رواية اشتد قيد الهوي الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم دهب عطية


 رواية اشتد قيد الهوي الفصل التاسع والعشرون 


أثناء صعودها درجات السلم سمعت ضجيجًا صادرًا من الشقة فاقتربت بخطوات سريعة يملؤها القلق....

توقفت عند عتبة الباب المفتوح بعينين متسعتين شاعره بقلبها يسقط ارضًا 
من شدة بهلع 

بعدما رأت صالح يقف كالمارد الغاضب في وسط الصالة قابضًا بكلتا يديه على ياقة قميص ياسين الذي ظل صامتًا يتبادل مع
عمه النظرات بملامح جامدة....

ما إن رأتها ملك حتى جرت نحوها وألقت بنفسها في ذراعيها فسألتها شروق هامسةً …

"في إيه ياملك....." 

اجابتها ملك برهبة....

"معرفش ياماما.... عمو لما طلع دخل المطبخ 
وبعد كده قعد يزعق لابرار وياسين...." 

كلمات ابنتها لم تطمئن قلبها بل زادت الأمر سوءًا في داخلها.... بلعت ريقها متوجسة وعيناها تبحثان عن أبرار والجدة لتراهما 
في الجهة الأخرى أبرار صامتة تبكي وجهها شاحب كشحوب الأموات تتابع اشتباكهما مبهوته بينما الجدة تحاول فك النزاع بين حفيدها وابنها بكلماتٍ لم تجدِ نفعًا....

نظر ياسين نحو أبرار فرآها مرتعبة ترتجف وهي تستند إلى الحائط وعيناها الحمراوان متعلقتان بهما بخوف من نهاية هذا الاشتباك الذي يحدث لأول مرة بينهما بكل هذا العنف.

ضغط ياسين على نفسه قدر المستطاع وهو يحاول نزع يدي عمه عنه قائلًا...

"ممكن تهدأ يا عمي... وتسمعني..."

زمجر صالح بغضب وغيرة....

"أسمع إيه بعد ما خنت ثقتي فيك يا ابن أخويا..... مالك ومال بنتي؟"

دافع ياسين عن نفسه قائلًا....

"مفيش حاجة من دي.... اهدأ عشان تفهم... "

جاشت مراجل صالح أكثر وهو يصيح بوجه محتقن بالغضب والخزي....

"أفهم إيه؟!.... أنتوا طول عمركم إخوات من أمتى بتحصل تجاوزات بينكم؟!....أنا مربيكم على كده... "

بلع ياسين ريقه معتذرًا عما بدر منه 
منذ قليل....

"غلطه وغصب عني..... أنا... "

صاح صالح بإهانة لاذعة...

"أنت طلعت زيك زيها.... ما خدتش حاجة 
من أبوك... "

شهقت أبرار ووضعت يدها على فمها بينما تحولت عينا ياسين إلى جمرتين من اللهب المتقد بعد أن شبّهه بأمه....

اقتربت شروق منه وأمسكت بذراع زوجها محاولة نزع يديه القويتين عن ياسين....

"صااالح سيبه واهدأ.... "

انتفخت أوداجه من شدة الغضب وهو ينظر إليها نظرة مهيبة ثم صاح بأمر قاطع...

"انزلي تحت....إيه اللي طلعك خدي بنتك وانزلي... "

تراجعت للخلف خطوتين وبعد نظرته الثاقبة وحديثه المحتد شعرت بأنها غريبة بينهما هي وابنتها....

فانكمشت في مكانها صامتة وشعور الغربة يضغط على صدرها كلما نظرت إليهما....

حاولت الجدة مجددًا وهي تقول بتعب...

"يا صالح.... بالله عليك يابني.... استهدِ 
بالله.. أبعد عنه واسمعه.... "

رفض صالح بغضب أعمى كأن شيطانًا 
تلبسه....

"مش عايز أسمع حاجة... وهو مش هيدخل الشقة دي تاني.... وبنتي أنا هعرف أربيها كويس... "

نظر إلى أبرار التي انتفضت بخوف فلأول مرة تشعر بالرهبة من أبيها الحنون معلمها الصبور

كيف تركت مشاعرها تقودها معه ولم تضع حدودًا تحجب عنها موقفًا محتدمًا ومخزيًا كذلك.....

عيل صبر ياسين فصاح في عنف....

"أنت واخد الكلام لوحدك ليه؟! اسمعني...
أنا بحبها....بحبها وعايز أتجوزها... "

سخر منه صالح...

"دلوقتي افتكرت الجواز.... وقبل كده؟…"

عاد صوت ياسين يعلو بتهدج....

"مفيش حاجة قبل كده... أنت لسه قايل إنك أنت اللي مربينا... أقسم بالله ما في حاجة بينا أكتر من مسكة إيد.... وأنا كنت ناوي أكلمك النهاردة.... عشان أطلب إيدها منك...."

أبعد صالح قبضتاه الفولاذيتين عنه بينما تابع ياسين بانفعال....

"أنا بحبها وبخاف عليها....دي بنت عمي قبل 
ما يكون في بينا أي حاجة…"

هتف صالح بصوتٍ بادر كالصقيع...

"لو كنت بتخاف عليها... وحاطط قدامك إنها بنت عمك... كنت احترمت نفسك 
واحترمتها.... "

ثم نظر إلى ابنته بخيبة أمل....

"بس العيب مش عليك لوحدك... هي كمان ما احترمتش نفسها.... ولا أبوها…"

تمنت أبرار أن تنشق الأرض وتبتلعها لعلها تهرب من هذا الكابوس وتستعيد احترامها لنفسها بعد كل هذا الخزي والمهانة....

جز ياسين على أسنانه بضيق ثم تسلح بالصبر قدر المستطاع قائلًا بصعوبة....

"مالوش لازمة الكلام ده يا عمي أنا مش واحد من الشارع... أنا ابن عمها.... وبقولك بحبها وعايز أتجوزها.... ردك إيه؟... "

"ردي إني ما عنديش بنات للجواز.... "

رد صالح ردًا حاسمًا جمد ملامح الجميع وعلت نظراتهم الدهشة....

اقتربت منه شروق مجددًا متحاملة على نفسها ومشاعرها وهي تقنعه بالقول....

"ليه بس يا صالح.... ما بيقولك بيحبها وعايز يتجوزها... وهي كمان بتحبه... ليه ترفض؟"

انتبه صالح إلى نبرة صوتها فنظر إليها بملامح مظلمة ونظرة قاسية في تعبيرها عند الغضب

"انتي كنتي عارفة... كنتي عارفة ومخبية عني؟.... "

أجفلها السؤال فازدردت ريقها بخوف حقيقي
وظهرت الاجابة جلية على وجهها....

تدخلت الجدة تخفف من وطأة الوضع بينهما قائلة....

"كلنا كنا عارفين يا صالح... وأنا قبل شروق.."

اشتد بريق الغضب في عينيه نحو الجميع وبالأخص هي....

"كلكم كنتم عارفين وأنا الـ…"

توقف قبل أن يلفظ شيئًا يندم عليه لبقية حياته عض على لسانه وهو يرمقها بنظرة مخيفة جعلتها ترتجف متراجعة للخلف 
حينها أمرها بصوت قاصف...

"انزلي تحت.... كلامي معاكي مش هنا... "

بلعت شروق ريقها بخوف حقيقي وهي تتوقع أنه سينهال عليها بالضرب والإهانات كما كان يفعل طليقها حين يغضب....

أطرقت برأسها وهي تغادر وابنتها بين يديها تحتمي بها والخوف كالمخالب الحادة ينبش في صدرها....

أطرقت برأسها وهي تغادر وابنتها بين يديها تضمها كدرع حامٍ لها فيما الخوف يمزق صدرها بمخالبه....

بعد أن أغلق الباب عليهما وبقوا الأربعة معًا كما كان دومًا لكن تلك المرة يقفون أمام إعصار شديد مؤكد سيزج بأحدهم إلى الخارج.....

قالت الجدة بصوتٍ متعب....

"صالح يا بني استهدِ بالله وكفاية كده...
مش هنتكلم دلوقتي…"

رفض صالح بتجهّم.....

"لا هنتكلم... حفيدك هو اللي وصلنا لكده... "

ثم نظر بعينين مظلمتين نحو ابن أخيه قائلًا بأمرٍ قاطع....

"اسمع يا ياسين انا مش عايز أشوفك هنا تاني. اعتبر نفسك ساكن مع ناس غريبة
عنك تبعد عن بنتي وتنسى اللي في دماغك ده... عشان انت وأبرار إخوات.... ومفيش حاجة أكتر من كده هتبقى بينكم... "

تكرار الرفض مجددًا جعل ياسين يصبح كالثور الهائج وهو يرى حب حياته يضيع من بين يديه بعد كل هذا الصبر والمعافرة ينتهي 
قبل حتى أن يبدأ بينهما....

"انت رافضني ليه؟... افهم أي مشكلتك معايا؟.... "

نظر صالح إليه قليلًا وكأنه يرى في عينيه تعاسة ابنته إن وافق على هذا الارتباط. 
لذلك قال بصوتٍ مبهم...

"مفيش مشكلة دلوقتي بس لو وافقت على اللي انت عايزه هفتح على نفسي باب عمره 
ما هيتقفل... وأنا بنتي ما عنديش غيرها... ومش هضحي بسعادتها وراحتها عشان 
خاطر حد... "

حدّق ياسين فيه بدهشة ثم قال بغضبٍ يغلي في صدره....

"ومين قالك إني مش هسعى لراحتها وسعادتها؟....حد قالك إني هتجوزها 
عشان أعذّبها؟...أنا مش فاهم حاجة..."

زجره صالح بوجوم....

"مش لازم تفهم.... كفاية أنا فاهم.... "

"يعني إيه يا عمي.... "

سأله ياسين بملامحٍ مصدومة أوجعت قلب الجدة و أبرار عليه والتي شعرت بروحها 
تغادر جسدها بعد أن سمعت رد والدها
القاسي...

