رواية ظل البراق الفصل الثاني عشر
“الحُبّ لا يحتاج ضجيجًا ولا مبالغات، يكفيه حضورٌ صادق، ونيّة طيبة، وكتفٌ يُسندك حين تميل..
هو أن تبقى رغم التعب، وتفهم دون أن يُقال، وتسامح لأن البُعد يؤلم أكثر من الخطأ.”
…..
كانت الغرفة تغمرها إضاءة الصباح الهادئة، لكن هدوءها لم يَجد طريقه إلى قلب شهد، التي كانت تسير في أرجاء المكان بخطواتٍ متوترة، ووجهها يعكس غضبًا لم تُفلح كل محاولاتها في كبحه.
كانت أنفاسها تتلاحق، وعينيها تتأرجحان بين الهاتف الملقى على السرير وبين الأرض كأنها تبحث عن تفسيرٍ لما حدث قبل دقائق. رفعت يدها إلى جبينها في ضيق وقالت بصوتٍ متهدّج:
ـ “هو إيه اللي جراله ده؟ بيتكبر عليّ؟ أنا شهد البراق يتكلم معايا بالطريقة دي؟”
توقّفت لحظة، زفرت بقوة ثم عادت تتحرك في الغرفة كأنها سجينة ضاق بها المكان. تمتمت غاضبة:
ـ” كل مرة أجي أتكلم معاه، يرميلي كلمتين يخلّوني أتحرق من جوّه… لا بارد ولا دافئ! هو فاكر نفسه مين؟!”
كانت كلماتها تتطاير في الهواء كشررٍ صغير، وكل شرارة منها تُشعل بداخلها مزيدًا من الغليان.
من ركنٍ قريب، جاءها صوت أمها الهادئ المائل إلى الضجر:
ـ “اقعدي يا شهد واهدي كده عشان نعرف نفكر بعقل.”
استدارت” شهد” نحوها بحدة، ملامحها مشدودة وصوتها يرتجف بالعصبية:
ـ “فكرنا يا ماما كتير، ومافيش فايدة! هو مش شايفني أصلاً، ولا هييجي اليوم اللي هيبصلي فيه!”
ضحكت” سعاد” بخفةٍ تحمل سخرية، وقالت وهي تميل إلى الخلف باسترخاءٍ مفتعل:
ـ” اللي مش شايفنا يا بنتي نورّيله نفسنا، واللي مش هييجي… إحنا نجيبه بايدينا.”
رفعت” شهد “حاجبيها بدهشةٍ ممتزجة بالتهكم، وقالت بغمزة ساخرة:
ـ “يعني إيه؟ أروح أطلب إيده؟”
انفجرت أمها ضاحكة، ضحكةً فيها من السماجة أكثر مما فيها من الدعابة، وقالت وهي تلوّح بيدها:
ـ” ضحكتيني يا بنت البراق! تعالي بس اقعدي جنبي وانا هقولك نعمل إيه.”
اقتربت شهد وجلست متضايقة، متكئة على ركبتها، بينما سعاد نظرت إليها بنظرةٍ تجمع بين الحنان والدهاء وقالت بنبرةٍ ناعمة:
ـ” أنتِ عارفة إني بحبك أكتر من نفسي، وعايزة أشوفك في بيتك مع اللي بتحبيه، بس بالعقل يا شهد، مهاب مش سهل.”
صمتت قليلًا ثم مالت نحوها أكثر وأضافت بصوتٍ خافتٍ وكأنها تُسرّ لها بسرٍّ خطير:
ـ” وهو مش بيصدّك يا هبلة… هو عامل حساب العيلة، عشان انتِ بنت عمه، لكن مين في الدنيا يقدر يصد شهد بجمالها؟”
لمعت عينا “شهد” ببطء، وانفرجت شفتاها بابتسامةٍ صغيرة ملؤها الغرور، ثم قالت بصوتٍ واثقٍ يختلط فيه الحلم بالغرور:
ـ “بس أنا عايزة مهاب يا ماما، ومش هقبل بحدٍّ غيره. شهد بجمالها دي ماتنفعش تبقى لحدٍّ غير مهاب البراق.”
ضحكت “سعاد “في خبث وهي ترفع يدها تمسح على شعر ابنتها برفق، وقالت ببطءٍ يقطر مكرًا:
ـ “وهتاخديه يا قلب أمك، بس لازم نلعبها صح.”
رفعت “شهد نظرها “بتساؤلٍ مشوبٍ بالترقّب:
ـ” نلعبها إزاي؟”
قالت “سعاد” بثقةٍ وهي ترفع حاجبها بمكرٍ واضح:
ـ “قبل ما تدخلي حياة مهاب، لازم نشيل اللي فيها الأول… ونرميها بعيد.”
قطّبت “شهد” حاجبيها بدهشة وقالت ببطء:
ـ “مش فاهمة… مين اللي في حياته؟”
تنهدت “سعاد “بضيقٍ واضح، ثم قالت بسخريةٍ لاذعة وهي تنظر إلى ابنتها كأنها تراها لأول مرة:
ـ “ده كله ومش فاهمة يا غبية؟”
أكملت وهي تلوّح بيدها في الهواء بنبرةٍ غليظة:
ـ مهاب ابن عامر عاشق لأشهر بنت في الحارة… اللي من كتر الكلام عنها ومحبة الناس ليها، ممكن في يوم يغيّروا اسم الحارة من “حارة البراق” لاسمها!
شهقت “شهد” واتسعت عيناها بدهشةٍ حقيقية وهي تقول بصوتٍ مرتفع:
ـ “مستحيل! بتاعة الفول والطعمية؟! يعني بيصدني أنا.. عشانها؟”
انفلتت من فم “سعاد “ضحكة قصيرة، لكنها لم تكن ضحكة طيبة، بل كانت مزيجًا من حقد وغضب، وقالت وهي تشيح بيدها:
ـ “بس مش هيحصل! مش بعد كل اللي بعمله ،تيجي هي وتدخل بيت عامر وتاخد كل حاجة.”
اقتربت “شهد “خطوة نحوها، وعيناها تمتلأن بالغيرة، وقالت بصوتٍ متوتر:
ـ “طب وهنعمل إيه يا ماما؟ نطلعها إزاي من حياته؟”
ابتسمت “سعاد” ابتسامةً جانبية، نظرةُ مكيدةٍ تلوح في عينيها، وقالت ببطءٍ مقصودٍ وهي تميل نحوها:
ـ “بصي يا بنتي… هما أصلًا بينهم سور وسور، يمنع إنهم يبقوا مع بعض. ده ضغط من ناحيه، نيجي إحنا بقى ونضغط من الناحيه التانية، بس بطريقتنا.”
انعقد حاجبا “شهد “ومالت للأمام في حماسٍ متزايد وقالت بعينين لامعتين:
ـ “قولي يا ماما، قولي أعمل إيه وأنا هعمله!”
ضحكت “سعاد” بخفة، لم تكن ضحكتها هذه المرة إلا وعدًا خفيًا بالدهاء والخراب، وقالت وهي تهمس بمكرٍ يملأ ملامحها:
ـ بصي بقى…
وتلاشى صوتها في الغرفة، بينما شهـد تميل نحوها أكثر، وكأنهما تشتركان في سرٍّ ثقيلٍ تُنبت كلماته بذور مكيدةٍ جديدة…
في الخارج، كان صباح الجمعة لا يزال هادئًا، لكن خلف هذا الهدوء، كانت أول خيوط الغدر تُنسج بخيوطٍ ناعمة داخل بيت آل البراق.
لكن ما لم تكن شهد ولا أمها تُدركانه..
أن الحب لا يولد من خططٍ مرسومة، ولا يُروّى بالمكر والحيلة.
الحب لا يُجبر، ولا يأتي على هوى من يريد امتلاكه.
فهو كالريح، يأتي حين يشاء، ويغادر حين يُهان،
ولا يزرع جذوره في أرضٍ سقَتها النية الفاسدة، مهما بدت خصبة.
……
في حين كانت “سعاد” و”شهد” تَنسُجان خيوط الخديعة في الغرفة المجاورة، كان في الطابق السفلي مشهد آخر من نوعٍ آخر، لا يخصُّ القلوب بل يخصُّ المال والسلطة.
جلس رزق البراق على أريكته الجلدية العريضة، يستند بظهره إلى المقعد في استرخاء محسوب. أمامه طاولة صغيرة عليها كوب قهوة يتصاعد منه بخار خفيف، ورائحة البن تملأ الجو الممزوج بدخان سيجارته. إلى جواره جلس خالد، ابنه الأكبر، بملامح جامدة ونظرة حادة توحي بثقة مفرطة في النفس.
