رواية ظل البراق الفصل الثالث عشر 13 بقلم مريمة


 رواية ظل البراق الفصل الثالث عشر 

“أحنّ إليكَ دون أن أقول

أخاف على الحنين من البوح

وأخاف عليكَ من المعرفة.”

………….

حين تسكن الدنيا في عمق الليل، وتخفت الأصوات من حولها، تبقى قلوب قليلة ما زالت مستيقظة، تناجي ربّها بالصلاة والدعاء، وتستأنس بصفاء السكون.

كانت ناهد إحداهنّ.

وقفت في غرفتها ، يلفّها ضوء خافت، وسجّادتها مفروشة في ركنٍ تطمئنّ إليه. رفعت يديها، وأخذت تصلي قيام الليل بخشوعٍ يملأ ملامحها، تتلو الآيات بصوتٍ هادئٍ متهدّج، وكأنها تحادث ربّها عن كل ما سكن في صدرها.

وحين انتهت، جلست قليلًا تسبّح، ثم أطبقت عينيها بدعاءٍ طويلٍ صادق، قبل أن تنهض لتُعدّ لنفسها مشروبًا دافئًا يخفّف من برودة الليل.

أخذت كوبها وجلست أمام النافذة، تُحدّق في السماء الصافية، تسلّل دفء الذكرى إلى قلبها فجأةً، بينما كانت تفكر في رقية — تلك الفتاة التي دخلت الحارة قبل أعوام، حاملةً فوق كتفيها مسؤولية بيتٍ كامل.

ابتسمت ناهد وهي تستعيد تلك اللحظة الأولى التي رأتها فيها تدخل الحارة، تتلفّت بخجلٍ وثباتٍ معًا، وكأنها تضع أولى خطواتها في عالمٍ جديدٍ تمامًا.

تشابهٌ غريبٌ جمع بينهما…

فكما دخلت رقية الحارة وحيدةً تحمل أثقالها بصمتٍ، كانت ناهد قد عرفَت الطريق ذاته منذ زمن بعيد، عندما جاءت إلى هذه الحارة وهي طفلة في العاشرة، تحمل في عينيها الخوف والدهشة، وفي قلبها عزيمة لا تلين.

جاءت هي وأبوها وأمها وأخوها بعد أن خُدع والدها من أقرب الناس إليه، قد جعلوه يمضي على أوراقٍ ، سلبوه بها بيته وأرضه، فاضطرّ أن يرحل مكسورًا.

اختار الحارة لأنّه سمع أنّ أهلها طيبون، وأنها مأمنٌ لمن قست عليه الدنيا.

استأجروا شقة صغيرة في الطابق الثالث من عمارةٍ متواضعة، هي ذاتها التي تعيش فيها ناهد الآن، وافتتح الأب محلّ بقالة ،هو ذاته مكان المطعم الآن.

ومنذ اليوم الأول، كانت ناهد تلازمه في المحلّ، تُساعده وتتعلم منه. كانت نظراتها أكبر من عمرها، ويديها الصغيرتان تعملان بجدٍّ لا يعرف الكلل.

كانت ناهد تبتسم وهي تتأمل البخار المتصاعد من كوبها، كأن الذكريات أقبلت تزورها في هدوء هذا الليل.

مرّت في خاطرها صورةُ طفلةٍ صغيرة، ترتدي فستانًا بسيطًا، ينسدل شعرها خلف كتفيها، وملامحها تنبض بنضجٍ أكبر من عمرها.

كانت في العاشرة آنذاك، تُعين أباها في محلّ البقالة الصغير الذي أصبح اليوم مطعمها، تقف خلف الطاولة الخشبية، تمدّ يدها بالسكر والرزّ، وتبتسم لكلّ زبون يدخل.

تذكّرت اليوم الذي رأته فيه للمرة الأولى.

كانت الحارة تضجّ بصوتِ شجارٍ حادٍّ بين جارين، والناس تجمّعت في منتصف الطريق.

ومن بين الأصوات الغاضبة ظهر شابٌّ طويل، عريض الكتفين، له هيبةٌ هادئةٌ تشدّ الأنظار؛ عامر البرّاق.

رفع صوته بثباتٍ وقال:

_” بس يا رجالة، هنتخانق مع بعض ؟ إيه خلاص نسيتوا إننا أهل ؟ هانت عليكم العشرة ؟ ناقص نموت بعض كمان .”

ظهر صوت أحد الرجال وقال بغضب:

_” أنا ماغلطتش في حاجة ؟ هو اللي غلط .”

قال “عامر” بصوت جاد :

_” الأخوات بيتخانقوا بالليل ويجوا الصبح يتلموا علي ترابيزة واحدة ، وإحنا هنا مش بس جيران ، الحارة كلها أخوات وأهل وسند لبعض ، ومش عشان شوية حاجات هبلة هنخسر بعض عشانها .”

