رواية ظل البراق الفصل الحادي عشر 11 بقلم مريمة


 رواية ظل البراق الفصل الحادي عشر 

متى يعرف الإنسان أنه تَعب، وأنه لم يعد مجبرًا على حمل العالم وحده؟
ولِمَ نظنّ دائمًا أن ما نفعله ليس كافيًا، حتى وإن كنا نعطي كلّ ما نملك؟
ماذا لو مشينا أعمارنا نُطعم الناس من أرواحنا، ولم يلتفت إلينا أحد؟
____________
كان النهار يوشك على الانكسار، والشمس المائلة للغروب تبعث بأشعتها المائلة إلى الحمرة فوق مباني كلية الهندسة العتيقة، فتتساقط على جدرانها العالية نُسخٌ من الضوء والظلّ تتداخل مع أصوات الطلاب في ساحاتها الواسعة. الهواء محمّل بطنين الخطوات السريعة وهمّسات الزملاء المتعجلين للحاق بآخر محاضرات اليوم، بينما تفوح رائحة القهوة المختلطة برائحة الورق الجديد من المقصف القريب، كأنها توقظ الحواس المتعبة.
في قلب أحد المدرجات الكبيرة، جلس العشرات من الطلبة على المقاعد الخشبية المتدرجة، منهم من كان يتثاءب بشدة، ومنهم من انشغل بهاتفه، وآخرون يتهامسون ضاحكين ينتظرون انتهاء اليوم الدراسي الطويل. كان المدرج واسعًا، سقفه العالي يردّد الأصوات حتى يخال للمرء أن الهمس فيه جلبة.
بدأت المحاضرة الأخيرة، ودخل الدكتور بخطواتٍ هادئة، يحمل في يده حقيبة جلدية سوداء وصوت احتكاك حذائه بالأرضية يقطع الهمهمة شيئًا فشيئًا. وضع الحقيبة على المنضدة، أخرج دفاتره وبدأ يكتب على السبورة خطوطًا ورسومًا هندسية متشابكة.

هنا برز عبدالله رزق البراق، ملامحه جادة وعيناه تلمعان بتركيزٍ شديد. كان يجلس في الصفوف الأمامية، قلمه لا يكفّ عن الحركة، يسجل الملاحظات كلمة كلمة، وكأن المحاضرة أمامه امتحان لا يُعاد. بينما من يجلس بجانبه، زياد، يراقبه بابتسامة محببة، كأنه يتساءل كيف ما زال صديقه بهذا الالتزام في جامعة تعج بالحرية والانفلات.

وبينما الدكتور يشرح، أخذ عبدالله يميل بجسده قليلًا للأمام، يكتب كل ما يسمعه بتركيز، يسجل الملاحظات برتابة منظمة، حتى حركة يده مع القلم بدت كأنها انعكاس لانضباط داخلي لا يتزعزع.
بعد مدة من الوقت أنهى الدكتور كلماته، جمع أوراقه وهو يقول:
ـ "المحاضرة دي آخر واحدة النهاردة، نكمل الأسبوع الجاي إن شاء الله."

بدأت الضوضاء تملأ المدرج. المقاعد تُطرق وهي تُطوى، الطلبة يتدافعون نحو الباب. عبد الله جمع أوراقه ببطء، رتّبها، ثم وضعها في حقيبته وأغلق السحّاب بعناية. إلى جواره كان زياد، ينظر له مبتسمًا، وكأن إعجابه بصديقه يزداد كل مرة يرى فيها جديته.

حين خرجا من القاعة إلى الممر، اعترض طريقهما أحد الزملاء بنبرة ساخرة:
ـ "يا جدعان، حد شاف الطالب اللي في أولى إعدادي؟ قاعد يكتب كل كلمة كأننا لسه في الدرس الخصوصي!"
ضحك آخر وهو يضيف بنبرة أكثر استهزاء:
ـ "هو فاكر نفسه لسه في المدرسة، وإحنا بنتسابق مين يكتب أسرع؟ ده مش جامعة يا ابني، ده كأنك قاعد في لجنة امتحان!"
وقف "عبد الله "أمامهما بثبات، وجهه لم يتغير، وصوته حين نطق كان هادئًا لكنه ممتلئ بالقوة:
ـ "طالب المدرسة بيتعلم، وطالب الجامعة بيتعلم. الفرق إن في المدرسة عندك قيود: حضور إجباري، رقابة من المدرسين، متابعة من أهلك. لكن في الجامعة… الحرية أكبر، والمسؤولية أكبر."

أحدهما لوى شفتيه وقال باستهزاء:
ـ "مسؤولية إيه يا عم! إحنا خلصنا من الوصاية خلاص. هنا محدش ورا حد."
ابتسم "عبد الله "بخفة وهو يهز رأسه:
ـ "غلط. صحيح ماحدش وراك زي قبل، بس ثقة أهلك فيك وراك. هما سايبينك تجي الجامعة مش عشان تضيع وقتك في الكافيتريا أو تنام في المدرج. سايبينك عشان تتعلم، عشان تبقى حاجة. والأهم من كده… ربنا !. الرقابة الحقيقية مش من مدرس ولا من أب وأم، الرقابة من ربنا اللي عارف أنتَ بتعمل إيه وإيه اللي بتضيعه."
ساد صمت قصير، لكن "عبد الله" لم يتوقف. عيناه ثابتهما على وجهيهما وهو يكمل:
ـ "اللي يسيب نفسه ويتهاون النهاردة، يفتكر إنه بيضحك، لكنه بيخسر عمره من غير ما يحس. العلم مش إجباري، لكن هو اختيار. والاختيار ده شهادة على نفسك. إما تختار الجد والاجتهاد وتطلع قدّ المسؤولية، أو تختار التهاون وتبقى مجرد رقم عابر."