"يعني انسى اللي في دماغك... انتوا إخوات ومفيمش بينكم أكتر من كده... "

وقعت أبرار مغشيًا عليها بعد أن سمعت الحكم النهائي على لسان والدها فصرخت الجدة وهي تنحني إليها....

"أبرار.... الحقني يا صالح... "

اقترب صالح من ابنته بخوف ثم حملها بين ذراعيه ودلف بها إلى غرفتها....

لحق بهما ياسين وقد تجمّدت الدماء في عروقه من شدة الخوف عليها وعيناه تتنقلان بين ملامحها الساكنة الباهتة وأنفاسها الخافتة التي بالكاد تُسمع....

وقفت الجدة أمامه تمنعه من دخول غرفتها وهي تقول برجاء....

"انزل على شقتك دلوقتي يا ياسين.... كفاية كده يا بني... انت مش شايف عمك... "

رفض ياسين بملامح مشدودة بالغضب
والعناد فهي ملكًا له رغم أنف الجميع وليعارض من يعارض فهما من سيضعان النهاية بأيديهما وليس أحدٌ آخر....

"عايز أطمن على أبرار…"

قالت الجدة بمحاولةٍ للتهدئة....

"هطمنك عليها.... انزل دلوقتي... "

نظر إلى جدته المتوسلة اليه ثم إلى الباب المغلق ولم يجد حلًا مناسبًا سوى الابتعاد 
الآن لكنه لن يبتعد كثيرًا ولن يتركها مهما 
كان الثمن.....
.................................................................
شعرت أنّها تستعيد وعيها وأنفاسها المسلوبة تدريجيًا رمشت بأهدابها عدّة مرات ثم فتحت عينيها وعقلها يعيد عليها كل ما حدث قبل إغمائها....

تحركت أبرار قليلًا وهي تضع يدها على رأسها متأوّهة من الألم وعينيها تطوفان حولها حيث غرفتها وكان والدها يجلس بعيدًا عنها قليلًا على مقعدٍ لم يكن ينظر إليها بل كان شاردًا
في مكانٍ ما....

فاق من شروده على صوت أنينها فنظر إليها بملامح جافية ونظرة بعيدة عن الحنان والحب اللذين أحاطها بهما لسنواتٍ عديدة منذ مولدها تقريبًا....

لم تعهده يومًا شخصًا قاسيًا حتى في غضبه كان دومًا متحكمًا مسيطرًا على ردود أفعاله. لكنه فقد زمام الأمور فجأة حين تعلّق الأمر بها وبـياسين فتحوّل إلى شخص غريب لا تعرفه.

قالت أبرار بصوتٍ خافتٍ محرج وعينيها إلى الأرض معترفةً بخطئها...

"أنا آسفة..."

يبدو أنّها تمادت مع ياسين لذلك رفع الله عنها الستر ووضعها في موقف كهذا أمام والدها.

قال بصوتٍ متسائل....

"ليه خبيتي عني اللي بينكم... مجتيش ليه تعرفيني؟..."

عاد إليها ذلك الصوت الحاني ونظرته الحانية التي تحتويها وتشعرها أنّ كل شيءٍ بخير مهما حدث.

خرج صوتها مختنقًا والدموع تسيل من عينيها.....

"إحنا غلطنا لما خبينا...بس ياسين مكدبش... هو فعلًا كان عايز يكلمك من قبل  حتى ما  تتجوز....."

سألها بنفس الهدوء لكن ملامحه ظلت جامدة ونظراته غير راضية....

"اللي بينكم ده... بقاله كتير؟..."

بللت أبرار شفتيها وهي تجيبه بحرجٍ شديد..

"لا... بعد الحادثة اللي عملها ياسين كل واحد فينا صارح التاني باللي جواه... وقبل كده مكنش في حاجة بينا..."

أطرق صالح برأسه قليلًا بجمود وساد الصمت بينهما بينما هي بقيت منكمشة على نفسها تذرف الدموع دون توقّف....

أعاد صالح عينَيه إلى ابنته ثم تحدّث بصوتٍ هادئ لكنه حادّ....

"بطلي عياط يا أبرار واسمعيني... اللي عملتيه غلط...وإنك تخبي عني وتتمادي في الغلط معاه دي حاجة كبيرة أوي..."

ثم ازدادت ملامحه وجومًا وهو يقول 
بضيق....

"حتى لو اللي بينكم مسكة إيد زي ما بيقول مش هينه عشان أسامح فيها... والمفروض انتي من نفسك اللي كنتي تمنعي أي تجاوز بينكم..."

رفعت أبرار عينيها عليه بتردّد قائلة...

"خايفة أتكلم معاك بصراحة تضربني..."

هتف صالح باقتضاب....

"من إمتى رفعت إيدي عليكي؟..حتى وانتي صغيرة عمري ما عملتها... ولا ناوي أعملها..."

نزلت دموع أبرار وكأنّها أخذت منه الإشارة الخضراء فانطلق لسانها يعترف بجرأة من
بين شهقات بكائها...

"أنا بحبه يا بابا... مش هقدر أتصور حياتي من غيره... ياسين كل حياتي... إحنا مش إخوات زي ما قولت..."

"أنا كنت مفكرة كده في الأول بس إحساسي ناحيته وقت الحادثة اختلف... اتأكّدت من مشاعري أكتر ناحيته... خوفي وغيرتي عليه مش بتقول إننا إخوات... ولا عمرنا كنا إخوات..."

وخزه قلبه بشدة وهو يستشعر صدق مشاعرها البريئة فضمّ شفتيه بعصبيّة وقال بصبر...

"انتي لسه صغيرة...ومصيرك تنسي مشاعرك دي..."

قالت باندفاعٍ دون كوابح....

"المشاعر مش بتتنسي... دي حاجة بتفضل جوانا... متكسرش فرحتنا يا بابا... انت ليه معترض؟... "

تبادل معها النظرات بملامح مغتاظة من جرأتها التي لم يعهدها بها يومًا فقالت بتهدّج وهي تمسح عبراتها...

"عشان غلطنا لما خبينا عليك... طب عاقبنا زي ما تحب بس بالله عليك بلاش العقاب ده... متكسرش قلبي يا بابا..."

ردّ بصوتٍ أجش خالٍ من التعبير....

"قلبك هيتكسر بجد... لو ارتبطي بيه..."

اعترضت باهتياج مدافعةً عن حبيبها....

"ليه ياسين مش وحش ده ابن عمي..عاش طول عمره معانا..انت وتيتة اللي ربتوه...
ليه معترض؟"

أتى صالح بذريعةٍ جديدة يضعها أمام 
عينيها...

"عشان انتي لسه صغيرة... ومينفعش تفكّري في حاجة غير دراستك ومستقبلك..."

قالت أبرار بعينين يملؤهما الدموع...

"بس أنا مستقبلي معاه هو... ومش شايفة ليا مستقبل تاني..."

رمقها صالح بنظرةٍ خطرة محذرًا من التمادي أكثر....

"دي مش صراحة يا أبرار... دي وقاحة... اسمعي الكلام... أنا قولت اللي عندي مفيش خطوبة ولا جواز في سنك ده لا منه ولا من غيره...."

غادر الغرفة أمام عينيها المصعوقتين وهي ترى النهاية أمامها تسخر منها ومن حبّها الأول... والأخير... سيكون الأخير....

"صــالــح..."

توقّف صالح في صالة البيت عند نداء أمّه التي خرجت لتوّها من المطبخ...

كان ينوي مغادرة الشقة إلى برج الحمام المكان الذي سيبدّد غضبه ويرتاح فيه قليلًا فهو لا يريد أن يواجه عيني الغزالة فربما أفسد غضبه كل شيء كما حدث قبل لحظات....

استدار إلى أمه يواجه نظراتها المعاتبة إليه...

"أنا ما اعترضتش على اللي عملته معاهم
لأن عندك حق وكان لازم تقرص عليهم شوية...بس أنا سمعت كلامك مع أبرار... 
انت فعلًا رافض ياسين؟"

سحب نفسًا طويلًا إلى صدره الذي شعر فيه بخطٍّ من الألم ينشب كالمخالب....

"المفروض أي حد يسأل السؤال ده إلا انتي
يا أمي..."

رقت نظرات والدته وهي تقول بحزن...

"ليه واخده بذنب أمه؟... ياسين بيحب بنتك وعايزها في الحلال... ليه العند يا صالح؟ ليه تكسر قلب الاتنين؟..."

أخبرها صالح بغضبٍ مكتوم....

"عشان ده الباب اللي هيتفتح لعبلة... الباب اللي مش هعرف أقفله تاني... عبلة لو دخلت بينا تاني هتخرب البيت زي ما عملت قبل كده..."

قالت بضيق...

"ومين هيدخلها؟"

أجابها دون تردّد...
"ابنها اللي هو حفيدك...اللي عايزاه يكون جوز بنتي..."

قالت والدته بحزم...

"متقدرش تبقى وسطنا تاني يا صالح... وياسين ميعملهاش... ياسين بيحبنا..."

أومأ برأسه مؤكدًا وهو يخبرها بحقيقة
الوضع....
"وبيحب أمه...وزي ما كان بيردّ على مكالمتها وبيديها فلوس من ورانا... هيدخلها وسطنا وانتي عارفة لو بقت بينا هتعمل إيه..."

قالت والدته بصوتٍ حانٍ محاولة إقناعه...

"بلاش تفكر كده يا صالح... وبلاش تبص لياسين إنه عيل صغير... ده راجل يا بني ويقدر يمشي حياته ويوقف كل واحد عند حدّه..."

ازدادت ملامحه صلابةً وعمقًا وهو يردّ على والدته بصوتٍ أجوف....

"لما يثبت ليا إنه يقدر يعمل اللي بتقولي عليه ده ساعتها هدّيله بنتي وأنا مطمّن. غير كده بنتي هتفضل في حضني لحد ما تخلص جامعتها وتبقى دكتورة يعتمد عليها ساعتها هي اللي تختار حياتها بنفسها..."

