رواية الافعي ( كاملة جميع الفصول ) بقلم نورهان ناصر


 رواية الافعي الفصل الاول

تجلس على الأريكة تنظر إلى نشرة الأخبار، أثناء احتساءها لقهوتها، على محياها علامات العبوس، وهي تستمع إلى حديث المذيعة المتأثرة بما حدث مساء أمس، بات الأمان في هذا العالم شيءٌ من محضِ الخيالٍ. 

_مجزرة بمعنى الكلمه أعزائي المشاهدين، صِحينا اليوم على فاجعة كبيره، واللي قلبت السوشيال ميديا كلها ليلة انبارح، مش عارفين إزاي العروسة قدرت تعمل كدا؟ تقتل زوجها بالطريقة الوحشية دي، وبعدها تقتل نفسها؟ والتوقيت أغرب بجد، بعد ما روحوا بيتهم يعني من على قاعة الفرح للبيت إيه اللي حصل معاهم خلاها تعمل كدا؟ تفاصيل كتير محتاجين نعرفها، ودلوقت معانا والدة ريماس تحكي لنا ليه بنتها عملت كدا وإيه اللي حصل بالظبط؟.

انتقلت الكاميرا من على وجه المذيعة موجهة إلى سيدة في منتصف الأربعينات، ملامحها مكلومة وعينيها مغمورتان بالدموع، خرجت كلماتها ضعيفة، أثر مُصابها:

_بنتي ريماس مكنتش في حالتها الطبيعية، ولا في وعيها دي روحها في إسلام وقد إيه تعبوا لحد ما اتجمعوا ...

لم تكمل منعتها غصة حادة وقفت بمنتصف حلقها، لتعض على شفتيها بأسنانها، تُغمض عينيها وهي تمسح عليهما بأطراف أصابعها، لتتدخل المذيعة وتقترب منها وهي تربت على كتفها بحنان، تُناولها كوب الماء وبعد أن ارتشفت منه، هدأت قليلًا ثم بدأت تحكي ما حدث :

_دايما كانت تقوم تصرخ في الليل من الكوابيس اللي مش رحماها، كانت بتقول إنها بتشوف نفسها،
بتـ ـدبح إسلام في يوم الفرح وتفضل تصرخ وعياط بدون توقف، قولنا يمكن محسودة ولا حاجه أو توتر الفرح وكدا، بدأنا نشغل قرآن فترة وارتاحت شوية، والكوابيس هديت وبدأت حياتها تمشي بشكل طبيعي، كانت مبسوطة وطايرة من الفرحة أما قرب ميعاد الفرح وبتحضر كل حاجه هي وبنات عمامها وخالاتها، والدنيا كانت حلوه لحد ليلة الحنة رجعنا للهم تاني دخلت عليها أنا وبنات عمها....

** 

نظرت لها وهي تضرب على جبهتها تقول بضيق:

_ يادي التوهه اللي أنا فيها، ادخلي يا سماح شوفي ريماس أختك كانت قايلالي على إيه؟ علشان ابعت اجيبه.

ابتسمت في وجوه الفتيات أقارب زوجها وأقاربها:

_وآه خليكم معاها يا بنات.

أومأت سماح بالايجاب وهي تبتسم بسمة صغيرة مشيرة إلى بنات عمها بالقدوم معها، وما إن وطأت أقدامهم الغرفة ألجمت الصدمه ألسنتهم، وهم يرون المشهد التالي..

كانت ريماس تمسك بيدها سكين مطبخ حاد، و تُقطع في فستانها بطريقةٍ غير متزنة ورغم إصابة يديها إلا أنها لم تتوقف، تُهمهم بكلماتٍ غير مفهومة، هرعوا صوبها سريعًا يحاولن منعها من إيذاء نفسها، وتحدثت سماح قائلة :

_ ريماس بتعملي إيه ؟ هاتي السكينه دي ؟.

نظرت لها ريماس بعيون غاضبه وهي تقول:

_ ابعدوا عني، مش بحبه، مش عوزاه ابعدوا عني مش هتجوز.

صُعقن من حديثها، تزامن ذلك مع دخول والدتها للغرفة لما تأخرت سماح عليها، لتركض ناحيتها وهي تصرخ بصدمه :

_ أنتِ اتجننت يا ريماس هتسيبي إسلام؟ ده أنتِ فرحك بكرا يا بنتي، عايزه تفضحينا. 

نهضت ريماس تنظر لهم بغضب وهي تضع السكين بمحاذاة عُنقها تصرخ بدموع:

_ قولت مش عايزاه، ابعدوا عني أنا بكرهه .

نظرت والدتها لها بتشوش وصدمه لتقع على الأرض فاقدة للوعي، ليزداد صراخ الفتيات قريباتها، التف الجميع حول والدتها، وفجأة اقتحم الغرفة آيات تُتلى بصوتٍ عذب للشيخ عبد الباسط عبد الصمد. 

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ

نظر الجميع لمصدر الصوت كان عمها الأكبر يحمل هاتفه وأصوات عبد الباسط صاعده منه. 

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

كانت ريماس تنظر صوبه وهي تتنفس بصوت مرتفع، ويدها لا زالت عند رقبتها أين تضع السكين. 

أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.

اقتربت منها سماح محاولة أخذ السكين منها، حدقتها بعينين يملأهما الغضب وهي تبتعد عنها. 

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ

ازداد صراخ ريماس بقوة، وهي ترى عمها يشير لهم بإخلاء الغرفة وتركهم بمفردهم، وهو يتقدم منها حتى أضحى على بُعد إنش واحد منها، نفذ الجميع وخرجوا بعد أن استفاقت والدتها، وما إن رأت عمها بالغرفة ارتاحت قليلًا. 