انقبض وجه الشاب الأول، وكأن الكلمات أصابته في مقتل. أما الآخر فقد حاول التغطية بابتسامة باهتة، لكنه لم يجد ردًا. في النهاية قال بلهجة ضعيفة:
ـ "ماشي يا عم الفيلسوف."
ثم غادرا بخطوات سريعة، كأنهما يهربان من أثر كلماته.
أطلق "زياد "ضحكة عالية وربت على كتف عبد الله:
ـ "عيال استغفر الله العظيم… بس والله يا إديتهم الضربة القاضية."

ابتسم "عبد الله "بخفة وهو يسير بجواره:
ـ "يلا بينا نمشي، اتأخرت علي الشغل."
ضحك" زياد "بمكر:
ـ "طب ما تاخدني تشتغلني معاك في الورشة دي يا بودي يا حبيبي!"
توقف" عبد الله" فجأة، وحدّق فيه ببرود مصطنع:
ـ "بودي! طالعة منك زي الزفت."
انفجر" زياد" ضاحكًا حتى كاد يميل على الجدار:
ـ "يا راجل، والله بتكلم بجد."
"عبد الله" شد حاجبيه وهو يرد بجدية:
ـ "ما هي مش ورشتي عشان أشغل فيها اللي أنا عايزه. لو عايز شغل فعلاً، روح لعمي عامر، هو صاحب القرار."
شدّه "زياد "من ذراعه بحماس، وقال بلهجة طفل متحمس:
ـ "طب يلا، مستني إيه؟"
ضحك" عبد الله "وهو يسحب ذراعه:
ـ "براحة يا بني… على فين؟"
رد" زياد" بسرعة:
ـ "على عمك طبعًا!"
وقف "عبد الله" يحدّق فيه لثوانٍ، ثم سأله بصوت هادئ لكنه جاد:
ـ "إنت بجد عايز تشتغل في الورشة؟"
أجابه "زياد "بابتسامة صادقة:
ـ "أيوه. فيها إيه يعني؟"
"عبد الله "ضم شفتيه وهو يتأمل:
ـ "بس إنت أهلك مستواهم كويس وإحتمال مايرضوش بشغلك ده. وأبوك مدير في شركة هندسة، يقدر يشغلك بسهولة. ليه تتعب نفسك بورشة وشحم وزيت؟"
ابتسم" زياد" بجدية غير معتادة:
ـ "إيه يمنع؟ الشغل الحلال مافيهوش عيب. وأنا اللي باختاره. بابا مش بيشغل حد عنده في الشركة إلا لو مؤهل. ماعندوش موضوع الواسطة ده. ولو مش كفء، هيرفضني زيي زي أي واحد. وبعدين… أنت ناسي إني بشتغل بالليل في مطعم؟ الموضوع عادي عندنا. المهم إن الواحد يشتغل اللي بيحبه. وأنا بحب الميكانيكا. ومفيش مكان أتعلم فيه أحسن من ورشة عمك."
ثم أنهى بزهق:
ـ "هاا… هتاخدني ولا لأ؟"

ظل "عبد الله" ينظر إليه صامتًا، وفي داخله مقارنة موجعة. تذكّر كيف كان أهله يرفضون عمله مع عمه، يعتبرونه تقليلًا من مكانته. وتذكّر كيف عانى لإقناعهم، وكيف مازالوا لا يتقبلون الأمر. بينما أمامه صديقٌ أهله ميسورون مثله، ومع ذلك لا يرون غضاضة أن يلوّث أيديهم شحمًا ما دام العمل شريفًا.

أفاق من شروده على لمسة خفيفة من زياد على كتفه. ابتسم عبد الله وقال بهدوء:
ـ "هاخدك… وأمري لله. يلا بينا."
ضحكا معًا وهما يخرجان من أسوار الكلية، تتداخل خطواتهما مع ضجيج الطلاب، وكأن الطريق أمامهما يفتح على بداية جديدة.
........

كانت الورشة تعجّ بالحركة، أصوات المطارق تتداخل مع أزيز المثاقب وصوت صرير الحديد وهو يُشدّ في مكانه. رائحة الزيت المحروق وقطع الغيار الملوّثة بالشحم تملأ الأجواء، بينما يقف بعض العمال منحنين على سيارات مفتوحة البطون، كلٌّ منشغل بأداة بين يديه. لم تكن الورشة مجرّد محل صغير في زاوية الحارة، بل صرح كبير يحمل اسم آل البرّاق، بابه الواسع يطلّ على الشارع كمنبرٍ للقوة والرزق.

خارج الباب، جلس الحاج عامر البرّاق على كرسي خشبي عريض، وقد وضع أمامه طاولة صغيرة تتناثر عليها أوراق الحسابات ودَفترٌ جلديٌ قديم وقلم معدني ثقيل. ملامحه الوقورة، مع شعره الذي غزاه الشيب، منحت للمشهد رهبةً خاصة؛ كان يدوّن الأرقام بتركيز، بينما يرفع رأسه بين الحين والآخر يتأمل حركة العمال بعينٍ خبيرة.

اقترب منه صبي القهوة "محمد" بخطواتٍ سريعة، وهو يحمل صينية نحاسية يتدلّى عليها كوب شاي ساخن يعلوه بخار كثيف. وضع الكوب أمامه وهو يبتسم قائلاً:
ـ "أحلى كوباية شاي لكبير الحارة."

ارتسمت على وجه "عامر" ابتسامة عريضة وهو يردّ:
ـ "تسلم إيدك يا محمد… عامل إيه في ترتيبات جواز أختك؟"
تنهد "محمد" بعمق، وصوته امتزج فيه الفرح بالتعب:
ـ "أهي ماشية الحمد لله يا حاج، قربت أخلص الجهاز… كله ستر من ربنا."
"عامر" مال بجسده قليلًا للأمام، ونبرته صارت أكثر جدّية وهو يقول:
ـ "اسمع يا واد، لو احتجت حاجة تيجي علطول… إحنا هنا كلنا أهل."
أشرق وجه "محمد" بامتنان، وهزّ رأسه قائلًا:
ـ "خيرك مغرقنا يا حاج، والله الحمد لله مستورة."
ضحك "عامر" برضا وهو يشير إليه بالانصراف وقال بمرح:
ـ "يلا بقي يا خويا علي شغلك… سيبني دلوقتي مع كوباية الشاي دي."
أجابه" محمد" بمرح:
ـ "تؤمر يا كبير… سلام."
غادر الشاب بخفة، بينما رفع عامر الكوب برفق وتذوّق رشفة صغيرة، وابتسامة رضا هادئة ارتسمت على محياه.

