاع وهو يسأل الجدة بهدوء...

"هو عمي فين صحيح.... لسه تحت؟"

قالت الجدة بهدوء...

"طلعوا اتغدوا وخدوا قعدتهم معانا شوية ونزلوا... شوية وهيطلعوا تاني... "

بدت عيناه تبحثان عنها وهو يقول...

"وفين أبرار؟..."

قالت الجدة بقنوط...

"معرفش بتعمل إيه في المطبخ... وعمالة تقلي إيه في الزيت وكل ما أسألها متردش عليا…"

"هقوم أحط لك الغدا... "

قالتها الجدة وهي تنوي النهوض فمنعها ياسين وهو يقف قبلها قائلًا بعد نحنحة خشنة...

"لا أنا اتغديت معاهم... خليكي زي ما إنتي
أنا هروح أعمل شاي... أعملك معايا؟"

رفضت الجدة ناظرة إليه بعدم رضا تود أن تمنعه من الدخول إلى حفيدتها وفي الوقت نفسه قلبها لن يطاوعها بكسر فرحته وحبه الظاهر للأعمى…

ماذا ستفعل وسعادة الاثنان معلّقة ببعضهما
أي رفض سيكسر كلاهما معًا…

لو علم صالح بهذا ستكون النهاية حتمًا…

شاكس ياسين ملك قائلًا...

"تشربي شاي معايا يا ملوكة؟..."

خجلت الصغيرة رافضة بكياسة...

"لا يا عمو شكرًا... "

تحرك ياسين صوب المطبخ بخطواتٍ هادئة فيما قلبه يقفز بسعادةٍ وشوقٍ لرؤيتها...رؤية مجرة الكواكب خاصته...

هل حقًا شعرها استطال حتى آخر ظهرها؟
كان منذ طفولتهما مأخوذًا بذلك الشعر الأسود الناعم اللامع كالليل...

هل ما زال قادرًا على افتتانه كمجرة عينيها البراقة... كشقاوتها وكلامها ومزاحها كل شيء قادر على افتتانه طالما من أبرار.... ابنة عمه... حبيبته أولًا وأبدًا...

رآها تقف عند الموقد كالعادة في الطوارئ وحين تسمع صوت الباب وتعرف أنه هو 
يكون أقرب شيء لها هو خمار الجدة الذي
كان يغطيها حتى بعد ركبتها....

خمار الجدة أو إسدال الصلاة الخاص بها
أكثر الأشياء التي يراها ترتديها ومن النادر
أن يراها بطاقم أنيق أو فستان مثل الفتيات بالخارج....

دقق النظر فيما تفعل فراها تقلّي شيئًا يشبه الكرات الصغيرة لكنها تخرج من يدها مشوهة كالوحوش الصغيرة كرات لها أذرع وأرجل وأحيانًا خمس أذرع.. أشكال غريبة تخرج 
من بين يديها....

جعلته يزم فمه وهو يراها وبعد القلي تضعهما في العسل ما يُسمّى (الشربات) الذي أعدته بنفسها....

أخذ ياسين خطواته نحوها بحرص حتى
وقف خلفها على بعد خطوات صارخًا
فجأة...

"بتعملي إيه بالضبط؟..."

وضعت يدها على صدرها مفزوعة ولم يسعفها الوقت للصراخ فكان صوتها يختنق في حلقها لحظة....

استدارت لتنظر إليه بغيظ شديد فابتسم لها بوسامة مستفزة قائلاً....

"مسا مسا يا أبراري... "

لوحت بالمعلقة الكبيرة التي تمسكها وهي تقول باهتياج...

"انت خليت فيها مسا ولا صباح... تقريبًا 
اتقطع خلفي بسببك.... أي العبط ده
يا ياسين !..."

استهجن ياسين ردها قائلاً بوقاحة...

"تفي من بوقك...خلف إيه اللي يتقطع
أنا ناوي أجيب منك اورطة عيال…"

افترّت شفتيها في ابتسامة ذاهلة وهي 
ترد عليه...

"أورطة؟!.... أجيبك منين يا صحة.؟!"

غمز لها بوقاحة قائلاً....

"يمكن تيجي على الجواز... قولي إن
شاء الله..."

وضعت أبرار يدها على خصرتها وقالت بصلابة...

"إن شاء الله... إيه اللي دخلك المطبخ ورايا بقى؟.... أفرض بابا طلع دلوقتي يقول علينا إيه... "

رد ياسين ببرود...

"مانا مستنيه يطلع عشان أكلمه…"

تعثر قلبها في الخفقات وقالت
بخوف....

"تاني يا ياسين…"

أكد ياسين عازم النية...

"تاني وتالت...أنا مش هستنى أكتر من 
كده طلعي نفسك منها وسبيني أتصرف…"

ظهر القلق على ملامحها وسألته...

"ربنا يستر.... يعني انت ناوي النهادرة…"

أكد عليها دون أدنى تردد....

"النهارده حتى لو مطلعش أنا هنزل أشرب معاه كوباية شاي وأفتحه في الموضوع…"

زمت فمها مترددة....

"مش عارفة.... انت مستعجل على إيه؟"

استنكر ياسين خوفها قائلاً برصانة...

"وليه نأجل يا أبرار؟... ما كفاية كده فرحة خلص واجازته خلصت ونزل الشغل كمان هستنى إيه تاني لما أشيل عياله…"

قالت بوجوم...

"مش قصدي بس…"

قاطعها ياسين مقنعًا إياها....

"خلّيني أكلمه... وبعد الامتحانات بتاعتك… نكتب الكتاب... "

فغرت فمها بصدمة معقبة بخجل شديد...

"كتب كتاب علطول؟!"

أومأ برأسه بنظرة عابسة وقال بخشونة...

