رواية للهوى رأي اخر ( كاملة جميع الفصول ) بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الاول 

خطواتها راكضة، تتعثر تارة، وتندفع بها تارة أخرى، تنظر خلفها كل ثانية بخوف، تركض ولا تعرف إلى أين؟
منتهى القسوة أن تهرب من مجهول إلى مجهول أصعب لا ملامح له...
قدماها بنعليها المكشوفتين تلطختا بالوحل، فستانها الطويل يتطاير خلفها، ملامحها شاحبة،
عيناها تزرفان الدموع رغم لمحة الإصرار بهما على أن تُكمِل هروبها، شفتيها ترتجفان وأنفاسها تلهث، حتى إنها بدأت تشعر بصدرها بتلك النغزات التي تزداد قوة، شعرها يتطاير بجنون حولها بتمرد، لم تملكه يومًا صاحبته.
تهرب من أجل البقاء، من أجل الشرف والكرامة، بعيدًا عن الذل والهوان الذي عاشت به سنوات عمرها، لقد اكتفت، لم يبقَ لها أحد، ولن يبكي عليها أحد، تهرب بحقيبة أحلامها بعيدًا، لعل الحظ يحالفها يومًا ويمدّها بحفنة من بعض أحلامها المطوية بركنٍ منزوي داخلها...
أغمضت عينيها بقوة، فازدادت دموعها على وجهها المبلل،
وشريط عمرها يمر أمام عينيها.
نساء متشحات بالسواد، وأمها تبكي فجعة موت زوجها، تاركًا في رقبتها طفلة لم تتعدَّ السبع سنوات، لا تفقه عن الموت شيئًا سوى اسمه، وحديث يؤكد أنها لن ترى والدها أبدًا، مقتطفات في عقلها لأبٍ حنون ودمية صغيرة أهداها إليها لتلهو بها وانتشلتها بفرحة طفلة، مع الحلوى الملوّنة التي ضاع مذاقها بعد وفاته، وحلّ محلها زوج الأم، وتحوّلت الحلوى إلى علقم شديد المرارة منذ أن أصبحت صبية شابة.
ابنته المدللة وابنه المستهتر، ووالدهم المتخذ صفهم دائمًا،
يهتف بصوته العالي الغليظ طوال الوقت: إنه صاحب الفضل عليهم ويطعمهم من ماله، ووالدتها الضعيفة التي لا تستطيع أن تتفوه بحرف...
قصة بائسة مكررة، لكنها عاشتها.
صمتت من أجل والدتها وسكنٍ يؤويهما، متحمّلة خبث ابنة زوج أمها ودلال ابنه، ومن حسن الحظ أن والدتها لم تنجب منه، يكفي ما أنجبه من سلالة منعدمة الأخلاق والرحمة.
حتى توفيت والدتها منذ عدة أشهر إثر مرضها المزمن، وتحولت هي إلى لقمة سائغة بينهما، خادمة... كانت مجرد خادمة لهما، لكن ما إن وصل الأمر إلى الشرف فلن تخضع أبدًا،
بعد محاولة ابنه لاغتصابها والتعدي عليها، لم يبقَ لها مكان، فقد اكتفت، هربت ولا تعرف أي وجهة ستسلك.