رفع “رزق” عينه من فوق فنجانه وقال بصوتٍ خفيضٍ لكنه يحمل ثِقلَ السلطة:
ــ” ظبّطت كل حاجة؟”
أجاب “خالد” بثقة وهو يميل للأمام قليلًا، كأنه يُقرِّب كلماته لأذن أبيه:
ــ “كل حاجة جاهزة يا حاج، زي ما اتفقنا بالظبط.”
ضاقت عينا” رزق “قليلًا وهو يُدقق في ملامح ابنه، ثم قال بتحذير هادئ:
ــ “مش عايز أي غلط يا خالد… المرة دي الغلطة بمصيبه!.”
ضحك” خالد “ضحكة قصيرة فيها غُرور وقال:
ــ “عيب عليك يا حاج، ده أنا متمّم على كل حاجة بنفسي، الشغل دا لو حصل فيه غلطة يبقى مش أنا خالد البراق.”
أطلق” رزق “زفيرًا بطيئًا من أنفه، ثم ابتسم تلك الابتسامة التي يعرفها كل من تعامل معه؛ ابتسامة تحمل الرضا والتهديد معًا.
ــ” الصفقة دي لو تمت… ياااه، الدنيا هتتبدّل يا خالد.”
رد “خالد”، وقد لمع بريق الجشع في عينيه:
ــ “هتتم يا بابا، الشحنة خلاص جاهزة، وأنا مأمّن على كل حاجة، والناس مبسوطين من شغلنا أوي، خصوصًا المدير بتاعهم… بقى بيكلمني بنفسه دلوقتي.”
ارتسمت على وجه “رزق” نظرة إعجابٍ لا تخلو من الفخر، وقال وهو يشير برأسه بإيماءة رضا:
ــ “واثق فيك يا خالد، شُغلك نضيف، والناس كلها بتتكلم عنك.”
رفع “خالد” حاجبيه وقال بابتسامةٍ متعجرفة:
ــ “تلميذك يا حاج، واللي جاي أحسن… أنا ناوي أزود الشحنات الفترة الجاية، ووقتها هيتبسطوا أكتر.”
وقبل أن يُكمل كلماته، جاء صوتٌ من خلفهما حادًّا، قاطعًا هدوء الجلسة:
ــ “شحنات إيه؟”
التفت الاثنان بسرعة، وكان “عبدالله البراق” واقفًا عند باب الصالة، يرتدي قميصًا مفتوح الأزرار قليلاً، وشعره مبعثر وكأنه استيقظ تواً من نومه. كانت نبرته تحمل شيئًا من الريبة.
تبدلت ملامح وجه رزق للحظة، لكنها لم تَطُل، إذ سرعان ما استعاد اتزانه وقال وهو يضع كوب القهوة على الطاولة ببطء:
ــ “شحنات الشغل يا بني، في إيه يعني؟”
تقدّم “عبدالله “بخطواتٍ هادئة وجلس على المقعد المقابل لهما، نظر إلى خالد ثم إلى أبيه، وقال بلهجةٍ أقرب للتساؤل:
ــ “والشحنات دي هتخلي مين يتبسطوا بالظبط؟”
ألقى “خالد” نظرةً حادة على أخيه وقال بضيق:
ــ “هو انتَ داخل تحقق معانا ولا إيه يا عبدالله؟”
رفع “عبدالله “حاجبه في هدوء وقال بنبرةٍ واثقة:
ــ “لأ مش تحقيق، بس بسأل… يعني عايز أفهم.”
أطلق” خالد “ضحكة قصيرة خالية من المرح وقال:
ــ “طب مانتَ عارف شغلنا، عندنا سوبرماركت كبير، وبنستقبل شحنات مواد غذائية كل يومين تلاتة، إيه الغريب في كده؟”
هز” عبدالله” رأسه ببطء وقال ساخرًا:
ــ “آه ماشي، بس كنت فاكر إن المواد الغذائية دي مش بتخلي الناس مبسوطين بالشكل اللي انت قلت عليه… ولا أنا غلطان؟
ارتفع صوت “خالد “فجأة وهو يقول بنفاد صبر:
ــ “أنتَ بتلف وتدور ليه؟ ما طبيعي يا سيدي لما البضاعة تبقى نظيفة وجودتها عالية الناس هتبسط، في إيه يعني!”
ظل “عبدالله “صامتًا للحظة، عيناه تتحركان بين وجه أخيه ووجه أبيه، ثم قال بهدوءٍ بارد:
ــ” مافيش داعي للعصبية دي يا خالد، سؤال بسيط مش مستاهل كل ده… بس يمكن أنتَ فهمت غلط.”
نهض من مكانه ببطء، عدّل من ياقة قميصه، ثم أضاف قبل أن يتحرك:
ــ “على العموم… ولا كأني سألت.”
قالها وهو يبتسم ابتسامة باهتة وغادر الصالة متجهًا نحو المطبخ، تاركًا خلفه هواءً مشحونًا بالشك.
ظل خالد واقفًا مكانه، قبضته مشدودة، أنفاسه متوترة. قال بغضبٍ مكتوم وهو يشيح بوجهه:
ــ “هو شايف نفسه فاهم كل حاجة! كل مرة لازم يتدخل في اللي مايعنيهوش.”
أشار “رزق” له بيده أن يهدأ، وقال بنبرةٍ منخفضة لكنها مليئة بالتحذير:
ــ” بتتعصب على أخوك ليه؟”
رد “خالد” بنفاد صبر وهو يمرر يده في شعره:
ــ” يعني انتَ مش شايف طريقته؟ داخل علينا كأنه ظابط، ونبرته فيها تشكيك!”
مال “رزق “للأمام، صوته هبط إلى همسٍ خافتٍ لكنه واضح:
ــ” اسمع يا خالد، أنا عارف إنك بتشتغل صح، بس خليك عاقل مع أخوك… عبدالله مش صغير ولا غبي.”
صمت لحظة، ثم أضاف ببطء وهو ينظر في عينيه مباشرة:
ــ لو شك في حاجة، مش هيسيبها غير لما يجيب آخرها… وساعتها إحنا اللي هنتأذي، مش هو.”
تنهد “خالد”، لكن الغرور مازال يغطي ملامحه، قال بنبرةٍ ساخرة:
ــ “ما تقلقش يا حاج، عبدالله مش قدّها.”
أغلق “رزق “عينيه لوهلة ثم قال بصرامةٍ هادئة:
ــ “هو يمكن مش قدّها في القوة، بس قدّها في الذكاء، ودي اللي تخوفني أكتر.”
ساد الصمت للحظة، لا يُسمع سوى صوت عقرب الساعة على الجدار. بخار القهوة الذي خمد منذ قليل صار علامة على أن الوقت يمضي بثقلٍ داخلي.
رفع رزق بصره نحو النافذة الصغيرة، كان ضوء الشمس الصباحي يتسلل بخجلٍ من بين الستائر الثقيلة، فانعكس على وجهه، كاشفًا عن ملامح رجلٍ يعرف تمامًا أي طريقٍ يسير فيه… حتى وإن كان طريقًا مُظلِمًا.
ثم أضاف في نفسه، دون أن ينطقها بصوت:
“اللي بيبدأ نار في بيته… لازم يعرف يطفيها قبل ما توصل لبرا وتحرق الدنيا.”
……………
كان صباح الجمعة يحمل سكونًا مميزًا في بيت رقية، ذلك السكون الذي يسبق دوّي صوت الإمام وهو يتلو آياتٍ من سورة الكهف.
تسرّبت أنفاس البخار من فُوّهة الحلة الموضوعة على النار في المطبخ الصغير، ومعها عبق الطعام الدافئ الذي ملأ المكان برائحة بيتٍ بسيطٍ لكنه عامر بالدفء.
رفعت رقية الغطاء بيديها، تنفّست رائحة الطعام برضا، ثم أغلقت النار بهدوء وهي تمسح جبينها بطرف المنديل المعلّق على كتفها. كانت ملامحها تجمع بين الإرهاق والاطمئنان، كأنها أنهت معركة صغيرة وانتصرت فيها.
في الصالة، كان المشهد مختلفًا تمامًا؛ نور تجلس أمام المرآة تضع طلاء أظافر بلون هادئ، تتأمله كأنها ترسم لوحة صغيرة على أطراف أصابعها. وهنا كانت ممددة على الأريكة، تُقلب في هاتفها بلا هدف، عيناها نصف مغمضتين وابتسامة خفيفة على وجهها تدل أنها غارقة في عالمها البعيد.
خرجت رقية من المطبخ، وهي تمسح يديها في الفوطة المعلقة بجانب الباب، وقالت بصوتٍ مرتفع قليلًا:
ـ “فين أخوكم يا بنات؟”
رفعت” نور “رأسها من أمام المرآة، تبادلت نظرة سريعة مع هنا قبل أن تقول بكسل:
ـ “لسه نايم.”