"أه مش عايز خطوبة أنا... في وضعنا ده
كتابة الكتاب أسلم حل عشان آخد راحتي معاكي وانتي كمان… وتقلعي أم الخمار اللي قرفاني بيه ده…"

شهقت أبرار بصدمة وهي تنظر إليه
بضيق...

"اه يا قليل الأدب....مش هخليك تشوف شعري…"

تبرّم ياسين قائلاً بأسلوب فظ...

"تلقيكي كارته بقى عشان كده...خايفة
أكتب الكتاب وشوف شعرك…"

توسعت عيناها مشتعلتين بالغضب
وضربته في صدره....

"كارته في عينك... اتلم... "

ضاقت عينا ياسين وهو يستفزها بصبيانية أكثر....

"تبقي مقملة... اعترفي لو مقملة هكتب عليكي وأفليكي.... متقلقيش…"

دبت الأرض بقدميها بوجهٍ محمر بالغَيظ 
وهي تحذره من بين أسنانها...

"ياسين كلمة كمان وهتلاقي الطاسة دي
في وشك…"

تراجع ياسين وهو ينظر خلفها حيث الموقد سائلاً....

"مجنونة وتعمليها... انتي بتقلي إيه 
صحيح... إيه العك ده؟"

رمقته بتجهم وهي تعود إلى الموقد...

"العك ده زلابية... أي مش باين إنها زلابية غارقنه في الشربات…"

عقب ساخرًا وهو ينظر إلى أشكال الكرات العجيبة المخيفة....

"زلابية.... أول مرة أشوف للزلابية دراع ورجل... ده نوع جديد من الزلابية.."

رفعت أبرار رأسها بفخر قائلة....

"ميغركش الشكل المهم الطعم… أنا مشيت على الوصفة بحذافرها وطعمها حلو أوي... وشربه من الشربات إيه مقولكش… مقرمشة من برا وطريّة وعسل من جوه…"

مدّت له واحدة من الكرات العجيبة التي
تبدو شهية رغم شكلها الغريب....

رفض ياسين مبعدًا رأسه عنها...

"لا.... مش عايز…"

قالت بسطوة أنثوية تهدده...

"لو مدوقتش مفيش كتب كتاب... وهخليها خطوبة غصب عنك... "

هتف ياسين بشراسة متوعدًا لها إن
فعلت....

"والله هجيبك من شعرك... لو لعبتي في الإعدادات سبيني أرتبها مع أبوكي اللي
مش عارف رده هيكون إيه عليا…"

قربت الحلوى من فمه وبإلحاح شديد
وقالت....

"طب كل الأول من إيدي بالله عليك…"

نظرة إلى سعة عينيها السوداوين ثم إلى الحلوى العجيبة مترددًا....

"ما بلاش يا أبراري... شكلها مش قد كده…"

"ملكش دعوة بالشكل... طيب والله طعمها جميل... دوّق بس كده... "

ألحت أبرار بعينين بريئتين كقطة صغيرة
لطيفة مصرة على أن يقع في غرامها فوقع للمرة التي فشل في عدّها وهو يأخذ منها الحلوى.....

"هاتي واحدة كمان كده…"

قالها ياسين وهو يمضغ الحلوى المقرمشة والتي ينساب من قلبها العسل ينفجر في فمه فاتحًا شهيته أكثر فلا تكفيه واحدة ويشتهي المزيد منها.....

أطعمته أبرار بيدها مرة أخرى فمضغ ياسين الحلوى وعلامات الرضا تعلو وجهه وهو يعقب باستمتاع....

"وحشة أوي... "

توسعت عينا أبرار بصدمة قائلة...

"بطل كدب....وبتاكل منها ليه تاني؟"

مد يده وأخذ ثلاثة منها وزج بهما في فمه
مرة واحدة....

"عشان وحشة…"

زمت أبرار فمها بانزعاج..

"ياسين.... هزعل بجد...."

ابتسم ياسين وهو يقبض على كفها بحنو مقربًا إياها منه وهو يطبع القبل عليها...

"عيون ياسين... تسلم إيدك يا حبيبة قلبي…"

تخضبت وجنتاها بخجل وهي تقول بهمْس ناعم....

"تعرف إني عملتها عشانك أصلاً…"

برقة عيناه بسعادة....

"بجد عشاني يا أبراري…"

أكدت أبرار بعينين غارقتين في الهيام وهو يبادلها الشعور نفسه في بحر من الغرام يجرفهما معًا....

"أمال عشان مين يعني.... ماما كانت بتعملها لينا زمان... هي كانت أحسن من كده... بس أنا فاكرة كويس إنك كنت بتحبها…"

زم ياسين فمه طابع القبل مجددًا على يديها الصغيرتين الناعمتين...

"مش فاكر بصراحة....بس أنا هجدد حبي
ليها.... عشان من إيدك إنتي…"

"يــاسـيـــن......." 

دوى هذا الصوت العنيف فجأة في أرجاء المطبخ فانتفضا كلاهما وتركا أيديَ بعضهما وهما يلتفتان بذهول نحو صالح الذي دلف
للتو وقد التقط بسمعه ذلك الحديث المتبادل بينهما ورأى تشابك أيديهما وقبلات ياسين على يد ابنته وتلك النظرات الطويلة التي تبادلاها....

مشهدٌ يؤكد دون أدنى شك أنّ هناك شيئًا ما يحدث من خلف ظهره لفترة....

توقف قلب أبرار وهي تحدق في والدها بصدمة والدموع تتجمع في عينيها برهبة

بينما صالح يقف عند عتبة المطبخ كالمارد أمامهما ملامحه تزداد شراسةً وظلمة يوزع نظراته الغاضبة المصدومة عليهما فكلاهما خذلاه دون ذرة حياء....



تعليقات