توقفت مستندة على ركبتيها بكفيها، تلهث بشدة، تلتقط بعضًا من أنفاسها اللاهثة، وضعت يدها في جيب بنطالها وأخرجت تلك الورقة المدون بها عنوان ورقم عمها الذي لم تره منذ وفاة والدها.
"الأخ الشارد" كما كان يطلق عليه والدها، بعد ما حصل على نصيبه من والده وخرج من السرب وسافر لإحدى البلاد الأوروبية، وانقطعت أخباره بعدها، ثم بالصدفة تصدّرت صورته التلفاز كأهم رجال الأعمال في مصر وذاع صيته بالأعمال الخيرية، لم تدّخر والدتها وسعًا واللهاث حتى حصلت على عنوانه وهاتفه، وفي الوقت المناسب، وقبل وفاتها بأيام قليلة، أكدت عليها بالذهاب إليه وطلب مساعدته.
كانت تعلم ما سيصيبها بمفردها معهم، فرغم ضعف والدتها، إلا أنه لم يكن يجرؤ على التعدي عليها، ولكن الآن... ولم يتبقَّ لها أحد،
وبعد أن ابتعدت بمسافة آمنة، أخرجت هاتفها من جيب فستانها وطلبت الرقم المدون في الورقة،
وبضربات قلب تقفز رهبة وقلق، مترقبة الصمت على الجهة الأخرى...
لحظة وأخرى... وهو آخر أمل تملكه...
ثم انفتح الخط فجأة، وبدأت الحكاية...
.......
صوت كعبي حذائها العالي والرفيع جدًا يطرق بنعومة على الأرض الصلبة من تحتها، كنعومة تمايلها الغير مقصود ربما!
تنظر للأعين من حولها فيزداد غرورها أكثر، نفضت شعرها بدلال ثم وقفت أمام مكتب المساعدة، تساءلت بعملية:
_ عندي مقابلة
نظرت لها الفتاة من أعلى لأسفل ورفعت حاجبيها ثم كررتها مرة أخرى، فتأففت في وقفتها وقالت بملل: _أدخل أمتى؟
أشارت لها الفتاة لإحدى الغرف، فتركتها من خلفها تنظر لملابسها الثمينة وحقيبتها ذات إحدى الماركات الشهيرة، أي عمل؟ هل قادمة فعلًا للحصول على وظيفة هنا! لا يليق بها سوى أن تكون عارضة أزياء أو ربما ابنة أحد الأثرياء.
ضحكت الفتاة ببلاهة، ربما لو عملت فقط كواجهة ستجلب للشركة الكثير من الصفقات وأيضًا... الكوارث.
طرقة واحدة ودخلت، لا يليق بها أبدًا الصورة المعتادة والمتوترة لمقابلات العمل حتى لو كانت بأهمية تلك الوظيفة في هذه الشركة، كانت هادئة وثابتة وكأنها متأكدة من النتيجة...
تغلغلت لأنفه رائحة عطر يشبه السكاكر ربما، رفع عينيه عن مجموعة الأوراق، وللمرة التي لا تعرف عددها، تحركت عيناه من أعلاها لأسفلها، ببطء، مرورًا بتلك الحُلّة النسائية المكونة من قميص حريري ناري اللون وفوقه جاكيت أسود وأسفله تنورة لركبتيها مبرزة انحناء خصرها، ولم يكن نحيفًا بل مكتنزًا بأنوثة ملفتة للأنظار، وحذاء أسود بكعب رفيع جدًا.
عاد بظهره للخلف منتظرًا أن تزيل نظارتها الشمسية لتكتمل الصورة أمامه، ولم تبخل الحقيقة، رفعت النظارة ووضعتها لأعلى رأسها فوق شعرها الأسود القاتم المعقوص بذيل حصان، مظهرًا وجهها الفاتن، المنحوت والأبيض اللون، وشفتين مصبوغتين بلمعة جذابة، وعينين سوداوتين كشعرها مرسومتين بكحل أسود ببراعة، تشعان ببريق وفتنة..... لا تمتّ للبراءة بصلة، بل إغواء، دون أن تبذل أي مجهود.
أجلى صوته بجدية معتادة عنه، وبإشارة من يده أشار لها بالجلوس، جلست بأناقة وظهر مفرود واضعة إحدى قدميها على الأخرى، مما جعل تنورتها ترتفع لأعلى قليلًا، فجذبتها في محاولة بائسة لإخفاء القليل.
رفعت إحدى حاجبيها عند استماعها لضحكته الخافتة،