أخذت “رقية” نفسًا طويلًا وهي تحاول كتم ضيقها، ثم قالت بنبرة تحمل صبرًا اعتادت عليه:
ـ” طب يلا جهّزوا نفسكم، قرآن الجمعة هيبدأ، ويادوب نلحق نروح لخالتكم.”
“هنا “نهضت بسرعة وهي تقول بحماسٍ طفولي:
ـ” هجهز في ثواني، متخافيش.”
ثم اتجهت نحو الغرفة وهي تضحك بخفة، تاركة وراءها رقية التي هزّت رأسها مبتسمة رغم إرهاقها.
أما “نور” فالتفتت نحو أختها وقالت بهدوء وهي تميل برأسها قليلًا:
ـ “ادخل أصحيه تاني يا رقية؟.”
نظرت إليها رقية بنظرة ممتزجة بين الحزم والعجز، ثم قالت وهي تلوّح بيدها:
ـ “لأ، هاتي تليفونك عشان تليفوني فاصل شحن.”
أعطتها” نور” الهاتف بعد أن نهضت، فقالت لها رقية وهي تشير نحو باب الغرفة :
ـ ” أدخلي غيري هدومك بقى، عشان مانتأخرش.”
دخلت” نور “غرفتها، فيما جلست رقية على الكرسي الخشبي الصغير في الصالة، وضغطت على رقمٍ محفوظٍ
انتظرت لحظات، حتى جاءها صوته المألوف عبر الهاتف.
ـ” السلام عليكم يا دكتورة.”
ابتسمت وقالت:
ـ “وعليكم السلام يا أخويا.”
ضحك “يوسف” وقال بخفةٍ :
ـ “ماحدش بيعرف يكلمني كده غيرك، إيه؟ مش جايين ولا إيه؟”
قالت” رقية” بابتسامةٍ فيها مودة وسخرية:
ـ “عشان أمك تفضحنا في الحارة لوماجيناش؟”
ضحك وقال:
ـ “والله تعملها.”
أردفت بجديةٍ خفيفة:
ـ” المهم، نزلت روحت المسجد ولا لسه؟”
ـ “لسه، هنزل بعد شوية.”
ـ “طب كويس، أول ما نخرج أنا والبنات هرنلك.”
ـ” أجي آخدكم يعني؟”
قالت بسرعة :
ـ “ليه؟ جايين من آخر الدنيا؟ ركّز معايا يا يوسف.”
ضحك وقال بنفس نبرة السخرية الخفيفة:
ـ” طب قولي يا أختي بدل ما تتعصبي.”
تنهدت وقالت بنبرةٍ يغلب عليها القلق والحرص:
ـ “بص يا يوسف، أول ما نخرج تعال على هنا، صحّي اللي نايم جوه ده، ونزله يصلي معاك. عشان أنا لو دخلتله دلوقتي مش هقدر أمسك أعصابي عليه.”
صوته تبدّل فجأة، صار أكثر جدية وقلقًا:
ـ “سيف؟ مجاش يصلي آخر جمعتين، وماشفتوش بقالي أسبوع، هو ماله يا رقية؟”
قالت بإيجاز وهي تتهرب من ألمٍ في صدرها:
ـ “لو كنت أعرف ماله يا ابن خالتي، ماكنتش كلمتك. هتيجي؟”
رد بحسمٍ مطمئن:
ـ “طبعًا هاجي، أول ما تنزلوا كلّميّني، وأنا هاجي أشوف هو في إيه.”
ـ” تمام.”
ثم أنهت المكالمة وأخذت نفسًا عميقًا كأنها أزاحت عن كتفيها حملًا ثقيلاً، واتجهت لغرفتها لتجهّز نفسها.
لم تمر سوى دقائق حتى كانت الثلاثة يقفن في الصالة، جاهزات للخروج.
نور تنظر لهم بحماس، وهنا ترتب حجابها أمام المرآة الصغيرة بجانب الباب، بينما رقية تمسك كيسًا كبيرًا بيديها.
قالت “هنا “بمرحٍ وهي تشير إلى الكيس:
ـ “يعني إحنا معزومين والمفروض ترتاحي من المطبخ، فانتِ تعملي حلة وأكل وحركات كمان؟”
ضحكت “رقية” وهي ترفع حاجبها بمكرٍ خفيف:
ـ” ماتبقيش تاكلي منها يا هنايا، كلي من أكل العزومة يا قلبي.”
ضحكت البنتان، فقالت “رقية” بحزمٍ لطيف:
ـ “يلا بقى، انزلوا عشان نخلص.”
نزلت نور أولاً بخطواتٍ رشيقة، تبعتها هنا وهي ما زالت تضحك، أما رقية فالتفتت نظرةً أخيرة نحو باب غرفة سيف، نظرةً تجمع بين القلق والدعاء، ثم أغلقت الباب وراءها ونزلت.
في الخارج، كان الجو دافئًا رغم نسمةٍ خفيفةٍ تمرّ بين أزقة الحارة القديمة.
صوت القرآن يتداخل مع أصوات المارة
سارت رقية وأختاها في صفٍ واحدٍ هادئٍ نحو بيت خالتهم، وكل خطوةٍ منهن تحمل دفئًا وسكينةً خفيفةً تخصّ أيام الجمعة.
في منتصف الطريق، رن هاتف رقية، نظرت إلى الشاشة فابتسمت وقالت للبنتين:
ـ “اهو جه يوسف.”
لم تمضِ لحظات حتى ظهر أمامهم يسير بخطواتٍ سريعة، ملامحه كعادته مزيج من الجدية والمرح.
اقترب وهو يقول بصوتٍ مرتفعٍ مازحًا:
ـ “لو مديتوا إيدكم على الأكل قبل ما نيجي، هزعل… واجيب ناس تزعل.”
فردّت “رقية” بخفةٍ وهي تكمل طريقها:
” روح شوف اللي نايم وطلّعه من الكهف.”
ضحك واكمل كلٌ منهم طريقه، هو نحو بيتها، وهنّ نحو بيت الخالة الذي لم يكن بعيدًا.
ومع خطواتهم، كانت الحارة تمتلئ أكثر برائحة الجمعة؛ بخور المساجد، وهدوء البيوت، وصوت الآيات التي تعلو من كل زاوية، كأنها تُعلن بداية يومٍ جديدٍ يحمل في طيّاته الكثير.
حين وصلت رقية وأختاها إلى بيت خالتهن،توقّفن أمام البيت الذي يعرفن كل تفصيلة فيه، كأن خطواتهن تحفظ درجات سلمه عن ظهر قلب. بيت خالتهن المكوّن من ثلاثة طوابق بدا اليوم أكثر سكونًا من العادة، لكن في قلب هذا السكون حياة كاملة.
كان البيت بسيطًا لا يزهو بثروة ولا زخارف، لكنه يفيض دفئًا. جُدّد منذ سنوات قليلة على يد يوسف، ابن خالتهن، بعدما تعب والده وأصبح على كرسي متحرك. لم يحتمل يوسف أن يرى أباه يجهد نفسه في الصعود والنزول أو يتحرّج من أن يحمله أحد، فعمل واجتهد حتى أعاد بناء البيت من جديد، وأضاف له مصعدًا صغيرًا يخترق الطوابق الثلاثة، ليجعل الحركة سهلة ومريحة لوالده. لم يكن المصعد رمزًا للرفاهية، بل للحب، لابنٍ يعرف قيمة الأب وما قدّمه.
تبادلت البنات نظرات سريعة قبل أن تصعد رقية أولًا، تحمل الكيس الكبير الذي لم تفارق يدها منذ خرجن من البيت. كانت ضحكاتهن تتصاعد على الدرجات مع خفة حركتهن، وصوت نعالهن الصغيرة يملأ السلم المغلق بصدى الحياة. لم يضطررن حتى لطرق الباب، فقد تركته خالتهن مفتوحًا كعادتها، تعرف أن يوسف نزل منذ دقائق، وزوجها بعده إلى المسجد، ففضّلت أن تترك الباب مواربًا انتظارًا لهن.
وما إن دخلن حتى علت أصواتهن المفعمة بالمرح:
– “يا خالتيييي… إحنا جينا!”
تردّد الصوت في الشقة المشرقة برائحة الطعام، قبل أن تخرج خالتهن من المطبخ وهي ترفع طرحتها قليلًا عن جبينها، وفي يدها ملعقة خشبية تقطر ببخار المرق، ملامحها تفيض بالحياة، رغم التعب الظاهر على وجهها.
– “وأنا أقول البيت زاد تلاتين فولت ليه؟ أتاري النور كله عندي!”
ضحكن جميعًا بصوت عالٍ، واندفعت نور وهنا نحوها، تحضنانها بحماس وكأنهما لم ترياها منذ شهور.
قالت هنا بمرح مشاغب وهي تتأملها من أعلى إلى أسفل:
– “بكّاشة… بتعرفي تاخدي قلبنا بالكلام يا سوسو!”