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ

تراجعت ريماس للخلف ملتصقة بالخزانة وهي تبكي وتصرخ بقوة، تضع أيديها على أذنيها بعد أن أفلتت السكين لتوقعها على الأرض، تنظر للهاتف الذي يصدح بقوة بالقرآن، ثم جثت على الأرض هبط عمها لمستواها وضمها إلى صدره بقوة، بينما هي جسدها ينتفض بقوة، تشبثت بملابسه وهي تصرخ موجوعة. 

كفكفت دموعها تنظر إلى المذيعة مكملة بنبرة مقهورة:

_ أجلنا الفرح شهر كمان، علشان نشوف صرفة للي بيحصل للبنت، عمها والشيخ اللي شافها قال إنها ممسوسه وأمرنا نشغل القرآن باستمرار ليل ونهار مينقطعش من البيت، وفعلا عملنا كدا وإسلام كان واقف معاها أيد بإيد الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته ويصبر أمه ويصبرنا كلنا،  وفعلا ريماس اتحسنت ومبقتش تفكر تأذي نفسها أو تسيب إسلام، وبرغم من تحذير الشيخ لينا إننا منقطعش القرآن من البيت، بس لما قرب ميعاد الفرح أنتِ عارفه بقى جو الافراح المصرية عامل إزاي؟ .

ابتلعت لعابها تكمل بغصه:

_ قفلنا على القرآن والأغاني اشتغلت وبرغم رفضي بس لما شوفت بنتي أخيرًا بقت مبسوطه ومفيش حاجه، قولت خلاص يا سوسن بنتك بقت كويسه أهي ومفيش حاجه، وبعد الفرح ما خلص جالي الخبر وأنا لسه يدوب برتاح بعد ما ودعتها، مكنتش أعرف أنها آخر مرة هشوف بنتي، آه يا ريتني كنت أعرف إن ده اللي هيحصل ...مكنتش وقفت القرآن أبدًا وكنت فضلت مع بنتي لحد ما اتعافت تمامًا ...

انكبت في البكاء بصوت مرتفع، تولول بعينين لامعتين من الدموع وهي تنظر صوب الكاميرات:

_ مش قادره ...منهم لله اللي عملوا في بنتي كدا، ربنا ينتقم منك على اللي عملتيه فيها، يُمهل ولا يُهمل وهتشوفي يوم، مش عارفه ليه الأذية؟ ليه تعملوا في الناس كدا؟ دي دنيا فانية ليه تخسروا آخرتكم علشان شوية مرض في قلوبكم وعقولكم؟ ليه بجد؟ ليه ؟ منكم لله !. 

_ إن شاء الله حق بنتك مش هيروح، دي شهيدة عند الله هي وزوجها ربنا يصبر قلوبكم، وربنا سبحانه بيقول متوعد ليهم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾. 

ختمت المذيعة حديثها، أطلقت نفسًا عميقًا تقول ببسمة صغيرة:

_ ودلوقت معانا أم إسلام واللي أنا بجد اخدتها مثال وقدوة للأم المصرية الأصيلة واقفه مع والدة اللي قتلت ابنها في يوم فرحه، حاجه مبتحصلش كل يوم، اتفضلي احكي لينا إيه اللي حصل بالظبط؟. 

ظهرت السيدة والدة إسلام تقول ببكاء:

_ بصي يا بنتي أم ريماس مُصابها زي مُصابي، زي ما أنا خسرت ابني هي خسرت بنتها نتيجة ناس مريضة مورهاش غير الأذية.

تنهدت بحزن مردفة:

_احنا يدوب كنا ارتحنا ولسه بنقعد سمعنا صوت الصريخ والتكسير، قومنا كلنا نجري على فوق، باب الشقة كان مقفول، بقيت أصوت واضرب على الباب، وانده يا إسلام يا ريماس مفيش فايده ...

**

طرقات عنيفة على باب الشقة وأصوات صراخهم الحادة تتصاعد من داخلها، نظرت إلى ولدها الآخر تقول ببكاء :

_ اكسر الباب يا حمزه بسرعه .

نفذ حمزة وهو يشير لهم بالرجوع قليلًا إلى الوراء، ظل يدفع في الباب بكتفيه حتى فُتح أخيرًا، وهنا كانت الصدمه؛ فغر الجميع أفواههم بقوة، وجحظت أعينهم من المشهد الذي يرونه، تجمدت أجسادهم في موضعها؛ حيث كانت ريماس لا تزال بفستان زفافها الذي تلطخ بالدماء بشدة وفي يدها سكين حاد، قد انتزعتها من رقبة زوجها من جانب عنقه تحديدًا، لتتطاير الدماء بغزارة مغرقة وجهها وثوبها الأبيض، نظرت لهم بملامح خاوية، وبلا أي ترددٍ كانت تعدل وضع السكين، ثم جزت عنقها في أقل من ثانية دون أن ترمش، لتسقط على الأرض بجانب جثة زوجها الهامدة.

تحدثت المذيعة بنبرة متأثرة:

_ ربنا يرحمهم ويصبر قلوبكم، أفهم من كلامكم إن ريماس مش بس كانت ممسوسة كان في سحر أسود في الموضوع زي ما سمعنا ورغم عدم اقتناع البوليس باللي قولتوا بس أنا مصدقاكم.

اجابتها والدة ريماس السيدة سوسن:

_ أيوه يا بنتي، طلعنا العمل من قلب فستان فرحها مكتوب عليه قتل، أنتِ متخيلة وصلت بيهم لفين حسبي الله ونعم الوكيل. 

