رواية ظل البراق الفصل العاشر
كان الليل قد أرخى سدوله على بيت محسن المهدي الكبير، بيتٌ فخم يعلو بابه المصقول لافتةً برّاقة تحمل اسمه، كأنه يريد أن يُذكّر الداخل والخارج معًا بأن صاحبه ليس رجلًا عاديًا. الأضواء الصفراء المتدلية من الثريا في منتصف غرفة الطعام انعكست على المائدة الطويلة المُعدّة بعناية، والمفارش البيضاء المطرّزة تمتد على سطحها كأنها تُعلن عن رفاهيةٍ واهتمامٍ لا يعرفهما كثير من بيوت الحارة. على الجدران تتدلّى صور قديمة لمحسن في بداياته، وصور أحدث تظهره ببدلٍ فاخرة في مؤتمرات ومعارض، بجوار صور وفاء بفساتينها الأنيقة، وفي الخلفية لوحة زيتية كبيرة تُجسّد منظرًا طبيعيًا لحقول خضراء، كأنها تحاول إضفاء لمسة دفء مصطنعة على جدران باردة يلفها صمت ثقيل.
جلس محسن المهدي على رأس المائدة، مائلًا قليلًا إلى الخلف في مقعده الفخم، ويداه متشابكتان أمامه على الطاولة. وجهه المشدود بخطوط العمر كان يشي برجلٍ خَبِر السوق وخَبِر الناس، لكنه لم يعد يعرف كيف يوازن بين ما يفقده وما يربحه. عينيه الصارمتان تتحركان بين الصحون وكأن ذهنه بعيدٌ عن الطعام كله. بجواره جلست وفاء، متأنقة حتى في عشاء البيت، شعرها مسرّح بعناية، وأصابعها تزينها خواتم متعددة تلمع تحت الإضاءة. ملامحها لا تعرف الاسترخاء، كأنها دائمًا في حالة ترقّب أو حذر، وبين الحين والآخر ترفع يدها لتزيح خصلة شعر عن جبينها وهي تتحدث بحدة.
قالت "وفاء"، وهي تُمرر السكين على قطعة لحم أمامها:
ــ "الوضع كده ما ينفعش يا محسن. البضاعة متكدسة والمكسب مش زي الأول. الناس بتشتكي والأسعار مش ثابتة، وإحنا قاعدين نتفرج."
لم يرفع "محسن "عينيه عن طبقه، صوته خرج منخفضًا لكنه يحمل قسوة:
ــ "أنا مش بتفرج يا وفاء، أنا بدور على مخرج. السوق اتغيّر، والمنافسين بقوا كتير. مش كل يوم هنكسب زي زمان."
ارتسمت على وجه "وفاء "ابتسامة مريرة، وقالت وهي تضرب الشوكة في الطبق بصوت مسموع:
ــ "يعني إحنا هنقبل بالخسارة؟ مش ده اللي اتفقنا عليه من البداية. أنا مش هسيب الدنيا تفلت من إيدينا. فيه تجار أقل منك بكتير، وواقفِين دلوقتي فوق رقاب الناس."
تنفس" محسن" ببطء، كأن الكلمات أثقلت صدره:
ــ "عارفة ليه؟ عشان مش بيخافوا يضحّوا. بس أنا مش عايز أضحي بحاجة مش هتتعوّض. مش كل حاجة تنباع وتتشرى."
نظرت له" وفاء "نظرة طويلة، لم يكن فيها تفهّم بقدر ما كان فيها غضبٌ مكتوم:
ــ "أنا مش فاهمة، أنت اتغيرت ليه؟ كنت زمان بتكسر الدنيا، دلوقتي بقيت تتردد زي العيال. هو إيه اللي حصل؟"
ساد الصمت لحظة، ولم يبق في الجو سوى صوت عقارب الساعة المعلقة على الحائط وهي تدقّ في رتابة. محسن لم يجب، عيناه وقعتا على الصحون الممتلئة أمامه، لكن نفسه لم تشتهِ اللقمة. بدا كأنه غارق في أفكاره، في الوقت الذي كانت وفاء فيه تُحدّق به بعينين تقدحان شررًا.
لكن قبل أن يحتدم النقاش أكثر، انفتح باب غرفة الطعام، ودخل زين.
"زين محسن المهدي" كان دخوله أشبه بريحٍ عليلة شقت ذلك الهواء الثقيل. في الرابعة عشرة من عمره، طويل نسبيًا بالنسبة لسنه، يحمل في ملامحه مزيجًا من طفولة لم تكتمل ورجولةٍ تتشكل. شعره مُرتب بعناية،
دخل بخطوات هادئة إلى غرفة الطعام، وجهه لامع بعد يوم طويل قضاه في النادي. كان يحمل حقيبته الرياضية على كتفه، ورائحة العَرَق الممزوجة برائحة العطر الخفيف ما زالت عالقة في ثيابه. صوته المرح سبق جلوسه حين قال بابتسامة كبيرة:
ــ "مساء الخير يا بابا... مساء الخير يا ماما."
رفع محسن رأسه فجأة من صمته، وانفرجت قسماته الصارمة عن ابتسامة لم يبدُ عليها تصنّع هذه المرة. مدّ يده مشيرًا إلى المقعد بجواره:
ــ "مساء النور يا ابني، تعال اقعد، وحشني والله."
أما وفاء فقد تبسمت، لكن ابتسامتها كانت محسوبة بدقة، مزيج من فخر وسيطرة، وقالت وهي تحدق فيه بعينيها اللامعتين:
ــ "اتأخرت يا زين. النادي كويس بس ما ينفعش يضيع وقتك كله."
جلس "زين "وهو يضع حقيبته بجانبه، ثم بدأ يملأ طبقه بهدوء:
ــ "كنت بلعب ماتش كورة مع أصحابي. كسبنا اتنين صفر... والجون التاني أنا اللي جبتُه."
انفرجت ملامح "محسن "أكثر، وصوته جاء مليئًا بالحماسة التي افتقدها منذ قليل:
ــ "برافو يا بطل! الله عليك يا زين، ده واضح إنك هتطلع نجم كبير."
ضحك" زين" بخجل، ثم هز رأسه:
ـ "أنا بلعب عشان بحب الكورة يا بابا... مش عشان أطلع نجم."
هنا رفعت "وفاء" حاجبيها باستياء خفيف، وقالت بنبرة صارمة مغلفة بابتسامة باهتة:
ــ "يعني إيه مش عشان تبقى نجم؟ كل حاجة في الدنيا لازم يكون ليها هدف كبير يا زين. متلعبش عشان اللعب وبس. لازم تخلي بالك من صورتك، من اللي يشوفك. أنتَ مش زي باقي الأولاد."
نظر إليها" زين" وهو يمضغ قطعة خبز صغيرة، ثم قال بهدوء لا يخلو من تحدٍّ طفولي:
ــ "ليه مش زيهم؟ أنا زيهم بالظبط... إحنا كلنا بنحب اللعب ونضحك ونذاكر. مش عايز أكون مختلف."