ثم أتبعت وهي تضحك:
– “ألا بقى، عاملة أكل على قد الكلام ده ولا إيه يا أخت أمي؟”
ضحكت خالتهن ورفعت حاجبها بمزاح:
– “أنا اللي أكلها يخلي الواحد طاير فوق السحاب يابت.”
بينما كانت رقية تتابع المشهد مبتسمة، ابتسامة صغيرة دافئة تشبه راحة بعد تعب طويل، كأن وجودها وسطهم يُنقّي روحها من ثقل الأيام. التفتت إليها خالتها وقالت بنغمة مليئة بالمرح:
– “عايشة معاهم إزاي دول يا روقة؟ اهربي منهم يا بت وتعالي عندي هنا.”
ضحكت رقية وهي تضع يدها على صدرها وكأنها تتألم تمثيلًا:
– “قدري بقى يا خالتي، هاعمل إيه؟ نستحمل ونعيش.”
ردّت خالتها وهي تضحك:
– “ده أنتِ مستحملة عفاريت ، ربنا يعينك عليهم.”
ضحكت البنات معًا، وأجواء البيت امتلأت بذلك الضجيج الجميل الذي يشبه البيوت القديمة في الجمعات المباركة. كان في كلامهن مزاح ومرح، لكنه مملوء بالمحبة الصافية والارتياح.
اقتربت خالتها منهن وهي تمسح يديها في الفوطة القطنية المعلقة على كتفها، وقالت بحماس:
– “يلا يا بنات، ادخلوا ساعدوني نجهز الغدا قبل ما الرجالة ترجع من الجامع. أنا خلصت أكتر الحاجات، بس ناقص الترابيزة تتفرش.”
سارعن خلفها نحو المطبخ، نور تمسك بالأطباق، وهنا تحمل الصحون الصغيرة، ورقية تضع الكيس الكبير على الرخامة وتبدأ تخرج ما أحضرته من بيتها. كانت قد أحضرت محشي ورق عنب من أجل زوج خالتها .
ضحكت خالتها وهي تراقبها:
– “هو إيه ده يا ست البنات؟ ما قلتلكم ماتتعبوش نفسكوا!”
“رقية” وهي تفتح الغطاء عن الحلة بخفة:
– “تعب إيه يا خالتي؟ دي حاجة بسيطة ، وبعدين كنت هزعل أوي لو معملتوش بإيدي.”
ردّت الخالة بنغمة فيها محبة:
– “هو أنا أقدر أزعلك يا روقة؟ ربنا يخليكي ليا يا بنت أختي.”
كان المشهد كله مزيجًا من دفء العائلة ورائحة الجمعة… الضحكات، والأصوات المتداخلة، وصوت الأذان الذي بدأ يرتفع من بعيد ليعلن أن وقت الصلاة قد اقترب، والبيوت كلها في الحارة تستعد لسكينة الظهر المباركة.
…..
توقّف يوسف أمام باب شقة رقية وإخوتها، ضغط على الجرس أكثر من مرة، لكن ما من رد. زفر بقلق، ثم ضغط مجددًا بإصرار.
وبعد لحظات، فُتح الباب ببطء، وظهر سيف بعينين نصف مغمضتين، شعره مبعثر وملابسه غير مرتّبة، كأنه خرج لتوّه من معركة مع النوم.
ابتسم” يوسف” بخفة وهو يدخل قائلاً بمرحٍ معتاد:
_”انت لسه نايم يا عم؟ آه يبختك والله، نوم العوافي.”
رد “سيف” بصوت متعب:
_”آه، ما حسّيتش بنفسي غير على صوت الجرس.”
أغلق “يوسف “الباب خلفه وهو ينظر حوله، ثم قال بلطفٍ وهو يربّت على كتف سيف:
_”ولا يهمك يا حبيبي، يلا قوم اغسل وشّك واتوضّى، عشان نلحق صلاة الجمعة.”
لكن” سيف” رمى جسده على الكنبة وقال بلا اكتراث:
_”مش قادر، انزل انتَ.”
تجمّدت ملامح” يوسف” لحظة، وهو ينظر له غير مصدّق. فـسيف لم يكن من النوع الذي يترك صلاة، بل كان دائمًا يسبقهم إلى المسجد. جلس يوسف مقابله وقال بنبرة نصفها دعابة ونصفها قلق:
_”أنزل أنا لوحدي؟ ليه يا حُبي؟ هتصلي في البيت ولا ناوي تهرب النهارده؟”
رد” سيف” وهو مغمض العينين:
_”لأ، هكمّل نومي.”
ابتسم “يوسف” بخفةٍ وهو يحاول التخفيف من حدّة الموقف:
_”يا فرحة الشيطان فيك يا ابن المهدي! ينفع تفرّحه كده؟ ده حتى الجمعة دي كنت ناوي أسمع صوتك وانتَ بتدعي كالعادة وتقول “يارب مجموع كبير، يارب”. قوم يا سيف الله يرضى عنك.”
فتح “سيف” عينيه ونظر له بصمتٍ طويل، ثم ابتسم ابتسامة باهتة فيها سخرية طفيفة. جلس يوسف بجانبه على الكنبة، مدّ يده برفقٍ ومسح شعره قائلاً بصوتٍ أخويٍ دافئ:
_”مالك يا حبيب أخوك؟ فيك إيه؟”
ارتبك “سيف”، رفع كتفيه قليلًا وقال بهدوء متوتر:
_”مافيش يا يوسف، كل الحكاية إني عايز أنام شوية.”
هز “يوسف” رأسه نافيًا:
_”لأ يا سيف، مش دي الحكاية. انتَ متغيّر، ده أنا مش شوفتك في المسجد بقالي أسبوعين، ولا حتى في الشارع. مش دي طريقتك، مش ابن رقية اللي أعرفه. قولّي، في حاجة مضايقاك؟.”
نهض “سيف” فجأة، وقال بصوتٍ فيه ضيق واضح:
_”مافيش يا يوسف، مافيش! هدخل أتوضّى وأنزل معاك، خلاص!
ثم اتجه إلى الداخل بخطواتٍ سريعة قبل أن يمنحه يوسف فرصة للرد.
ظلّ يوسف واقفًا في مكانه، ينظر إلى الباب الذي أغلقه سيف خلفه، شاردة عيناه وفي صدره قلق مكتوم. تمتم في نفسه:
“فيه حاجة مضايقاه… بس مش عايز يقول، أنا وراك يا ابن المهدي لعند لما أشوف اللي وراك .”
بعد دقائق، خرج سيف مرتديًا ملابسه، وجهه ما زال باهتًا لكن ملامحه مستقيمة. ابتسم “يوسف” وقال بخفةٍ وهو يربّت على كتفه:
_”أهو كده يا ابن الناس، يلا يا بطل نلحق أول الخطبة.”
هز سيف رأسه بابتسامة قصيرة، وخرجا معًا في صمتٍ خفيف لا يقطعه إلا صوت المآذن القريبة وهي ترفع النداء الأخير قبل الخطبة.
نزلا السلم بخطواتٍ هادئة، حتى وصلا للشارع، فامتزجت أصوات الناس المتجهة للمسجد بصوت الميكروفون البعيد يتلو آياتٍ من سورة الكهف. الهواء كان يحمل رائحة الغبار والدخان وشيئًا من عبق الجمعات القديمة.
وصلا إلى المسجد الذي امتلأ عن آخره، والصفوف الأولى اكتملت برجال الحارة وشبابها. لمح يوسف مكاناً خاليًا قرب الجدار، فجلس إلى جوار مهاب ومازن وعبدالله والحاج عامر، بينما جلس سيف إلى جواره مباشرة.
نظر مهاب ناحيتهما بابتسامةٍ ترحيب خفيفة، وردّ يوسف بابتسامة مماثلة قبل أن يطأطئ رأسه استعدادًا لبداية الخطبة، بينما سيف ظلّ صامتًا، عيناه مركّزتان للأمام لكن ذهنه في مكانٍ آخر تمامًا… حيث الأسئلة الكثيرة التي لم يُجِب عنها لأحد بعد.
ارتفع صوت المؤذن مؤذنًا بانتهاء الوقت، وعمّ الهدوء في أرجاء المسجد الكبير بعد أن امتلأت صفوفه حتى آخرها. الهواء المحمّل برائحة السجاد القديم امتزج بخشوع الوجوه المتوضئة، وكل الأنظار اتجهت إلى المنبر حين صعد عليه الشيخ مصطفى بخطاه الواثقة، وهو يُمسك بأوراقه ثم يضعها جانبًا، كأنه قرر أن يتحدث من القلب لا من الورق.