تحدثت المذيعة بدهشة:

_ فستان الفرح؟؟ يبقى عرفتوا مين عمل فيها كدا ؟؟؟.

ردت والدة إسلام بوجع: 

_ لا للأسف البوليس معرفش يوصل لحاجه والمكان اللي اشترينا منه الفستان مكان معروف ولا يمكن يعملوا كدا، اللي حط العمل ده قريب مننا أوي ده التفسير الوحيد، احنا شوفنا الخياطه اللي ظبطت الفستان على مقاس ريماس والبوليس اخدها يحقق معاها، بس اخلوا سبيلها لعدم كفاية الأدلة، ولا يمكن تعمل كدا أصلا، خصوصا إنها هتكون أول حد نشك فيه، كمان هي متعرفناش معندهاش سبب تعمل كدا فيهم. 

أكدت حديثها والدة ريماس:

_ فعلا أنا بردو قولت كدا، والله اللي يتهز له سبع سموات ما أنا رحماها أو رحماه اللي عمل في بنتي كدا، وليكم يوم تجتمع فيه المظالم، وحسبي الله ونعم الوكيل فيكم، املوا كتبكم بشركم وحقدكم، بس ربنا موجود وهيجيب لي حقي منكم، في الدنيا والآخرة. 

أطفأت الجهاز وهي تمسح دمعاتها، تزامن ذلك مع قرع جرس الشقة، نهضت بتكاسل تفتح الباب لتقع عينيها على ابنة عمها وأخت ريماس بذات الوقت، وقبل أن تنطق الأخرى بحرف، باغتتها وهي تحتضنها متحدثة بحنان:

_ قلبي عندك يا سماح، ربنا ينتقم من اللي كان السبب.

بكت سماح بقوة، وهي تغمغم بصوت مرتفع أثر شهقاتها:

_ هموت يا سمر، مش قادره أصدق إن مبقاش فيه ريماس خلاص ...كانت لسه في حضني انبارح كنت معاها، كانت معايا أختي راحت من بين أيديا، في كل مراحل حياتها أنا اللي ربيتها أختي دي، لا مش أختي دي بنتي، أنا اللي كنت بهتم بيها واسرحلها شعرها واحكيلها حكايات، مش عارفه أتخيل إنها خلاص سابتني، ده أنا موضوع جوزاها كنت مش متقبلاه لأنها هتبعد عني، هتوحشني خناقتنا سوا وضحكنا مع بعض.

غص حلقها وهي تكمل بعينين موجوعة:

_ ده أنا كنت بيت أسرارها يا سمر، لما حبّت إسلام كنت أول واحده أعرف ونصحتها تتصرف إزاي؟  وانبارح بس كنت شايفاها طايرة من السعادة، ليه تعمل كدا ؟ ليه تقتله وتقتل نفسها ليه يا سمر؟. 

اصطحبتها سمر إلى الداخل، حيث غرفتها تقول بمواساة : 

_ غصب عنها بقى يا سماح، ادعي ليها بس.

انتفضت سماح بالبكاء تقول :

_ آه لو اعتر فيها الحقيرة اللي عملت في أختي كدا.

ضيقت سمر عينيها باستغراب:

_ وأنتِ عرفتي منين إنها واحدة ؟ 

طالعتها سماح بضيق مردفة:

_ أكيد واحدة ست، باينه للأعمى، واحده في قلبها حقد على أختي وبتحسدها. 

                              ***

بعد مرور بضعة أيام، كانت تسير في الشوارع بلا وجهة معينة، فجأة شعرت بأحدهم يقف خلفها تمامًا،  وصوت كأنه خرج من الجحيم يهمس لها بضع كلماتٍ، ارتجف جسدها و أومات برأسها وبعد ذهابه، زفرت الهواء بقوة وهي تبحث عن ضحيتها الجديدة،  وقعت عينيها على شاب وفتاة يبدوان سعيدين للغاية يشبكان أيديهما متجهين صوب ذلك المطعم المعروف على النيل، وللأسف وقعا مع شخصٍ بينه وبين السعادة عداوة أزلية، احتدمت نظرات عينيها، وشعرت بالغضب يملأ صدرها الأسود.

أخذت تراقبهما بصمتٍ تتهيأ الفرصة المواتية لتنفيذ ضربتها، اتسعت ابتسامتها الخبيثة وهي ترى النادل يحضر لهما الطعام، أخذت تهمس بضع كلماتٍ وأعينها مصوبة على النادل الذي وضع الطعام أمامهم، وفجأة صرخت الفتاة بأعلى صوتها، حينما رفع مخطوبها طبق الشوربة وصبه على وجهها لتحترق بشرتها بشدة، وهنا فقط شعرت بالرضا داخل قلبها المريض، بدأت الأصوات تزداد من خلفها والصراخ و بكاء الفتاة بكل قوتها، قبل ثنيات بسيطة كانت تضحك بقوة والسعادة تُزين عينيها، تناهى على مسامعها حديث مخطوبها الذي استفاق من غيبوبته ينظر إلى بشرتها الحمراء الملتهبة والجلد المتساقط أسفل عينيها إضافة إلى عينيها التي انطفأت الحياة فيهما، بكى بصوت مرتفع وهو ينظر لها :

_ إيمان ... إيمان ردي عليا.

والناس من حوله يرددون 

" لا حول ولا قوة إلا بالله"

" يخربيت الهباب اللي بتشربوه"

" شوه البنت، استغفر الله العظيم، حد يطلب الإسعاف"

" يا حرام طب حد يتصل بالبوليس بسرعه، لازم يتعاقب " 

همست هي وهي تعبر من أمامهم بانتشاء: 

_ تستاهلوا، بتغيظوني يعني إنكم سعداء. 