اشتعلت نظرة "وفاء"، لكنها تمالكت نفسها، وضحكت ضحكة قصيرة تحمل نبرة استعلاء:
ــ "أنتَ مش فاهم يا زين... الاختلاف مش اختيارك. أنتَ ابن محسن المهدي. يعني لازم تبقى دايمًا في الصف الأول. الناس كلها هتبصلك بطريقة مختلفة، ودي حاجة لازم تحافظ عليها."
"محسن "تدخل هذه المرة وهو يحاول أن يلطّف الجو، ابتسم لابنه وربت على كتفه:
ــ "هي أمك عندها حق يا زين... بس أنا فاهم قصدك. خليك زي ما أنتَ، طبيعي، ودي أجمل حاجة فيك. بس برضه ما تنساش إن فيه مسئولية عليك."
ابتسم "زين"ابتسامة صغيرة، لكن عينيه هربتا إلى طبقه من جديد. بدا واضحًا أنه يسمع كلامهم لكنه لا يستوعبه بالطريقة التي يريدونها. داخله عالم آخر، عالم يراه أبسط من تلك المعادلات التي يضعها أبوه وأمه عن المكانة والصورة.
مدّ يده ليأخذ بعض البطاطس المقلية، ثم قال بمرح:
ــ "طب ما سألتونيش على الدروس ليه بقي؟ عندي امتحان إنجليزي الأسبوع الجاي، والمدرس قالي إن مستواي بقى كويس جدًا."
ضحك "محسن" وهو ينظر لوفاء:
ــ "شايفه؟ الواد بيذاكر وبيتمرن ، هيبقي ناجح في المستقبل."
"وفاء" أمالت رأسها قليلًا وقالت ببرود:
ــ "كويس يا زين. بس لازم تبقى الأول على الفصل، مش مجرد كويس. احنا مش بندفع دم قلبنا على المدارس دي عشان تبقى زي غيرك. عايزاك متفوق على طول."
أطرق "زين" رأسه، ولم يُجب للحظات، ثم رفع عينيه إلى أمه مبتسمًا ببراءة:
ــ "ماشي يا ماما... بس برضه أنا بحب أتعلم مع أصحابي، حتى لو فيهم اللي مش بياخدوا دروس في مدارس زي مدرستنا. هم لسه أصحابي."
كاد الغضب يظهر مجددًا في وجه وفاء، لكن محسن رفع يده في صمت، كأنه يطلب منها التوقف. ثم نظر لابنه مطولًا، ولم يقل شيئًا. كان واضحًا أن قلبه يميل لبراءة هذا الولد، لكن لسانه يظل أسيرًا لواقعه وأفكاره القديمة.
.........
أحيانًا نُقدِم على قراراتٍ تبدو في أعيننا وقتها قاطعة، حاسمة، كأنها الخلاص الوحيد من ألمٍ ما أو قيدٍ يُرهق الروح. نظن أننا نمتلك الشجاعة الكاملة، ونُقسم أنّ ما اخترناه هو الطريق الصحيح. لكن الزمن لا يرحم، يُعيد إلينا القرار نفسه بوجهٍ آخر، يحمل مرارة لم نُحسب لها حسابًا، ويضعنا أمام سؤالٍ لا مفرّ منه: هل كنّا حقًّا على صواب، أم كنا نهرب من صوابٍ آخر لم نستطع تحمّله؟
في تلك الليلة الباردة، كانت نادين جالسة في بلكونة غرفتها، وحدها، والمدينة من حولها غارقة في صمتٍ متقطّع يتخلله ضجيج بعيد لعربات تمرّ في الشارع الكبير خلف البيت. ارتدت روبًا منزليًا ناعمًا، وأسندت جسدها على كرسيٍ من الخيزران، بين يديها كوبٌ من مشروبٍ دافئ يعلو بخاره في الهواء البارد كأنّه يُحاول أن يدفئ أفكارها المتجمدة.
لم يمرّ سوى شهر على طلاقها من يوسف، لكن هذا الشهر بدا لها كعُمرٍ كامل. أربع أسابيع من العزلة، لم تخرج خلالها من حدود غرفتها إلا نادرًا، لا لأن قلبها مثقّل بالحزن، بل لأنها لم تَعُد تحتمل تلك النظرات. نظرة أبيها،، التي تحمل صمتًا أبلغ من الكلام، صمتًا ينهش روحها ويذكّرها كل لحظة بأنها خذلته، وأنها جرحت كبرياءه .
ثم نظرة مهاب، أخيها، الثابتة كالسهم، نظرة تفضح الغضب وخيبة الأمل، كأنها تقول لها دون صوت: "لماذا فعلتِ بِه هذا"
حتى الآن، لم يوجّه إليها أيٌّ منهما كلمة لومٍ صريحة، لم يرفع أحد صوته في وجهها. لكن صمتهم كان أقسى من اللوم، وقطيعتهم كانت أشدّ وقعًا من أي خصام. لم تجد بجوارها إلا أمها، التي لم تُخفِ يومًا رغبتها في أن يتم الطلاق سريعًا، وكأنها كانت تراه نصراً لها لا هزيمة. كانت انتصار هي الصوت الوحيد الذي يواسيها، لكن نادين لم تدرك أنّ هذا الصوت لم ينبع من حُبّ، بل من عنادٍ وكبرياءٍ أرادت أن تنتصر بهما على بيتٍ جرح كبريائها يوماً .
رفعت نادين الكوب إلى شفتيها ببطء، ارتشفت قليلاً، ثم أسندته إلى الطاولة الصغيرة أمامها. عينيها شاردتان في الأفق، تتابعان الأضواء البعيدة وكأنها تبحث عن إجابةٍ في فراغ الليل.
تسأل نفسها: "هو أنا كنت صح؟ ولا كنت بضيّع حياتي بإيدي؟"
ذلك السؤال الذي كانت تُحاول الهروب منه منذ وقّعت على أوراق الطلاق، عاد ليُطاردها الليلة. كم مرّة أقنعت نفسها أنّها لم تُخطئ؟ كم مرّة رفعت رأسها بكبرياء وأخبرت الجميع أنّها اختارت كرامتها وراحتها؟ ومع ذلك… ها هو الشك يتسلل، يقتحم حصونها، ويجلس معها على الكرسي نفسه.
تنهدت بعمق، مسحت أصابعها بخصلات شعرها الطويل المتدلّي على كتفيها، ثم أغلقت عينيها لحظةً كأنها تحاول أن تُسكِت العاصفة التي تثور في عقلها. لكن عقلها لم يهدأ. كل شيءٍ من حولها يذكّرها بخسارتها: البيت الكبير الذي كان من المفترض أن يكون دافئًا أصبح سجناً صامتًا، الأخ الذي كان سندًا صار خصمًا صامتًا، والأب الذي طالما تغنّت باسمه صار ينظر إليها كغريبة.