في تلك اللحظة، كان "عبدالله" يرافق صديقه "زياد" القادم حديثًا للحارة. كانا يسيران بين شوارعها، وعبدالله يتولّى دور الدليل، يشرح له الأماكن ويحكي عن أهلها. وما إن بلغا مدخل الشارع الذي يحتضن مطعم رقية حتى قال بلهجة واثقة:
ـ "هنا بقى… أفضل شارع في حارة البرّاق."
"زياد" رفع رأسه مستنشقًا الهواء بعمق، لتظهر الدهشة على وجهه:
ـ "إيه الريحة السكر دي؟! في أكل هنا ولا أنا باتوهّم؟ أنا جوعت."
انفجر "عبدالله" ضاحكًا وهو يشير إلى المطعم:
ـ "مش بقولك أفضل شارع… الريحة جاية من هنا. ده مطعم الست رقية والست ناهد… أحسن فول وفلافل تاكل منهم، ومعاهم بطاطس وبتنجان وحاجات تفتح النفس."
عيون "زياد" اتسعت، وضرب كفًا بكف قائلًا:
ـ "طب مستني إيه؟ يلا بينا."
لكن "عبدالله "أوقفه بابتسامة ساخرة:
ـ "يا بني الساعة خمسة… هم بيقفّلوا دلوقتي أصلًا."
"زياد" رفع حاجبيه بدهشة:
ـ "يعني الريحة العظيمة دي… ويقفّلوا؟!"
ضحك "عبدالله" حتى أمسك بطنه وهو يقول:
ـ "آه يا عم… بس ما تخافش، هتاكل منهم في وقت تاني."
ثم أشار إلي ورشة  قبل أن يكمل طريقه:
ـ "دي بقى ورشة المهندس يوسف النجار… راجل شهم وجدع وسكّره، هتشوفه كتير"
واصل حديثه وهو يلوّح بيده يمنة ويسرة، يعرّفه على المقاهي والمحلات وكأن الحارة بأكملها كتاب مفتوح بين يديه. وحين بدت الورشة الكبيرة في نهاية الشارع، أشار إليها قائلاً:
ـ "واللي إحنا داخلين عليها دلوقتي… دي ورشة عامر البرّاق، المكان اللي أنت جاي تشتغل فيه."
حين بلغ "عبد الله "وزياد باب الورشة، رفع الأوّل صوته بتحيةٍ واثقة:
ـ "السلام عليكم."
رفع" عامر" رأسه من فوق الدفتر، وقد ارتسمت على محيّاه ابتسامة واسعة، وقال بنبرةٍ مفعمة بالودّ:
ـ "وعليكم السلام يا هندسة… نورت يا عبد الله أنت واللي معاك."
ابتسم" زياد" بخجلٍ بسيط وهو يمدّ يده ليسلّم قائلاً:
ـ " ده نور حضرتك ،أنا زياد عثمان… صاحب عبد الله."
صافحه "عامر" بحرارة، وقال بابتسامةٍ صافية:
ـ "أهلاً يا بني… ورشة البرّاق اتشرّفت بيك."
ثم التفت إلى عبد الله وهو يشير بيده:
ـ "هات لنا كراسي من جوّه يا عبد الله، وتعال اقعد أنت وصاحبك."

تحرّك عبد الله بخفة إلى الداخل، وبعد لحظات عاد يحمل كرسِيَّين معدنيَّين، وضعهما أمام الطاولة الخشبية حيث يجلس عامر. جلس الاثنان، بينما عامر يتأمّلهما بعينٍ لا تخطئ تفاصيل الشباب.
قال "عامر" وهو يبتسم ابتسامة ماكرة:
ـ "هاه… جايين تشتغلوا ولا هتقعدوا تبصّوا للمكان؟"
ارتبك زياد قليلًا، رفع حاجبيه بدهشةٍ حقيقية وقال في نفسه: إيه الراجل ده ؟ عرف إزاي إني جاي لشغل؟ 

قاطع دهشته ضحكات "عبد الله" وهو يقول بمرح:
ـ "والله أنا جاي عشان أشتغل يا عمي، بس أكلني الأول… أنا طالب تعبان ولسه راجع من الجامعة."
انحنى "عامر" للخلف، وأطلق ضحكة قصيرة قائلاً:
ـ "طب ما نقفلها ونفتح مطعم بدل الورشة… إيه رأيك يا هندسة؟"
سايره "عبد الله" على الفور وهو يلوّح بيده:
ـ "بيكسب المطعم ده علي كده… ولا نعمل مشروع تاني؟"
"عامر" بنفس النبرة المرحة:
ـ " هاعمل دراسة وأقولك بعد أسبوع."

انفجر الاثنان بالضحك، ضحكة صافية صدحت في أجواء الورشة، بينما زياد ظل جالسًا يتأمل الرجل في صمتٍ عجيب. لقد سمع عنه كثيرًا من عبد الله: كبير العائلة، كبير الحارة، رجل جدٍّ وصرامة، بُنيت حياته بجهده من الصفر، وقراراته تُعتبر كلمة فاصلة بين الجميع. كان يتخيّله رجلاً جامد الملامح، قصير الكلام، يفرض هيبته بالصمت. لكن ما رآه أمامه كان مختلفًا تمامًا: رجل مهيب، نعم، لكن ملامحه مشرقة بالطمأنينة، وصوته يحمل مزيجًا من الحزم والمرح، يضحك من قلبه، ويُشعرك بالقرب مهما كانت المسافة.