نظر في الوجوه أمامه، وابتسم ابتسامة هادئة، ثم أمسك الميكروفون وقال بصوت مهيب هادئ:
_ ” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، الحقيقة كنتُ مجهز خطبةً عن أمرٍ آخر هذا اليوم، لكن لما دخلت المسجد، أحد شبابنا الصالحين سألني سؤال جعلني أعيد التفكير فيما كنت سأقوله… قال لي: يا شيخ، هو الحب حلال ولا حرام؟
سؤال بسيط، لكنه عميقٌ جدًا… لأنه مش مجرد كلام عن مشاعر، ده كلام عن قلوب بتتحرك، ونفوس بتتغيّر، وذنوب ممكن تبدأ بكلمة، أو رحمة ممكن تولد من نظرة.
صمت الشيخ لحظة، ثم تابع بصوت مفعم بالوقار واللين:
_ “الحب يا إخوتي مش حرام… لأن القلب لا يُؤمر. ربنا سبحانه وتعالى ما حرّمش الحب، لكنه حرّم طريق الغلط فيه. الحب في أصله مش ذنب، إنما الذنب في التصرف اللي بييجي بعده. الحب ممكن يكون باب للجنة لو اتبنى على الحلال، وممكن يكون باب للنار لو اتساق بالهوى والبعد عن ربنا.. الحب مش خطيئة، لأن ربنا ما خلقش قلوبنا عشان تكون حجر. خلقها عشان تحب… لكن لازم تعرف إزاي تحب.
الحب في الإسلام مش عيب، ولا حرام، ولا ضعف، إنما هو طُهر لما يكون في طاعة الله. الحب اللي يخليك أحسن، اللي يخليك تغض بصرك، اللي يخليك تصون اللي بتحبه… ده حب ربنا بيرضى عنه…اللي بيحب، يا جماعة، لازم يعرف إن الحب مش كلام، ولا أحلام وردية. الحب الحقيقي مسؤولية، وستر، ونية حلال. يعني لو بتحب حد، لازم تسأل نفسك: أنا عايز بيه إيه؟
لو عايز ستر وحلال، يبقى ده حب طيب مبارك. لكن لو حبك هيضيعك، هيبعدك عن ربنا، هيخليك تغلط… يبقى ساعتها اسمه هوا، مش حب.”
قاطعة صوت أحد الشباب وقال :
_” إزاي الحب هيخليني أغلط .”
أبتسم الشيخ “مصطفي وقال:
_” يعني لما تلاقي شاب وفتاة بيخرجوا مع بعض وبيكلموا بعض دايماً ، وبينهم كلام غزل وحب وإطالة نظر واوقات كتير تلامس ،ومافيش بينهم أي رابط شرعي ، وده كله تحت ما يسمي الحُب! فلأ ده مش حب ، ده هوي متحكم فيك ، أنتَ كده بتظلم نفسك ودينك والطرف اللي معاك في العلاقة .”
ثم أدار نظره بين الصفوف، وقال وهو يبتسم ابتسامة خفيفة فيها حنين:
_”عايزين تعرفوا يعني إيه حب؟ بصوا على النبي ﷺ.
شوفوا حبه للسيدة خديجة رضي الله عنها… لما كانت أول من صدّقه، وأول من آمن به، وأول من واساه وهو راجع من الغار يرتجف، وكان النبي ﷺ يقول عن السيدة خديجة رضي الله عنها: إني رُزقت حبها..ماقالش (أحببتها) لأ قال ( رُزقت حبها)
فالحب رزق من الله، لكن زي أي رزق… لازم نصونه، ونوجهه صح. اللي بيحب في النور، ما يخافش. اللي بيحب بالحلال، ربنا يبارك له. لكن اللي يخلي الحب طريق معصية وفي الضلمة ويأذي دينه ونفسه وغيره بيه، يبقى بيظلم نفسه قبل ما يظلم اللي بيحبه.”
تابع الشيخ مصطفى كلامه وقد علت نبرته قليلًا، فيها شجن وصدق:
_ “وبعدها… لما انتقلت خديجة رضي الله عنها، ظل النبي ﷺ يذكرها بالخير، ودمع عينه وهو يفتكرها.
كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: ما غِرتُ من امرأةٍ على رسول الله كما غرتُ من خديجة، وما رأيتها قط.
تخيلوا! سنين بعد وفاتها، ولسه النبي ﷺ بيبعث لصاحباتها الهدايا ويقول: كانت وكانت… وكانت وكانت…
ده هو الحب في أنقى صوره… وفاء، وصدق، ودعاء بظهر الغيب.”
وكان ﷺ لما يُسأل: من أحبّ الناس إليك يا رسول الله؟ يقول من غير تردد: عائشة.
شوفوا الصراحة دي؟ شوفوا النقاء في المشاعر…
لا خجل، ولا خوف، ولا كذب. حب نقيّ، طاهر، معلن.
لأن الحب مش لازم يتخبّى لما يكون في الحلال.”
_ النبي ﷺ قال ” لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح” حَبيت؟ أحفظ قلبك وأحترم دينك وأطلبها للزواج ..في أسباب تمنعك دلوقتي؟ أحفظ قلبك برضوا وصونه وأوعي تعمل حاجة حرام تبعد رزقك عنك.”
صمت ثواني ثم ضحك بخفة وقال :
_” الرسول ﷺ قال لعمه العباس في يوم ” يا عباس ، ألا تعجب من حب مغيث بريرة ، ومن بُغضِ بريرة مغيثاً ؟ تعرفوا بقي قصة مغيث وبريرة ؟ ”
ارتفع صوت شاب من شباب الحارة يُدعي حمزة وهو إبن الشيخ مصطفي :
_ ” أنا عارف يا شيخ ..أقول؟”
ضحك الشيخ وقال :
_”قول يا حمزة .”
_” بريرة دي كانت أمة لناس من الأنصار وكان زوجها إسمه مغيث ، ف بريرة كاتبت أسيادها عشان يعتقوها ، يعني هتسدد مبلغ نظير حريتها ( هذه إحدي طرق الإسلام في تحرير العبيد ) ، وتحررت بريرة وبقت حرة ، والشرع يعطي الأمة لو تحررت خيار إنها تفضل مع زوجها العبد أو تفارقه ، ف بريرة فارقت مغيث، ده كل اللي أعرفه.”
إبتسم أباه وقال:
_” كتر خيرك يا عم أكمل أنا بقي ، مغيث كان بيحبها أوي، كان يفضل وراها يبكي ويشتكي ويرجوها أن ترجع ليه ، بس هي كانت بترفض ، فمغيث ذهب لحبيبنا رسول الله ، وطلب منه أن يشفع له عن بريرة ، فوافق النبي ﷺ وقال لها : يا بريرة ، لو راجعته فإنه زوجكِ وأبو ولدك!
فقالت : يا رسول الله ، أتأمرني؟
قال: إنما أنا شافع..
فقالت : لا حاجة لي فيه!
أبتسم الشباب بخفه فأكمل الشيخ :
_” شوفوا موقف النبي ، لم يجد حرجاً إنه يروح بنفسه ليشفع في قلبٍ أدماه الحب ، فيجي اللي يقول إن الإسلام يحرم الحب يشوف !”
_”لو لقيت بنت محترمة، وشفت نفسك عايز تتجوزها بالحلال، يبقى قول لربنا: (يا رب إن كنتَ كتبتها لي، فسهّلها لي).
ولو لقيت قلبك بيحب حد، بس الطريق غلط… قول: (اللهم اصرف عني الهوى واهدِ قلبي إليك).”
“مازن” كان جالسًا ورأسه منخفض، وملامحه بين التفكير والسكينة، كأنه يحاور نفسه في صمت.
“يوسف” ألقى نظرة سريعة نحوه، وابتسم بخفةٍ وهو يهمس لنفسه:
_”الكلام دخل قلبه.”
رفع الشيخ مصطفى يديه قليلًا وهو يختم الجزء الأخير من الخطبة قائلاً بصوتٍ مملوء بالعاطفة والخشوع:
_ “يا من سألني… الحب مش حرام، لكنه أمانة.
حافظ على قلبك، وخلّيه دايمًا في طريق الحلال.
لكن خلي بالك يا ابني…مش كل حب يكتب له التمام، ومش كل إعجاب معناه قدر..الحب مش دايمًا بييجي في وقته، بس دايمًا بيعلّم القلب حاجة.واللي بيحب بحق، عمره ما يؤذي، ولا يضيع وقته في حرام.الحب الحلال نور، والنور عمره ما يتخبّى.
وافتكر دايمًا إن القلب اللي بيحب في الله، عمره ما يُذلّ، ولا يُكسر، وقوموا إلي صلاتكم .”
خرج المصلّون من المسجد بعد أن انتهت الصلاة، والهواء كان لا يزال مشبعًا برائحة السجّاد الدافئ وبصوت التسبيح المتناثر بين الصفوف.
تدفقت الأجساد إلى الخارج ببطء، يسبقهم شعور بالسكينة لا يُشبه إلا أثر الماء البارد بعد عطشٍ طويل.