قطع صوت هاتفها شرودها. نظرت إلى الشاشة بفتور، ثم تجمّدت ملامحها حين رأت الرسالة. كانت من الشركة التي قدّمت للعمل بها قبل أسابيع. رسالة قصيرة لكنها محمّلة بما يكفي لقلب المزاج كله:
"نرجو حضوركم لإجراء مقابلة شخصية بعد ثلاثة أيام."
ابتسمت، لأول مرة منذ بداية الليل. أحست بحرارة غريبة تسري في صدرها، كأنها نسمة فجر اخترقت ظلام الغرفة. ارتفعت أنفاسها بسرعة، وأمسكت الهاتف بيدٍ مرتعشة ثم أعادت قراءتها مرةً أخرى، وكأنها لا تُصدّق عينيها.
"انترفيو… يعني بداية جديدة… يعني فرصة أبدأ من تاني."
في لحظة، نست ثقل الأسئلة التي كانت تحاصرها. عاد الكبرياء القديم ليتسلل إلى صوتها الداخلي، الكبرياء الذي طالما زيّن قراراتها. قالت في سرّها بثقةٍ مصطنعة:
_"أنا ما غلطتش… أنا اخترت صح. وأنا هثبت للجميع إني كنت صح."
أمسكت الكوب مرةً أخرى، ارتشفت منه بنشوةٍ صغيرة هذه المرّة، وابتسمت ابتسامة خفيفة. الليل ما زال ساكنًا، لكن قلبها لم يعُد بنفس الثقل. بدا لها أنّ الرسالة أزاحت الغبار عن مرآتها، وأعادت إليها الإحساس بأن الغد قد يكون أفضل، وأنّ كل ما مضى لم يكن سوى خطوة نحو ما هو قادم.
.....
كثيرًا ما يظنّ المرء أنّ الألم سيظلّ جاثمًا على صدره لا يبرح مكانه، غير أنّ الأيام كفيلة بأن تهذّب حدّته وتحوّله مع الوقت إلى راحة غريبة، راحة من نوعٍ مختلف… كأن القلب تعلّم أن يتعايش مع الوجع حتى يصبح جزءًا من ملامحه.
كان يوسف قد استيقظ باكرًا في شقته، تلك التي كانت يومًا ما مسكنًا يجمعه بزوجته، ثم صارت فارغة إلا من أنفاسه هو وحده. غيّر ملامحها بعد الطلاق؛ غيّر الألوان والديكور، أعاد ترتيب الغرف وأبدل الأثاث، وكأنه أراد أن يمحو كل أثر منها، ومع ذلك ظلّ ينام فيها. تعوّد على جدرانها، وأصبحت رغم كل شيء ملاذه الصامت، المكان الذي يعود إليه آخر النهار ليضع رأسه مطمئنًا ولو في وحدة.
نهض من فراشه، غسل وجهه بالماء البارد ليفيق تمامًا، ثم توضأ وصلّى الضحى بخشوع خفيف ترك في قلبه أثر طمأنينة. ارتدى ملابس مريحة: بنطال جينز غامق وقميص قطني بسيط، فهو يعرف أن يومه سيقضيه بين الورشة وأصوات الخشب، ويحتاج إلى ما يعينه على الحركة.
تطلّع في المرآة سريعًا قبل أن يغادر، شدّ على نفسه ابتسامة اعتاد أن يواجه بها الدنيا، ثم التقط مفاتيحه ونزل درجات السلم بخطوات ثابتة.
حين وصل أمام باب شقة والديه، تنفّس بعمق قبل أن يطرقه، وما أن فتح الباب ودخل حتى غمره دفء خاص. كانت والدته "سمية" واقفة عند السفرة، ترتّب الأطباق وتضع الخبز والجبن والفول الساخن. بجوارها أبوه "الحاج إبراهيم" جالس على كرسيه المتحرك، ملامحه مطمئنة وهو يتابعها بعينين تفيض بالرضا.
دخل يوسف بصوت عالٍ يملؤه المرح، كعادته معهم:
ـ "صباح الخير على أحلى سمية وجوزها الحاج إبراهيم!"
التفتا نحوه معًا، وضحكا بخفّة على طريقته التي لم تتغير أبدًا مهما أثقلته الحياة. اقترب سريعًا، انحنى يقبّل رأس أمّه بحنان، ثم انحنى مرة أخرى ليقبّل جبين أبيه، فابتسم الرجل الكبير ابتسامة فيها فخر بابنه.
قال الحاج إبراهيم بنبرة راضية:
ـ "الله يرضى عليك يا ابني… النور جه من ساعة ما دخلت."
أما سمية فابتسمت وقالت وهي بمرح:
ـ "قوم اغسل إيدك وتعال ساعدني،بدل الكلام اللي مابيأكلش عيش ده، أنا عاملة فطار كده يفتح النفس."
ضحك يوسف بصوتٍ عالٍ، ثم قام يساعدها في رفع الأطباق وترتيب السفرة. كان الجو غامرًا بالدفء، تتعالى أصوات الملاعق وهي تتخبط في الأطباق، وتفوح رائحة الخبز الطازج فتملأ أركان البيت. جلس الثلاثة حول المائدة.
بدأوا يأكلون بهدوء؛ أمه تقطّع له الخبز وتضعه أمامه بيدها، فيضحك وهو يقول ممازحًا:
– "أنتِ فاكراني عيل صغير ولا إيه؟"
ابتسمت "سمية" بعينين مملوءتين بالحنان، وردّت بهدوء:
– "راجل كبير، بس هتفضل عيل في عيني طول العمر."
نظر لها بحب ،أما أباه فكان يشاركهم بأحاديث صغيرة عن أهل الحارة، يعلّق بخفة ظل وهو يقول:
– "البت رقية قالتلي هاجبلك الفطار أنا الصبح ، وماجابتش ازاي؟"
ضحك" يوسف" وهو يهز رأسه:
_" ثبتتك بكلمتين يا حاج ، وأنتَ صدقت!"
نظر له أباه برفعة حاجب وقال بمغزي:
_"مش هتعرف تقلبني عليها برضوا."
"يوسف" بضيق مصطنع:
_" أصلا! "
قالت امه بهدوء :
_ " تلاقيها مشغولة ، ربنا يعينها ، تيجوا نروحلهم بالليل؟"
_"يلا"
هكذا قال الأب وأبنه في نفس اللحظة ، تعالت ضحكاتهم في أرجاء المكان،وانقضى وقت الفطور وقد امتلأت الأجواء بمرحٍ خفيفٍ ودفءٍ أسريٍّ نادر. نصف السفرة خلا من الطعام، وبقيت الأكواب والأطباق متناثرة على المائدة. همّت سمية بالنهوض لتجمع الصحون، لكن يوسف بادرها وهو يمد يده بسرعة قائلاً:
– "اقعدي يا أمي، خليني أنا أخلص."
ابتسمت له وهي تجلس ثانيةً مكانها، كأنها وجدت في مبادرته حنانًا خاصًا:
– "عارفة إنك شاطر، بس سيب شوية شطارة لشغلك."