ثم استرسل وهو ينظر إلى غرفة ابنته المغلقة متذكرًا حديثها المندفع عن حبها....

"لكن دلوقتي أبرار لسه صغيرة ومش واخدة بالها من حاجات كتير ممكن تحصل حواليها 
لو وافقت على اللي عايزاه..."
.................................................................
قضى وقته بجوار برج الحمام مع رفاقه يطعمهم ويغرق في ملكوتهم يراقب هدوءهم وسلامهم الفطري وصوت هديلهم المستمر كأنه تسبيح لا ينقطع.....

ظل ينثر الحب حوله والسبحة لا تفارق يده يردد الأذكار ويكثر من الاستغفار بعد ان أنقلب
إلى النقيض حين رأى ابنته تتجاوز الحدود التي رسمها لها.....

ليس على الحب سلطانًا يا شيخ وأنت تدرك 
هذا جيدًا فقد وقعت في هوى الغزالة بلا
حذر وتحملت وزر النظر إلى عينيها الفاتنتين ووجهها المليح.....

وانجذبت ايضًا  إلى تمردها وجرأتها بينما كنت في الماضي تبخس تلك الصفات وتزدريها واليوم صرت مولعًا بها وبكل ما تملكه.....

شرد قليلًا مستحضرًا ملامحها وردة فعلها حين صرخ في وجهها بالنزول كانت دهشتها وحزنها ظاهرين على وجهها ثم تمرّدها أمامه وهي تعترف بأنها كانت تعرف كل شيء ولم تصارحه....

فعلت ذلك لتحافظ على ثقة ابنته بها لكن
ماذا عن ثقته هو بها؟

ألا يحق له أن يغضب منها؟...

بعد منتصف الليل فتح باب الشقة بالمفتاح فوجدها يملؤها السكون والظلام إلا نور غرفتهما الذي يتسرب من أسفل عقب
الباب المغلق....

اقترب صالح من باب الغرفة وطرق عدة مرات ثم دلف بعد أن سمع صوتها بكلمة واحدة...

"ادخل..."

خرجت الكلمة متحشرجة يشوبها الخوف منه..

كانت تقف في منتصف الغرفة تنتظره لساعات طويلة حتى انسدلت خطوط الليل في السماء وأصبح الظلام حكاية ساترة وأحيانًا مخيفة للبعض...

بلعت ريقها وهي تقف في الوسط بقميص ناعم أبيض اللون يتناقض مع مشاعره الآن نحوها....تطلق شعرها كأمواج الليل الثائرة ينساب على ظهرها بجمالا فائق..

تقف كغزالة برية تنتظر مصيرها المحتوم 
أمام صيادها لكن الصياد لا يهتم... ادّعى عدم الاهتمام وهو يميل بوجهه للناحية الأخرى حتى لا يطيل النظر إليها فيقع في المحظور.

"صالح أنا..."

قاطعها بصوتٍ حازم...

"مش عايز أتكلم..."

ثم في اللحظة التالية سحب وسادة وغطاء وفرشهما أرضًا بملامح متجهمة ونظرة باردة.

سألته شروق بدهشة....

"أنت بتعمل إيه؟..."

رد عليها مقتضبًا....

"زي ما انتي شايفة... هنام."

سألته بهمسة معذبة....

"وليه مش هتنام على السرير... جمبي؟"

استلقى على ظهره أرضًا ثم وضع ذراعه على عينيه يخفي صورتها الفاتنة عنه بينما أمرها بصوت بارد...

"اطفي النور..."

رفضت شروق ثم اقتربت منه جاثية على ركبتيها بجواره سحبت ذراعه حتى يواجه عينيها لتقول بلوعة....

"صالح متعملش معايا كده...عاتبني... زعقلي... اضربني حتى..بس بلاش تاخد جمب كده..."

نظر إليها صالح بعينين خضراوين تشتعلان بالغضب كغابة اندلعت النيران فيها من كل مكان بصورة مخيفة....

عقب وهو يمضغ الكلمة هازئًا من ظنها به...

"اضربك؟!....أنا مبضربش... في حاجات تانية بتجيب نتيجة أحسن من الضرب..."

صدمها الرد والوعيد بين كلماته. سيعاقبها دون أن يلمسها سيصب جم غضبه عليها بطريقة أخرى سيعاقبها كما يعاقب الرجل المحترم زوجته وهو يتجنبها كليًا وكأنها غريبة عنه...

هزت رأسها عابسة لا تستسيغ بُعده عنها فقالت بوله...

"بلاش تعاقبني بالطريقة دي... أنا مش هستحمل بعدك عني... ولا زعلك مني..."

تعثر قلبه في خفقة قوية فشعر بالضيق من تأثره القوي بها ومع ذلك ادعى الجمود قائلًا بتهكم....

"لو كنت فارق معاكي كنتي عرفتيني باللي بيحصل من ورا ضهري... لكن انتي حبيتي تشوفيني زي الأطرش في الزفة وسطكم..."

هزت رأسها والدموع تتلألأ في بُنيتاها الكحيلتين....

"متقولش كده...انت مقامك كبير قوي عندي... والحب مش حرام ولا عيب... بلاش تحرمهم من بعض وتكسر قلبهم..."

زمجر صالح بنظرة محتدة....

"متدخليش في الموضوع ده... خليكي بعيد أحسن..."

كان حديثه بمثابة صفعةٍ مباغتةٍ تلقتها منه قبل ساعات طويلة في الطابق العلوي وها 
هي تتلقاها منه من جديد فكان الشعور 
نفسه يعود ليُدمي قلبها أكثر...

فسألت بعينين مجروحتين منه...

"عشان غريبة صح... مش منكم..."

تبادل معها النظرات وهو يؤكد مشددًا على الأحرف بغضب مكتوم....

"صح مش منهم... بس مني أنا... مراتي أنا... وطالما قولتلك خرّجي نفسك من الموضوع يبقى تعملي كده من غير نقاش..."

سالت دموعها وصوت أنفاسها يعلو مع 
خفقات قلبها لا تعرف انفعالًا أو تأثرًا..هل
يقر بالحقيقة أم أنه الرد المناسب ليس
إلا ؟!..

بللت شروق شفتيها وهي تبتلع غصة البكاء قائلة....

"أنا بتكلم عشان أوصلك بس إنهم بيحبوا بعض وحرام تـ..."

رفض صالح بهيمنة الجدال حول الأمر...

"محبش أكرر كلامي مرتين..ومعاكي بكرره أكتر من مرة...اقفلي الموضوع وطفي
النور..."

قالت شروق بنظرة حنونة تستهدف قلبه...

"اطلع طب نام على السرير... وأنا هطفي النور..."

رفض بصوتٍ هادئ ونظرة كفيلة بإسكاتها...

"اسمعي الكلام... متخلينيش أسيب الشقة
كلها وأطلع أنام فوق السطح..."

"لا خلاص... هطفي النور..."

تراجعت بسرعة ونفذت أوامره وأطفأت النور فانتشر الظلام في الغرفة بأكملها

ثم دلفت إلى فراشها البارد تنام عليه دون أن تحظى بأحضانه. حرمها من قربه وحنانه الذي اعتادت عليه طوال الأسبوع الماضي حتى أدمنت هذا الدفء الآمن الممتزج برائحته الرجولية وعطر العود....

سالت دموعها على وسادتها بصمتٍ وغاصت في وحشة موحشةٍ بالحزن دون أنيس يربت على كتفها ورغم أنهما يتشاركان الغرفة نفسها إلا أنها شعرت بالغربة بعد أن تجنبها متعمدًا التنائي عنها....

استيقظت في الصباح على يد صغيرة تربت على خدها.... فتحت عينيها المتورمتين من كثرة البكاء ليلة أمس لترى ابنتها تقف بجوار فراشها....

"اصحي يا ماما... كل ده نوم..."

نهضت شروق تبحث عنه في أرجاء الغرفة بلهفة غريبة....

"ملك... صالح فين؟..."

أجابتها ملك وهي تجلس بجوارها...

"راح الشغل من بدري..."

رمقتها شروق بنظرة لائمة...

"وليه مصحتنيش... عشان أعمله الفطار..."

قالت ملك ببراءة...

"هو قالي أسيبك نايمة... وعمل هو سندوتشات قبل ما ينزل... بس ماكلش معايا..."

كلام ابنتها أذاب قلبها وعينيها وهي تشعر أنها تسقط في حبه من جديد ولن يكون السقوط الأخير !.....

قالت ملك بضيق...

"بس أنا يا ماما بقيت بخاف من عمو..."

رفعت شروق عينيها المندهشتين نحوها تسألها....

"ليه يا ملك... ده طيب أوي وبيحبك... ده
انتي لسه قايلة إنه عملك سندوتشات قبل 
ما ينزل..."

زمت الصغيرة فمها قائلة...

"أيوه بس إمبارح قعد يزعق لأبرار وياسين وكان هيضرب ياسين..."

قالت شروق بنبرة حازمة...

"مشكلة بينهم وهو أبوهم وبيربيهم... مش حاجة وحشة دي حاجة كويسة... لأنه في الآخر بيحبهم وخايف عليهم..."

ثم سحبت الهاتف وأجرت الاتصال به مرةً بعد أخرى فلا يأتيها إلا رنين طويل ينفد معه صبرها ويشعل قلبها لوعة....

"مش بيرد..."

أنزلت الهاتف وهي تلفظ الكلمتين بإحباط شديد فسألتها ملك....

"هو زعلان منك؟..."

أومأت لها بنظرة حزينة فقالت ملك ببراءة

"يبقى لازم تصالحيه..."

أطلقت شروق تنهيدة طويلة على صدرها وهي تزيح الغطاء عنها الذي لم تضعه على جسدها ليلًا ؟!...

"ربنا يسهل... أنا هدخل أخد دش وبعدين أصلي وأطلع فوق أشوف أبرار..."

"وأنا هسبقك..."