نظر لها بهدوء ثم ألقى نظرة على الملف الخاص بها وقال:
_ شهادات خبرة، كورسات، مؤهلاتك واللغات، كل ده مش بطّال.
التوى فمها التواءً بسيطًا لم يره، أمامه ملف بذلت به سنوات من العمل والجهد، وفقط يراه (مش بطّال)! تراهن أنه لم يرَ ملفًا مثل ذلك طوال مقابلات اليوم.
تساءل عندما رفع عينيه مقابلها:
_ آخر شغل ليكي كان من 6 شهور، ما اشتغلتيش من بعدها؟
كانت إجابتها المختصرة:
_ حبيت آخد لنفسي إجازة
أومأ برأسه ثم أغلق الملف، فخرج صوتها مكمّلًا صورتها الأنثوية: غريبة، مش هتسألني السؤال المعتاد؟ شايفة نفسك فين بعد خمس سنين؟
اعتدل بجلسته للأمام قائلًا:
_ في وظيفتك دي، مافيش حد كمل فيها السنة
رفعت إحدى حاجبيها المنمقين:
_ ليه؟
_ بيقولوا المدير صعب ومافيش حاجة بتعجبه
مالت بثغرها جانبًا قائلة بثقة:
_ أعتقد إني تخطيت المرحلة دي، بدليل إني لسه بكمل المقابلة، وبنفسك اللي بتعملها معايا، واللي أعرفه إن نادرًا جدًا لو عملت مقابلة
استقام واقفًا ثم وضع يديه في جيبي بنطاله ووقف أمامها، كانت ثابتة حتى إنه لم يلاحظ اضطرابها اللحظي لرؤيته أمامها هكذا بذلك القرب.
طويل جدًا، حتى أطول مما كانت تراه، ربما لأنها كانت تراه عن بُعد ولحظات قليلة، وقفته بها اعتزاز وثقة لا يبذل مجهودًا في إظهارهما، رشاقة جسده لا تعطيه عمره الحقيقي والذي قارب على السابعة والثلاثين، جسد قوي متناسق، ووجه رجولي وسيم، وعينان ثاقبتان تشعان ذكاء.
انتبهت على صوته المسيطر قائلًا: إزاي الشناوي قدر يخليكي تسيبي الشغل معاه بالسهولة دي؟
وقفت قبالته وأزاحت خصلة متمردة على جبينها بدلال متعمد:
_ إيده طويلة، فهددته يا تفضل جنبه، يا إما هاقطعها
لم يظهر على وجهه أي تعبير سوى أن قال:
_ وبعدين؟
ضحكت بعبث وبريق انتصار، وقالت: 7 غرز في إيده.
نظر لها مطولًا دون أن يتحدث، ثم قال:
_ مش بحب الأخطاء، بكره المواعيد المتأخرة، النظام والجدية، قهوتي تكون جاهزة ورايا بمجرد ما أدخل مكتبي، واللي هيكون عليه مواعيد يومي والاجتماعات المهمة.
تمايلت قليلًا، وبابتسامة تظهر لأول مرة وعينين ترسلان رسائل خاصة، قالت:
_ أفهم من كده إني أستلم من بكرة؟
تقابلت أعينهما وكل منهما لا يحيد عن الآخر، وعيناه صامدتان أمام وقاحة عينيها في تحدٍ خفي، رمشت بعينيها في بادرة أولى لها، فَلمع بريق الانتصار بعينيه، ثم
تركها وانتشل جاكيت حلته، وعيناها تتبعه حتى أنهى ارتداءه واكتملت هيئته الرسمية الجذابة، فقال لها قبل أن يخرج:
_ دهب، انتي جاية وعارفة إني هاقبلك، بس أوعي غرورك يصوّرك إني ممكن أتهاون معاكي
ثم تركها وغادر، تنظر لأثره ولكلماته القليلة، لم تُلقِ بالًا لكلماته الأخيرة، فهي كفيلة وقادرة على مد جذورها هنا.
رغم شعورها بالانتصار والشغف، إلا أنها يجب أن تتريث في التصرف معه، واستخدام أسلحتها بحذر، هو ليس كأي رجل.. هو
موسى رشيد