ساد صمتٌ غريب بعد كلماته، كأنّ الهدوء خضع لصوته. فصل بين المتشاجرين بكلمتين ، وانتهت الخناقة كأنها لم تكن.

وقفت ناهد على أول الشارع تتابعه بعينين مأخوذتين، شعرت بشيءٍ لم تعرف له اسمًا، مزيجٍ من الانبهار والدهشة، كأنها رأت بطلًا خرج من شاشة التلفاز.

منذ ذلك اليوم صار اسمه يتردّد في الحارة كثيرًا؛ الناس تتحدث عن شهامته، عن أخلاقه، وعن الورشة الصغيرة التي فتحها بجهده بعيدًا عن مال أبيه.

وكانت هي تمرّ من أمام ورشته كلّ يوم تقريبًا، متعلّلة بحجةٍ واهية لتراه ولو للحظة.

وفي أحد الأيام، حين لاحظ تكرار مرورها، رفع رأسه من بين أدواته وقال مبتسمًا:

_ ” إيه يا طفلة ! أخبار حركة المرور النهاردة إيه؟ رايحة جاية في الشارع ولا كأنك عسكري المرور في الحارة ! حاجة تايهه منك يا ناهد؟ .”

ارتبكت “ناهد “وقالت وهي تلهو بطرف فستانها:

_ ” أصل بابا بيبعتني أجيب حاجات من هنا.”

ضحك وهو يعيد ترتيب عدّته:

_ “هصدقك ياستي ، بس ده أنا قولت هشغلك معايا هنا بدل ما تفضلي رايحة جاية تبصي علي الورشة.”

قالت مازحةً بخجلٍ خفيف:

_ ” حلوة الفكرة ، هتديني كام في الشهر بقي يا معلم عامر؟”

رفع حاجبه بدهشةٍ ، وقال وهو يضحك:

_ ” اللي تقولي عليه يا ست ناهد ، بس نشوف شغلك الأول وبعدها نقدره .”

أكملت وهي تمازحه :

_ ” هفكر وأقولك ، سلام يا معلم .”

تعالت ضحكاته علي هذه الطفلة ، وكذلك هي ابتسمت وذهبت من أمامه، وكان في تلك الضحكة أول خيطٍ بين قلبين التقيا في بساطة الطفولة، لا يدريان أنّ الأيام ستأخذ كلاً منهما في طريقٍ بعيد. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت ناهد تمرّ أمام ورشة عامر كلّ صباحٍ تقريبًا.

كانت تمشي بخطواتٍ خفيفة، تُمسك بطرف فستانها القديم وتبتسم له من بعيد، ثم ترفع صوتها بخفّةٍ وشقاوة قائلة:

_ “صباحو يا معلم عامر!”

كان يلتفت نحوها مبتسمًا، يُلقي نظرةً سريعة وهو يمسح يديه من الزيت، ويجيبها بمرحٍ معتاد:

_ “صباح النور يا شِقية، لسه بتلفّي الحارة كلها قبل المدرسة؟”

فتضحك وتقول بثقةٍ أكبر مما يليق بعمرها:

_ “أصلّي بحب أمشي كتير، الحارة كلها بقت صحابي.”

يهزّ رأسه مبتسمًا ويعود لعمله، بينما تواصل هي طريقها والقلب الصغير بداخلها يخفق بخفةٍ لا تعرف معناها بعد.

كانت تراه في عينها بطلًا حقيقيًا، لا يختلف عن أولئك الذين تراهم في أفلام السينما القديمة التي كانت أمّها تعشقها.

ذلك الرجل الذي يحلّ الخلاف بكلمة، ويبتسم بثقة، ولا يعلو صوته إلا ليُصلح بين الناس.

ومرّت السنوات عليها ، وظلّت صورته في خيالها كما هي؛ بطل الحارة، وصاحب الورشة الذي يشبه الأبطال في الحكايات. ومضت الأيام، وناهد ما زالت على حالها، تمرّ أمام ورشة عامر كل صباحٍ بابتسامتها الهادئة وشقاوتها التي اعتادها الجميع.

لكنّ شيئًا في نظرات عامر بدأ يتغيّر، وإن لم يُفصح عنه.

صار يجد نفسه يمرّ على محلّ والدها كثيرًا، يشتري ما لا يحتاج إليه، ويختلق الأعذار كلّ مرةٍ ليعود.

كانت ناهد تراه من خلف الطاولة، تبتسم بخفوت وتقول وهي تمسح بيديها قطعة القماش:

_” إزيك يا معلم عامر، النهاردة برضه ناقصك حاجات؟”

فيردّ مبتسمًا وهو يمدّ النقود:

_” والله أختي قالتلي ناقصنا شاي وسكر… وأنا راجل مطيع ماقدرش أقولها لأ.”

تضحك، وتردّ بخفةٍ:

_” أختك دي شكلها بتحب الشاي أكتر من الميه! طب تغير طلبها مرة!.”