قفزت ملك بحماس فقد أصبحت تحب قضاء اليوم في الأعلى مع الجميع....
................................................................دلفت إلى الشقة في الطابق الثالث ففتحت لها الجدة بملامح حزينة كئيبة تستقبلها بها لأول مرة منذ ما حدث بالأمس....

"عاملة إيه النهاردة يا خالتي؟"

أجابتها والدته وهي تأخذ أقرب مقعد في الصالة وتجلس عليه...

"الحمد لله يا شروق تعالي..صالح راح شغله؟!.... "

أومأت شروق برأسها...

"آه من بدري... فين أبرار؟"

أشارت إلى الغرفة المغلقة عليها منذ 
أمس...

"في أوضتها..."

نظرت شروق إلى الباب المغلق وسألتها..

"هي كويسة؟!"

هزت الجدة رأسها نفيًا ثم سألت بقلب 
مفطور...

"اتكلمتي معاه... حننتي قلبه عليهم؟"

شق صدرها تنهيدة طويلة محترقة وهي تفصح عما بدر منها...

"اتكلمت والله وقولت ومفيش فايدة... قالي طلعي نفسك من الموضوع... عاملني غريبة وسطكم..."

اعترضت والدته قائلة بملاطفة...

"متقوليش كده... انتي مرات ابني يعني واحدة مننا هو بس مضايق شوية... هو لما بيقلب كده بيكون واحد تاني..."

مطت شروق شفتيها ولم تجد ردًا مناسبًا
لذلك قالت وهي تتحرك صوب الغرفة....

"ربنا يهدي الحال يا خالتي... أنا هدخل أشوفها..."

قالت ملك وهي تجلس بالقرب من والدته...

"وأنا هستنا هنا...تيته ينفع أشغل التلفزيون؟"

أومأت لها الجدة مبتسمة بحنان وهي تربت على خدها....

دلفت شروق إليها فوجدتها تستلقي بظهرها على الفراش في الظلام بملامح باهتة ونظرة غائرة تنظر إلى السقف بعينين حمراوين باردتين وكأن بركان النار جف خلال تلك
الليلة الباردة....

أضاءت شروق نور الغرفة فأزعج أبرار هذا التسلط اللعين الذي تفرضه تلك المرأة منذ 
أن رأتها فقالت بكرهٍ...

"طفي النور واخرجي مش عايزة أشوف حد..."

تأففت شروق بحنق منها وهي تجلس على حافة الفراش مقابلة لها...

"منزلتيش جامعتك ليه... امتحاناتك قربت مش ناوية تنجحي السنة دي..."

صاحت بنزق...

"ملكيش دعوة..."

عقبت شروق بوجوم...

"انتي عايزة تجيبي الكلام لنفسك ولياسين أول حاجة هتيجي في دماغ أبوكي لو ده حصل..."

نهضت أبرار من نومتها جالسة على الفراش ترمق شروق بنظرة نارية قبل أن تقول 
بسخط...

"بقولك إيه...متعمليش فيها الطيبة اللي قلبها عليا تلاقيكي انتي اللي قولتيله علينا عشان كده ركز معانا وحصل اللي حصل..."

ارتفع حاجبا شروق معًا تزامنًا مع اتساع عينيها بالصدمة وهي تقول هازئة...

"بسم الله ما شاء الله عليكي... غبية بتقدير امتياز... وأنا هستفيد إيه لما أفتن عليكي..."

تبرمت أبرار وهي تقول بعدوانية...

"شوفي انتي بقى عشان تباني قدامه ملاك بجناحات خايفة عليه وعلى بنته... وانتي أصلًا بتغيري مني... ومتكاده..."

أطلقت شروق شهقة شعبية أصيلة وهي تعنفها بالرد القوي...

"متكاده... وغيرانة منك انتي... هو انتي ياختي حاسبة نفسك من ضمننا كده عادي..."

ألجمت أبرار بالرد الغير متوقع فقالت من
بين أسنانها...

"اتلمي يا شروق ياما و..."

قاطعتها شروق بنظرة مشتعلة بالغضب...

"اتلمي انتي يا بنت... حتة عيلة مفعوصة زيك قرب طول بنتي تقولي انتي غيرانة ومنكادة... وأنا اللي جاية أطيب بخاطرك..."

"ده انتي عملتي بينا مشكلة بسبب قلة أدبك انتي والتاني... وقولتلك قبلها وكأن قلبي كان حاسس....اعملي حدود بينكم يا أبرار وخفي كلام معاه عشان أبوكي لحد ما يتقدم رسمي ليه."

ثم استرسلت محتدة مغتاظة....

"عملتي إيه انتي ساعتها ودن من طين وودن من عجين وفي الآخر جاية تقوليلي إن أنا السبب... أنا اللي فتنت عليكم وخليته ياخد باله منكم..."

نظرت إليها أبرار قليلًا تستشف الصدق على ملامحها وهي تسألها بدهشة...

"يعني مش انتي اللي قولتيله..."

عيل صبر شروق فقالت بوعيد عنيف...

"كلمة تانية يا أبرار...وإيدي هي اللي هترد عليكي بدل لساني..."

لوحت أبرار بيدها مشيحة بوجهها عنها...

"انتي هتعمليلي فيها مرات أب... ما خلصنا..."

ساد الصمت بينهما قليلًا حتى قالت أبرار بعد زفرة طويلة محترقة...

"بابا رفضه يا شروق...رفضه وقالي إنه هيكسر قلبي بجد لو وافق عليه...طب إزاي... وأنا روحي فيه..."

سألتها شروق...

"هو ياسين كلمك بعدها؟"

هزت رأسها نفيًا بملامح شاجنة ونظرة 
متألمة...

"قفلت تليفوني..مش عايزة أتكلم هقوله إيه... معنديش رد غير اللي سمعناه إمبارح منه..."

ربتت شروق على كتفيها تواسيها بحنو...

"مصير أبوكي يهدى ويرجع في كلامه ده لما يتأكد إنكم متمسكين ببعض...طولي بالك... تبات نار تصبح رماد..."

ثم استأنفت حديثها بصلابة...

"وروحي جامعتك متفضليش قافلة على نفسك خلصي أيام الامتحانات دي يمكن
في الإجازة نسمع البشارة..."

"تفتكري؟!"

نظرت إليها أبرار بعينين متسائلتين يبراقان بالأمل فقالت شروق بمؤازرة...

"مفيش حاجة بعيدة عن ربنا أهوه أنا من ناحية وانتي من ناحية وخالتي معانا يمكن نلين دماغه..."

رفضت أبرار تدخلها وقالت بخجلا..

"بلاش تدخلي انتي... كفاية اللي حصل 
إمبارح وانتي بدفعي عننا..."

حدجتها شروق بصدمة قائلة بتهكم...

"ما انتي طلعتي واخدة بالك أهوه أمال إيه الهبل اللي قولتيه من شوية..."

مطت أبرار فمها بغيرة وقالت بنزق...

"كنت مضايقة..."

هزت شروق رأسها متعجبة...

"مضايقة فتخبطي بالكلام وتظلميني عادي..."

"يووووه بقى..."

لوت شروق شفتيها بقرف...

"هو يووه فعلًا... مانا اللي جبته لنفسي في الآخر كنت عايشة حرة وفي حالي..."

رمقتها أبرار ببرود ثم عقبت بصفاقة...

"آه اعملي فيها الندمانة وانتي تلاقيكي كنتي بترقصيله على واحدة ونص الأسبوع اللي فات..."

لم تهتم شروق وهي تؤكد بقلة حياء...

"والله يا حبيبتي عرضت عليه بس هو قالي الأغاني حرام... فدفنت موهبتي جوايا وسكت..."

ثم أضافت بوجه محتقن بالغيظ...

"إمبارح نام على الأرض وخصمني بسببك انتي وياسين...الله يسامحكم..."

لم تكترث أبرار كثيرًا...

"مصيركم تتصفوا... مانتي دحلابه ومش هتسكتي..."

تسلحت شروق بالصبر وهي تقف أمامها مقترحة...

"طيب يا عقربة تعالي نطلع نحضر الفطار 
سوا أنا لسه مكلتش..."

ردت الأخرى ممتعضة...

"مليش نفس..."

سحبتها من يدها بقوة حتى تقف مثلها قائلة بتسلط...

"أنا هفتح نفسك... تعالي وبطلي كآبة..."

تلك المرأة تمتلك قوة مدهشة في فرض نفسها على الآخرين لتصنع لنفسها مكانًا بينهم وتترك في قلوبهم أثرًا يخصها وحدها.

تراها ساحرة من النوع الخطير لأنها وبكل صراحة تسحرهم دون أن تمارس سحرًا حقيقيًا عليهم وكأن الأمر خدعة يقع فيها الجميع...

أثناء تحضيرها للإفطار سمعت شروق صوت رنين هاتفها فتحركت نحوه بلهفة وعلت خفقات قلبها حين رأت اسمه يضيء 
الشاشة...

انسحبت من بين الجميع ووقفت في الشرفة ثم وضعت الهاتف على أذنها هامسة بتوله...

"صـالـح..."

سمعت تحشرج أنفاسه في الجهة الأخرى فابتسمت برقة وظفر أنثوي متأكدة من تأثره القوي بها... وتأثرها هي أكثر منه.....

(رنيتي عليا مش كده...)

أكدت بصوتٍ أنثوي معاتب...

"أيوه... أخيرًا شوفت تليفونك..."

رد بخشونة....

(كنت تحت... في المصنع...)

زمت شفتيها لائمةً بالقول...

"افتكرتك مش عايز ترد عليا..."

عبس في الجهة الأخرى قائلًا بصدق...

(ليه هعمل كده... في حاجة عندكم؟...
أنتوا كويسين؟...)

قالت شروق بحنو....

"إحنا كلنا بخير...وأنا فوق مع أبرار وخالتي..."

سألها متجهمًا...

(ياسين عندكم؟...)

رفعت حاجبها مندهشة...

"لا... هو مجاش المصنع..."

رد مقتضبًا...

(لا.... مجاش...)