،،،،،،،،،،،،،،،،،
رنين هاتفها المتواصل لم يتوقف، واسمه المنير على شاشتها يلحّ عليها أن تُجيب.. أشاحت بوجهها عنه بضيق، ودون مقاومة تركت نفسها
لتبكي، ترثي قلبها المتعلّق بقلبه الخائن.
لم تفكّر أن يوم لقائهم القدري سيجعله يقتحم حياتها ويهدد حصونها بعبثه الغريب عنها..
هي الفتاة التي رفضت كل أنواع التودد من الجنس الآخر بكبرياء ولا مبالاة، استطاع هو أن يستحوذ على قلبها وتفكيرها، ويجعلها بضعفٍ منها وتخاذلٍ أن تغضّ الطرف عن خيانته لها، وتتقبّل منه إرضاءها ومصالحتها بطريقته التي تأتي بنتائجها جيدًا، ويعرف هو ذاك، ويُجيد اللعب عليها، إنه ياسين الزهيري.
جذبت الهاتف وضغطت على الزر الأخضر باستسلام...
آتاها صوته العابث قائلًا:
_ كل ده ومش بتردي عليّا؟ هونت عليكي؟
أغمضت عينيها وأخذت نفسًا وقالت بصوتٍ ظهر مرتجفًا:
_ لو سمحت، مش عايزة أتكلم دلوقتي
قال ياسين بمهادنة مبرّرًا:
_ على فكرة انتي ظلماني، هي اللي جت وقعدت على الترابيزة وأنا للحظة اتفاجئت و...
قاطعته أسيل بضيق:
_ ياسين بس، أنا عارفة إنك بتكذب، وانت كمان عارف إني مش هاصدقك، فلو سمحت ما تكملش
صمت ياسين لفترة قصيرة وقال:
_ طب اطلعي البلكونة، عايز أشوفك
قفزت فجأة من مكانها وركضت لشرفتها، أزاحت ستائرها البيضاء، ثم وقعت عيناها على ذلك الشاب الأسمر الوسيم أسفل شرفتها، والذي رفع مفتاحه ثم أشار على سيارته الرياضية السريعة في رسالةٍ منه إليها بنزهة قصيرة مجنونة يغيّر بها مزاجها المتعكر بطريقته...
وكعادتها، نسَت أو تناسَت، لا تهتم الآن، بل أشارت له أن ينتظر وبسرعة اتجهت لخزانتها، وارتدت ملابسها على عُجالة...
ألقت نظرة سريعة على نفسها في مرآتها، رغم ملابسها الكاجوال، إلا أنها لم تُخفِ تلك الأنثى الجميلة، صاحبة القوام الرشيق، رغم أنها تُصنَّف تحت بند النساء الرفيعات، ولذلك هيئتها توحي بعمر أقل من عمرها الحقيقي ببضع سنوات، لملمت شعرها في كعكة خلف رأسها بعشوائية، ونزلت خصلتين على جانبي وجهها، عيناها السوداء لم يختفِ منها بعد أثر بكائها لكنها لمعت وكأنها دبّ بها الحياة، وضعت ملمعًا للشفاه ثم ألقت على نفسها قبلة وركضت لأسفل إليه...
رآها تفتح البوابة الكبيرة، ركضت إليه، وضحك على طفولتها، رغم تأثره بعينيها وما بهما من آثار حزينة، لكنها تناقض تلك الابتسامة الناعمة إليه...
نفسه وبعرفها، يؤلمها وبعدها يراضيها،
لوقتٍ ليس بقصير ظن أنه ربما يملك عقدة ما، لا يعرف حقًا، لكنه ينجذب للجنس الآخر بسهولة، ربما لتهافتهن إليه، وسيم ذو كاريزما وابن ناس، وجاء من الخارج بعد الانتهاء من تعليمه العالي، وكانت هي أولى محطاته في مصر، كانت في النادي جالسة بمفردها، وهو ينتظر صديقًا له في الجهة المقابلة لها، وعيناه تدور في كل مكان بتسلية، يبتسم عند تلاقيه نظرة إعجاب من فتاة مارة، أو حديث إحداهن مع أخرى وعينهن صوبه، ويعلم أنه بطل حديثهن، ولا ضرر إن غازل إحداهن أعجبته بعد أن درسها بعينيه الوقحة.
حتى تلاقت أعينهما للحظات، فارتبكت وأدارت وجهها عنه، وتكررت مرة أخرى، فابتسم، وبجرأة معتادة
اتجه إليها مباشرة، ودون سابق معرفة أراد مجالستها، لكنها رفضت وتركته وذهبت تاركةً المكان من خلفها، وربما هذا ما راق له، ليست متاحة للآخرين، فتاة أخرى كانت ستبتسم بدلال غير ممانعة... لكنها غير.
ولأنها مختلفة، لم يتركها إلا أن أصبحت هائمة به، ولا ينكر هو أنها تملك بداخله شيئًا لا يُستهان به.. لكنه ببساطة يكره التقييد، ويحب أن يكون كطير حرّ، ويأكل من كل الأغصان ما يشتهيه.