فينظر إليها نظرةً سريعة ويقول بنبرةٍ فيها دفء:

_” براحتها هو أنا اشتكيت؟ مش يمكن الشاي هو السبب اللي بيخلّيني أعدّي هنا؟”

تتجمّد للحظةٍ وهي لا تفهم تمامًا قصده،

ثم تضحك بخجلٍ طفولي وتُخفض عينيها إلى الأرض، بينما قلبها الصغير يطرق بابًا جديدًا لم تعرفه من قبل.

ابتسمت بمراره وهي تتذكر يوم كُسر قلبها .

كانت قد أتمّت امتحانها الأخير في المرحلة الإعدادية، تسير في طريق العودة بخفّةٍ وفرحٍ طفولي، تحمل حقيبتها الصغيرة وتغني بصوتٍ منخفضٍ لنفسها، تشعر أن الدنيا كلها أمامها.

وعندما وصلت قرب الورشة، توقّفت فجأة.

كانت الأبواب مغلقة، والمكان ساكنٌ على غير عادته. رفعت حاجبيها بدهشة، واقتربت أكثر.

_”هو راح فين النهاردة؟”

تمتمت لنفسها، ثم تابعت طريقها نحو محلّ والدها.

كان والدها يضع بعض الصناديق في مكانها حين رآها تدخل، فابتسم وقال:

_” خلصتِ يا ناهد؟”

_” أيوه يا بابا، آخر امتحان والحمد لله خلصت وارتحت.”

ابتسم لها بحنان، ثم قال وهو يمسح عرقه بمنديلٍ صغير:

_” اقفي مكاني في المحل شوية، لما أروح مع أهل الحارة بيت البراق.”

رفعت رأسها بدهشةٍ وقلق:

_” في إيه يا بابا؟ في حاجة حصلت؟”

نظر إليها متردّدًا، ثم تنفّس ببطءٍ وقال:

_ “أنتِ ماتعرفيش؟”

_” لأ، في إيه؟”

_ “النهاردة فرح المعلم عامر… على بنت صاحب أبوه من الحارة اللي جنبنا.”

تجمّدت الكلمة في أذنها، وشعرت كأن الهواء انسحب من حولها. نظرت إليه بعينين واسعتين، لم تعرف بمَ تردّ.

ابتلعت ريقها بصعوبة، وقالت بصوتٍ مرتعشٍ حاولت أن تخفيه خلف ابتسامةٍ باهتة:

_ “طب… ربنا يسعده يا بابا.”

ثم أدارت وجهها بسرعةٍ نحو الرفوف، تتظاهر بالانشغال بترتيب العلب، بينما قلبها الصغير كان ينهار في صمتٍ مؤلم.

استفاقت ناهد من ذكرياتها على صوت الأذان يتردّد من مآذن الحارة، ينساب عبر الشباك بنغمةٍ خاشعةٍ تُوقظ القلب قبل الأذن.

تنفّست بعمق، كأنها تُعيد روحها من زمنٍ بعيد، ثم همست لنفسها وهي ترفع نظرها نحو السماء:

_ ” مش ناصيبي يارب ، بس ليه مش قادرة أنسي بعد السنين دي كلها؟ ليه الأنسان يبقي مصدر هلاك نفسه بالأحلام اللي بيبنيها وهو عارف أنها أحلام وبس ، وعمرها ما هتبقي حقيقة؟ أنا راضية يارب ، بس…بس قلبي واجعني .”

ابتسمت ابتسامةً خفيفةً يغلبها الألم، ونهضت ببطءٍ لتتوضّأ وتستعدّ لصلاة الفجر.

وقفت أمام سجّادتها مرةً أخرى، هذه المرّة لم تكن الطفلة التي حلمت، بل كانت مدام ناهد — المرأة القويّة التي علّمتها الحياة أنّ الدعاء في جوف الليل، هو السند الذي لا يزول.

………..

في صباحٍ مشرقٍ هادئ، كانت أشعة الشمس تتسلّل إلى مدرّج كلية طب الأسنان عبر النوافذ العالية، تلامس الوجوه المتعبة من السهر والمذاكرة.

وقف الدكتور مروان الهاشمي أمام السبورة، ممسكًا بقلمه، يشرح بإتقانٍ وثقةٍ تفاصيل المحاضرة، صوته منخفض لكنه واضح، ونظراته ثابتة تنمّ عن عقلٍ منظمٍ وحضورٍ قويّ.

كان الطلاب يتابعونه بانتباه، بعضهم يدون ملاحظاتٍ، وبعضهم يكتفي بالنظر إليه بإعجابٍ صامت.

أنهى الشرح بهدوء، وضع القلم على المكتب، ثم التفت بنظره نحو الصفوف الأخيرة، يلمح تلك المشاهد التي مرّت أمامه أكثر من مرة، لكنها اليوم أثارت شيئًا داخله.