قالت بصوتٍ أنثوي هادئ يخفف عنه...

"زمانه في السكة... لسه الساعة عشرة..."

رنا الصمت بينهما قليلًا ثم سألها باهتمام...

(فطرتي؟)

أجابته بلؤم...

"هفطر إزاي وأنت مش معايا..."

(الفطار يا شروق...)

أتى صوت أبرار بصيحة حانقة مما جعل وجهها يمتعض مغتاظة من تلك الفتاة
المفسدة لخططها...

قالت شروق بعد نحنحة محرجة...

"أبرار وخالتي مصممين أفطر معاهم بس
أنا ماليش نفس..."

أتى صوته الهادئ بتفهم...

(روحي افطري... أنا ماليش نفس للأكل لو كنت عايز كنت كلت قبل ما أنزل...)

هتفت شروق بنبرة حارة وضعت فيها كل مقاومات الإغراء....

"صالح هستناك على الغدا....متتأخرش..."

أتى صوته معارضًا بخشونة...

(متتعبيش نفسك... أنا هاجي متأخر
كلوا أنتوا...)

قالت بأنين متوسل...

"يا صالح بالله عليك متوجعش قلبي..."

كان الرد صمتًا طويلًا قبل أن يقول بصوتٍ أجش مثقل بالعتاب....

(سلمتك من الوجع... بس أنا كمان موجوع منك ومش مسامح في اللي عملتيه... كان المفروض أنتي أول واحدة تيجي تقوليلي...)

أجابته شروق بنبرة نادمة....

"غلطه ومش هتتكرر تاني... ومش هخبي عليك حاجة تاني... بالله عليك يا صالح تعالى في معادك زي كل يوم..."

رفض بصوتٍ قاطع...

(مش هاجي يا شروق....بلاش تستني على
الفاضي...)

ثم أغلق الخط بعد سلام مقتضب ولاح الحزن جليًا في عينيها وهي تضع يدها على صدرها المحترق في هواه...

أذوب في لقياك وأتفَتَّت في بُعدك أَحترق يا سيدي على صبابة الهوى وكأن النيران والعذاب من نبع حبك...
..............................................................

يجلس في مكتبها ينتظر وصولها، جالسًا على الجهة الأخرى من المكتب.... لم تكن وجهته التواجد هنا لكن انتهى الأمر به عندها فجأة
إذ ارتطم أثناء سيره بموجة عاتية دفعته
إليها بمنتهى الغضب.

رفع الأسوِرة الكروشية أمام عينيه تلك التي بهت لونها بالغبار حين وضعتها في القمامة وشاءت الصدف أن يراها تسقط من عربة عامل النظافة فلفتت نظره من الوهلة الأولى فانحنى ليأخذها بينما تابع العامل دفع العربة دون أن يلاحظ ما سقط منه....

شيءٌ بلا قيمة.... كذلك أضحت فعلتها هو وهدية بسيطة بلا قيمة لديها....

دلفت إلى مكتبها تقرع الأرض بحذائها بخيلاء والهاتف على أذنها تحدث أحد العملاء.

وحين رفعت عينيها الرماديتين إلى مكتبها انتفض قلبها بضعف وتوقفت عن التحدث وتوقفت ساقاها بلا حراك كانت رؤيته هنا بعد كل ما حدث بينهما صادمة ومربكة لكيانها  فكيانها يدور حوله مهما ادعت غير ذلك
هي تعشقه وبجنون......

"أيــوب…"

تحرك لسانها بتعويذة ساحرة باسمه فأطرق أيوب برأسه يبعد عينيه عن صورتها الجذابة تلك التي تزعزع ثباته وتضائل غضبه وحنقه ويصبح الحب والشوق في الصفوف الأولى نحوها....

قبض على القطعة الكروشية بيده يذكّر نفسه بحديثها في السابق ثم بإلقاء شيء مميز بينهما في سلة المهملات....

تتعمد إهانته وجرحه وفي النهاية تأخذ دور الضحية المخدوعة بامتياز.....

فاقت نغم من حالة الضعف تلك وهي تعود إلى جمودها وبرودها قائلةً بتعالٍ وهي تقترب من مكتبها مغلقة الهاتف في اللحظة التالية...

"خير يا أيوب... في حاجة؟..."

رد عليها أيوب بصوتٍ خشن...

"كمال بيه مجاش النهارده... وفي حاجة
تخص تصاميم طلبها مني من كام يوم..."

أجابته نغم وهي ترتب المكتب المرتب من حولها شاغلةً عينيها عن النظر إليه...

"بابا مش هيقدر يجي النهارده..."

سألها بقلق...

"هو تعبان؟..."

أجابته بهدوء وهي ترفع عينيها أخيرًا عليه مستسلمة لنداء قلبها...

"مرهق شوية من الشغل الفترة اللي فاتت… لو في حاجة ممكن أشوفها أنا..."

رفض أيوب بغلاظة...

"لا أنا هستناه.... هو ليه نظرة برضه...."

صرّت على أسنانها ولم يعجبها الرد فقالت..

"وأنا عامية يعني؟...دا شغلي كمان وأقدر أفيدك..."

رفض أيوب مقطبًا....

"مشكورة يا هانم...بس أنا مش عايز إفادة من حد غير من صاحب الشأن..."

جاشت مراجلها وهي ترى في عينيه صورة غريمتها فقالت بامتعاض....

"ممكن برضه تروح لِـليان تديك الإفادة كلها."

رأى ومض الغيرة في عينيها فشعر ببعض الراحة وهو يقول بمسايرة....

"بعمل كده فعلًا... مفيش خطوة باخدها غير لما باخد رأيها فيها..."

اندلع الحريق في صدرها فجأة دون هوادة وهي تجيب ساخطة...

"بجد؟.... دا العلاقة في تطور بقا..."

ابتسم ابتسامة مستفزة لأعصابها وهو يؤكد بلؤم....

"إنتي إيه رأيك... البنت جميلة ومؤدبة وبنت ناس دا غير إن شكلها مهتمة… ليه لأ..."

قالت نغم بغضب مكتوم...

"مش هي لوحدها المهتمة إنت كمان باين
إنك مهتم أوي."

أجابها بسخرية قاتمة...

"وانتي واضح إنك مهتمة أوي... بينا.."

أبعدت عينيها عنه وزاد تجهم وجهها وهي تقول بضجر وغرور...

"وههتم بيكم ليه؟... أنتوا بالنسبة ليا 
موظفين في الشركة مش أكتر..."

حدجها أيوب بنظرة قوية كأنه يخترق حصونها المشددة فارتبكت نغم وهي تنظر
إليه بضيق...

"إنت كده بتعطلني… لو مفيش حاجة أقدر أساعدك بيها تقدر تروح على مكتبك..."

وضع أمام عينيها على سطح المكتب الأسوِرة الكروشية الرمادية التي طرز عليها اسمها بجمال مع قلوب بيضاء صغيرة حولها كلها صنعها بيده بحب وأهداها لها بنفس ذاك 
الحب النابع من قلبه...

"كان ممكن تبعتيها ليا بدل ما ترميها في الزبالة...."

صُعقت من وجودها أمامها ثم صُعقت من حقيقة معرفته أنها تخلّصت منها في مكب النفايات....

هل سيصدقها إن أخبرته أنها كانت ستبحث عنها في سلة المهملات فور دخولها إلى مكتبها ؟....

هل سيصدق أن غيرتها هي من دفعتها لفعل ذلك ظنًا منها أنه استبدلها بأخرى؟

عفوًا… ألم يستبدلها فعلًا؟ هو قال ذلك منذ قليل...

"هي تبان بسيطة وملهاش قيمة عندك…
بس عندي غالية أوي لأنها كانت ليكي..."

تسلّحت بالجمود قدر المستطاع وهي تنهار كليًا...

"اللي يسمع كلامك يقول إنك بجد بتحبني ومش شايف غيري...."

رد أيوب ردًا قطع وريد الحياة في قلبها...

"كنت.....كنت بحبك يا نغم..."

أجفلها الرد وصدمها إلى درجة ظهرت معالمها بارزة على وجهها وهي تحدق فيه...

"كنت؟!..."

أومأ بلا شفقة عليها وكأنه ينتقم لقلبه منها...

"أيوه كنت... بعد اللي قولتيه واللي عملتيه معايا بدأت أعيد حساباتي... وشكلي كده كنت... كنت بحبك...."

أوغر صدرها بنيران مستعرة وهي تحاول استعادة كبريائها المجروح...

"أنا بقا محبتكش أصلًا...."

أظلمت عينا أيوب أكثر والتوى فمه من زاوية واحدة في ابتسامة مزدرية معقبًا...

"باين في عنيكي إنك… كـدابة..."

اهتاجت نغم بشدة وهي تقف مكانها 
منفعلة...

"إنت مستفز... ومش فاهمة بجد إنت ليه 
جاي لحد هنا... إحنا خلصنا يا أيوب..."

بنفس الانفعال نهض مثلها مقتربًا منها ليقف في مجابهة عينيها مؤكدًا بعنف....

"إحنا فعلًا خلصنا مش عشان إنتي عايزة 
كده.... عشان أنا اللي مش عايز...."

تبادلت معه النظرات بعينين تصرخان بالوجع والغيرة عليه بينما هو تابع وعيناه تعاتبها باسم الحب الذي نُحر بيدها....

"إنتي قلبك حجر... وأنا مش عايز أكمل 
الجاي من عمري مع واحدة كده..."

نمت الغصة في حلقها وحديثه الجارح يؤكد الحقيقة التي كانت تعرفها عن نفسها قبل أن تقع في المحظور وتصبح مدلّهة بحبه...

"وعشان كمان إحنا مش مناسبين زي ما قولتي قبل كده..."

هربت من نظراته وهي تشعر بأنفاسه اللاهثة الغاضبة تضرب صفحة وجهها بقوة فتضعف فؤادها في حضرته....

قال أيوب بتهدج بينما عيناه تتشربان من قربها بقدر ظمأ حبه وشوقه لها...