استغرق زياد في شروده، حتى باغته صوت "عامر" بنبرة هادئة:
ـ "مالك يا بني؟"
انتفض "زياد "قليلًا، ثم ابتسم وهو يهزّ رأسه نافيًا:
ـ "لا… مفيش حاجة."
أمال "عامر" رأسه وهو ينظر إليه بتركيز، ثم قال:
ـ "ها بقى… جاي ليه يا هندسة؟"
أخذ "زياد" نفسًا قصيرًا، وقال بصدقٍ وهدوء:
ـ "بصراحة يا حاج… أنا حابب أتدرّب في ورشة حضرتك، زي عبد الله."
لمعت عينا "عامر" بدهاءٍ لطيف وهو يرد:
ـ "بس ما تقولش زي عبد الله ،عشان بيرفعلي الضغط."
انفجر "زياد" ضاحكًا وهو يقول:
ـ "خلاص… بلاها عبد الله."
رفع "عبد الله "حاجبيه وهو يقول متصنّعًا الغضب:
ـ "دلوقتي بلاها عبد الله؟! أومال مين كان بيتحايل عليا عشان اجيبه معايا ؟"
رفع "زياد" رأسه إلى السماء مصطنعًا الجهل، وقال بنبرة بريئة:
ـ "ماعرفش."
تدفّقت ضحكة "عامر" وهو يشير إليهما قائلاً:
ـ "بس يا عيال… الورشة هتنور بيك يا زياد. ادخل مع عبد الله، وهو يعرّفك على إخواتك اللي هتشتغل معاهم، وهما هيفهّموك كل حاجة."
اتسعت ابتسامة "زياد"، وعيناه امتلأتا بالامتنان وهو يقول:
ـ "مش عارف أشكر حضرتك إزاي؟."
قال "عامر" بنبرة هادئة، مليئة بالتشجيع:
ـ "اشتغل كويس… اتعلّم بسرعة… ونجاحك يبقى الشكر اللي أنا عايزه."
ابتسم عبد الله وهو ينهض مع زياد، والاثنان يحيطهما شعور بالجدية الممزوجة بالمرح. دخلا إلى الورشة، بينما بقي عامر جالسًا يتأمل الشارع بهدوء، وكوب الشاي في يده.

كان عامر البرّاق معروفًا بين الجميع بروحه الطيبة، وقلبه العامر بالودّ، رغم هيبته التي لا ينازعها أحد. لم يكن يكتفي بكونه صاحب ورشة، بل كان أبًا للشباب، يفتح أبوابه لكل من أراد أن يتعلم أو يعمل. كان صلبًا في الحق، لا يجامل حين يتعلّق الأمر بالعمل أو الأمانة، لكنه في الوقت ذاته لا يترك مناسبة إلا ويزرع فيها دعابة أو كلمة طيبة، فيغدو حضوره ظلّاً ظليلًا على كل من حوله.
.........
"لم تكن الحياة سهلة، لكنها لم تكن تنوي أن تشتكي.
اعتادت أن تخبّئ الوجع خلف ابتسامة، والخذلان خلف كوب شاي تعدّه بإتقان.
في عينيها بريق امرأة لم تأخذ وقتها لتتدلل، وفي قلبها صبر أنضجته المسؤولية مبكرًا."
.......

في هذا المساء، وبعد أن أسدل الليل ستائره الثقيلة على الحارة، بدا البيت ساكنًا على غير عادته. لم يكن فيه ضحكات الأخوات المعتادة، ولا نقاشات الدراسة التي تملأ الأركان بالحيوية. كان الصمت سيد الموقف، يقطعه بين الحين والآخر صوت خافت لصفحةٍ تُقلب أو نفسٍ عميق يُطلقه أحدهم.
في غرفة النوم المشتركة، تمددت نور على سريرها، وقد غلبها الإرهاق بعد يومٍ طويل، فغرقت في نومٍ هادئ، أنفاسها منتظمة كإيقاع موسيقى مطمئنة. على المكتب الصغير عند النافذة، جلست هنا منحنية فوق كتبها، عيناها تتابعان السطور بتركيزٍ شديد، وقلمها يسطر الملاحظات بسرعةٍ تدل على اجتهادها وإصرارها. الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الصغير ألقى بظلالٍ واهنة على وجهها، كاشفًا عن التعب الذي بدأ يتسلل إلى ملامحها رغم محاولتها التغاضي عنه.