ضحك "يوسف" بخفة وهو يحمل الأطباق تجاه الحوض:
– "ده الشغل تعب من كتر شطارتي"
قهقه إبراهيم من مكانه وقال وهو يهز رأسه:
– "ربنا يحفظك أنتَ وشطارتك ياسيدي"
وبعد لحظات، عاد يوسف وجلس إلى جوارهما ، ثم نظر إليهما وقال بنبرة هادئة:
– "أنا نازل الورشة بقى، عشان الحق اليوم من أوله."
مدّت سمية يدها تصلح وضع ملابسه بعفوية أمٍّ لم ترَ في ابنها يومًا إلا طفلها المدلل:
– "خلي بالك من نفسك يا يوسف، ومتتعبش نفسك فوق طاقتك."
انحنى وقبّل رأسها، ثم مال ناحية أبيه، وأمسك يده وضغط عليها بمحبة صادقة:
– "عايز حاجة من برّه يا حاج؟"
هز إبراهيم رأسه مبتسمًا، وفي عينيه نور راضٍ:
– "عايز قلبك يستريح ، هو ده اللي ناقصني."
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه يوسف، لكنها لم تستطع أن تخفي تلك اللمعة الرطبة التي ظهرت في عينيه للحظة، فقال بخفة يحاول التخفيف:
– "أهو طلب صعب يا عم إبراهيم، بس نحاول ."
تشاركوا الضحك من جديد، ثم نهض يوسف واتجه إلى الباب. وقبل أن يخرج، التفت بابتسامة واسعة وقال:
– "سلام يا أجمل بيت، أشوفكم على خير."
لم يكد يغلق يوسف الباب خلفه حتى خيّم سكون قصير على المكان، كأن حضوره كان يملأ الفراغ بالضحك والمرح، ورحيله ترك مساحةً ثقيلة من التفكير. جلست سمية تحدّق في السفرة نصف الخالية، ثم تنهدت بعمق وهي تمسح يدها في طرف المفرش قائلة:
– "قلبِي تاعبني يا إبراهيم… يوسف بيضحك ويهزر قدامنا، بس أنا حاساه حزين من جواه."
رفع إبراهيم رأسه نحوها، وقد بدا في عينيه أثر التجربة وعُمق السنين، ثم أجاب بصوت منخفضٍ لكنه مليء باليقين:
– "طبيعي يحزن يا سمية؟ ده فضل يحب فيها من بعيد لبعيد من وهو لسه شاب في الجامعة. كل الناس حواليه كانوا شايفين، بس هو عمره ما صرّح بحاجة. ولما جه وقرب، اتقدم لها وخطبها سنة واتجوزها خمس سنين… في السنين دي قدملها كل ما يملك، يمكن أكتر من طاقته."
اغرورقت عينا سمية بالدموع وهي تستمع، لكن إبراهيم تابع دون أن يترك لها فرصة للرد:
– "يوسف يا ستّي كان شايفها حلم حياته، وحاططها جوّه قلبه زي التاج. فلما تيجي في الآخر وتكسر كل ده، وتسيبه كده فجأة… طبيعي يزعل، طبيعي يحس إنه اتخذل."
حركت "سمية "رأسها بأسى وقالت بصوت متهدج:
– "أنا مش خايفة من الزعل، أنا خايفة يفضل جوّه الحزن ساكن وما يعرفش يطلع منه. يوسف قلبه أبيض، بيدّي من غير حساب… وخسارته وجعاني أنا قبل أي حد."
اقترب منها إبراهيم قليلًا، وقد بدا في وجهه مزيج من الصبر والرضا:
– "اسمعي يا سمية… الحزن عمره ما بيستمر لوحده. مع الوقت، يوسف هيتعلم. وهيعرف إن اللي كان بيحاوط عليها بقلبه، هي نفسها اللي كان تاعباه ،ومشيلاه شيله مش بتاعتة. هو لسه مش شايف الحقيقة دي دلوقتي… بس الزمن كفيل يوضحله."
صمت لحظة، ثم أضاف بصوتٍ أكثر دفئًا:
– "أنا واثق إن ربنا كاتب له الخير، وربنا بيحب القلوب الصافية. وهييجي اليوم اللي يشوف فيه حياته من جديد، يومها هيعرف إن الخسارة اللي عاشها ما كانتش إلا بداية لطريق أنضف وأصدق."
مسحت "سمية" دمعتها بخفة وهي تتمتم:
– "يارب… يارب يفرّح قلبي فيه وأشوفه سعيد. مش عايزة منه حاجة غير الضحكة اللي بتطلع من قلبه."
ابتسم "إبراهيم "وهو يربت على يدها:
– "هتشوفيها، صدقيني. اللي زي يوسف ما يضيعش، وربنا هيعوّضه خير، زي ما عوّضنا ببعض."
ساد بينهما صمت قصير، صمت يحمل في طياته مزيجًا من الدعاء الخفي والرجاء، كأنهما أسلما الأمر كله لله، منتظرين لحظة يبدد فيها القدر هذا الثقل عن قلب ابنهما الوحيد.
بينما خرج يوسف من بيت أهله بخطوات ثابتة وابتسامة عريضة مرسومة على وجهه، تلك الابتسامة التي يعرفها كل من في الحارة. كان يحمل بين جنبيه قلبًا لا يعرف الضغينة، وروحًا تأبى إلا أن تزرع البهجة أينما حلّت.
الهواء الصباحي كان عليلًا، وهدوء الشارع لم يخلُ من أصوات الباعة وهم يفتحون محالهم الصغيرة. يوسف لم يمر مرورًا عابرًا، بل كان يتوقف بين الحين والآخر ليسلّم على هذا ويمازح ذاك. مد يده يساعد الحاج "مبروك" في رفع باب محل العطارة، فابتسم الرجل قائلاً:
– "ربنا يباركلك يا معلم يوسف، إيدك دايماً معانا."
ضحك "يوسف" وهو يرد:
– "إيد واحدة ماتسقفش يا حاج مبروك… إحنا لبعض."
ثم انحنى ليلتقط كرة صغيرة تدحرجت من يد طفل يلعب أمام البيت، ناوله الكرة وربت على رأسه قائلًا:
– "خلي بالك على كرتك يا بطل مصر."
ضحك الصغير، وركض مبتعدًا بينما تتابعه عيون أمه بشكرٍ صامت.
واصل يوسف طريقه حتى لمح بعض العمال يحاولون فتح باب ورشته الكبيرة. ابتسم من بعيد وغمز لأحمد، أحد الشباب العاملين معه، ثم ألقى إليه المفتاح بخفة. التقطه أحمد وضحك قائلاً:
– "يا صباح الروقان يا هندسه."
_"صباح الفل عليكم يا رجالة."
قال جملتة ووقف لحظة أمام الورشة، حيث اللافتة العريضة تعلوها: "ورشة المعلم إبراهيم النجّار"، وأسفلها بخط رفيع: "تحت إدارة المهندس يوسف النجّار". تأملها بعينٍ فخورة، كأنها تختصر حكاية عمره وعمر أبيه.