"مكنش في بينا هدايا غير هدية واحدة… ملحقش يكون في بينا الأغلى...ورغم كده رمتيها في الزبالة زيها زي الحب اللي مقدرتيش تحافظي عليه..."

بحدة نظرت إليه وصاحت...

"أيوه اقلب التربيزة...وعيش إنت الدور..."

في مجابهة قوية منه صارت الحرب شعواء وهو يؤكد كلمتها...

"عيشي إنتي الدور... أنا سايبك تعيشيه من أيام ما كنتي في المستشفى إن أنا الكداب والطماع الخاين...وانتي الغلبانة اللي أضحك عليها.....

وفي الآخر بتنهي اللي بينا وانتي بتقوليلي بص تحت رجلك شوف أنا إيه وإنت إيه....."

ارتجفت أوصالها وهي تشعر به يأخذ خطوة أخرى نحوها هامسًا بالقرب من أذنها بشراسة ساخنة جعلت قلبها يتخبط بين أضلعها بوله

"أنا هثبتلك أنا إيه يا نغم... هتعرفي مين هو أيوب عبد العظيم... ووقتها هبعتلك دعوة لفرحي على اللي تستاهل بجد تبقى مراتي..."

فلتت الشهقة من بين شفتيها ولم تقدر على منعها وادعاء اللامبالاة نظرت إليه بعينين عاصفتين بالغضب والغيرة....

فأومأ برأسه مؤكدًا أنه سيفعلها سيقتص حقه منها قريبًا بعد أن أهانته بالثورة التي تمتلكها وهي التي أخبرته يومًا أنها لا ترى شيئًا سواه.

ابتعدت عنه تخفي دمعة سالت من عينيها وهي تقول بجمود....

"شكلي عرفتها.... مبروك مقدمًا...."

اغتاظ من ردها غير المبالي وهو الذي توقع ثورتها بين ذراعيه والتي ستنتهي بضمة وقبلة جامحة تستكين معها مخاوفها وترهات عقلها وتعرف أنه لها ومعها للأبد....

لكن مع الأسف قابله الرد الأشبه بالصقيع على العظام فما كان منه إلا أن نظر إليها بغضب قبل أن يغادر مكتبها ويتركها خلفه تشيع رحيله بقلبٍ ملكوم غير مسامح....
.............................................................
في أمسيةٍ ساحرة وفي مكانٍ هادئ جلست في أحد المطاعم الراقية. قبلت الدعوة بعنادٍ يقودها إلى الجنون في تلك الفترة....

رفعت كوب الماء إلى فمها تأخذ رشفةً منه بينما يجلس في الجهة الأخرى جاسر يتناول طعامه بنهمٍ مستمتعًا بصحبتها وبموافقتها لأول مرة على التقارب منه....

نظرت نغم إلى طبقها الذي لم تمسّه بشهيةٍ مفقودة وحديثه يرن في أذنيها كطنينٍ
مزعج....

سيرتبط بـ ليان حديثه يشي بذلك. قالها صريحة إنه سيتزوج غيرها وسيرسل لها
دعوة زفافه للحضور....

مطّت شفتيها عابسةً... لماذا تهتم لأمره؟! 
هي من أنهت ما بينهما... لقد اتضح أن حبهما مسرحيةٌ هزلية كانت تؤدي فيها دور المهرّج 
بامتياز..

"مش بتاكلي ليه يا نغومة؟..."

نغومة؟!

رفعت عينيها بشراسة نحو هذا السمج والآن فقط انتبهت أنها بصحبة رجلٍ لا تطيقه لمجرد أنها تهوّرت بقبول دعوته على العشاء...

"الأكل مش عاجبك؟"

قالت وهي تبعد الطبق عنها قليلًا وترتشف مجددًا من الماء قبل أن تقول...

"لا.... أنا بس ماليش نفس."

ثم أدارت وجهها إلى الواجهة الزجاجية تنظر من خلالها...تركت له مساحةً لإنهاء طعامه لكنه توقف مثلها مسح فمه بالمحرمة وأشار إلى النادل بأخذ الطعام....

فعل النادل ذلك بسرعة وهمّة وعادت الطاولة فارغة عاد قدحا القهوة اللذان طلبهما لكليهما....

تنحنح جاسر محاولًا جذب انتباهها فنظرت إليه عابسة فقال بهدوء...

"حابب أتكلم معاكي شوية...وأفتح قلبي ليكي..."

ركزت عينيها عليه منتظرة المزيد منه فقال جاسر بصوتٍ عذب...

"طبعًا انتي عارفة أول ما اتخرجت اشتغلت في شركتكم....ومش هنكر إن والدك كمال الموجي ساعدني كتير ووقف جنبي عشان أتعلم وأوصل للمكانة اللي انتي شايفاها دلوقتي.... "

تبرمت نغم قائلةً بسخرية...

"وأول ما وقفت قصاد حد وحاربته كان إحنا."

ظهرت بوادر الحرج على وجهه وهو يقول...

"كان غصب عني... مش بقولك كده عشان وافقتي على عزومتي... بالعكس أنا معترف إني غلط بدليل إني بطلت أدخل قصادكم في اي حاجة وبقيت مستكفي بشغلي والعروض اللي بتجيلي...."

حقيقةٌ لا يمكن إنكارها فهو منذ فترة يبتعد عن أي تصادمٍ بينهما....

لكن هذا التصرف النبيل خارج حدود سجيته لذلك ارتابت منه بعض الشيء....

نظرت إليه نغم بتمعّن ثم قالت بجسارةٍ عمليةٍ تعتمدها مع الجميع...

"شكلك عايز تقول حاجة يا جاسر...قول اللي انت عايزه من غير مقدمات كتير."

"عايز أتجوزك..."

لم يدهشها الطلب فقد سمعته في السابق
لكن هذه المرة استخدم طريقةً فعّالةً لقولها.

مطعمٌ راقٍ شموع على الطاولة أمامها وعلى مرأى بصرها البحر بلمعان الليل ونسيمه البارد كلها أشياء تساعده على ترسيخ طلبه في قلبها قبل عقلها....

لكن أبواب قلبها مغلقة على أحدهم وعقلها يدور في فلك هذا الشخص بلا هوادة ومهما حاولت منع نفسها تجد نفسها في محراب عشقه تتواجد....

قالت نغم بملامح جامدة وهي تشبك أصابعها ببعضها على سطح الطاولة...

"طلبت الطلب ده قبل كده... وكان الرفض هو ردي عليك... أكيد مش عايز تسمع الرفض للمرة التانية."

تحدث جاسر بعنفوان...

"بس المرادي تختلف... أنا مش عايز أشركك في الشركة ولا عايز أي حاجة غير إنك توافقي على جوازنا.... "

تراجعت نغم في مقعدها واجمه..

"بس إحنا منعرفش بعض عشان أوافق 
على الجواز منك..... "

ردّ بعقلانية...

"نعمل فترة خطوبة ونتعرف أكتر."

توصل معها إلى حلٍّ يرضي الطرفين....

شعرت نغم بالتوتر كأنه حاصرها في زاويةٍ ضيقة....

"معتقدش إننا هننجح... إحنا مختلفين أوي عن بعض... "

عاد يشدّد حصاره حولها وهو يقول بتفهّم...

"بلاش تحكمي بالفشل من غير ما تجربي. الخطوبة اتعملت عشان كده...لو قدرنا نقرب تمام...معرفناش يبقى كل شيء قسمة ونصيب..."

"قولتي إيه؟.. "

رفرفت بأهدابها عدة مرات مفكرة والرفض يلوح في عقلها يقف على لسانها لكن عنادها وكبرياءها المجروح من ابن عبدالعظيم يعيقانها لذلك وجدت نفسها تعطيه أملًا
في التفكير....

"اديني وقت أفكر... وكمان أعرف بابا بطلبك."

ابتسم جاسر باعتداد وهو يؤثر عليها معترفًا ببساطة...

"هستنى ردك يا نغم... أنا بجد بحبك ومستني اليوم ده بفارغ الصبر...."

استقبلت اعترافه الحار بمشاعر باردة فلن يستطيع إذابة جليد قلبها مهما حاول وبذل مجهودًا.....

لن يستطيع سوى واحدٍ فقط قادر على إذابة الحوائط الجليدية حول قلبها بنظرةٍ واحدة كما فعل في السابق....
..............................................................
علت تعبيراتُ الصدمة وجهَ كمال وهو ينظر إلى ابنته بارتياب...

"وانتي موافقة على جاسر العبيدي.... بعد كل اللي عمله معانا السنين اللي فاتت؟!..."

قالت نغم بصوتٍ هادئ...

"هو بقاله فترة بعيد عنّا يا بابا... ده غير إنه شكله اتغيّر... وبيحبني."

مضغ كمال الكلمة كأنه يمضغ حصو 
معقّبًا...

"بيحبك؟!... على كده انتي كمان بتحبيه."

حرّكت كتفيها ببساطة تخفي ارتباكها جراء نظرات أبيها القوية عليها...

"مش مهم الحب دلوقتي…"

ضاقت عينا كمال متجهمًا منها...

"أمال إيه المهم؟....إنك تغيظي أيوب وتثبتي ليه إنه مش فارق معاكي؟!"

عرّى روحها ومشاعرها أمام مرآة الحقيقة فاهتاجت نغم رافضةً بصيحةٍ مستنكرة...

"وأنا ليه هعمل كده؟... أيوب بقى بالنسبة لي مجرد مصمّم في الشركة لا أكتر ولا أقل…
زيه زي تيم وليان.... "

أطرق والدها برأسه يخفي انفعاله قائلًا
بضيق....

"حتى لو دي الحقيقة...جاسر مش مناسب ليكي... ده إنسان انتهازي وندل... ده غير الإشاعات اللي بتطلع عليه مع كل واحدة من الوسط الفني... وأكيد قبلتك أخباره أكتر من مرة...."

لم يُحرّك الحديث فيها ساكنًا وقالت بلا اكتراث....