صمت لحظة، ثم قال بصوتٍ هادئٍ لكن حازم:

_”يا جماعة… قبل ما نخرج، عايز أقول كلمتين صغيرين.”

ساد المدرّج سكونٌ خفيف، كل العيون اتجهت نحوه.

ابتسم “مروان “بخفة، وقال بنبرةٍ ودودة:

_”أنا ملاحظ حاجة بقالها كام أسبوع، ومش قادر أتجاهلها أكتر.

يا ريت ماحدش يزعل من كلامي… بس لازم أقولّه.”

ترددت همهمات خفيفة، فأكمل:

_”أنا مش ضد إن الولاد والبنات يتعلموا في مكان واحد، الجامعة مختلطة وده أمر واقع، وكلنا هنا إخوات وزمايل… لكن اللي أنا شايفه أوقات بيعدّي حدود الزمالة ، يعني، بنت تقعد جنب ولد ومافيش أي مسافة بينهم وغصب بيبقي في تلامس و نظرات… طب ليه؟”

صمت لحظة، كأنه يزن كلماته، ثم قال بنبرةٍ أهدأ:

_” الدين عمره ما حرّم التعامل، بس علّمنا إزاي نتعامل.

ربنا قال: قُل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم… وقل للمؤمنات يغضُضن من أبصارهن.

الكلام ده مش تهديد، ده تربية… تربية قلب قبل ما تكون أوامر.”

نظر إلى الصفوف الأولى، ثم تابع بصوتٍ أقرب للنصح:

_”أنا مش شيخ، ولا بعمل خطبة جمعة، بس أمانة التعليم كبيرة، ومش بس في الطب ولا الأسنان، في الأخلاق كمان ، أنا مابحبش أشوف بنت قاعدة مضايقة بسبب شاب لازق فيها، ولا ولد شكله مش مركز عشان قاعدة جنبه زميله،كلنا هنا بنسعى نكبر وننجح، ومفيش نجاح من غير احترام.”

قال أحد الشباب بنبرة سخرية:

_ ” ولو إحنا حابين كده يا دكتور ؟ صحاب وبنحب نقعد جنب بعض عادي .”

قال “مروان ” بنبرة حازمة :

_ أسلوبك يتعدل وأنتَ بتتكلم معايا الأول ، وصحاب دي مش هنا ومش قدامي ، أنا ماقبلش أشوف ولد لازق في بنت مش من محارمه بالشكل ده؟ هي مش أختك ولا مراتك عشان تقولي حابين نقعد بالشكل ده ، ولو غيري بيسمح بكده فهو حر في محاضرته ، لكن في محاضرتي فلأ مش هسمح .”

رفعت إحدى الطالبات يدها وقالت بخجل:

_”يعني يا دكتور، حضرتك تقصد نفصل البنات عن الولاد؟”

ابتسم وقال:

_”لأ يا دكتورة، مش فصل… بس نظام.

من المحاضرة الجاية، أول كام صف للولاد، والباقي للبنات، وممنوع ألاقي ولد قاعد في صف فيه بنات ، وممنوع الولاد تقعد ورا البنات ، كلامي واضح الرجالة في الصفوف الأولي،وده مش إجبار، بس احترام متبادل، وأمان للقلب والعين.”

نظر إلى الوجوه أمامه، فوجد بعض الابتسامات الخجولة وبعض الارتباك، فابتسم وقال بنغمةٍ خفيفةٍ لتهدئة الجو:

_”ومافيش داعي نبص على بعض كأننا في معركة، إحنا مش في حرب، إحنا في قاعة علم ، وجايين لهدف معين ، يبقي نسعي ليه بكل احترام وتعاون .”

ابتسم بعض الطلاب بخفة، بينما شعر آخرون بالاحترام لكلامه.

ثم أنهى كلامه قائلاً بهدوءٍ ووقار:

_”اللي بيحافظ على نفسه بيحافظ على بركة علمه.

خلّوا نيتكم صافية، وربنا هيبارك فيكم وفي سعيكم.”

ثم أخذ حقيبته، ألقى عليهم نظرة فخرٍ هادئة، وقال قبل أن يغادر المدرّج:

_”نشوفكم المحاضرة الجاية يا دكاترة… بس المرة دي، كل واحد في مكانه الصح.”

خرج مروان من المدرّج بخطواتٍ ثابتةٍ ووجهٍ مطمئن.

كان الصباح قد ازداد إشراقًا، والهواء محمّلًا برائحة القهوة المنبعثة من كافيتيريا الكلية.

ألقى التحية على بعض الطلاب الذين وقفوا أمام المدرج، فردّوا عليه باحترامٍ ممزوجٍ بإعجاب، وهو يكتفي بابتسامةٍ خفيفةٍ ويكمل طريقه نحو المكتبة المركزية.

قضى هناك ما يقارب الساعة بين الأوراق والمراجع، ينقّح بعض الأبحاث الخاصة بطلابه، ويراجع محاضرات الأسبوع القادم.