دخل بين الشباب بوجهٍ منشرح وقال بصوته الواضح:
– "شدوا حيلكم يا رجالة… نجهّز الشغل اللي طالع لمعرض الحاج عبد الحميد، العربيات جاية تحمل بعد ساعة."
ردوا عليه جميعًا بحماس
_" جاهزين ."
أخذ يربّت على أكتافهم واحدًا تلو الآخر، ليؤكد أنه ليس مجرد صاحب عمل، بل أخ كبير لهم.
وبينما كانت الأيدي تنشغل بالخشب والأدوات، انسحب يوسف بهدوء متجهًا نحو مطعم ناهد ورقية المقابل للورشة.
دخل بخفة ظلّه المعتادة، صوته يسبق خطواته:
– "صباح الفل يا ناهد، إيه وقفتك دي كأنك محتاسة؟ "
رفعت ناهد رأسها نحوه، وعلى شفتيها ابتسامة، ثم زفرت بخفة وقالت:
– "صباح النور يا يوسف ."
توقف يوسف ونظر في أركان المكان وقال:
– " فين شريكتك؟"
ابتسمت وقالت بهدوء :
_" مش هتيجي إنهاردة."
"يوسف" بصدمة:
_" رقية مش هتيجي؟ رقية بنت خالتي واخده أجازة؟!"
ابتسمت "ناهد" بخفة وقالت:
_" تخيل يا بني ، دي معجزة."
قال بصوت جاد هذه المرة:
– "هي كويسة؟ البنات كويسين؟ وسيف؟"
هزت "ناهد" رأسها مطمئنة:
– "كلهم بخير… هي بس قالت احتمال ما تيجيش النهاردة. بيني وبينك فرحت، ماهي مش بترتاح خالص. مش هيحصل حاجة لو أخدت يوم تريح فيه."
تنفس "يوسف "الصعداء وضحك بخفة وهو يومئ برأسه:
– "فرحتِ قال !ده أنتِ تايهه من الصبح ."
ضحكت "ناهد "بحنان وقد غلبها الصدق:
– "بصراحة… ما بعرفش أقعد هنا من غيرها. رقية دي مش بس بنت جت تشتغل معايا وبعدين بقت شريكتي… دي بنتي وأختي وصحبتي وشريكة همومي، وجدها بيقويني ويعمل جو للمكان ، مش عارفة هشتغل أزاي إنهاردة من غيرها"
أشار إليها "يوسف "مازحًا وقال بمرح:
– "يا سيدي يا سيدي علي علاقة الحب دي ،أهو تأخدي فرصتك في الغلطات يا ناهد ، بدل ما بتسمع منها واحدة " يااااا ناااهد " تروحي واقفة زي التلميذ."
انفجرت ضحكتهما معًا، خفيفة وصافية، قبل أن يربّت يوسف على حافة الطاولة ويقول:
– " أنا هروح أشتغل بقي، وهبعت حد من الشباب ياخد فطارهم ، يلا سلام."
لوّحت ناهد بيدها وهي تضحك:
– "ماشي يا هندسة ، مع السلامة."
خرج يوسف من المطعم بخطوات واثقة وروح أكثر خفة، وقد ترك وراءه أثرًا طيبًا كما اعتاد دومًا.
...................
كثيرًا ما تكون البيوت عامرة بالحب رغم ضيق العيش، ويكفي أن يجلس الإخوة حول مائدة واحدة، يضحكون ويتشاجرون ويمزحون، فتتحول اللحظات البسيطة إلى حصنٍ آمن يُنسيهم متاعب الدنيا. وفي بيت رقية المهدي، كان الصباح يحمل ذلك الدفء الممزوج بالمسؤولية الثقيلة التي تتحمّلها وحدها، لكنها تُخفيه بابتسامة صافية تُشبه النسيم.
كانت نور تجلس في ثياب بيتية مريحة، وعلى وجهها بريق الطمأنينة. أما هنا فقد ارتدت حجابها وملابسها ، حقيبتها بجانبها، وعينيها تلمعان بانتظار الخروج. بينما جلس سيف في ركن الطاولة، متجهّم الملامح، ملامحه تحمل ضيقًا لم يعتده أحد منه، كأن القيود التي أحاطته فجأة ثقيلة على قلبه.
لم تكن رقية بعيدة عنه، عيناها تتابعانه منذ أن أيقظته لصلاة الفجر بصرامة محبّة، وهي تدرك أن مراقبتها الدائمة له تُثقله، لكنها تخشى أن تترك له الحبل على الغارب فيضيع منها. جلست أمامهم، ترتّب الأطباق بيدٍ وتلمح تعبيراتهم بالعين الأخرى، تدير مملكتها الصغيرة بحنانٍ حاد.
قطعت "نور" الصمت وهي تميل بجسدها نحو رقية، وقالت بصوت دافئ وابتسامة مُشرقة:
_"عارفة يا روقه… أنا مبسوطة إنك ما نزلتيش المطعم النهارده. نفسي اليوم يعدي وأنا قاعدة معاكي في البيت."
رفعت" رقية "حاجبيها بدهشة خفيفة، ونظرت إليها مستغربة:
_"عندك محاضرة الساعة واحدة يا بنتي!."
ضحكت" نور"، وحرّكت يدها بلامبالاة:
_"لااا… الدكتور بعتلنا على الجروب إنه مش هيقدر ييجي. الحمد لله."
"هنا"قطّبت حاجبيها بضيق وقالت:
_"يعني أنا بس اللي هخرج النهارده؟ طب ما أقعد أنا كمان."
قهقهت" رقية" بخفة وهي تقول :
_ "ومالُه يا حبيبتي… اقعدي."
قفزت "هنا" بفرحة طفولية:
_ "بجد؟ أخلع الحجاب وأقعد؟"
هُنا تغيرت ملامح رقية فجأة، نظرتها صارت جادة، وأشارت بيدها نحو الأطباق:
_"افطري يا هنا عشان تلحقي جامعتك."
انفجرت ضحكات" نور" وهي تشير إلى وجه أختها الأصغر، وقالت مازحة:
_ "بصي على وشها، اتصدمت إزاي!"
ضحكت "هنا" بدورها وقالت بخفة وهي ترفع كفّيها:
_ "يا جماعة كنت بهزر… أنا مجتهدة وعمري ما أغيب."
ابتسمت رقية، وتركزت عيناها على سيف الذي ظل صامتًا، رأسه منخفض على طبقه. سألت بصوتها الدافئ الذي يحمل كل معاني الأمومة:
_"مالك يا سيفو… مابتفطرش ليه؟"
للحظة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة، كأن صدى دلعها القديم أعاده لطفولته، وقال مستسلمًا:
_"هاكل أهو."
وضعت رقية يدها على كتفه برفق، وسألت بحنان وقلق:
_"انتَ زعلان مني في حاجة؟"
احمرّ وجهه بخجل خفيف، وهزّ رأسه نافيًا:
_"لأ خالص… بس ضغط الدروس يا روقه."