"قابلتني ومش مهم.... مفيش راجل ملوش ماضي المهم حياته بعد ما دخلتها مش قبلها."

رمقها والدها بعدم رضا وعلق...

"انتي بتلعبي بالنار يا نغم... أنا متأكد إنك موافقة عليه عِند مش أكتر..."

حاولت إقناع والدها بشتى الطرق...

"وليه أعاند في حاجة زي دي؟.... جاسر مبدئيًا حد كويس وأي حاجة مش عاجباني فيه أقدر أغيرها.... بقولك بيحبني يا بابا ومستعد يعمل أي حاجة....المهم أوافق عليه."

اقترح والدها بخبث...

"يبقى بلاش خطوبة وخليها جواز على طول."

رفضت رفضًا قاطعًا...

"مستحيل...أنا مش هتجوز دلوقتي... كفاية خطوبة لحد ما نعرف بعض أكتر...."

ابتسم والدها هازئًا بينما سألته نغم 
بتراقب...

"ساكت يعني يا بابا.... إيه رأيك؟"

ظهر الامتعاض على وجهه والرفض إجابة صريحة لا تتزحزح ومع ذلك وضعها على
أول الطريق كما شاءت وهو يقول بصعوبة...

"هو مرفوض بالنسبة ليا... بس طالما انتي مقتنعة بيه يبقى دي حياتك... وانتي مش صغيرة وأكيد عارفة مصلحتك..."

قبول والدها كان القشة التي قصمت ظهر البعير فوجدت نفسها بعد يومين تعطي 
لجاسر الرد بالموافقة على خطبةٍ مبدئية للتعارف...
..............................................................

دلف إلى الشقة بعد يوم عمل طويل على مشروعه الجديد، لذي بدأ تشغيله منذ أيام ويعمل بشكل جيد والتجار ينتظرون أولى البضائع المتفق عليها لذلك يعمل هو والعمال الذين انتقاهم على قدمٍ وساق لإنهاء الطلبيات الأولى حتى يثبت نفسه في السوق...

وجد والدته جالسة على الأريكة أمام التلفاز وحين رأته غمرته بنظرة حنونة مشفقة عليه فالإرهاق والتعب بادٍ على ملامحه وعيناه الحزينتان تحكيان قصة أخرى فقد انطفأ بريقهما فجأة....

همست في نفسها....

(منها لله اللي كانت السبب...)

كانت ندى قد أخبرتها أن أيوب انفصل عن نغم ولم يوضح السبب خلف ذلك ولم يهم صفية معرفة السبب فيكفيها قهر قلب ابنها أمامها بسبب غرور «ابنة الأكابر» كما تلقبها...

قال أيوب وهو يقترب منها بمحبة ويقبّل رأسها...

"عاملة إيه يا صفصف..."

استقبلت القبلة بابتسامة حزينة وأجابته...

"بخير يا حبيبي الحمد لله...قولي عامل
انت في شغلك..."

ألقى بنفسه على المقعد مطلقًا زفرة طويلة متعبة...

"طالع عيني يا صفصف..."

قالت والدته بمؤازرة حانية...

"معلش يا حبيبي في الأول بس... بعد كده هترتاح لما تثبت نفسك في السوق..."

رد بهدوء...

"على الله..."

قالت والدته باهتمام وهي تنوي النهوض..

"هقوم أحطّ لك الأكل... زمانك على لحم 
بطنك من الصبح..."

رفض أيوب وهو يضع يده على ركبتها قائلًا بجدية...

"اقعدي يا صفصف وارتاحي إنتي... هخلي
اي حد من البنات يحطّ لي... عايزك في موضوع..."

تهللت أساريرها فجأة قائلة...

"موضوع؟!....أوعى تقولي إنك نويت..."

سألها مقطبًا جبينه...

"نويت على إيه؟... دماغك راحت فين 
يا صفصف؟..."

قالت والدته بملامح منبسطة...

"هتكون راحت فين... في الجواز طبعًا.
مش ناوي تفرح قلبي بيك بقى؟.."

التوى فمه بدهشة وهو يهز رأسه نفيًا...

"مش لما البنات يتخرجوا الأول وأطمن 
عليهم في بيوتهم..."

امتقع وجه والدته باستنكار معقبة..

"إنت كده هتطلع على المعاش مش هتتجوز. مين هيوافقك على كده... العمر بيجري يا أيوب وإنت بقيت أربع وتلاتين سنة...
هتستنى إيه تاني؟..."

رد عليها بإيجاز...

"على الأقل لما أقف على رجلي عشان ما أبهدلش بنت الناس دي معايا...."

ثم استأنف حديثه مغتاظًا منها...

"إنتي خدتيني في دوكة ونستيني أنا كنت عايز أقول إيه... آه... سلامة فرحه بكرة وكنت عايزك تيجي معايا إنتي والبنات... إنتي عارفة إنه وحيد وما لوش حد غيرنا....."

ارتفع حاجب والدته وهي تسأله بضجر...

"إنت رجعت تصاحبه تاني يا أيوب بعد
اللي عمله فيك؟..."

تنهد أيوب وهو يقنع والدته برفق...

"اللي عمله فيا كان خير... خلاني أتعرف على كمال الموجي وأشتغل معاه... وبعدها أفتح مشروعي زي ما إنتي شايفة..."

اشتد الغضب في صدر أمه وهي تقول بحمائية...

"عشان إنت ابن حلال ربنا وقف معاك... لكن اللي عمله فيك سلامة كان أذى وكان ناوي يوديك ورا عين الشمس لولا ستر ربنا..."

مط أيوب شفتيه محاولًا استعطاف قلبها الحنون...

"اللي حصل حصل يا صفصف... في الأول وفي الآخر هو ماكنش عايز لي الأذى... جت معاه كده..."

ثم تابع...

"وبعدين هو اتغير وعايش بالحلال وشغال معايا إيده في إيدي في كل حاجة... قولتي 
إيه يا صفصف؟..."

زمت فمها بعدم رضا وهي تقول...

"قولت لا إله إلا الله... ومين بقى الشملولة
اللي وافقت عليه؟..."

أجابها أيوب بصبر...

"عزة..اللي كانت واقفة على نصبة الشاي في السوق... أهي بنت غلبانة وعارفة ظروفه وراضية بيها....."

تلكأت أمه في الرد قائلة...

"ربنا يسعدهم... منين ما تنوي تروح قولي وأنا هاجي معاك ونعمل الواجب..."

فرح أيوب بعد موافقتها فمال يقبّل يدها 
قائلًا بامتنان...

"أحلى واحدة تعمل الواجب..."

ابتسمت إليه وهي تقول بتمنٍ حار....

"عقبالك يا أيوب... ربنا يفرحني بيك إنت وإخواتك عن قريب..."

في تلك الأثناء خرجت ندى من الغرفة تاركة الباب مفتوحًا وكانت نهاد منهمكة في دراستها خلف مكتبها الصغير كالعادة....

قالت ندى بدهشة وهي توزع نظراتها الشقية عليهما....

"إيه يا جماعة... بتباركوا لمين؟ مين هيتجوز؟ معقول إنت يا أيوب؟..."

هز أيوب رأسه قائلًا بشقاوة..

"لا مش أنا... بس عندنا فرح بكرة..."

قفزت ندى بسعادة في جلستها بينما في الغرفة كانت نهاد تبتسم منتظرة بتركيز 
شديد سماع اسم الشخص الذي سيذهبون لزفافه... 

فإن كان قريبًا أو بعيدًا فهي ممتنة له فاخيرًا ستبتعد عن اكوام الكتب التي تحيط بها ليلًا ونهارًا......

سألت ندى....

"بجد.... حد نعرفه مين ده؟...."

"سلامة..."

أطلق أيوب الإسم كرصاصة قاتلة اخترقت صدرها فجأة.... توقفت نهاد عن تحريك القلم بين يديها كما توقفت حركة ساقيها أسفل المكتب ولم يرف جفنها وكأنها تجمدت في مكانها بطريقة مؤلمة... 

الكلمة بمثابة صاعقة رعدية ضربتها بلا رحمة. نمت الغصة في حلقها بسرعة حتى شعرت أنها تختنق تحت وطأة الصدمة....

سلامة؟!

هل لفظ اسم حبيبها فعلًا؟ سيتزوج أخرى بتلك السرعة؟

كيف تخطاها فجأة وارتبط بغيرها...وهي التي تنام كل يوم والهاتف بين يديها على أمل أن يبادر بالاتصال بها ولو بكلمة واحدة... 

كلمة واحدة تحيي قلبًا قتله هو بيده....

بالخارج كانت صدمة ندى مختلفة عنها ما بين الدهشة والازدراء سألت وهي على يقين أن الأمر لا يحتاج تأكيدًا...

"سلامة مين... سلامة صاحبك؟.."

أكد أيوب بهدوء...

"أيوه هو... أنا أعرف سلامة غيره فرحه 
بكرة إن شاء الله....."

قست نظرات ندى وهي تقول ببغض...

"على مين بقى..."

رد أيوب باختصار...

"واحدة ما تعرفيهاش اسمها عزة..."

ثم عاد يسأل مؤكدًا عليهما..

"هتيجوا معايا ولا..."

نهضت ندى وهي تقول برفض قاطع..

"خد ماما... أنا ونهاد مش هنروح....."

عقد أيوب حاجبيه باستغراب..

"ليه ما تيجوا معايا نغير جو...."

غمغمت ندى بسخط..

"هنغير جو في فرح سلامة..."

لم يسمعها أيوب جيدًا فسألها بحيرة

"بتقولي إيه..."

وقبل أن تنطق ندى بحرف خرجت نهاد إليهما بملامح جامدة رغم شحوب وجهها الملحوظ ونظراتها الغائرة ابتسمت.....

ابتسامة تخفي خلفها قصة مأساوية لفتاة حالمة ركضت خلف الحب أميالًا تحمل بين يديها قصتها الوردية...فجاءت عاصفة ترابية
غادرة أطاحت بها وبقصتها عرض الحائط.
فلم يبقَ سوى أثر مغبّر بالخيبات وقلب
قد تفتت من هول الوجع.....