كان دقيقًا في كل شيء، حتى في ترتيب الملفات أمامه، كأن النظام جزء من طبيعته لا يستطيع الانفصال عنه.

وحين انتهى، جمع أوراقه ووضعها في الحقيبة، ثم خرج بخطواتٍ سريعةٍ إلى قاعةٍ أخرى، حيث كانت لديه محاضرة إضافية لطلاب السنة الأخيرة.

مرت الساعات ثقيلة، لكنها لم تُفقده هدوءه المعتاد، إلى أن انتهى من يومه الجامعي الطويل.

نظر إلى ساعته، فابتسم وقال لنفسه بنبرةٍ منخفضة:

“هدي خلاص المفروض تخلص محاضراتها دلوقتي ، اروح اخدها ونروح .”

كان مروان قد وصل إلى كلية الصيدلة، ووقف بسيارته بجانب الرصيف تحت ظلّ شجرةٍ عتيقةٍ عند البوابة.

أخرج هاتفه واتصل بهدى، وما إن ردّت حتى سمع صوتها المرهق الممزوج بالضحك:

_”أيوه يا دكتور، أنا في المكتبة، بصوّر ورق المحاضرات مع نور، استناني شوية وهجيلك.”

ابتسم بخفوت وقال:

_”تمام، أنا عند المكان اللي بستناكِ فيه علي طول . ماتتأخريش.”

أنهى المكالمة وهبط من سيارته وأخذ يسير بخطواتٍ بطيئةٍ في اتجاه المكتبة. وأول ما وقع بصره على الداخلين والخارجين، لمح هدى تقف بجانب آلة التصوير وهي تتحدث نور ، تلك الفتاة ذات الحجاب الطويلٍ ، تحمل دفترًا كبيرًا وتتابع باهتمامٍ حركة الورق الخارج من الآلة.

في تلك اللحظة كانت نور تمد يدها لتستلم مجموعة من الأوراق من العامل، ثم تعطي نصفها لهدى وهي تقول بنبرةٍ خفيفةٍ تعبّر عن ضجرٍ لطيف:

_”أخيرًا خرجنا من طابور العيش ده، يا ريت الورق كان عيش بلدي بجد، ونحط فيه شويه كبده !”

ضحكت” هدى” وهي تأخذ منها النسخة ويذهبوا لخارج المكتبة:

_”مع كوباية حاجة ساقعة! جوعتيني يا نور ، وبعدين أنا وأنتِ قُصار، بنضيع في الرجلين يا أختي، كل واحد يزق فينا كأنه مش شايفنا!”

ضحكت “نور” وهي تمسك بحقيبتها وتقول:

_”ما هو احنا اللي اخترنا نصور وقت الزحمة، بعد كده نيجي لعمك أحمد في الطراوة.”

نظرت لها “هدي” بسخرية وقالت بغمزة:

_” الطراوة دي هشوفها في بيت جوزي مش في صيدلة يا حلوة.”

كانت “نور ” سترد عليها ولكن قاطعم صوت” مروان” الهادئ وهو يقول:

_”السلام عليكم.”

نظرت له ” هدى “بسرعة وقالت بدهشة:

_”وعليكم السلام، إيه ده؟ إنت جيت بنفسك عادي كده؟”

اقترب بخطواتٍ واثقةٍ وقال مبتسمًا:

_”مانا لو استنيت حضرتك ، هفضل مستني لبكرة..

اكمل كلامة وهو يقول لنور:

_” أزيك يا دكتورة ؟”.

نظرت نور له باحترامٍ هادئٍ وقالت بخجلٍ بسيط:

_” الحمد لله يا دكتور.”

ابتسم وقال لهم وهو يمدّ نظره للحقيبة المليئة بالأوراق في يدها:

_” شكلكم كنتوا في معركة مش مكتبة.”

ضحكت وقالت:

_”أهو كله من الورق اللي ما بيخلصش.”

هدي بدأت تجمع حاجتها بسرعة وقالت:

_”يلا يا مروان نمشي؟ بالمرة نوصّل نور، طريقها في نفس الاتجاه.”

قال “مروان ” بهدوء :

_” ولو مش طريقنا نوصلها عادي ، يلا .”

هزّت” نور” رأسها بابتسامةٍ مهذبةٍ وقالت:

_”متشكره جدًا يا دكتور، بس لسه هنا أختي قدامها محاضرة ، هستناها ونروح مع بعض .”

قالت” هدى “وهي تحضنها:

_”براحتك يا نور، بس متتأخريش، الجو بدأ يبرد.”

ابتسمت” نور” وهي تردّ:

_”ماتقلقيش يا حبيبتي ، نص ساعة وهنمشي ، يلا مع السلامة.”

خرج مروان وهدى من مبنى الكلية، يسيران بخطواتٍ متناسقةٍ نحو سيارته المركونة عند الرصيف المقابل.