أخذت"رقية" نفسًا قصيرًا ثم أعادت نظرها نحو سيف، ملامحها اجتمعت كلها في جدية وحب، وقالت:
_"بص يا سيف ، المدرسة والجامعة وسنين الدراسة فترات وبتعدي، في ناس بتعدي عنهم من غير أي أثر ، هما بس عايزين درجات عالية وخلاص ، وفي ناس عارفين إنها فترة وممكن ماتتكررش تاني ، ممكن مايجيش ليك فرصة تانية تتعلم ، فبيستغلوا الوقت اللي بيدرسوا فيه، يحولوا المذاكرة الرخمة دي لفرصة بتيجي مرة في العمر ، لعبادة مؤقتة ..يخلصوا فيها النية لله ويحتسبوا أجر تعب المذاكرة ،إنهم بيطلبوا علم ..برفعوا جهل عن نفسهم ، ويمكن بكرة يرفعوا جهل عن ناس تانية ، يبقوا عايزين يرتقوا بمكانتهم لمكان أفضل ، وكمان كوننا مسلمين لازم مانشبعش علم ، إحنا بنحب نتعلم ، مكانة العلم في دينا عالية أوي ، بس العلم اللي ينفع مش يضر ."
صمتت لحظة، فاكملت "نور" وهي توجهه كلامها لسيف:
_"وبعدين يا حبيبي، الثانوية دي لعبة نفسية… بتخوفك عشان اسمها كبير، لكن هي في الآخر سنة زي أي سنة. المشكلة إن الناس بتضخّمها… فتخليك تحس إن حياتك كلها متعلقة بيها. وده غلط. هي مجرد مرحلة، فيها امتحانات، تعدي، وتدخل غيرها. بس اللي يفرق إنك لو صدّقت إنها نهاية الدنيا، هتتعب من غير ما تستفيد."
حركت "رقية" يدها على الطاولة، كأنها ترسم خطًا مستقيمًا، وقالت:
_"اللي أنا عايزة منك مش إنك تبقى الأول ولا تجيب أعلى الدرجات… أنا عايزة أشوفك ماشي في الطريق الصح. تبقى بتعمل اللي بتحبه، اللي ينفعك، اللي يخلي ربنا راضي عنك. يعني إيه تفيد نفسك وتفيد الناس؟ يعني تكون دكتور، مهندس، حرفي، أي حاجة … بس حاجة تحس إنك فيها قوي وبتستفيد بيها. مش مهم اللقب، المهم إنك ما تضيّعش عمرك على الفاضي."
اتكأت قليلًا بظهرها، وصوتها صار أهدي، كأنها تكشف سرًا:
_ "عارف إيه اللي بيميز اللي بينجح؟ مش بس الذكاء… لأ. الالتزام. إنه يعرف إن كل يوم بيمر مش هيرجع تاني، فيغتنمه. يعرف إن التركيز ساعة واحدة بجد، أحسن من قعدة خمس ساعات ماسك كتاب بس دماغك مع أصحابك، يعرف يقسم وقته ، ويعرف أولوياته ، يستغل وقته في حاجة تنفعه، وربنا لما يشوف منك السعي ، هيعطيك ."
ثم نظرت في عينيه مباشرة، وأردفت بنبرة حنونة عميقة:
_"إنت متخيل يا سيف… إن الورقة اللي هتمسكها دلوقتي وتحل فيها، ممكن تكون سبب إنك بعد سنين تبقى قادر تساعد إنسان؟ أو سبب إنك تعيش حياة مرتاح فيها؟ ده مش كلام كبير… دي حقيقة. وصدقني، بعد ما تعدي المرحلة دي، هتبص ورا وتقول: ليه كنت بضيع وقتي على حاجات ملهاش لازمة؟"
مدّت يدها وربّتت على يده الممسكة بالخبز، وقالت بهدوء:
_ "أنا مش عايزة منك الكمال يا ابني… أنا عايزة منك إنك تجتهد بس. وربنا عمره ما بيضيع تعب حد."
انكمش صدر سيف قليلًا، وبدت الحيرة في عينيه. كان جزء منه يريد أن يصدّقها، أن يستسلم لحنانها كما اعتاد دومًا، لكن صدى كلمات أصدقائه يجلجل داخله: " مذاكرة إيه ياعم ...الدنيا مش بتمشي بالكتاب والكيميا ..دي مجرد سيجارة يا سيف… كل الناس بتشرب. إيه يعني؟ انتَ خايف من أخواتك البنات ولا إيه؟"
هز رأسه بخفة وهو يخفض نظره لطبقه، وإحساس الذنب يتسلل إلى صدره ببطء. شعر للحظة أنه صغير أمام عيني رقية، وأنها ترى ما لا يريد أن يراه أحد.
مدّت" نور" يدها وأمسكت بكوب الشاي، وهي تبتسم بحب وتنظر لأخيها:
_ "اسمع كلام روقه يا سيفو… دي مش بس أختك الكبيرة، دي أمّنا كلنا."
ضحكت "هنا" برفق وأضافت بمرح:
_ "آه والله، أم شديدة بس قلبها عسل."
ابتسمت رقية معهم، لكن عينيها لم تفارق سيف، تترقب كل تغير في ملامحه، تقرأه كما اعتادت منذ كان طفلًا. أما هو، فابتسم بخجل صغير وهو يمد يده ليأخذ قطعة خبز، محاولًا إخفاء ذلك الصراع الذي اشتعل داخله فجأة بين ما يريده قلبه وما يجرّه إليه رفاقه
بعد أن فرغوا من الإفطار، بدأ البيت يستعيد هدوءه شيئًا فشيئًا ، جمعت كتبها، ثم ألقت قبلة خاطفة على خد رقية وهي تقول:
_"ادعيلي يا روقه… عندي محاضرة تقيلة."
ابتسمت رقية وربتت على كتفها، فأسرعت هنا إلى باب الشقة، وأغلقته وراءها بخفة.
أما سيف، فقد وقف يعبث بحذائه الرياضي، متردّدًا كعادته في الخروج، ثم التفت إلى رقية وقال بصوت منخفض:
_"أنا ماشي على الدرس."
لم تُطل رقية النظر إليه، فقط أومأت برأسها وهي تُرتب بقايا الأطباق، فاكتفى بنظرة سريعة إليها ثم خرج مسرعًا، والباب يُحدث صريرًا خفيفًا.
حلّ السكون في البيت بعد ذلك، ولم يبقَ سوى رقية ونور. خفتت أصوات الشارع في الخلفية. نهضت نور بخفة، وبدأت تُحضّر كؤوس الشاي، وضعت كوبين صغيرين على الطاولة الخشبية في غرفة الجلوس، ثم جلست وهي تدفع شعرها للوراء وتقول مبتسمة:
_ "كوبايتين شاي بقي ونحكي للصبح!"
رفعت" رقية" حاجبها وضحكت وهي تجلس قبالتها:
_"احنا الصبح أصلًا."