أما رقية، فقد اتخذت مكانها في الصالة، واقفة أمام طاولة صغيرة وضعت عليها كومة من الملابس النظيفة. كانت يداها تتحركان بمهارة فوق المكواة، تمسدان القماش وتفردانه، كأنها تُخرج من بين أنفاس الحديد الساخن حياةً جديدة للملابس. ملامحها هادئة، لكن في داخلها تياراتٌ من التفكير المتشابك؛ لم تكن تترك لنفسها فرصة لالتقاط الأنفاس، فكل ما يشغلها هو أن يظل بيتها متماسكًا وإخوتها مطمئنين.
قطع سكون البيت صوت خطواتٍ بطيئة تأتي من الممر، فرفعت رقية رأسها قليلًا، لتجد سيف يخرج من غرفته بخطواتٍ مترددة. كان شاحب الوجه، عيناه تحملان شيئًا من القلق، أو ربما توترًا لم تُخطئه عينا أخته. ابتسمت له على الفور، محاولةً أن تخفف عنه ما قد يثقل صدره، وقالت بصوتٍ حانٍ:
– "إيه يا حبيبي، جعان؟ أجهزلك أكل؟"
هز "سيف" رأسه بسرعة، وعيناه تتجنبان النظر المباشر إليها، وردّ بنبرةٍ أقرب للجدية:
– "لأ، مش جعان… بس عايز فلوس الدروس، الشهر قرب يخلص."
لم تتغير ملامح رقية، بل ازدادت ابتسامتها اتساعًا وكأنها كانت تنتظر هذا الطلب. وضعت المكواة جانبًا، ثم قالت بنبرة هادئة تحمل في طياتها مغزى خفي:
– "دفعتهم امبارح يا حبيبي."
ارتبك" سيف"، وحدقت عيناه فيها باستغراب، كأنه لم يفهم ما قالته لتوها، ثم تسلل التوتر إلى صوته وهو يسألها:
– "دفعتيهم؟ إزاي؟"
عادت" رقية "إلى عملها بهدوء، وهي تتابع كوي قميصٍ أبيض بعناية، ثم قالت دون أن ترفع رأسها:
– "كنت معدية من قدام السنتر، وكان معايا الفلوس، قولت أدخل أدفعهم بالمرة… بدل ما يتصرفوا مني."
لم يكن وقع كلماتها عاديًا على قلب سيف، إذ فجأة علت نبرة صوته بلا مقدمات، وكأن شرارة غضبٍ اشتعلت فيه:
– "وليه يا رقية يعني؟ مانا كنت هدفعهم! أنا صغير عشان تدخلي إنتِ تدفعيلي؟!"
رفعت رقية عينيها نحوه، نظرة ثابتة خالية من الانفعال، ثم أغلقت المكواة ببطء ووضعتها جانبًا، كأنها تحاول أن تحمي نفسها من عدوى غضبه. قالت بصوتٍ منخفض يحمل دفئًا:
– "مين قال إنك صغير؟ بالعكس، أنت بالنسبالي راجل وسيد الرجالة كمان… بس مافيش داعي لعصبيتك يا سيف. دي حاجة عادية خالص. حتى والدة واحد من زمايلك كانت هناك برضوا بتدفع لابنها وبتسأل على مستواه."
رد عليها بعنادٍ وصوتٍ أعلى:
– "أيوه، عشان دي أمه! فعادي."
قالت وهي ما تزال محافظة على هدوئها رغم حدة كلماته:
– "وأنا أختك… فعادي."
لكن صوته ارتفع أكثر، ممتلئًا بتمردٍ غريب عليها:
– "لأ، مش عادي! أنتِ مش ولي أمري… ولا عشان بتصرفي عليا يبقى تتحكمي فيا. مانا قولتلك قبل كده، أشتغل وأصرف على نفسي وأنتِ اللي مش عايزة."

في تلك اللحظة، دوى صوته العالي في البيت، فأفاقت نور من نومها بخضة، واتسعت عيناها في خوف، بينما خرجت هنا مسرعة من غرفتها وهي ممسكة كتابها بين يديها، ملامح الدهشة مرسومة على وجهها. توقفت الأختان عند باب الصالة، تنظران إلى المشهد بذهول: سيف يواجه رقية بوقاحة لم يعتاداها منه.
كانت كل الأنظار متجهة نحو رقية، كأن الجميع ينتظر منها الانفجار. هي التي اعتادت دومًا أن تضع حدودًا صارمة لتمرد إخوتها، أن ترفع صوتها إن تجاوز أحدهم الخطوط. لكن ما حدث كان عكس المتوقع تمامًا.
وقفت رقية ثابتة، نظراتها تتأمل سيف دون غضبٍ ظاهر، فقط شفتاها تتحركان بخفوتٍ غير مسموع، وكأنها تردد أذكارًا أو تستغفر لكي تحافظ علي هدوءها. ظلّت لثوانٍ تغالب نفسها، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة هادئة، ابتسامة لم تكن خالية من الألم، وقالت وهي تتقدم نحوه بخطواتٍ واثقة:
– "مين جاب سيرة الفلوس دلوقتي؟ أنا عمري ما اتحكمت فيك يا سيف… وأنا مش ضد شغلك يا حبيبي، بالعكس. بس دلوقتي إنتَ في تالته ثانوي، ومحتاج تركز على دراستك. ويوم ما تخلص، اشتغل براحتك ياعن، وهات فلوس وأنا هستلف منك كمان. وبالنسبة إن دخلت السنتر ودفعت أنا الفلوس بدالك… فحقك علي عيني. الموضوع ماكنش مقصود، جت صدفة. لسه زعلان من رقية؟"

أنهت كلماتها وهي تضع يدها برفق على كتفه، تربت عليه كأنها تحاول أن تزيل عن صدره الغضب.
لكن سيف ظل واقفًا مكانه، ملامحه متصلبة على غير العادة، عينيه مشتعلة بتوترٍ غريب. لم يتفوه بكلمة واحدة، اكتفى بأن استدار بعنف ودخل غرفته، وأغلق الباب خلفه بقوةٍ بدت كجرس إنذار.

ساد الصمت بعده، لحظة طويلة ثقلت على الجميع. كانت نور على وشك أن تنادي عليه، لكن رقية رفعت يدها في هدوء، إشارةً منها أن تتركه. عندها تنهدت نور بغضبٍ مكتوم، وقالت بعصبية:
– "ده واد قليل الأدب! ماعرفش جراله إيه بقاله فترة، ماحدش مالي عينه."
أما "هنا" فكانت أكثر صدمة، وجهها ممتقع وهي تهمس بدهشة:
– " سيبتِيه يكلمك كده إزاي يا رقية؟"
لكن رقية لم ترد عليهما مباشرة، بل نظرت إليهما بعينيها الهادئتين، ثم قالت بصوتٍ منخفضٍ وكأنها تنقل الحديث لموضوعٍ آخر:
– "بكرة الجمعة، صح؟"
تبادلت الأختان النظرات بدهشة، ثم أجابت "نور" مترددة:
– "آه."
ابتسمت" رقية" ابتسامة صغيرة وهي تتجه نحو غرفتها، وتقول بنبرةٍ عملية حاسمة:
– "يعني مافيش جامعة. يبقى واحدة تخلص الهدوم اللي عايزة تتكوي، وواحدة تقفل الباب والشبابيك… تصبحوا على خير."
تركتهم خلفها ودخلت غرفتها، تغلق الباب بهدوء، تاركة الأختين في حالة من الذهول.