ركبت هدى في المقعد الأمامي وربطت حزامها، بينما جلس مروان خلف المقود وأدار المحرك بهدوء.

لم تمر سوى لحظة صمت حتى التفتت إليه بنظرةٍ ماكرة وقالت بمرحٍ ظاهر في صوتها:

_”ألا يا دكتره… أول مرة تيجي بنفسك وتستنى! ده أنتَ دايمًا تتصل وتقولي قدامك دقيقة واحدة، لو ماجتيش همشي!”

التفت إليها بنصف ابتسامة، ونظرةٍ فيها غيظٍ مصطنع:

_”قلبي حن النهاردة وقولت أجي أخدك ، غلطان أنا كده؟.”

ضحكت وهي تتمسك بحقيبتها وقالت بمشاكسه:

_” لأ مش غلطان يا مارو ، بس قلبك حنّ ولا دقّ؟”

هزّ رأسه بخفةٍ وهو يركز على الطريق:

_”أنتِ ما بتسيبيش كلمة تعدي أبدًا.”

_”أكيد لا، خصوصًا لما تخص القلب ،أصل كلام القلوب ده واعر جوي يا ولد أبوي .”

قالتها وهي تضحك بصوتٍ عالٍ.

قال لها بسخرية :

_” يا قلبي ؟ لأ حنينة وحنيتك مغرقانا يا هُدي .”

رمقته بنظرةٍ جانبية وقالت بغيظ:

_” يعني مش هتعترف ؟”

نظر لها بقلة حيلة وقال:

_” أعترف بأي حاجة وخلاص عشان ترتاحي ؟”

ردّت وهي ترفع حاجبيها بخفة:

_” لأ يا دكتور ، تعترف وتقولي جيت ليه تأخدني بنفسك ؟ ولا هروح أقول لسيادة اللواء علي تصرفاتك وهو يعمل تحرياته ويعرفلي الموضوع كله.”

ضحك رغماً عنه، وقال :

_”تحريات مرة واحدة؟ مسجل خطر يا بت ولا إيه ، تصدقي أنا غلطان ، بعد كده هسيبك تروحي مواصلات .”

ضحكت أكتر وقالت:

_”لأ خلاص يا باشا ، أنتَ تعمل اللي أنتَ عايزه ، إن شاءالله تيجي تأخدني من قلب المدرج ..

أكملت كلامها بغمزة :

_ ” هتلاقيني قاعدة جنب نور !”

هز رأسه بقلة حيله وقال :

_”خليني ساكت أحسن ، عشان شكل المعادلات عملتلك دماغ .”

قالت وهي تضحك بمرح:

_ ” دماغ بالنور….”

_” أنزلي يا بلوة وصلنا.”

ردّت بشقاوة وهي تفتح باب السيارة وتسرع من خطواتها :

_” هروح أقول لسيادة اللواء برضوا.”

ضحك “مروان ” بصدمة وهو يراها تختفي من أمامة وقال بمرح:

_” يا فضيحتك يا مروان ، طالما دي عرفت يبقي أخبارك هتطلع ترند بكرة.”

ركن السيارة أمام العمارة، وهبط منها ثم أغلق الباب بهدوء، وبقي للحظة في مكانه، ينظر إلى الطريق أمامه وهو يفكر بصمتٍ لا يعرف سببه.

………..

_”ركزي يا بنتي في المحاضرة وسيبي التليفون ده!”

جملة قالتها “هنا” بحدة لصديقتها سارة وهما في المحاضرة

رفعت “سارة” رأسها بتكاسل وقالت بلامبالاةٍ واضحة:

_”زهقت، بقالنا ساعتين قاعدين، دماغي راحت.”

ابتسمت” هنا” بخفة وقالت وهي تعود لتنظر نحو الدكتور:

_”ما هو لازم تركزي شوية، دي أهم محاضرة في الأسبوع.”

لم تُعيرها سارة اهتمامًا ، وأكملت عبثها بهاتفها حتي انتهوا من المحاضرة .

خرجت هنا مع سارة إلى ساحة الكلية، والهواء البارد يتسلل بين الأشجار. كانت سارة تمسك هاتفها بعصبية، تفتح الرسائل وتغلقها بسرعة، كأنها تخاف أن تراها هنا.

رفعت “هنا “حاجبيها وقالت وهي تراقبها بنظرةٍ فاحصة:

_”سارة، هو في إيه؟ التليفون ده مش سايبك لحظة، وبقالك كام أسبوع بتزوغي من المحاضرات… مالك؟”

زفرت “سارة “بخفة وقالت بترقب:

_”مفيش يا بنتي، بس… كنت بقابل عمرو.”