أكملت طريقها وابتسامة على محياها، حتى وصلت بها قدميها إلى مكان مظلم حيث السكون التام، ورائحة الجثث تفوح بكل زاوية، توقفت فجأة ترى مجموعة من الفتيان اليافعين يدفع أحدهم بعض المال إلى حارس المقابر، من هيئتهم علمت إلى ما ينتمون، ابتسمت بتسلية وهي تتوارى في الظلام، فتح الحارس لهم أحد القبور، فبدأوا بالنزول واحدًا تلوى الآخر. 

وهنا بأسفل القبر: 

كانوا يقفون حول جثمان لفتاة صغيرة لا يتخطى عمرها السادسة عشرة تم دفنها عصر هذا اليوم، تمتم أحدهم فجأة بتراجع:

_ لا أنا همشي، مش هشارك معاكم، أنا إيه اللي جابني؟. 

رمقه أحد زملائه بنظرة متهكمة ساخرة :

_ بطل جبن ياض وانشف كدا، بعدين أنت جيت وخلاص، مفيش تراجع. 

نظر له بحنق يردد قبل أن يستدير خارجًا :

_ يا سيدي أنا جبان، بعدين حرام عليكم أنا ليا أخت صغيرة، أنتم بجد هاتبقوا دكاترة حرام عليكم، اللي عايزين تعملوه ده. 

قهقه رفيقه بسخرية:

_ طيب اخلع أنت يا أبو قلب رُهيف، وبكرا لما نكون إحنا أفضل منك وناخد التمام على شغلنا، ابقى سلملي على ضميرك وأخلاقك ابقى خليهم يوكلوك بقى، يالا أنت وهو ساعدوني هات الكشاف ده هنا وطلع الأدوات. 

أومأ رفاقه وبدأوا في استباحة جسد الفتاة الصغيرة بلا ضمير، وخارجًا كان يقف هو بعيون باكيه لا يصدق ما كان ينوي التورط فيه، استغفر ربه وعزم على تلقينهم درسًا سيذهب ويهددهم بالمغادرة وإلا أبلغ عنهم، حرك رأسه باستحسان لهذه الفكرة، ثم اتجه عائدًا إليهم، احتلت الصدمه معالم وجهه، وهو يرى القبر فارغًا، أين اختفوا ؟ أيعقل أنهم تراجعوا ؟ 

دار بعينيه في المكان يبحث عنهم، ولا أثر لهم ازدادت ضربات قلبه وابتلع لعابه ببطء، وهو ينادي عليهم:

_ شادي ...وائل ... أسامة ... أنتم روحتوا فين؟؟ 

شهق فجأة بجزعٍ حينما شعر بشيءٍ خاطف يمر من أمام عينيه، ارتعدت فرائصه يتراجع للخلف، وهو يقول بنبرة حانقة خائفة:

_ لو ده مقلب منكم، مش هسامحكم وعلى فكره هبلغ البوليس أحسن لكم تطلعوا .

الهدوء ما ساد بعد صراخه، فلم يجيبه أحد وبعد مرور بضع ثواني شعر بأحدهم يضع يده على كتفه استدار بسرعة كبيرة لتقع عينيه على أحد رفاقه، يضحك بشدة على معالم وجهه، أطلق هو سبه نابية وهو يدفعه بقوة من صدره، يَصرُخ بانفعالٍ:

_ أنتم بتهرجوا، أنا ماشي وعلى فكرة إن موقفتوش اللي بتعملوه ده هبلغ عنـ...

سقط فجأة على الأرضِ غارقٍ في الدماءِ، بعد تلقيه ضربة قوية على مؤخرة رأسه، ليصرخ أسامة بعينين متسعتين:

_ يخربيتك يا وائل إيه اللي هببته ده؟؟.

نكص على عقبيه يطالع صديقه الغارق في الدماء، اتسعت عينيه بذهول وهو يرفع بصره صوب وائل الذي ينظر له بلا مبالاة بفعلته، يردد من بين صدمته:

_ ده مات !. 

وأيضًا لم تتغير ردة فعل وائل بل فقط، ظل ينظر إلى رفيقه المضجر في دماءه بهدوء شديد، نهض أسامة يمسك بمقدمة قميصه وهو يهزه بعنف صارخًا:

_ انطق عملت كدا ليه؟ أنت اتجننت؟ قتلته يا ليلة سودا. 

أبعد وائل يديه عنه بقوة وهو يردف بعينين باردة:

_ شيلوا معايا نحطه في القبر بتاع البنت ولا من شاف ولا من دري، واسكت بقى أهو اللي حصل بعدين خنقني بأم مثاليته دي، أما هو شخص بتاع ضمير إيه اللي جابه معانا؟. 

يا لك من شخص أحمق، أنسيت أن هناك رب مطلعٌ عليك، ويرى كل أفعالك.

نظر له أسامة بضيق شديد:

_ أنا بجد مش مصدق إنك قتلته، لا أنا مليش دعوه بالليلة دي. 

أنهى حديثه وهو يوليه ظهره يمسح على وجهه، مرددًا بأنه لن يشارك، وفي الظلام كانت هي تقف تردد بصوت منخفض بضع كلمات، ثواني مرت وكان المدعو بـ وائل يُسقط صديقه الآخر، بنفس الحجر الذي قتل به رفيقهم الأول، آفاق من حالة الجنونِ،  الذب تلبسه ليجثو على ركبتيه يصرخ باكيًا بندمٍ،  وفي تلك الأثناء ظهر شادي الذي كان يقضي حاجته جاحظ العينين ينظر لهم بفم مفغر، وهو يقول :

_ إيه اللي حصل ؟. 