وقف مهاب ومازن ويوسف وسيف وعبدالله معًا على الرصيف المقابل، والشمس كانت قد بدأت تميل قليلًا نحو الغرب، تلامس وجوههم بنعومة خفيفة.
“عبدالله”، بنشاطه المعتاد وروحه المرِحة، مدّ ذراعيه وهو يقول بمرح:
_ “بصوا يا رجالة، بعد الغداء كده نعمل ماتش كورة محترم في الساحة، نعرّق شوية ونفَوّق الدم.”
ثم التفت لسيف بابتسامة خفيفة وضربه على كتفه:
_”وسيف معانا طبعًا، هيبقى في فريقي عشان نكسب بقى.”
لكن “سيف “لم يبتسم، ولم يردّ بنفس خفته المعتادة.
نظر لهم بعينين شاردتين، كأن عقله في مكانٍ آخر تمامًا، وقال بصوتٍ بارد خالٍ من أي حماس:
_”مش لاعب.”
ثم دار بجسده ومشى بخطوات سريعة دون أن يلتفت.
أصابتهم المفاجأة لوهلة، تبادلوا النظرات في صمتٍ مستغرب.
مهاب رفع حاجبيه بدهشة، أما “يوسف “فتنهد بخفة وقال بنبرة مرحة لكنها تحمل في عمقها قلقًا واضحًا:
_ “عذرًا يا رجالة، أصل احنا وبيت خالتي النهارة متجمعين على الغداء…نأجل الماتش للجمعة الجاية، يلا سلام.”
ثم خطا خطوة وهو يشير بإبهامه نحو سيف:
_ “هامشي الحق الواد ده قبل ما يختفي تاني.”
بدأ يمشي، لكن صوت” مهاب” أوقفه بنبرة فيها شيء من عدم الارتياح:
_ “يوسف…”
توقف” يوسف” في منتصف الطريق، التفت قليلًا وقال بهدوء وهو يشير بيده:
_ “هكلمك فون يا مهاب… سلام.”
وأكمل طريقه بخطواتٍ سريعة، عيناه تتابعان سيف من بعيد وهو يمشي متجهًا نحو الشارع الجانبي.
أما مهاب فبقي واقفًا للحظة، يراقب المشهد بصمتٍ وعبوسٍ خفيف، قبل أن يلتفت لمازن وعبدالله ويقول بهدوءٍ يشوبه الشرود:
_”يلا بينا نروّح.”
تحرك الثلاثة ببطء نحو الطريق المقابل، بينما ظلّ صوت القرآن البعيدة يتردّد في الأجواء، كأن المدينة كلّها تستعد لبقية يومٍ يحمل في داخله ما لا يُقال.
…
كان الممر المؤدي من ساحة المسجد إلى الشارع مكتظًّا بالمصلّين الخارجين بعد صلاة الجمعة، والهواء محمّل برائحة المسك والمطر الخفيف الذي سبق الصلاة.
سار يوسف تجاه والده الحاج إبراهيم الذي كان يجلس على كرسيّه المتحرك، يتبادل حديثًا هادئًا مع أصدقائه .
وقف أمام مجموعة من الرجال يتحدثون مع أباه، فسارع يوسف بالسلام عليهم بمرحٍ:
ـ “إزيكم يا جماعة؟ جمعه مباركة علينا وعليكم.”
ردّوا التحية بود، وانتهى اللقاء بدعواتٍ طيبة، ثم أشار يوسف إلى الطريق قائلًا:
ـ يلا يا عم إبراهيم نتحرك، سيف أكيد سبقنا علي البيت ”
لم يكن يعلم أن سيف لم يسبقه بطمأنينة، بل كان وجهه مشحونًا بالشرود حين لمح الحاج إبراهيم من بعيد ولم يلتفت، كأن روحه في مكانٍ آخر.
وحين وصل يوسف ووالده إلى مدخل البيت وجدوا سيف يقف أمامه، قال إبراهيم بصوتٍ فيه عتاب الأب المحبّ:
ـ “وأنا اللي قلت سيف هياخدني وهو ماشي! ده عدى من قدامي وماقلش السلام حتى.”
تجمّد سيف للحظة حين سمع صوته، ثم التفت بسرعة، ملامحه امتلأت بندمٍ حقيقي، واقترب بخطواتٍ مترددة وقال بصوتٍ مبحوحٍ بالحزن:
ـ “والله ما ركزت خالص يا عم إبراهيم… حقك عليّا.ؤ
ثم انحنى يقبّل رأسه.
ربت “إبراهيم “على كتفه بحنانٍ وابتسامةٍ صغيرة:
ـ “ولا يهمك يا حبيبي، حصل خير. يلا نطلع فوق، الغدا مستنينا.”
دخلوا المصعد معًا، والجو بينهم عاد دافئًا كما كان.
حين وصلوا أمام الشقة، قال “يوسف “وهو يخرج المفتاح من جيبه:
ـ” خد المفتاح يا سيف، ادخل الأول. عرّفهم إننا وصلنا.”
فتح سيف الباب، وما إن دخل حتى فوجئ بخالته أمامه، الهاتف بيدها، لكنّها ما لبثت أن تركته لتفتح ذراعيها له.
قالت وهي تبتسم بحرارة:
ـ “حبيب خالته! وحشتني يا سيف يا روح خالتك.”
اقترب منها مبتسمًا رغم ما يعتمل داخله من اضطراب، وعانقها قائلًا:
ـ “وانتِ كمان يا خالتو، والله وحشتيني.”
كانت نور تقف في الصالة تتابع المشهد، فرفعت صوتها بخفة دمها المعتادة:
ـ “ادخلوا يا سيف، جوعتونا .”
ضحك الجميع، ثم دخل يوسف وإبراهيم بعدها ، فقال “إبراهيم ” مُرحباً بهم :
ـ “السلام عليكم يا بنات المهدي! ريحة الأكل واصلة لحد الشارع!”
ضحك الجميع، فردّت “رقية “وهي تضع المائدة:
ـ “ده عشان خالتي سوسو كانت عاملة استعدادات من بدري!”
خالتهم ضحكت وقالت وهي تمسح على شعر سيف:
ـ ” لأجل عيونكم نعمل اللي مايتعملش.”
نظر لهم ” يوسف ” بضيق مصطنع وقال :
_ ” ماشي يا اختي ماشي ، مش هتكلم ..المهم أكل وهسكت .”
رد أبوه وقال بمرح :
_ ” أكلوه بسرعة يا جماعة عشان يسيبنا نعيش شوية .”
ضحكت “نور ” وقالت :
_ “طب يلا الأكل جاهز .”
جلسوا جميعًا حول المائدة في مشهد يفيض دفئًا.
الأحاديث تداخلت، الضحكات ملأت الجو، وسيف جلس صامتًا قليلًا لكن وجهه بدأ يسترخي شيئًا فشيئًا.
خالتهم لاحظت ذلك، فوضعت أمامه قطعة من اللحم وقالت بابتسامة حنونة:
ـ “كل يا حبيبي، الوِشّ ده محتاج طاقة.”
نظر إليها سيف وابتسم لأول مرة منذ الصباح.
وبينما كان” يوسف” يسكب العصير للجميع، قال بمرح:
ـ “خلاص، كل جمعة هنا بقى، ولا إيه يا جماعة؟”
ردّت “رقية ” بإبتسامة:
ـ “بس بشرط، المرة الجاية عندنا “.
ضحك” يوسف” وهو يشير إليها:
ـ” موافق.. بس خلوني أعملكم الرز أنا عشان بحب أعمله.”
قال” سميه” أمه بجدية مصطنعة:
_ ” إمم ، كده هنحتاج نور تجبلنا من الصيدلية اربعة انتينال ، وأي حاجة ضد التسمم .”
ضجّت المائدة بالضحك
فقال ” يوسف” بصدمة :
_” دايماً قاتلة حماسي ومواهبي كده .”
_” معلش يا يوسف ، هخليك تعمل الشاي بعد الأكل لأجل نشجع مواهبك دي.”
كان هذا صوت أباه ، فتعالت ضحكات الجميع ، وتسلّل شعور من الراحة إلى قلب سيف، كأنّ وجودهم جميعًا حوله أعاده إلى مكانه الطبيعي في الحياة.
انتهى الغداء على خير، وبقيت اللمّة عامرة بالضحك والحنان.
كان البيت بعد الغداء يغرق في دفءٍ ساكنٍ يشبه استراحةً بعد يومٍ طويل.
ضحكات البنات تأتي من المطبخ متقطعة، تختلط بصوت المواعين ورائحة النعناع المغلي.
في الصالة، كان يوسف جالسًا على الأريكة، يعبث بهاتفه بملل، قبل أن يلتفت ناحية سيف الجالس على الطرف الآخر، شاردًا كعادته.