"أنا هاجي معاك يا أيوب طالما ماما جاية..."

توسعت عينا ندى بقوة وهي تحدج في أختها. بينما غمز لها أيوب بمشاكسة ولم يلاحظ هو أو والدته الضغط الذي تمارسه على نفسها كي تكون أمامهم بهذا الجمود ....

قال ممازحًا...

"إنتي واقفة ورا الباب بتلمعي أوكر..."

ابتسمت نهاد أكثر تسايره في مزحته بينما نهض أيوب وهو يقول قبل أن يدلف إلى غرفته...

"طيب حضّروا نفسكم بكرة المغرب تكونوا جاهزين..."

حين دخلت نهاد غرفتها لحقت بها ندى وهي تغلق الباب خلفهما جيدًا قبل أن تقول من بين أسنانها بحدة...

"إيه الهبل اللي قولتيه برا ده... فرح مين اللي ناوية تحضريه يا نهاد... إحنا مالنا أصلًا يتجوز ولا يولع...احنا مش هنفضها سيرة بقى..."

قالت نهاد بصوتٍ ميت والغصة تغلق حلقها أكثر...

"ما إحنا فضّيناها... عشان كده هروح الفرح 
مع ماما وأيوب..."

أمسكت ندى ذراعها وجعلتها تستدير إليها لتواجه عينيها وهي تقول...

"وإيه لازمته يا نهاد..."

قالت نهاد بنظرة باردة رغم احمرار مقلتيها الشديد دون أن تذرف دمعة واحدة...

"أشوفه لآخر مرة يا ندى... أشوفه عريس جنب واحدة تانية غيري..."

احترق صدر ندى بالغضب والحزن على أختها وما وصلت إليه بسبب هذا الوضيع...

"إنتي بتموتي نفسك بالبطيء... ما يستاهلش دمعة واحدة من عنيكي... تلاقيه عمل معاكي ده كله عشان يتجوزها... خاين وغشاش..."

جلست نهاد على حافة الفراش تقول بصوتٍ مبحوح...

"إنتي كان عندك حق يا ندى...أنا اتسهلت 
معاه وغلطت في حق نفسي... وفي حق
أيوب وماما...أنا أستحق... أستحق الوجع ده..."

حاولت ندى التخفيف عنها وهي تشدد على حروفها بكراهية...

"هو اللي يستحق الوجع واللوم... ده كداب وخاين وبمنتهى البجاحة لسه شغال مع أيوب وتلاقيه ساعده في جوازته... هيجيب منين الشحات ده..."

سالت دموعها على وجنتيها وهي تقول باختناق...

"كفاية يا ندى... مش عايزة أسمع حاجة عنه...."

اقتربت منها ندى وجلست بقربها تربت على كتفها وهي تقول...

"عشان خاطري بلاش تروحي...كده هتبيني 
ليه ضعفك..."

قالت نهاد بغصّة مريرة..

"بالعكس...كده هأكد له إنه مش فارق معايا وإنه قصة وانتهت..."

صاحت ندى بغيظ...

"بس هو لسه منتهيش جواكي يا نهاد...
بتضحكي على مين..."

وضعت يدها على صدرها تربت عليه بحركة عفوية حزينة وكأنها بتلك الحركة تواسي نفسها بالقول....

"بكرة ينتهي... بكرة ينتهي....."

لكن هناك غدٌ لا يأتي مهما انتظرناه...مثل جراحٍ لا تلتئم مهما حاولنا مداواتها تبقى كما هي تنبض بالوجع....وتذكرنا بما كان !...
..............................................................
وقف أمام المرآة بملامح باردة كمن يُقدِم على إلقاء نفسه في قاع الجحيم... كان يُهندم
الحُلّة التي استعارها من أحد أصدقائه…

كانت هذه أول مرة يرتدي فيها حُلّة ولاقت به كثيرًا مع شعره الأسود الناعم الذي يصل إلى آخر رقبته بفوضوية محببة.... ارتدى حذاءً أسود لامعًا كان قد اشتراه لأجل الحُلّة...

أصبح أشبه بعارض أزياء وسيم ستُلتقط له الصور لتُوضَع على أرقى المجلات....

في الحقيقة هو يمتلك وسامةً وطلةً مميزة لكنها للعجب لم تفده يومًا لم تدفئه في قرصة البرد ولم تملأ بطنه حين تدهور جوعًا وربط معدته بقسوة كباقي إخواته.....

لم تفده وسامته بشيء مجرد واجهة تُغوي النساء الساقطات في طريقة لكن روحه ظلّت على بشاعتها قاتمة ناقصة حاقدة على
الجميع....

"مبروك يا عريس…"

أتى صوت أيوب إليه بعد أن اقتحم الغرفة وكانت شقة أحد الأصدقاء قريبة من صالون التجميل الذي تتزين فيه عزة....

"الله يبارك فيك يا أيوب…"

تقدم من صديقه وعانقه بخشونة قائلًا...

"عقبالك يا صاحبي…"

رد أيوب ردّه المعتاد...

"أنجح الأول وأقف على رجلي... وهخلي صفصف تنقي ليا واحدة على الفرازة…"

ضاقت عينا سلامة بخبث...

"على كده نستها... أنا افتكرت هي اللي 
هتبقى صاحبة النصيب... "

وقف أيوب أمام المرآة مثله يُهندم ياقة قميصه قائلًا بوجوم...

"كان عندك حق.... الأحسن آخد واحدة من توبي…"

نظر إليه سلامة وشعر بمذاق الصدى في 
حلقه وهو يقول...

"حكايتك تختلف عني يا صاحبي.... كمان ظروفك غيري…"

رد عليه أيوب بلا اهتمام....

"مهما اختلفت.... في الآخر أنا من عالم وهي من عالم تاني خالص... "

ثم تافف وهو يُحيط عنق سلامة بذراعه بخشونة قائلًا بمزاح...

"فكنا من السيرة دي وخلينا نركز في ليلتك عشان أوجب معاك.... "

ابتسم سلامة متذكرًا ما حدث منذ قليل...

"لسه الواد حودة ممسي عليه بتلات 
شرايط برشام…"

ادّعى أيوب الصدمة وحملق فيه...

"الله يخرب بيتك.... أوعى تكون خدتهم…"

استهزأ سلامة قائلًا برعونة...

"ده لو ناوي أنتحر يبقى جم في وقتهم… بس أنا مكمل عِند في الدنيا واللي فيها…"

سأله أيوب...

"على كده رمتهم في وشه…"

اندهش سلامة..

"عرفت منين…"

ضحك أيوب وقال ما في جُعبته...

"حودة لسه قايلي الواد سلامة كبر وبقى عنده أخلاق... "

مطّ سلامة شفتيه مؤكدًا دون تقهقر...

"خلينا أكملها صح للآخر... وربنا يبعدنا عن السكة دي… المهم أنت كنت هتوجب معايا إزاي…"

لمعت عينا أيوب بالمكر غامزًا له...

"هديك دروس يا غشيم عشان ما تفجّعش البِت…"

ضحك سلامة بقوة وهو يقول بوقاحة...

"ما تيجي أنا أديك دروس تنفعك في الجاي.."

سخر منه الآخر موضحًا وجهة نظره...

"عارف إنك مقطع السمكة وديلها...بس دي مراتك مش واحدة من الشارع وشها مكشوف زيك…"

زجره سلامة هازئًا...

"وأنت تديني دروس بمناسبة إيه...
أنت متجوز؟... "

قال أيوب بغمزة شقية...

"لا بس قعدت مع ناس متجوزة وفهمت اللي فيها... "

رفع سلامة وجهه قائلًا باعتداد..

"احتفظ باللي فهمته لنفسك... أنا مفيش حاجة تعصى عليا... "

أشار له أيوب بالخروج قائلًا...

"لا  أسد يالا... طيب يلا لحسان اتأخرنا…"

بعد فترة.....

وصل سلامة إلى صالون التجميل فرأى عزة قد انتهت للتو وتنتظره... كانت تتألق بثوب زفاف أبيض رائع وترتدي حجابًا يضاهيها حشمةً وأناقة....

في الحقيقة لم يرى عزة يومًا سوى بعباءة سوداء وحجاب يماثلها ملامحها باهتة متعبة من كثرة الشقاء.... لكن اليوم رؤيتها تختلف فقد أضحت عروسًا جميلة وجهها وعيناها أصبحا لوحةً من الجمال تستحق التأمل والإشادة بذلك.....

ورغم كل هذا المجهود المبذول منها ومن التي أبدعت في إظهار جمالها بريشة فنان إلا أنه استقبلها بمشاعر باردة دون إحساس حقيقي بالفرح أو بلهفة للاختلاء بها....

لو كانت هي مكانها لصاح بعلو صوته في سعادة وهو يأخذها بين ذراعيه إلى صدره يضمها ويدور بها أمام الجميع... لو كانت
هي؟!....

لكنها ليست هنا وهو لم يعد موجودًا كما
في السابق تفارقا وانتهى كل شيء وبدأت حكايته مع امرأة أخرى 

سطور فارغة وكلمات هاربة لا يعرف إلى أين ستأخذه تلك الحكاية…

أخذ يدَ عزة والتي احمرت وجنتاها خجلًا وقلبها يخفق بين أضلعها في سعادة وحب
وهي تنظر إليه بعينين هائمتين فهو حلم تحقق بعد انتظار عظيم....

ليبدد حزنها فرح....... وصبرها فرج......

خرج سلامة بها من صالون التجميل وسط زغاريد خالتها وبعض الجيران والطبول تدق من حولهما والوجوه تبتسم وتبارك لهما

يزفّونهما في بهجةٍ صاخبة حتى وصلا إلى السيارة المزينة بالورود و التي ستنقلهما إلى سطح البيت حيث سيُقام الزفاف البسيط هناك...


تعليقات