رفع وائل عينيه الغائرة في الدموع:

_ مش عارف.

ارتعش شادي في موضعه وابتعد عنه يردد بخوف :

_ أنت اللي قتلتهم؟ 

حرك وائل رأسه بالنفي لكن شادي لم يصدقه، تظاهر فقط بتصديقه خشية أن يناله بطش منه، هتف وائل وهو يمسح دموعه:

_ تعالى نمشي من هنا، أنا جيت لقيتهم مموتين بعض أنا مليش دعوة. 

تحدث شادي بتوتر وخوف شديد وهو يرى الحجر لا زال في يد وائل:

_ مش هينفع نمشي كدا، تعالى ندفنهم الأول مهما كان كانوا صحابنا، بعدين طلعوا معانا وكدا هنتكشف كنا بنعمل إيه ؟.

هز وائل رأسه بالايجاب وهو يلقي الحجر من يده، وبدأ في مساعدته لإدخالهم للقبر وفور استقرارهم بداخله تحرك شادي خارجًا وهو يقول :

_هروح الاهِي الحارس لحسن يُنط فجأة، وكمان الدم اللي فوق ده هيوصلهم للقبر اللي دفناهم فيه.

تمتم وائل بهدوء:

_ تمام روح بس متتأخرش، اياك تغدر بيا. 

_ متقلقش. 

خرج من القبر، يتنفس الصعداء وهنا ظهر إبليس يبث على مسامعه بعض السموم، و التي استقبلها الآخر منه بكل رحابة صدر، ثم بلا تفكير وهو يبتسم بشر أغلق باب القبر عليه، بدأ وائل في الصراخ بقوة وهو يطرق على الباب وبلا فائدة، أخذ ينظر للقبر المظلم والجثث تحاوطه، شعر فجأة بحركه داخل القبر حاول تذكر أي آية قرآنية وعبثًا يحاول، شعر بثقل شديد في لسانه، لمسات على فخذه وحول عنقه ليطلق صرخات مدوية، وهو يرى وجوههم المحدقة به بغضب شديد، تحدث أسامة وهو يلف يده حول عنقه يخنقه بقوة:

_ مش هانسيبك لازم تيجي معانا، جهنم مستنياك. 

ظل وائل يصرخ بقوة وهو يرفس بقدميه يضع يده حول عنقه، يضغط عليه بقوة، أصابته موجة وِهام وتخيل أن أصدقائه يخنقونه، إضافة إلى ضيق التنفس أسفل القبر، حتى لفظ أنفاسه ليستقر بجانبهم. 

وخارج القبر كان يقف هو مبتسمًا حينما توقف صوته، حينها أخرج هاتفه وأردف ببسمة سوداوية، ما إن وصل له صوت الطرف الآخر:

_ عندي ليك مقبرة فيها أربع جثث، طازة وعلى الفرازة كمان، مستنيكم يا باشا ومتنساش حقي بقى نفسي أسافر من أم البلد دي. 

صمت يستمع لمحدثه، لتتسع ابتسامته ثم أغلق الهاتف وجلس على الأرض ينقر على شاشة هاتفه، لتصدح صوت الأغاني بقوة، وهو بدمٍ بارد أخذ يردد مع المغني وهو يتحدث بسخرية:

_ معلش بقى يا ميتين حبه فرفشة كدا نروق عليكم. 

وعندها هي كانت تحدق به بنظرات ذات مغزى، أعجبها كتلة الشر داخله، وقررت الخروج لرؤيته وجهًا لوجه، ولكن أيدٍ من نارٍ قبضت عليها، تسحبها إلى الخلف، نظرت لهم بملامح متشنجة، ملامحهم سوداء لا ترى لها أية معالم، وأجسامهم ضخمه، وقبل أن تفتح فمها بحرف كانوا قد اختفوا ثلاثتهم من المكان، بعد أن هتف أحدهم بلغة غير مفهومة تفهمها هي وحدها ولكن يبدو أن ما قاله لها، قد نال استسحانها لتذهب معهم بملأ إرادتها، وهم فخورين بما فعلت تتعلم سريعًا وقدراتها في السحر الأسود مذهلة حقًا. 

وعنده هو كان لا يزال يغني بلامبالاة، دلف الحارس عليه بعد تأخرهم وهو يهتف بانزعاجٍ:

_ أنت قاعد عندك تعمل إيه ؟ يخربيتك !. 

رمقه شادي بلا مبالاة :

_ خلصنا روح شوف شغلك أنا قاعد مستني أما الجماعه يوصلوا. 

طالعه الحارس وهو يقطب جبينه مُستغربًا:

_ أومال فين صحابك؟ و إيه الأصوات اللي طلعت دي؟.

_ مش عارف، أنا جيت لقيت القبر مقفول كنت بلبي نداء الطبيعة، وخوفت أنزل تاني، فقعدت هنا لأنهم أكيد عاملين فيا مقلب، وانا مش هنولهم الفرصة، روح شوف مصالحك، يالا ومتعطلناش. 

أومأ الحارس بصمتٍ، ثم تركه وعاد إلى مكانه، مضت ساعة حتى وصلوا إليه لينهض هو عن الأرض يقول بلهفة شديدة:

_ فين الشنطة؟. 

ابتسم أحد الرجال بسمة واسعه وهو يشير صوب رجاله خفية ليقفوا خلفه، ثم رفع حقيبة ما ومدها له، انتشلها هو بسرعة كبيرة يحتضنها وهو يبتسم بسعادة،  ليردف الرجل ببسمة خبيثة:

_ مش هاتفتحها؟.