قهقهت" نور"، واستندت بمرفقها على حافة الكنبة:
_ "ياستي، صبح ولا ليل… المهم إني معاكِ."
ضحكت رقية بدورها، وبدت ملامحها أكثر ارتخاءً بعد ذهاب هنا وسيف، ثم مدّت يدها لتأخذ الكوب وقالت بحنان عميق:
_"أنا اللي وحشني الكلام معاكِ يا نور عيني. يلا… ابداي حكاويكي."
تنفست "نور" بعمق، وارتسمت على وجهها ابتسامة طفولية لم تتخلَّ عنها رغم نضجها، ثم قالت بحماس:
_ "بصي يا ستي… الأسبوع اللي فات ده كان مرهق جدًا في الجامعة، بس اللي بيصبرني إنها آخر سنة خلاص. كمان الشغل في الصيدلية كان كويس أوي الحمد لله، والدكتور عاصم قال إنه هيزوّد مرتبي أول الشهر."
أشاحت رقية برأسها نحوها، وفي عينيها بريق فخر:
_ "مبارك يا حبيبي… تستاهلي كل خير."
أحنت "نور" رأسها قليلًا بخجل لطيف، ثم أردفت بسرعة كأنها لا تريد للحديث أن ينقطع:
_ "وبعدين هدي فرحها بعد امتحانات آخر السنة، وطلبت مني أنزل معاها الخميس الجاي بعد المحاضرات أجيب معاها شوية حاجات… أنزل؟"
وضعت "رقية" الكوب على الطاولة برفق، وحدّقت فيها بتمعّن:
_"أنتِ عايزة تروحي؟"
ترددت "نور" لحظة، ثم قالت بصراحة:
_"هو عادي. بس أنتِ عارفة إن هدي ما عندهاش أخوات بنات، وأنا وهي قريبين جدًا… طلبت مني بحماس، ومش حابة أكسر بخاطرها."
ابتسمت "رقية"، وفي ابتسامتها مزيج من الأمومة والتفهّم:
_ "ماشي… روحي يا دكتورة، بس بلاش تأخير."
قفزت" نور" لتحتضنها بسرعة، وهمست في أذنها بمرح:
_"تسلملي يا روقه… ما فيش تأخير، لا تقلقي."
ضحكت رقية وهي تدفعها بخفة، فردّت" نور" ضاحكة:
_ "يلا بقى… احكي أنتِ يا ست رقية."
تأففت" رقية،" وحرّكت الكوب بين يديها:
_"ما عنديش حاجة تتحكي يا أختي. البيت وأنتِ فيه ، والمطعم… أحداث عادية."
أمالت" نور" رأسها، ونظرت لها بعينين ماكرتين:
_"يا رقية! عليا… يعني ما حصلش حاجة جديدة؟ ما فيش حاجة مخلياكِ متغيّرة شوية؟"
أطرقت "رقية "للحظة، ثم رفعت عينيها ببطء وقالت كمن يستسلم:
_"خالد البراق…"
ارتسمت على ملامح "نور" علامات الاشمئزاز، وصرخت بحدّة خفيفة:
_ "يعععع… لا بجد يعععع؟!"
انفجرت "رقية " في ضحكة عالية، وضعت يدها على بطنها وهي تقول:
_"هو فعلًا كده… والله ببقى عايزة أرجع لما أشوفه."
انحنت" نور" للأمام وهي تشاركها الضحك، ثم قالت بنبرة أكثر جدية:
_ "عملك إيه تاني؟"
أخذت رقية نفسًا قصيرًا، ثم بدأت تحكي بتفاصيل عن آخر موقف جمعها بخالد في المطعم؛ كيف تحدث معها بنبرة غير مريحة، وكيف ردّت عليه بصرامة، وكيف انسحب غاضبًا .
استمعت" نور" باهتمام، ثم هزّت رأسها وقالت بوجه جاد:
_"بجد يا رقية… خالد ده لازم نشوف له حل. مش هيفضل يُحوم حواليكِ كده."
زفرت "رقية"، وأجابت بملامح متعبة:
_"أنا بصده… أعمل أكتر من كده إيه؟"
ابتسمت "نور" ابتسامة صغيرة ماكرة، ثم لفظت كلمة واحدة فقط، بصوت خفيض لكنه نافذ:
_ "مهاب."
تصلبت عضلات وجه رقية للحظة، واتسعت عيناها كأنها سمعت شيئًا صادمًا، ثم قالت بسرعة:
_"انسِيه."
لم تتراجع نور، بل اقتربت أكثر وهمست:
_"انسِيه إيه؟ ما حدش هيوقف خالد غير مهاب."
انعقد حاجبا "رقية"، وسألتها بحدة:
_ " بصفته إيه؟"
أجابت" نور" بصلابة، وعينيها لا تزوغان عن عيني أختها:
_"الصفة دي أنتِ اللي في إيدك تعمليها يا رقية."
ارتفعت نبرة" رقية "قليلًا، وقالت بانفعال:
_"وأنا مش عايزة!"
مدّت" نور" يديها وأمسكت بيديها بقوة، وهمست بصدق:
_"بتكدبي عليا ولا على قلبك يا بنت أمي؟"
أطرقت "رقية "بعينيها وقالت بهدوء، وكأنها تُغلق باب النقاش:
_ "مابكدبش على حد يا نور."
أخذت "نور" نفسًا عميقًا، ولانت نبرتها، ثم قرّبت وجهها منها وقالت:
ـ "يا رقية… إحنا كبرنا. وأنتِ والله عاملتي معانا اللي ماحدش يعمله. حرام تفضلي حابسة نفسك وقلبك عشانا. عشان خاطري… شوفي حياتك."
وضعت "رقية "يدها على يدها، وتنهدت:
_"اسمعي… أنتم مش ضاغطيني، ولا موقفين حياتي. بالعكس، حياتي ماشية بيكم. وعارفة إنكم قد المسؤولية. بس… موضوعي أنا ووالباشمهندس… مش متوقف عشانكم وبس. الموضوع أكبر من كده… الحواجز أكبر. ومش هتكلم عن أسبابي… بلاش تفتحي الموضوع تاني. عشان خاطري."
انكسرت ملامح "نور" للحظة، ثم قالت بحزن خافت:
_ "خاطرك غالي… أنا بس كل اللي عايزاه إن قلبك يبقى مرتاح."
ابتسمت "رقية"، وسحبتها في حضنها:
_"تعالي في حضني وانا قلبي يرتاح يا ستي."
احتضنتها نور بحرارة، وضحكتهما امتزجت مع دموع صغيرة لمحتها رقية في عين أختها. وضعت يدها على رأسها، وقالت مازحة:
ـ "خلاص… كفاية عياط يا دكتورة، هتبوظي الحكل الجامد اللي حاطاه ده."