أمال” يوسف” رأسه قليلًا وقال بصوتٍ مازحٍ وهو ينهض:
ــ” تعالى يا عم، نِطّ على البلكونة شوية بدل ما تِقلبلي الدنيا كآبة.”
لم يُجب سيف، لكنه تبعه بخطواتٍ بطيئة. خرجا إلى البلكونة الصغيرة التي يغمرها ضوء الشمس الذهبي، والنسيم يُداعب الستائر البيضاء كأنها تهمس بشيءٍ لا يُسمع.
جلس “يوسف” على الكرسي الخشبي المتكئ على الحائط، ثم أشار لسيف أن يجلس أمامه.
ظلّ ينظر إليه للحظات، ثم قال بنبرةٍ فيها المزاح أكثر من الجِدّ:
ــ “هتحكي ولا هتحكي؟”
رفع” سيف” حاجبيه باستغراب وضيقٍ خفيف وقال وهو يحاول إخفاء انزعاجه:
ــ” يابني مافيش حاجة.”
“يوسف” أمال رأسه على الجانب، وعقد ذراعيه وقال بتمثيلٍ مبالغ فيه:
ــ “ابنك؟ أنا ابنك يا صُغنن؟ آه يا زمن!”
ضحك” سيف” غصبًا عنه، وانفجر ضاحكًا أكثر حين رأى وجه يوسف وهو يتصنّع الانكسار والحزن.
ضحك الاثنان معًا، حتى مسح سيف دمعةً صغيرة سالت من كثرة الضحك، ثم قال وهو يلتقط أنفاسه:
ــ” مافيش حاجة برضه، بس متوتر كده… الامتحانات قربت.”
رفع “يوسف” حاجبيه بدهشةٍ مصطنعة وقال:
ــ” قربت؟! دا لسه قدامك أربع شهور يا عم الحاج. رُوق كده، هتخلّي العصبية تذاكر مكانك ولا إيه؟”
ضحك “سيف” وهو يحرك رجله بعصبية خفيفة:
ــ “ما بحبش الإحساس اللي قبل الضغط ده، بحس الدنيا كلها ماشية بسرعة وأنا لسه واقف.”
أجاب “يوسف” بلطفٍ وهو يمدّ يده على كتف سيف:
ــ “كلنا بنحس كده، بس خدها واحدة واحدة. أنت ذكي، وبتفهم، ووقتك لسه في إيدك. صدقني، القلق بيخلّي الواحد ينسى هو ليه بدأ أصلاً.”
صمت سيف قليلًا، ينظر إلى الشارع الهادئ تحت البلكونة. سيارات قليلة تمرّ، وصوت بائعٍ ينادي على “الفول السوداني الساخن” يتردد في الحارة.
ثم قال بنبرةٍ أخفّ:
ــ” عارف يا يوسف، ساعات بحس إنك بتحاول تضحكني عشان ما تفكرش في نفسك.”
ابتسم “يوسف “ابتسامةً خفيفة، دون أن يرفع نظره عن الشارع:
ــ “يمكن، بس هو الضحك عمره ما خسر حد.”
ساد بينهما صمتٌ دافئ، صمتٌ يشبه حضنًا طويلًا من غير كلام.
كان الجو داخل الشقة يحمل سكونًا دافئًا لا يشبه سكون الوحدة، بل سكون الراحة بعد اجتماع الأحبة. جلست” نور وإبراهيم” ،أمام طاولةٍ صغيرة في الصالة، تتوسّطها رقعة شطرنج خشبية لامعة. كان إبراهيم يضع نظارته الطبية على أرنبة أنفه، يتأمل القطع باهتمامٍ شديد، بينما نور تتظاهر بالتركيز وهي تخفي ضحكة صغيرة في طرف فمها.
دخلت “هنا” تحمل صينية عليها كوبان من النعناع المغلي، يتصاعد منه البخار كأنّه ينشر رائحة المودة في المكان. وضعت الكوبين أمامهما وقالت بخفة:
– “اتفضلوا يا أبطال، بس محدش يقول بعد كده إنّي ما بخدمش.”
رفع” إبراهيم” نظره نحوها مبتسمًا وقال بمرح:
– “لا يا شيخة، ده أنا هكرمك آخر المباراة.”
ضحكت” نور” وهي تحرك قطعة الحصان:
– “أهو الكلام ده يا عم إبراهيم يخوف، أنا هكسبك!”
–” تكسبيني ؟ أنتِ بتسمي الي بتعمليه ده لعب؟ ده أنا سايبك تفرحي شوية كده.”
– “يا راجل! ده أنا هكش ملك دلوقتي وأنت بتتكلم.”
تعالت ضحكاتهم الخفيفة، وكان الجوّ يسوده دفءٌ عائليّ يذيب التعب من القلوب. في تلك اللحظة، كانت سمية تجلس في الركن الآخر من الصالة بجانب رقية، تتحدثان بصوتٍ منخفض بينما تصل إلى مسامعهما ضحكات الثلاثة الآخرين.
قالت “سمية “وهي تميل قليلاً نحو رقية:
–” أم أحمد قالتلي إنها هتديكِ الجمعية آخر الأسبوع الجاي.”
رفعت” رقية” حاجبيها بدهشة وقالت:
– “غريبة! هي كانت قايلة قدامي إن باقي شهرين.”
– “لأ، هي قالتلي خلاص، هتديها ليكي المرة دي. قولتلها ماشي، وادعيلها بقى.”
ارتشفت “رقية” من كوب النعناع وقالت بابتسامة هادئة:
– “كويس جدًا والله، لما آخدهم نبقى ننزل سوا نجيب حاجات لجهاز نور.”
قالت “سمية” وهي تحرك رأسها بالموافقة:
– “ماشي يا حبيبتي، نبقى نسأل على الأجهزة الكهربائية، دي جارتنا اللي بتجوز بنتها بتقول الأسعار نار.”
ضحكت “رقية” بخفة وقالت:
– “توكّلي على الله يا خالتي، أنا جبتلها كل المفارش والفوط والحاجات دي، وكمان نص حاجات المطبخ.و كنت كل شهر بخليها تشتري شوية لبس للجهاز.”
ابتسمت “سمية” بفخرٍ واضح وقالت:
– “ما شاء الله يا روقه، شاطرة وربنا يعينك. بس اسمعي، أنا حالفة إني أنا اللي هجيب الغسالة والبوتاجاز، واسمع منك كلمة “لأ” أفرج عليكِ أمة لا إله إلا الله!”
قهقهت “رقية” وهي تمسك بطنها من الضحك وقالت:
–” يا خالتي.. صبرني يا رب، أنا مش هقدر أناقشك، بس بالله عليكي ما تحلفيش تاني عشان ما نزعلش.”
ضحكت” سمية “بحرارة وقالت:
– خلاص يا ستي، المرة دي بس… بس تجهزي نفسِك يوم الجمعية.
انطلقت ضحكة هنا :
–” يا روقه ، أنتِ بتجيبي الجهاز وناسية حاجة مهمة”
فهمت رقية ما تريده اختها وقالت بمرح:
_” ده يجي وقت ما يجي بقي المهم الجهاز يابت .”
ساد البيت بعدها جوّ من الألفة والمرح، تبادلوا النكات والذكريات، وامتزجت رائحة الطعام بصوت الملاعق والضحك.
قضوا اليوم كاملًا مجتمعين، يتنقّلون بين المطبخ والصالة والشرفة، والضحك لا يفارق المكان.
وحين اقترب المغرب، نهضت رقية تجمع أغراضها، ونادت على نور وهنا وسيف، ليتهيأوا للعودة.
ودّعتهم سمية وإبراهيم بابتساماتٍ مليئة بالحب، وغادرت رقية البيت وهي تشعر أن دفء العائلة يُسكّن في صدرها ما لا يُسكّنه شيء آخر.
…..
في ذلك المساء الهادئ، كانت الحديقة الواسعة في بيت الحاج عامر البرّاق تغتسل بنسيمٍ عليلٍ بعد مغيب الشمس، وقد انتشرت أضواء خافتة من المصابيح المعلقة بين الأشجار، تُلقي وهجًا دافئًا على الوجوه الجالسة في فناء العائلة.
كان الحاج “عامر” يجلس على كرسيه الخشبي المفضّل، مستندًا بذراعه على المسند، وبين أصابعه كوب شاي يفوح بالبخار، وإلى جواره زوجته انتصار بجلستها المنتصبة وكبريائها المعتاد، تتأمل أبناءها بنظرة فيها مزيج من الفخر والغرور.
أما الجدة مفيدة، فكانت تراقبهم بعينيها المتجعدتين وهي تمسك مسبحتها، وكل بضع لحظات تقول:
_”اللهم احفظهم يا رب، دول زينة البيت.”