نظر له شادي بسعادة يقول وهو يبعدها عن حضنه:

_ ايوه طبعا لازم أتأكد من فلوسي، ٥٠ مليون زي ما اتفقنا بقُم ملكي لوحدي. 

منحه الرجل بسمة هادئة، فانحنى هو يضع الحقيبه على الأرض يفتحها ببطءٍ شديد، افغر فمه بقوة ينظر إلى كل تلك الأموال، يقول وهو يتلمسها بيديه :

_ مش مصدق عيوني، أنا بقيت غني. 

رفع رأسه من على المال ليتفاجأ بالسلاح المصوب صوب رأسه، وقبل أن ينبس بحرف كان الرجل قد أطلق عليه، قائلًا باحتقارٍ وهو يرفس جثته بقدمه كأنه حشرة:

_ خاين وأنا محبش الخاينين، خدوه معاهم وحصلوني، وإياكم تسيبوا أثر يدل علينا، عايز شغل نضيف. 

                              ***

بعد مرور سنتين . 

كانت تقف بجوارها تربت على كتفها، بينما الأخرى جالسة على حافة القبر تولول وتبكي، زفرت هي أنفاسها في حزنٍ، ثم أردفت :

_ خلاص يا مرات عمي، أهلكتِ نفسك. 

رفعت زوجة عمها عينيها لها تُردف بدموع شديدة:

_ نفسي أعرف مين اللي عمل فيها كدا يا سمر؟ ليه بنتي ؟ عملت إيه ؟ علشان يبقى فيه حد بيحقد عليها للدرجه دي؟.

تنهدت سمر تقول :

_ ناس مريضة بقى يا مرات عمي، قُومي معايا يالا. 

همست هي فجأة وهي تقبض على يدها:

_ أنا آسفه يا سمر على كل اللي عملته فيك زمان، أنا كنت قاسيه أوي معاكِ، وأنتِ طلعتي أحسن مننا كلنا، سامحيني يمكن ده عقاب ربنا ليا على اذيتي ليكِ في يوم من الأيام. 

ابتسمت سمر في وجهها بلطف تقول :

_ الماضي أنا رميته ورى ضهري، وأنا مش زعلانه منك، هو مات بقى وراح لحاله.  

زفرت أنفاسها براحة ثم ضمتها إلى صدرها، وسمر تربت على ظهرها، ثم همست بخفوت:

_ مرات عمي، ورايا شغل شقة عروسة جديدة هروح افرشها ليها، عارفه كان نفسي أشتغل مصممة ديكور وكدا، بس يالا نصيب بقى ومكملتش تعليم. 

_ روحي يا بنتي، أنا السبب سامحيني يا ريت أقدر أعوضك .

منحتها سمر بسمة صغيرة وهي تقول :

_ أنا أهو شغاله حاجه تبع المجال بردو، متزعليش نفسك، وبكرا يبقوا يجروا ورايا علشان اعملهم الفِلل بتاعتهم. 

بعد مرور بعض الوقت....

كانوا في منزلهم، أوصلتها سمر حتى غرفتها، ثم تركتها ورحلت لتباشر عملها الذي تحب.

وصلت بعد مدة إلى العنوان المنشود، كانت أصوات الزغاريد والضحكات منتشرة، ابتلعت الغصه التي تشكلت في حلقها، وهي ترى مشهد مشابه من الماضي الذي دفنته خلف ظهرها، لترسم بسمة صغيرة على ثغرها،  ثم أشارت لها إحدى الفتيات على الشقة تقول :

_ هي دي يا حبيبتي، لو عوزتي أي حاجه ناديني.

_ تسلمي يا قمر، ممكن تفضلي لو عايزه. 

ابتسمت الفتاة بعدم تصديق تقول :

_ بجد؟.

أومأت سمر برأسها، ثم أمسكت بيدها ودلفا إلى داخل الشقة، بدأوا العمل حتى انتهوا من نصف المهمه، ارتمت سمر على الفراش الخاص بالعروسين تقول ببسمة مرحه:

_ الشقة بقت تجنن مش كدا ؟ 

هزت الفتاة رأسها بتأكيد، وهي تقول أثناء جولانها بعينيها في أنحاء الغرفة:

_ فعلا تسلم إيدك شغلك حلو أوي. 

_ يتهنوا بيها. 

                            ***

بعد مرور يومين. 

كان جميع أفراد الأسرة مجتمعين وفجأة انتفضوا على أصوات طرقات عنيفه على باب المنزل، نهضت سمر لتفتح الباب تقول بنبرة هادئة:

_ في إيه يا حضرة الظابط ؟.

تحدث الضابط بنبرة قوية:

_ بيت عبد القوي حفيظ؟.

أكدت سمر تزامنًا مع سماعها لصوت أبناء عمومتها، يسألونها عن هوية الطارق، أكمل الضابط :

_ فين سمر عبد الرازق؟.

قالت سمر بتوتر:

_ أنا سمر يا باشا هو في إيه ؟؟ .

_ مطلوب القبض عليكِ، هاتوها.

صرخ أولاد عمومتها حينما حاول أحد الضباط سحبها، لتجتمع العائلة على أصواتهم، وسمر تبكي بشدة مردفة بأنها لم تفعل شيء.

في قسم الشرطة مديرية أمن الجيزة .

كانت تجلس سمر أمام الضابط الذي أخذ يلقي عليها الإتهامات وهو يخرج تميمة سوداء مكتوب عليها أفاعي سامة:

_ اعترفي أنتِ اللي حطيتيه في الشقة واتسببتي بموت العريس وعروسته؟؟. 

نظرت له سمر بدموع شديدة:

_ مش أنا يا باشا، أنا معملتش حاجه ولا أفهم في السحر، أنا رصيت الشقة وكان معايا بنت عمها شهد هاتوها تشهد أنا بريئة، وبعدين مليش عداوة معها هقتلها ليه؟.