توقفت “هنا” فجأة كأن الكلمة نزلت عليها صاعقة:

_”عمرو؟! استني كده، تقصدي عمرو اللي معانا؟ اللي عايد السنّه ؟”

قالت”سارة” بتوتر :

_”أيوه… هو. بس بلاش نبرة الاستغراب دي، عمرو بني آدم كويس على فكرة.”

“هنا” بصتلها بحدة خفيفة وقالت:

_”كويس؟! ده سمعته في الكلية كلها مش لطيفة، كل أسبوع مع واحدة! وأنتِ بتقولي كويس؟”

“سارة “عقدت يديها وقالت بدفاع واضح:

_”يا بنتي انسي اللي الناس بتقوله، عمرو معايا غير، بيحترمني وبيخاف عليا.”

ضحكت “هنا “بسخرية وقالت وهي تسير جنبها ببطء:

_”بيخاف عليكِ؟ طب وليه يخليكي تزوغي من المحاضرات؟ وليه محدش يعرف علاقتكم؟”

ردت “سارة “بسرعة :

_”هو بس مش عايز الناس تتكلم… الدنيا كلها بتقلب كلام، وأنا كمان مش بحب حد يعرف.”

“هنا “وقفت قدامها وقالت بنبرة أهدأ :

_”يا سارة، اللي نيّته جد مش بيستخبى. اللي بيخاف على البنت يروح يخطبها مش يقابلها في السر.”

“سارة” هزت رأسها وقالت بنبرة بها شجن:

_”هو قاللي كده فعلاً، قاللي أول ما يلاقي شغل محترم هييجي من الباب.”

رفعت”هنا” حاجبها وقالت وهي تحاول كتم انفعالها:

_”وسمعتي الكلام ده قبل كده منه؟ ولا دي أول مرة؟”

نظرت “سارة” بعيد وقالت بخفوت:

_”كام مرة… بس المرة دي حسيته صادق.”

ضحكت” هنا “بسخرية وقالت:

_”يا سارة أنتِ مش شايفه حقيقته بسبب مشاعرك، مش كلمتين حلوين منه يعملوا فيكِ كده ، بعدين هتكتشفي إن الكلام الحلو أرخص حاجة في الدنيا.”

“سارة ” تنهدت وقالت وهي تنظر إلي الأرض:

_”أنا مش غبية يا هنا، بس هو بيخليني أحس إني مهمة، بيهتم بيا، بيكلمني كل يوم… محدش قبل كده عمل كده معايا.”

ابتسمت “هنا” بحزن وقالت:

_” حبيبي أنا مدركة مشاعرك ، بس اللي عايز يخليكي مهمة في حياته مش بالكلام، بالفعل. الحب يا سارة مش مواعيد على السلم ولا رسائل في السر.”

قالت بعناد:

_”أنتِ مش فاهماني، أنا بحبه، ومش عايزه أخسره.”

“هنا “قالت بهدوء وهي تنظر في عينيها:

_”طب قوليله ييجي يتقدم رسمي حتي لو ماعندوش شغل ثابت ، يروح بس يكلم والدك ، ولو هو فعلاً بيحبك مش هيتردد لحظة. بس لو لفّ ودور أو قالك استني شوية، يبقى خدي بالك… لأن بعد شوية الاستنا دي، بتطلع بنت هي اللي اتعلّقت ، وهو اللي مشي.”

صمتت “سارة”، وظهر بداخل عينيها خوف ، لكن حاولت تضحك وقالت:

_”يا شيخة أبعدي عني، دايمًا بتخوفي الواحد كده.”

“هنا” ضحكت وقالت بخفةٍ ممزوجة بالحنان:

_”أنا مش بخوفك ، أنا بنبهك عشان بحبك، مش عايزة أشوفك بتعيطي بعدين.”

سارة تنهدت وقالت:

_”هشوف، يمكن أعمل اللي بتقوليه… بس مش دلوقتي.”

“هنا” قالت بابتسامةٍ صغيرة وهي تسحبها من يديها:

_”ماشي يا بنتي، بس أوعي تسيبي المحاضرات تاني عشان عمرو، هو مش هيمتحن بدالك .”

ضحكت سارة بخفةٍ وقالت:

_” مانتِ هتجيبلي المحاضرات .”

ضحكت “هنا ” معاها وقالت:

_” ده بعينك يا حلوة ، تحضري محاضراتك كلها بعد كده عشان مازعلش منك ، ويلا نمشي.”

رنّ هاتف هنا في هذه اللحظة،نظرت للشاشة وابتسمت قائلة بهدوء:

_”دي نور، شكلها خلصت محاضرتها.”

ثم ردّت بسرعة:

_”أيوه يا نور… تمام، أنا عند البوابة اللي جنب الكافيتريا… آه، خلاص أنا جايالك.”

أغلقت المكالمة والتفتت إلى سارة وقالت برفق:

_”يلا بينا نمشي، هنقابل نور ونروح سوا.”

هزّت سارة رأسها وقالت بصوتٍ واهن:

_”أنتِ روحي يا هنا، أنا هستنى شوية.”