وقفت "هنا" تحدق في الفراغ بصدمة، قبل أن تلتفت إلى نور وتسألها بخوفٍ مكتوم:
– "هي كده مش كويسة… صح؟"
أجابت "نور" وهي تعقد ذراعيها، نبرة صوتها تحمل ثقل المعرفة:
– "رقية لو سابت عصبيتها تتفجر على سيف… ماكنش هيبقى فيه فيه حتة سليمة فيه. اللي عملته دلوقتي ده دلوقتي،هدوء ما قبل العاصفة."
ابتلعت "هنا "ريقها بصعوبة، ثم قالت:
– "طب وهنعمل إيه؟"
أجابت "نور "ببرودٍ متعمّد:
– "ولا حاجة. مش هنعرف نتدخل. بس المهم مانزودش إحنا عليها المشاكل. رقية مهما حصل مش هتسيب سيف بعد قلة أدبه دي."

تنهدت هنا، ثم أعادت تشغيل المكواة وجلست تكمل ما بدأته رقية، بينما اتجهت نور نحو الباب لتغلقه جيدًا، وتأكدت من الشبابيك، ثم جلست بجانب أختها. البيت عاد هادئًا كما كان، لكن صمت ما بعد العاصفة ظل يحوم في أركانه، كأنه ينذر بأن الغد قد يحمل شيئًا أثقل.
.....
ما إن أغلقت رقية باب غرفتها خلفها حتى أسندت ظهرها إليه، كأنها تبحث فيه عن سندٍ يخفف ثقلًا هبط فجأة على قلبها. أغمضت عينيها للحظة، تتردد في أذنيها الكلمات التي تفوّه بها سيف منذ قليل، كلمات حادة كالسكاكين، لم تجرؤ يومًا أن تتخيل أنه سيوجهها إليها.

شعرت بشيءٍ غريب يضغط على صدرها، مزيج بين خذلانٍ ووجعٍ ودهشة. هي التي كرست حياتها منذ وفاة أمهم كي لا يشعروا بالحرمان، هي التي كانت تقوم بدور الأخت والأم معًا، كيف له أن يقول لها بكل بساطة: "أنتِ مش ولي أمري"؟

تقدمت بخطواتٍ بطيئة نحو سريرها وجلست على حافته، تمسكت بغطائه بين يديها كأنها تبحث عن شيءٍ تتشبث به. رفعت رأسها إلى السقف، الدموع تتجمع في عينيها لكنها تقاوم السقوط، ليس لأنها لا تريد البكاء، بل لأنها تشعر أن البكاء استسلام، وهي لا تسمح لنفسها بالضعف أمام أي كلمة، حتى ولو جاءت من أقرب الناس إليها.
جلست رقية على طرف السرير للحظات طويلة، كأنما تثبّت أنفاسها حتى لا تتناثر في الغرفة الضيقة. لم يكن في الغرفة سوى ضوء خافت يتسلل من بين الستارة، يلقي على الحائط خطوطًا مرتجفة تشبه ملامح قلبها المتعب. رفعت رأسها فجأة، فوقع بصرها على صورةٍ قديمة مُعلّقة فوق مكتبها الصغير؛ صورة تجمعها بأمها وهي طفلة في الثامنة، تقف بجوارها بعينين واسعتين ممتلئتين بالسعادة.
مدّت يدها لتلمس إطار الصورة بأنامل مرتجفة، كأنها تحاول أن تلمس وجه أمها الغائب. لحظتها، انزلق عقلها إلى الوراء، إلى سنوات بعيدة، حين كان كل شيء أوضح وأقسى في آنٍ واحد.

كانت طفلة في الثامنة وبضعة أشهر، صغيرة الجسد لكن بروح امرأة تحمل فوق كتفيها بيتًا كاملًا. دخلت على أمها ذات صباح فوجدتها جالسة على السرير، تمسح دموعها بمنديل. اقتربت منها رقية بحذر، وقلبها يسبق خطواتها، ثم قالت بصوتٍ يرتعش:
_"ليه يا ماما… ليه؟ أنا كنت بقولك ناخد إخواتي ونمشي من هنا… وانتِ هتجيبي أخ كمان؟"
رفعت الأم رأسها بدموعٍ لا تنتهي، نظرت إلى طفلتها كأنها ترى فيها مرآة عمرها كله. حاولت أن تبتسم رغم انكسارها وقالت بصوت مبحوح:
_"مش بإيدي يا رقية… خلاص بقيت حامل. أمر الله يا بنتي. بس يمكن لما يعرف إني حامل يتغير."
رفعت "رقية" رأسها بسرعة، عيناها تلمعان بنارٍ أكبر من سنها وقالت بجدية امرأة ناضجة:
_"يتغير؟ والمرة دي هيبقى الضرب بأي طريقة."
في تلك اللحظة انفتح باب الغرفة بعنف، ودخل محسن، صوته يسبق خطاه الغليظة وهو يقول ساخرًا:
_"بالطريقة اللي تعجبك يا ست رقية!"
قفزت الأم واقفة أمام طفلتها كأنها درعٌ يحميها من العاصفة، وقالت بخوف:
_"مش قصدها يا محسن."
تقدّم نحوها بعصبية، عينيه تتنقلان بين زوجته وطفلته، وصاح:
_"وانتِ لابسة كده ورايحة فين؟ مش قايل محدش يخرج من البيت!"
ردت وهي تبتلع ريقها:
_"أنا تعبت شوية وروحت كشفت."
قهقه بسخرية:
_"مانتِ زي القطر أهو."
ابتلعت ريقها ثانية وقالت بتوتر، تحاول أن تُخرج الكلمات قبل أن يفقد أعصابه:
_"الدكتورة قالت إني حامل في شهرين ونص."
توقف في مكانه، نظر لها بصدمة، ثم أمسك يديها بعنف وقال بعصبية متقطعة:
_"حامل! وهتجيبيلي بنت رابعة؟"
انكمشت على نفسها كطفلةٍ خائفة وقالت بسرعة، تكذب وهي ترجوه أن يهدأ:
_"لا لا… الدكتورة قالت ولد."
هدأت ملامحه قليلًا، لكنه لم يتوقف عن العصبية تمامًا وقال بحدة:
_"والله كل اللي ييجي منك زي الزفت زي التلاتة اللي جبتيهم. أنا خارج تاني ولو عرفت إنك خرجتي هتشوفي وشّ مش هيعجبك."
ثم خرج وأغلق الباب خلفه بالمفتاح، تاركًا وراءه صدى كلماته يرنّ في أذن الصغيرة.
أسرعت رقية إلى أمها، ألقت بنفسها في حضنها وهي تبكي بحرقة وتقول:
_"يارب يموت!"
رفعت الأم رأسها، نظرت إلى طفلتها بنظرة حزن وعتاب وقالت بجدية رغم ارتجافها:
_"عيب يا رقية… ده أبوكِ."
أجابت الصغيرة بسخرية حزينة، تمسح دموعها بكمها:
"آه عارفة."