وفي الغرفة المجاورة.

كانت شهد جالسة أمام الضابط تبكي بانفطارٍ وهي تقول:

_ احنا رصينا الشقة وطلعنا على طول مش عارفه الأفاعي دي كلها جات منين ؟.

نظر لها الضابط بصمتٍ ثم قال :

_ يعني مش ممكن تكون سمر هي اللي حطته؟ محدش غيركم كان موجود في الشقة وفضلت مقفولة، لحد ما جه العروسين، فتفسري بأيه وجود الأفاعي مع الحجاب ده؟.

أعقب حديثه وهو يخرج صورة وضعها أمامها، نظرت له و أردفت بدموع:

_ معرفش مقدرش اتهم حد، هي كانت قدام عيوني، حرام رصينا الشقة سوا وخرجنا على طول .

وبعد شهادة شهد تم إخلاء سبيل سمر، لعدم وجود دليل ملموس، وفي منزلهم عنفها والدها بشدة وهو يضربها بقسوة شديدة:

_ آخر مرة رجلك هتخطي برا عتبة الباب ده، ومفيش شغل من انهارده، أنتِ إيه شر مفيش مكان تروحيه إلا لما يحصل كوارث؟ من كام شهر بردو الشقة اللي فرشتيها ولعت باللي فيها ولقوا العريس والعروسه متفحمين، وغيرها وغيرها أنا مش عارف إيه الابتلاء اللي ابتليته بيكِ؟ هونها يارب، وخدها خلي البشرية ترتاح، أنتِ بومه نكد مش مستغرب إن مروان سابك أهو ريح نفسه من النحس اللي كان هيصيبه لو كان اتجوزك.

كانت سمر مثل الجثة بين يديه، تنظر له بعيون جامدة، وهو يضربها بقسوة والجميع يحاول إبعاده عنها، حتى تمكنت زوجة عمها من إخراجها من بين يديه بأعجوبة، لتشير صوب ابنتها سماح بأخذها إلى غرفتها، ونفذت سماح على الفور، وما إن استقروا في الغرفة تحدثت سمر بعينين باردتين:

_ سيبني لوحدي يا سماح عايزه أقعد مع نفسي شويه. 

أومأت سماح فهي على دراية كافية، بمعاناة سمر، وما يحصل لها من والدها الذي لا يرى فيها خيرًا منذ ولادتها، لطالما يردد على مسامعها بأنها شر. 

                           ***

في صباح اليوم التالي...

اجتمعت العائلة على مائدة الطعام، وتحدثت إحدى الفتيات بنبرة بها شيءٍ من الخجل، وبجوارها زوجها الذي يمسك بيدها لتشجيعها:

_ بعد كام شهر هانستقبل أول حفيد لعيلة عبد القوي حفيظ باشا، إن شاء الله. 

ابتسم الجميع مباركين، والسعادة دقت على قلوب الجميع، عدا شخصٍ كان يغلي من داخله، يقبض على يده أسفل المائدة، فجأة نهضت من موضعها بعد أن رسمت بسمة زائفة على محياها مردفه بضع كلمات مزيفة.

نظرت لها حماتها التي تجلس بقربها من الجانب الآخر تقول:

_ بجد يا تسنيم؟ 

ابتسمت لها تسنيم بهدوء تومأ بعينيها:

_ ايوه يا ست الكل. 

وبالطابق العلوي كانت تجوب غرفتها ذهابًا وإيابًا وهي تكاد تموت من الغيظ، الذي يملأ صدرها، نظرت صوب جهة معينة من الغرفة وتحدثت بغضب شديد:

_ تعالوا .

وبعد كلمتها برز أمامها ظلال سوداء ينظرون لها بترقب، لتقول حانقة:

_ تسنيم. 

رأينا شبح ابتسامات على أفواههم السوداء وبعدها اختفوا من أمامها. 

                            *** 

مساءً .

استلقت على فراشها تنظر إلى سقف الغرفة تضع يدها على معدتها المسطحة وعلى محياها ابتسامة هادئة، انطفأت الغرفة فجأة لتسقط ابتسامتها أرضًا، ومعها قلبها فأكثر ما تكرهه هو الظلام، بدأت تبكي بصوت مرتفع وشعرت بالشلل يصيب سائر جسدها، لم تقدر على التحرك وتلك عادة تلازمها حينما تخاف من شيءٍ ما، بدأت تنادي على زوجها بعيون خائفة:

_ عمار ...عمار ...الحقني ....حد يشغل النور .

اتسعت عينيها بقوة وهي تشعر بحركاتٍ مضطربة بداخل غرفتها، أصاب الجمود لسانها وقبل أن تفكر المسكينة بفتح فمها مرة أخرى، شعرت بجلوس أحدهم فوقها ليزداد هلعها ومعه ضربات قلبها الذي تعالت أصواته بقوة، نبست بضعفٍ وبصوت بالكاد خرج من حلقها:

_ يا الله ...

وقبل أن تكمل حديثها، قاموا بتكميم فمها انطبقت شفتيها على بعضهما كأنهما قد التصقتا بغراءٍ ما، صدرت تأوهاتها بأنين وهي ترفس بقدميها، حتى توقف قلبها عن العمل، لشدة خوفها. 

ثم تنحوا بعيدًا عنها، تاركين لها المساحة تقدمت هي صوبها فركت أصابعها، فعاد الضوء مرة أخرى، تنظر لها برضا وهي تهمس بجانب أذنها بعد ما عاد كل شيءٍ طبيعيًا:

_ مفيش حد يستحق يبقى سعيد في الدنيا دي، لا أنا ولا أنتم. 