في وسط الحديقة، كان مهاب ومازن ومحمد وحسن يتقافزون في مرح، يلعبون كرة القدم بين الأشجار والظل المتراقص.
ضحكاتهم تملأ المكان، وصوت الكرة وهي ترتطم بالأرض أو الجدار يتردد في الفناء كإيقاعٍ طفولي أعاد للحاج عامر شبابه.
رفع “مازن “صوته وهو يركض خلف الكرة قائلًا:
ـ “يا جدع، دي جون! جون واضح قدّام عينك يا بابا!”
ضحك “عامر” بصوتٍ عالٍ وقال وهو يلوّح بيده:
ـ “جون إيه يا واد، دي طلعت برّا الحيط!”
اعترض “مهاب” بابتسامة خفيفة وهو يمسح العرق من جبينه:
ـ “لا يا حاج، دي جوّه، أنا شوفتها بعيني.”
أشارت الجدة بمسبحتها وهي تضحك:
ـ ” هتتخانقوا عشان كورة يا عيال ، قال وأبوكم قاعد يحكم بينكم.”
ضحك “عامر” وقال :
ـ ” دي بطولة رسمية، وأنا الحكم المعتمد من اتحاد البيت البرّاقي لكرة القدم!”
انفجر الجميع بالضحك، حتى انتصار التي نادرًا ما تبتسم، غطّت فمها بيدها وهي تكتم ضحكتها.
وفي اللحظة نفسها، خرجت نادين من داخل البيت، وملابسها أنيقة رغم بساطتها، تحمل كوب عصير وجلست بهدوء إلى جوار أمها.
لاحظ” عامر “حضورها، فأشار لها مبتسمًا:
ـ” من زمان ما شوفتكيش قاعدة معانا كده يا بنتي.”
ردّت بابتسامة خفيفة:
ـ “أصل دايمًا بتكونوا في المعرض أو برّه، قولت أشارككم القعدة النهاردة.”
نظر إليها” مازن “وهو يلتقط الكرة وقال مازحًا:
“ـ ولا علشان جاية تعلني خبر مهم يا نادين؟”
ابتسمت وهي تهز رأسها:
ـ “مش بعيد، عندي كلام فعلاً كنت عايزة أقوله.”
صمت الجميع قليلًا، حتى الجدة مفيدة رفعت نظرها وقالت:
ـ “خير يا بنتي؟”
أخذت نادين نفسًا عميقًا وقالت بثقةٍ ظاهرة وإن خفي في صوتها شيء من التردد:
ـ “قدمت في شركة ديكور، وطلبوني بكرة على إنترفيو هناك.”
رفعت انتصار حاجبيها بحدة وقالت:
ـ “إنترفيو؟! يعني شغل؟”
ـ “أيوه يا ماما، محاسبة، الشغل محترم والشركة معروفة.”
أطلق “عامر” تنهيدة طويلة، ثم قال بنبرةٍ فيها حزم أبوي:
ـ” يا بنتي، مش ناقصين وجع دماغ، كل يوم تروحي وتيجي ،ووجع دماغ؟ إحنا مش متعودين على كده.”
ردّت” نادين” بهدوءٍ فيه كبرياءٍ واضح:
ـ يا بابا، أنا مش صغيرة، وعايزة أشتغل وأعتمد على نفسي، تعبت من القعدة من غير فايدة.”
ـ ” ناقصك حاجة يا نادين؟.”
ـ “مش ناقصني حاجة مادية يا بابا، بس ناقصني إحساس إني ليّا دوري، إن حياتي مش واقفة.”
صمتت انتصار للحظة، ثم قالت ببرود وهي تعدّل من جلستها:
ـ” البنت عندها طموح، بس الشغل ده لازم نعرف تفاصيله الأول.”
أومأ “عامر” برأسه دون اقتناع، وقال:
ـ ” بس الدنيا بقت فوضى، وأنا خايف عليها.”
هنا تدخّل” مهاب”، بنبرته الهادئة الحازمة التي تجمع بين الاحترام والرزانة:
ـ ” اسم الشركة إيه يا نادين؟”
ـ” ديزاين هاوس.”
ـ” تمام، أنا أعرف ناس هناك، هسأل بنفسي، ولو الشغل كويس ومكان محترم، تروحي وتشتغلي وانتِ مطمنة، وأنا مطمن كمان.”
نظرت إليه نادين بشكرٍ صامت، كأنها وجدت فيه الدعم الذي احتاجته.
قال” عامر” وهو ينظر لمهاب :
ـ ” ماشي ، بس لو اشتغلت برضوا وفي أي غلط ، يبقي بلاها.”
قالت نادين بهدوء لأول مرة:
_”حاضر يا بابا.”
ضحكت الجدة مفيدة وقالت:
ـ ” ومازن أخبار شغله إيه معاك يا مهاب .”
ردّ مازن بسرعة:
ـ ” أنا شغال زي الفل يا تيتا، هو مهاب اللي طلع بيتدلع في شغله خالص ، أقوله يا مهاب ..اشتغل بضمير ..يقولي ياعم أهو ساعة شغل وساعة راحة.”
جحظت عينا “مهاب” بصدمة وقال:
_” أنا يالا؟! ”
اكمل “مازن” بجدية :
_” إيه هكذب يعني ؟ لا ياعم مش عشان مديري يبقي اكذب .”
قال “مهاب” بجدية مصطنعة وهو يتجه لمكان مازن ، ويرفع كُم ملابسه:
_” لأ إزاي يا حبيب أخوك ، تعالي ابوس رأسك علي صراحتك دي.”
صرخ “مازن” بمرح واسرع من خطواته لكي لا يلحق به مهاب الذي يلاحقه ، قال مازن وهو مازال يسرع من خطواته:
_” خلاص أنا كذاب يا عالم ، كذاب والله ، اقف بقي تعبتني.”
وسرت في المكان ضحكات خفيفة بعدما أمسك مهاب بمازن ولكنه احتنضه بمرح وامتزج صوت النسيم بأصواتهم، فبدا المشهد وكأن الدار استعادت روحها القديمة.
جلست نادين بعدها في صمتٍ قصير، وعينيها على والدها، ثم قالت بخفوتٍ يشبه الرجاء:
ـ” شكراً يا بابا إنك سمعتني.”
ابتسم “عامر” وقال وهو يربت على يدها:
ـ” المهم تبقي بخير يا بنتي، الشغل مش عيب، بس العيب إننا نسيب نفسنا للناس، أنا عايزك تفكري صح ، جايز اللي فات كان ضدك وماقدرتيش تتمسكي بيه، بس اللي جاي محتاج منك هدوء عشان تقدري تعيشي يا نادين.”
ساد صمتٌ قصير، ثم دوّى صوت الجدة مفيدة وهي تنهض بصعوبة:
ـ يلا يا أولاد، المغرب قرب، اللي ما توضاش يلحق.
وقام الجميع في حركةٍ لطيفة دافئة، بينما ظلّ عامر ينظر إلى أبنائه وبنته، وفي عينيه مزيجٌ من الطمأنينة والحنين، كأنما يحمد الله على لحظةٍ لمّتهم فيها الحياة دون خصام
……..
كان الليل ساكنًا، والظلام يبتلع أطراف الحارة في سكونٍ ثقيل، لا يُسمع فيه سوى صدى خطواتٍ حذرةٍ فوق الأرض المبتلّة بندى المساء.
في زاويةٍ بعيدةٍ خلف أحد المخازن القديمة، وقف رجلان متقابلان، لا تكاد تُرى ملامحهما في العتمة، سوى ومض ضوءٍ خافتٍ من سيجارةٍ مشتعلة بين أصابع أحدهما.
قال الأول بصوتٍ منخفضٍ لكنه يحمل ثِقَلَ السيطرة:
ـ” ها… كل حاجة جهزت؟”
أجابه الآخر، بنبرةٍ حذرةٍ تمتزج فيها الطاعة بالرهبة:
ـ “كله تمام يا ريس، ومستنيين أوامرك.”
ساد صمتٌ قصير، لم يُسمع خلاله إلا صوت الريح وهي تداعب أطراف الصفيح في السطح المتهالك.
ثم قال الرجل الأول ببرودٍ متعمّد، كأن كل شيء محسوب في ذهنه من قبل:
ـ” في الوقت الصح هدّيلك التمام… لسه المشهد ما اكتملش.”
ثم ألقى بالسيجارة تحت قدميه، وداسها بحذائه، وقال بحدةٍ حاسمة:
ـ” يلا امشي.”
تحرّك الثاني سريعًا، وانسحب في الظلام، تاركًا خلفه صدى خطواته يتلاشى مع الريح،
بينما ظلّ الأول واقفًا وحده، يرمق الطريق بعينين جامدتين لا تعرف الرحمة،
وكأن شيئًا كبيرًا على وشك أن يبدأ…
لكن لا أحد يعرف متى، ولا من سيدفع الثمن.