انتهت الذكرى فجأة كما بدأت، تركت في قلب رقية ارتجافة لم تهدأ. رمشت بعينيها لتستعيد حاضرها، فإذا بها ما زالت جالسة على حافة السرير، يدها على إطار الصورة، دمعة ساخنة انزلقت على خدها.
ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تتذكر كم مرةٍ وقفت أمام والدها، تحاول أن تقي أمها من غضبه في فترة حملها، تخشى أن يتأذى الجنين أو أن يسقط الحمل. كانت طفلة لا تريد أخًا جديدًا، لكن حين جاء سيف إلى الدنيا تحوّل في قلبها إلى قطعة منها، ابنًا لا أخًا، وصرّت على أن تكون له أمًا قبل أن تكون له أختًا.
مسحت دموعها بظهر يدها، نظرت مرة أخرى إلى الصورة وقالت في سرّها:
" لو يعرف رقية عملت إيه عشانه !."
ثم أغمضت عينيها لوهلة طويلة، تحاول أن تستجمع ما تبقى من قوتها، قبل أن تستسلم للهدوء العميق الذي سبق عاصفتها الخاصة.

 بينما حالة " سيف " كانت تختلف تماماً ، دخل حجرتة وهو في حالة من التوتر والاضطراب، ثم أخذ خطوات متسارعة داخل الغرفة الضيقة، يتحرك من زاوية إلى أخرى وكأنه أسير أفكاره الثقيلة. كانت عيناه تتحركان بقلق، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، وكأن شيئًا يطارده داخليًا.
جلس على حافة السرير لثوانٍ قليلة، لكن سرعان ما نهض مرة أخرى وبدأ في السير جيئة وذهابًا. في داخله كانت الأسئلة تتناوب على عقله بإلحاح مؤلم:
_" رقية خدت بالها إن درس الفيزياء لسه بسعره القديم؟ ولا صدقت الكذبة اللي قلتها وإن سعره زاد؟طب هي سألت المدرس؟ يمكن تكون ما سألتش وخلاص عديت... ولا تكون دققت في الموضوع؟
ضغط أصابعه على جبينه وكأنه يحاول أن يوقف تدفق الأفكار الذي ينهال عليه بلا رحمة.
واصل حديثه لنفسه بصوت منخفض، متقطع:
_"طب... طب هي عرفت إني ماروحتش الإنجليزي؟ ولا ما لحظتش؟ طب لو عرفت سكتت ليه؟ "

كانت هواجسه تلتهمه، وكأنه يحفر في ذهنه حفرًا لا نهاية لها. كل سؤال يولد سؤالًا آخر، وكل فكرة تقوده إلى فكرة أعمق وأكثر إيلامًا. ومع كل هذا التفكير شعر بصداع حاد يضرب رأسه بعنف، كأن مطارق ثقيلة تهوي على جمجمته.
أغلق عينيه بإحكام، ووضع كفيه على رأسه محاولًا أن يكبح هذا الألم الذي يزداد لحظة بعد لحظة. بدأ يتنفس ببطء محاولًا تهدئة نفسه، يتمتم:
_"اهدَى يا سيف... اهدى... الصداع هيروح... هيروح."
لكن الصداع كان يزداد حدة، والدوار بدأ يتسلل إلى رأسه، حتى شعر أن الأرض من تحته غير ثابتة.
مد يده المرتجفة إلى هاتفه الموضوع على المكتب، أمسكه بسرعة وضغط على اسم "إيهاب". لم ينتظر كثيرًا حتى سمع صوت صديقه عبر الخط.
قال بصوت متعب، مبحوح:
_"إيهاب... عندي صداع شديد يا ابني... مش قادر... قولي إسم الدوا اللي بتخده للصداع، وأنا هروح الصيدلية أجيبه."
على الطرف الآخر، جاءه صوت إيهاب مملوءًا بالأسى وكأنه يشعر بما يعانيه سيف:
_"ألف سلامة عليك يا حبيب أخوك... ما تتعبش نفسك. أنا كنت سايبلك حباية في جيب الجاكت بتاعك، اللي كنت لابسه النهاردة."
لمعت ابتسامة صغيرة على وجه سيف وسط الألم، كأن كلمات إيهاب أنقذته في لحظة يأس. رد بخفوت:
_"جدع والله يا عم... شكراً."
وأغلق المكالمة.
توجه بخطوات ثقيلة نحو الجاكت الملقى على الكرسي بجانب المكتب، مد يده المرتعشة داخل الجيب الجانبي، وبالفعل وجد الحبة الصغيرة بين أصابعه. نظر إليها لثوانٍ قصيرة ثم رفع كتفيه بلا مبالاة، كأنه وجد طوق النجاة. وضعها في فمه بسرعة، تناول بعدها رشفة كبيرة من كوب ماء موضوع على الكومود بجوار السرير.
جلس للحظات مترقبًا، منتظرًا أي تحسن في حالته. وبعد بضع ثوانٍ شعر أن موجات الصداع العنيفة بدأت تخف تدريجيًا، وأن رأسه صار أخف قليلًا، كأن غيمة ثقيلة كانت ضاغطة عليه وبدأت تنقشع. أخذ نفسًا طويلًا وألقى بجسده المنهك على السرير.
مدد جسده فوق الفراش وترك عينيه تنغلقان ببطء.
................
انقضى الليل بكل ما حمله من أحداثٍ ثقيلة، وابتلع الصمتُ ما تبقى من همساتٍ ومواجع داخل بيوت الحارة. هدأت الأصوات، وأُطفئت الأضواء، واستسلم الجميع لرهق يومٍ طويلٍ مضطرب. ومع أول خيوط الفجر، عاد السكون يغلف الأزقة، وكأن الليل قد طوى ما فيه وألقى به خلف ظهره.