كورت قبضة يدها تضربها بقسوة على معدتها، وهي منهارة كليًا تبكي بدموع شديدة، ثم بدأت تضحك بقوة بعدها، وبجانبها ظلالها السوداء والتي فجأة رأتهم يتنحون جانبًا ليظهر شخص ذو مظهر حسن يقبض على يدها يسحبها معه، وهي فقط ابتسمت حان وقت دفع الحساب، باعت نفسها للشياطين وسمحت لهم باستغلال جسدها، لكي يبقوا تحت طوعها، وبعد وقتٍ همست له بشيءٍ ما :

_ عايزه قوة أكتر !. 

رمقها بحاجب مرفوع لثانية ثم ابتسم بخبث:

_ قدمي قرابينك ولكِ ما تريدين. 

                                *** 

الساعة الثانية بعد منتصف الليل...

استيقظ الجميع على أصوات صُراخ حادة، تأتي من شقة عمار الذي كان لا يصدق ما يراه، امتلئت الحجرة عليه ليروا المشهد التالي، بكاء عمار بقوة وهو يهز زوجته لكي تصحو، يردد بصوت ضعيف :

_ تسنيم قومي ...تسنيم أنت ساكته ليه؟ شوفي جبت لك إيه؟ جبتلك هدوم كتيرة لابننا أو بنتنا قومي. 

سقطت والدته على الأرض تصرخ وتبكي بنحيب، حينما هتفت سمر بوجه شاحب وهي تتحسس نبضها:

_ ماتت !. 

أبعد يدها عمار وهو ينظر لها بعيون غاضبه يرفع تسنيم صوب حضنه:

_ ابعدي ايدك عنها كاتك الموت اللي ياخدك، مراتي كويسه مفيهاش حاجه، تسنيم حبيبتي ردي عليا، هي بس نايمه متقلقوش. 

أبعد وجهها عن صدره وهو يضرب برفق على وجنتيها، أسند رأسه على صدرها ولم يكن هناك نبض، صرخ بأعلى صوته يقول بدموع:

_ قلبك ... نبضه أنا هنا أهو جنبك ...كنتِ بتقولي بينبض في وجودك بس، قومي يالا، تسنيم ردي عليا. 

وضع الجميع أيديهم على أفواههم وهم يبكون بصمتٍ، على تلك الكارثة التي حلت فوق رؤوسهم، وعندها هي كانت تخفي ابتسامتها السوداء، بدمعاتها المزيفة، تراقب ملامحهم التي كساها البؤس والحزن، بفرحة منتشية، وبعد حضور الطبيب الذي أكد الوفاة قبل بضع ساعات، قائلًا بنبرة حزينة لزوجها الذي يقف أعلى رأسه ينتظر سماع ما يُرضيه بضع كلماتٍ تُثلج صدره :

_ البقاء لله، ربنا يصبركم، جاتلها سكتة قلبية مفاجئة. 

وبعد مرور بضعة أيام على مراسم العزاء، كانت تقف أمام المنزل تتطلع إليه بعيون حاقدة، وهي تردد بشر :

_ تستاهلوا أكتر من كدا، ولسه ياما هتشوفوا. 

أنهت حديثها وهي تسير في الشوارع رأت طفل صغير يلعب بالكرة وقد أصابها بدون قصد في وجهها بقوة، اقترب منها سريعًا يردد بأسف وهو يسألها ببراءة :

_ أنت كويسه ؟ أنا آسف.

مسحت على وجهها تقول بألم:

_ ولا يهمك حصل خير، أنت في سنه كام بقى؟.

_ هدخل تالته ابتدائي السنة الجاية. 

ابتسمت بخبث شديد تقول :

_ هايل باين عليك طفل شاطر وعندك قوة، تيجي اعزمك على حاجه ؟.

بدى التردد على وجه الصغير لكنها بخبث ودهاء أردفت:

_ متخافش مني، مش هنبعد كتير، أنا عندي قوة وبساعد الناس، من الاشرار زي سوبر مان كدا.

تمتم الطفل وهو يحدقها ببراءة:

_ بس ماما بتقول ده مش حقيقي ومفيش حد يبقى عنده طاقة والكلام ده، أنتِ بتضحكي عليا. 

نظرت في الشارع الخالي من سواهم وتأكدت من خلوه من أي كاميرات وهل تفرق معها إن شاهدوها حتى، ظلالها السوداء ستتكفل بالمهمة، غمغمت بداخلها بصوت خافت، ثم عادت تنظر للصغير تقول :

_ لا حقيقي بس مش كل الناس عندها قوة كدا، أقدر اخليك تطير علشان تصدقني. 

اقترب منها الصغير بلهفة شديدة يقول :

_ بجد طب يالا خليني أطير. 

بدأت تردد بعض الكلمات ذات التأثير القوي، ليبدأ جسد الصغير بالطفو في الهواء تحت ذهوله وفرحته الكبيرة، وبعد بضع دقائق أنزلته للأرض، تقول ببسمة:

_ صدقتني بقى.

أومأ الفتى بهدوء، فقالت وهي تستقيم واقفة :

_ أنت قوتك عجبتني إيه رأيك تكون المساعد بتاعي.

وبنفس المكان كانت والدة الطفل تبحث عنه، وهو أمامها ولكنها ببساطة شديدة لا تراه، أخذت تنادي عليه بقلبٍ قلق، وهو أمام عينيها يبتسم مع تلك المشعوذة الملعونة، يقول موافقًا وهو يرفع يديه للأعلى ببراءة لكي تحمله، وبالفعل نفذت وأخذته.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1