انفجرت نور في الضحك وسط الدموع، ودفنت وجهها في كتف رقية. بقيتا على هذا الحال دقائق، والبيت ساكن إلا من أنفاسهما المتلاحمة. لحظة لم تُحتج فيها الكلمات، فقد كان العناق وحده كافيًا ليقول إن كل واحدة منهما سند الأخرى، وإن مهما كانت الحواجز أو المتاعب، فإن دفء الأخوة أقوى من كل شيء.
ظلّت رقية تحتضن أختها، تبتسم لها ابتسامة مطمئنة، بينما في أعماقها عاصفة صامتة. لم يكن الأمر كما تتصور نور… لم يكن مجرد خوف من المجتمع أو قلق من مسؤولية إخوتها. كانت هناك حواجز أخرى، أثقل من أن تُقال، وأعمق من أن تُفصح عنها. جدران خفية تفصل بينها وبين ذلك الطريق، جدران صنعتها ظروف لا يراها سواها. وكلما مدّت الحياة أمامها خيطًا من أمل، وجدت تلك الحواجز تنتصب أعلى، كأنها تُذكّرها أن الاقتراب أكثر يعني خسارات لا تُحتمل.
......
بينما كانت رقية غارقة في صمتها الدافئ، كان رجل آخر يواجه يومه بطريقته الخاصة… مهاب البرّاق.
جلس في مكتبه الفسيح داخل المعرض، يطالع ملفات السيارات الجديدة التي وصلت مؤخرًا. عيناه تركّزان بدقة، كأنه يقرأ أكثر مما هو مكتوب، يبحث عن التفاصيل الصغيرة التي قد لا يلتفت إليها غيره. لم يكن عمله مجرد تجارة سيارات بالنسبة له، بل كان امتدادًا لحلم قديم بدأ من أيام دراسته للهندسة. كان يحب الآلات، تفاصيلها، صوت المحركات حين تدور للمرة الأولى، ذلك الانسجام الغريب بين الحديد والإنسان. ولهذا السبب، كان حضوره في المعرض مختلفًا؛ لا يقف في الصفوف الأمامية يساوم الزبائن، بل يجلس في مكتبه، يضع لمساته، ويشرف بدقة على كل ورقة وكل صفقة، كأنها قطعة من روحه.
كانت عينا " مهاب" بين حين وآخر تنتقل إلى المكتب الصغير المقابل، حيث يجلس مازن، وقد أخذ ركنًا من المكان بعد أن قرر العمل مع أخيه.
رفع مهاب نظره من فوق الأوراق، فوجد مازن مستندًا بيده إلى ذقنه، عينيه شاردة في مكان بعيد، كأنه جالس بجسده فقط. ارتسمت ابتسامة خفيفة على ملامح" مهاب"، ثم قال بمرح:
_"سرحان في إيه يا كابتن؟"
لم يرد مازن، بل ظل غارقًا في شروده. عقد مهاب حاجبيه مستغربًا، تناول قلمًا من على مكتبه، ثم رماه بخفة تجاه مكتب أخيه، وهو يقول بنبرة مازحة صارمة:
_"يا واد ركّز معايا!"
انتبه مازن حين ارتطم القلم بمكتبه، رفع رأسه ببطء، ونظر لمهاب بابتسامة ماكرة وقال بنبرة متدلعة:
_"نَعم يا قلب الواد!"
اتسعت عينا "مهاب" بدهشة مصحوبة بضحكة مكتومة، وقال وهو يشير له بالقلم:
_ "قلب الواد؟! ده أنت حالتك حالة! إيه الموضوع يا سي مازن؟"
تنهد" مازن"، وهز كتفيه كأنه لا يريد أن يفضح نفسه:
_ "مش عارف!."
قهقه "مهاب" ضحكة رجولية عالية ملأت أرجاء المكتب، ثم قال وهو يميل بكرسيه للخلف:
_"أهي الـ مش عارف دي وراها بلاوي!"
ظلّ يتأمل أخاه لثوانٍ قبل أن يقول بنبرة فاحصة، كأنه يقرأ ما وراء العيون:
_"مين اللي مطيّر عقل مازن البرّاق بقالها فترة؟"
تسمر مازن مكانه للحظة، تفاجأ من دقة ملاحظة أخيه. مد يده بعفوية إلى شعره، يمسّده كعادة من ارتبك، ثم قال بصوت خافت:
_"مش حابب أقول مين... بس أعترف إن مش عقلي بس اللي طاير!."
انفجرت ضحكات" مهاب" من جديد، ضرب كفه على المكتب وقال:
_ "مش عايز أطلّعك من الحالة دي والله، بس افكرك إننا رجّالة... وبندخل من الباب."
اعتدل" مازن" في جلسته، وظهرت على ملامحه جدية نادرة، وقال بهدوء:
_ "عارف. ومافيش أي حاجة غلط بتحصل، ماتقلقش. دي مجرد مشاعر من ناحيتي... بس مرتاح. عارف لما تحس إنك مطمّن من مجرد ذكر اسم شخص؟"
صمت مهاب لحظة، ثم قال بنبرة ثقيلة خرجت من قلب عاشق يعرف معنى الكلام:
_ "حافظ... مش عارف وبس."
ابتسم مازن، وأكمل وهو يشبك أصابعه:
_ "أنا مش متسرّع يا مهاب، خصوصًا في العلاقات. بس بجد نفسي أخلص دراستي السنادي بسرعة، وابتدي أركز في شغلي... وأبقى قادر أشيل مسؤولية بيت وأسرة."
نظر مهاب إليه نظرة امتزج فيها الحنان بالفخر، وقال بصوت أخوي دافئ:
_"معاها؟."
أطرق "مازن" رأسه قليلًا، وقال بصوت فيه رجاء صادق:
_ "يارب... أتمنى بجد."
ابتسم "مهاب"، وأجاب بثقة:
_ "صدقني، لو نصيبك... وانت بتسعى عشان تكون معاها في الحلال، ربنا هيكرمك بيها. أنت بس صون قلبك... وادعي."
صمت كلاهما للحظات بعد هذه الجملة، وما بين صمتٍ يشي بحبٍ عميق لا يحتاج إلى كلمات. كان مهاب ينظر إلى مازن بعينٍ فخورة، كأنه يرى فيه امتدادًا لحلمه الذي لم يكتمل بعد، وكان مازن يبادله نظرة امتنان، كأن أخاه هو السند الوحيد الذي يُقيم روحه على الأرض.
خارج جدران المكتب، كانت الحياة تسير بصخبها المعتاد، أما داخله فقد سكن دفءٌ خاص، يجمع بين قلبين تشاركا الطموح، والهمّ، والحلم. وبينما وُضعت الأقلام فوق الأوراق، وهدأت الضحكات شيئًا فشيئًا، بقيت الكلمات الأخيرة لمهاب ترنّ في أذن مازن، كوصيةٍ يُخبّئها في قلبه:
"صون قلبك... وادعي."
وكانت تلك الجملة كافية لتُغلق نهارهم على بصيص من الطمأنينة، وبداية جديدة تُبشّر بأيامٍ قادمة مليئة بما يكتبه القدر.