ومع حلول صباح الجمعة، بدأت ملامح النهار تتسلل ببطء، أصوات المؤذنين تتعاقب من المآذن القريبة، والهواء العليل يطرق النوافذ بخفة، فيما جلست بعض النسوة أمام أبواب بيوتهن في انتظار الخبز الطازج. كان صباحًا مختلفًا في رتابته وهدوئه، كأنه يريد أن يمحو أثر البارحة بما فيها من توترٍ وانفعال.
في بيت عائلة البرّاق، كان مهاب لا يزال غارقًا في نومه، جسده مثقل من سهر امتد حتى ما بعد الفجر. بدا وكأنه يحاول تعويض ما فاته من راحة، إلى أن قطع رنين الهاتف صمت الغرفة…
مدّ يده بتثاقل نحو الطاولة بجوار السرير، سحب الهاتف دون أن يفتح عينيه تمامًا، وضغط على زرّ الإجابة وهو يتمتم بصوت مثقل بالنعاس:
– "السلام عليكم."
جاءه صوت أنثوي رقيق، فيه لمحة ثقة:
– "وعليكم السلام يا مهاب."
ارتبك للحظة، فتح عينيه نصف فتحة وهو يهزّ رأسه محاولًا أن يستوعب، ثم نظر إلى الشاشة رقم لم يكن مسجل، ولكن  الاسم الظاهر على برنامج "تروكولر": شهد البرّاق.
ارتفع صوته فجأة باندهاش ممتزج بعدم ارتياح:
– "شهد؟ خير! بيتكم بيولّع ولا إيه؟"
ضحكت بخفة، كأنها تستمتع برد فعله:
– "لأ، الحمد لله البيت كويس."
شدّ ملامحه وهو يعتدل قليلًا في جلسته على السرير:
– "وطالما كده… بتتصلي بيا ليه؟"
ردّت بنفس النبرة المبطّنة:
– "يعني قولت أتطمن عليك."
زفر بحدة، وقال بتهكّم متعمد:
– "الساعة تمانية الصبح… يوم الجمعة! ده وقت تطمنّي؟"
ضحكت من جديد، وكأنها لا تعبأ بتجهمه:
– "شوفت؟ أنا بصحى بدري، مش زيك كسلان."
نفخ في ضيق، وألقى رأسه للخلف على الوسادة وهو يقول بجدية جافة:
– "اخلُصي يا بنت عمي… متصلة ليه؟"
ترددت لحظة، ثم قالت بنبرة مترددة ظاهر فيها بعض المكر:
– "كنت بعزمك على الغدا عندنا بعد صلاة الجمعة."
أطلق ضحكة قصيرة بلا بهجة، وقال ساخرًا:
– "غدا؟! كان ممكن عمي يتصل، مش محتاجة وسطتك… بس ما علينا. مش هقدر والله، بقضي اليوم في البيت هنا… جو عائلي."
قالت بنغمة خفيفة محاولة أن تكسر حدّته:
– "طب ما إحنا من العيلة برضه."
هز رأسه مبتسمًا بسخرية ممزوجة بالرفض:
– "آه طبعًا… بس برضه مش هاجي."
ثم غيّر نبرته فجأة إلى جدّية صارمة معتادة منه، ليقطع عليها الطريق تمامًا:
– "بصي يا شهد… ماتتصليش بيا تاني إلا لو عندكم حريقة، حادثة، مصيبة… وأبوكِ مش لاقي وسيلة يكلّمني بيها. غير كده… ماتتصليش. سلام."
وأغلق المكالمة قبل أن ترد، ثم رمى الهاتف بجانبه على السرير بحركة فيها نفور ورفض قاطع.
ظلّ لثوانٍ يتأمل السقف بعينين نصف مغمضتين، مدركًا تمامًا ما وراء اتصالها، ومدركًا أكثر أن عليه أن يقطع الطريق من البداية بلا مجاملة، فهي تعرف جيدًا أنه يصدّها، وهو يعرف جيدًا أنها تحاول الاقتراب، لكنه لم ولن يسمح.

ابتسم بمرح ساخر، وهو يتدحرج على جانبه محاولًا أن يعود للنوم:
– "منك لله يا شيخة… الواحد نايم بعد الفجر ولسه بدري على صلاة الجمعة."
ضحك بخفة وكأنه يحادث نفسه:
– "ماشي يا بنت المهدي… سايباني كده للنسوان عايزين يستفردوا بيا، بس أنا بقاوم… وهفضل أقاوم."
ثم تغيرت نبرته تدريجيًا، صارت أكثر رقة ودفئًا وهو يتمتم بصدق خرج من أعماقه:
– "لعند لما قلبك يحن… ووقتها هرمي كل أسلحتي… وأستسلم قصاد عيونك." 
أغمض عينيه بعدها، وقد غمره هدوء غريب لم يسببه إلا مرور اسمها في خاطره. كأن مجرد سيرتها كفيلة أن تطفئ كل التوتر بداخله، وتعيده إلى حالة من السكينة النادرة. ابتسم في غفوته، تاركًا الدنيا خلفه، وغرق من جديد في نوم أعمق وأكثر راحة.
 

Knight of novels
Knight of novels
تعليقات