رواية ظلي لم يغادر المكان ( جميع فصول الرواية كاملة ) بقلم سلمى ابو ضيف

رواية ظلي لم يغادر المكان الفصل الاول بقلم سلمى ابو ضيف



وقف مازن أمام بيت نور، عينه ثابتة على نافذة في الطابق الثاني. للحظة، ظن أنه رأى الستارة تتحرك... لا نسمة هواء ولا صوت، فقط اهتزاز خفيف، كأن أحدًا يراقبه من خلفها.شعره المموج تحرّك مع النسيم البسيط، لكن ملامحه بقيت جامدة، صلبة.
طويل القامة، بجسم متناسق، يرتدي قميصًا أسودًا ضيقًا، وساعة ثقيلة تلمع في يده اليسرى... كل شيء فيه يوحي بالثقة، لكن من يعرفه يعرف أن أغلبها وهم.
أدار نظره إلى السيارة حيث كانت إهداء تجلس بجوار خالد. علامات الغضب كانت واضحة على وجه كلٍّ منهما.
أخرجت إهداء رأسها من النافذة، وقالت بانفعال:
 "هي هتفضل تأخرنا كده كتير؟!"
رد مازن وهو يحاول أن يبدو هادئًا: 
"معلش... سيبيها، يمكن بتجيب حاجة."
ثم أشار فجأة نحو الباب: "أهي... نور جت."كان مازن ممن يصنعون من الهدوء درعًا، يخفي وراءه تقلبًا لا ينتهي. كلماته دائمًا محسوبة، لكنها لا تخلو من التلاعب. يعرف كيف يُظهر نفسه كالقائد... لكنه داخليًا، ما زال يهرب من غرفةٍ ما ترك فيها وجهًا حزينًا 
كانت نور تنزل الدرج بخطوات مترددة، تمسك حقيبتها كأنها ستحتمي بها. ركبت السيارة بسرعة، وأغلقت الباب بعنف. جلست في المقعد الامامى، تلفّ الكارديجان الرمادي على كتفيها بإحكام، رغم أن الجو لا يدعو للبرد. كانت نظراتها معلّقة في الطريق، وكأنها تبحث عن سبب للتراجع، عن علامة تخبرها أن تعود.
شعرها الطويل مفروض بعناية، لا تطرف له خصلة، وملابسها ناعمة الألوان، بسيطة لكنها مرتبة... تمامًا مثل أفكارها التي تحب ترتيبها كل صباح قبل أن تواجه العالم.

لكنها الآن، كانت ترتب خوفها، لا أفكارها. صوتها حين تكلمت بدا خافتًا، هشًا، لا يشبه نور التي تقرأ عن كل شيء وتفهم كل شيء.
قالت بضيق: "ماما من ساعة ما عرفت إحنا رايحين فين وهي مش راضية تسيبني... تقولّي: القصر ده نحس!"
ضحك خالد ساخرًا: "قصر نحس إيه بس يا نور؟ ده مش أول مرة نروح مكان مهجور... اهدوا بقى!"
ثم نظر إلى مازن: "يلا يا مازن، اتكل على الله."
مرت عشر دقائق بصمت ثقيل، وكأن القلق بدأ يسيطر عليهم دون اعتراف. فجأة رن هاتف إهداء. ضغط خالد على فخذه بعصبية.
قال بعصبية: "مش قلت نطفّي التليفونات؟ فيه تصوير بعد ربع ساعة!"
أخرجت إهداء هاتفها مسرعة: "معلش نسيت..."
ثم تغيرت ملامحها وهي تنظر للشاشة: "...عمرو؟!"
كادت أن ترد، لكن خالد خطف منها النظرة بغضب: "عمرو؟! هو من إمتى معاه رقمك؟ مش قولنا الراجل ده مش سهل؟!"
ارتبكت إهداء، وتلعثمت: "والله مش بإيدي... بعتلي عشان شغل، كان عايز إعلان لمحله الجديد... بس رفضت، قلت له عندي تصوير. والله العظيم ما حصل حاجة."
نظر مازن في المرآة، ثم قال بحدة: "رقم الواد ده يتحذف، مفهوم؟ مش ناقصين مشاكل."
قالت بإحراج: "حاضر..."
لكن التوتر كان واضحًا... الجميع بدأ يشعر أن هذه المغامرة لن تكون عادية.
بعد لحظات من الصمت، قال مازن: "خلاص، فاضل أقل من عشر دقايق ونوصل."
قالت نور بصوت خافت: "أنا مش مرتاحة خالص... أنتم عارفين رايحين فين؟ قصر البارون مش أي مكان."
رفعت إهداء حاجبها وقالت باستهتار: "يا ستي قصر زي أي قصر، فيه تماثيل وحيطان قديمة وخلاص."
لكن نور نظرت لها بثقة مرعبة وقالت: "أنا عملت بحث كتير. القصر ده قصر تاريخي في مصر الجديدة، بناه البارون إدوارد لويس جوزيف إمبان، راجل أعمال بلجيكي، في أوائل القرن العشرين، وصمّموه على الطراز الهندي. القصر ده بيتقال عليه إنه بيت رعب، غموض، وتشويق... من أول ثانية لآخر نفس! بيقولوا فيه صرخات بالليل، وست بتظهر في البلكونة، وأنفاق بيوصلوا للعالم السفلي." 
ساد صمت غريب في السيارة.
قال خالد بقلق لأول مرة: "نور... الكلام ده حقيقي؟"
حاول مازن تلطيف الجو: "يا جدعان بلاش رعب... ده تحدي، واتفقنا عليه. وبعدين إحنا مش أطفال."
ثم تابع متحديًا: 
"ده تحدي، وإحنا قبلنا بيه، وكلكم كنتوا موافقين، اشمعنا دلوقتي؟" 
أمسكت إهداء بيد نور وقالت ممازحة: 
"متخافيش يا صغنن، حافظه المعوذتين وآية الكرسي؟ ولا أحفظهم لك؟" 
نظر إلى نور وسألها: "ناوية ترجعي؟"
ترددت، ثم قالت: "أنا... مش عارفة."
لكن إهداء، رغم المزاح، كانت تمسك بيد نور بقوة وقالت: "إحنا معاكِ يا صغنونة، هنتسند على بعض، ما تخافيش."
نظرت نور إليهم، ثم تنهدت وقالت: "...موافقة... يلا بينا."
صرخوا جميعًا:
"أيوه كده يا نور!"
كانت إهداء  تضحك... ضحكة عالية، مزينة بزغروطة عفوية، دوّت داخل السيارة، حتى أن نور نفسها لم تمنع ضحكتها ،لكن داخلها، كان هناك شيء آخر. حين أمسكت بيد نور، لم يكن ذلك دعابة. كانت تتمسك بها بقوة، كأنها تتمسك بشيء يربطها بالواقع.
إهداء دائمًا ما كانت تهرب إلى الألوان. ترتدي البنفسجي، الفوشيا، الأخضر الفاقع... تطلي أظافرها بألوان لامعة، وتضع ربطة شعر كأنها في عيد. لكن اليوم... شيء مختلف في عينيها. خفة أقل. صمت أطول بين كل ضحكة وأخرى.
لكن في لحظة خاطفة... وهم يتحركون، مرت بجانبهم قطة سوداء، وقفت في منتصف الطريق تنظر نحو السيارة بعينين لامعتين... قبل أن تختفي فجأة في العتمة.
قال مازن بصوت منخفض، وكأنه يخاطب نفسه: "...حتى القصر بقى منتظرنا."
وانطلقت السيارة...
 وكأن القصر ينتظر حضورهم بلهفه !! 
تعليقات