مال للأمام قليلًا، وبيده وضع خصلة شعرها خلف أذنها قائلًا:
_ إيه رأيك في فسحة حلوة تغيّر مودك؟ شكلك زهقانة
رغم حماسها الداخلي، قالت له أسيل بنظرة ذات معنى أدركه هو:
_ مش زهقانة يا ياسين، انت عارف مالي وفيا إيه
ضم شفتيه ثم قال بهدوء:
_ طب تعالي أصالحك
وتابع بغمزة من عينيه:
_ مايخلّصنيش أسيبك زعلانة
جذبت مفتاح سيارته منه بخفة، ورفعته أمامه، فاعتدل بوقفته قائلًا برفض:
_ لا لا، سواقة لا، أبوس إيدك، المرة اللي فاتت كنا هنخبط في عمود يجيب أجلنا إحنا الاثنين، هاتي كده المفاتيح، ربنا يهديكي
وضعتها خلف ظهرها وقالت:
_ انت مش بتقول عايز تراضيني؟ طيب أنا عايزة أسوق
ضرب على وجهه بيديه بطريقة مضحكة، وردّ عليها:
_ طب مش النهارده ومش بالعربية دي، هابقى أجيب العربية التانية وأعلمك
نفت بضيق ضاربةً الأرض بقدميها:
_ المرة اللي فاتت قومتني من على الكرسي بعد خمس دقايق
هتف بها ياسين:
_ كنا هنخبط في عمود يا أختي! كنا هنموت، وأنا مش عايز أموت دلوقتي، أنا لسه صغير
تحولت فجأة لهدوء مريب، وقالت متسائلة:
_ ياسين، انت بتخاف من الموت؟
ارتفع حاجباه وأجابها بتوجّس منها:
_ آه، بخاف، إيه المشكلة؟ انتي ناويها صح؟ ناوية تجيبي أجلي بدري؟
ضحكت عليه وقالت أسيل:
_ بعد الشر عليك يا حبيبي، مش سواقتي اللي هتجيب أجلك، ده عملك المهبّب
مسح على شعره وقال غامزًا بعينيه:
_ قلبك أسود انتي يا سوسو
تحولت فجأة ملامحها وتغيرت عن روح المرح التي كانت تتلبسها لأخرى جادة، وبصوت خافت قالت:
_ لو قلبي أسود فعلًا يا ياسين، انت مش هتشوفني تاني
نظر لها قليلًا بصمت مشحون بينهما، نظر ليده التي وضعت بها المفاتيح، قائلة وهي تتجه لمكانها في الجهة الأخرى بابتسامة مفاجئة:
_ ها، هتوديني فين؟
حرّك رأسه مبعدًا أي أفكار أو حتى احتمال ابتعادها، وجاراها ياسين وصعد لسيارته قائلًا:
_ يومك بقى، وطلباتك أوامر.
.........
يأخذ أنفاسه بصعوبة، وشيء ثقيل يجثم على صدره يجعل حتى أخذ نفسٍ واحدٍ أمرًا شديد الألم. العرق يتصبب من جبينه، ورأسه تتحرك وكأنه مقيد، وجسده عاجز بسلاسل وهمية. يهمهم بكلمات غير واضحة، مبهمة، والعرق يزداد أكثر. انتفض جسده أخيرًا وفتح عينيه الخضراوين القاتمتين، ومن حولهما شعيرات حمراء، ونظر إلى السقف للحظات.. أخذ نفسًا عميقًا مهدئًا من ضربات قلبه، وتقاسيم وجهه قاسية كالحجر.

لم تكن المرة الأولى لكابوسه المستمر، لكنه يزداد حدةً وصعوبةً كل مرة. ويعلم هو أن ما يراه ليس كابوسًا أو حلمًا أو حتى أضغاث أحلام، بل واقع عاشه بتفاصيله في صغره، وبقي في سجن عقله حتى صار شابًا ثلاثينيًا... بكل ما يملكه وما يستطيع فعله، بكل نفوذه وسطوته... إلا أن لا أحد يعلم عن هواجسه التي يصارعها في كل ليلة بمفرده.

استقام من على فراشه حافي القدمين، واتجه إلى شرفته وفتحها على مصراعيها، حتى ضرب الهواء البارد وجهه وصدره العاري. أغمض عينيه السوداوين مستنشقًا نسمات الهواء رغم برودتها، فقد جافاه النوم وانتهى...

انتهى من ارتداء حلّته الرسمية التي لائمت جسده، مبرزةً تقاسيمه الرياضية. لا يملك ذلك الجسد المتكتل بالعضلات، لكنه جسد رياضي، حافظ على لياقته. نثر عطره واتجه إلى الأسفل بخطوات واثقة متريثة.

وفي بهو القصر الواسع، كانت صورة كبيرة متصدّرة الواجهة، صورة لوالده الراحل. ورغم أنه توفي وعمره ثمان سنوات، إلا أن تلك السنوات القليلة عاشها كلها بتفاصيلها معه فقط، وكانت أفضل سنوات حياته... حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، لم يكن معه غيره، في أصعب اللحظات وأقساها، والتي ما زال يعاني منها حتى الآن...

لكن في النهار، وأمام الجميع، من ذا الذي لا يهابه... لا يعرفه... لا يتمنى أن يملك ما يملكه... من لا يعرف قسوته...

من ذا الذي يراه ولا يبدي ولاءه واحترامه لرجل الأعمال الأشهر:

قاسم عمران..


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1