نظرت إليها هنا بترددٍ لحظة، ثم ربتت على كتفها وقالت بلطف:

_”ماشي يا حبيبتي، بس خدي بالك من نفسك… وما تفكريش كتير.”

وغادرت بخطواتٍ بطيئة حتى لمحَت نور مقبلة بابتسامتها المعتادة، تحمل كتبها بيدٍ وكوب عصير بيدٍ أخرى،

قالت “نور” وهي تلوّح من بعيد:

“يا بنتي، اتأخرتي ليه؟ أنا كنت همشي وأسيبك.”

ضحكت “هنا “وقالت وهي تمسك بإيدها:

“اتحبست في نقاش خطير مع سارة.”

“نور” رفعت حاجبها بدهشة لطيفة وقالت:

“نقاش خطير؟ بخاف من كلامكم ونقاشكم.”

ضحكت “هنا” وقالت:

_” ده أحنا غلابة ، ماتخافيش .”

سارتا معًا وسط الزحام، ونور تسألها بمرح:

_”طب إيه أخبار الدكتور اللي كان بيزعق إمبارح؟ لسه بيقلب وشه كده؟”

“هنا” هزّت رأسها مبتسمة:

_”آه والله، شكله ناوي يتخانق مع الزمن كله النهاردة، وأنا كنت همسكه أقول له اهدي يا دكتور هتتصعب عشان شوية عيال زينا.”

انفجرت” نور” في الضحك وقالت وهي تسير بخفة:

_”أنتِ ما تعرفيش تهدي حد، ده لو حد بيضحك ممكن تعصّبيه!”

ضحكت هنا هي الأخرى، وقالت باستعجال:

_”طب يلا عشان نبدأ معركتنا مع المواصلات.”

ضحكتا الاثنتان، وساروا في اتجاه موقف السيارات .

………

جلس مهاب على مكتبه في المعرض، يراجع أوراق الحسابات بتركيز تام، بينما مازن في محاضراته، فكان كل شيء يسير بهدوء، حتى انقطع الصمت بدخول علي مسرعًا، وجهه مشحون بالتوتر.

– “معلش يا باشمهندس، ممكن أمشي دلوقتي؟ ضروري جدًا…” جملة قالها “علي ” وهو يلهث قليلًا.

رفع مهاب رأسه من الأوراق، نظر إليه باستغراب من توتره، وصوته هادئ:

– “اهدَ يا بني… في حاجة حصلت؟”

– “أصلهم كلموني من البيت وقالوا المدام شكلها بتولد!”

رد “علي” بعينين متسعتين وقلبه يخفق بسرعة.

وقف “مهاب” عن المكتب، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يجيب بهدوء:

– “طب اهدي كده، كلم الأول الدكتورة اللي متابع معاها عشان تجهز لما توصلوا ليها.”

رد “علي” بتوتر:

– “كلموها… وأنا هروح أخدهم ونروح.”

قال علي بتوتر واضح.

نظر” مهاب” حوله، ثم نادى على حمادة:

– “تعال يا حمادة… خد عربية الشغل، وصل علي عند الدكتورة، جسمه كله بيترعش كده، ومش هيقدر يسوق… وبعدها سيب العربية معاه بعد لما تتطمن انهم استقروا في مكان ، بعدها تعالي .”

ابتسم “حمادة ” قائلاً:

– “عيوني يا هندسه… هخرج العربية واستناه برا.”

توجه” مهاب” نحو الخزنة، سحب مبلغًا من المال وسلمه لعلي وهو يحتضنه برفق:

– “اجمد شوية يالا مالك بتترعش كده؟ ، يلا روح لمراتك.”

حاول “علي” رفض أخذ الفلوس:

– “لا يا باشمهندس… مستورة والحمد لله.”

قاطعه مهاب بابتسامة دافئة:

– “أنتَ أخويا يا علي، وده مرتبك على فكرة، بس هتاخده بدري شوية، ومكافأة عشان أنتَ شاطر في شغلك وحققت مبيعات كويسة الشهر ده… وهدية مني للبيبي اللي أبوه واقف يتكلم و سايبه.”

وضغط بخفة على كتف علي.

– “يلا يا علي… حمادة هيوصلك، ولو احتجت حاجة كلمني على طول.”

احتضن “علي” مهاب بسرعة وهو يقول:

– “والله مش بنحبك من فراغ يا ريس.”

ابتسم مهاب بخفة وهو يراقب علي وهو يمشي مبتعدًا، ثم عاد إلى مكتبه وجلس، متابعًا أوراقه وكأن شيئًا لم يطرأ، لكن قلبه كان يخفف بابتسامة صغيرة.

كانت عقارب الساعة تقترب من الثالثة عصرًا، حين خيّم الصمت على مكتب مهاب داخل المعرض.

جلس منهمكًا فوق أوراق الحسابات، يُراجع الأرقام بعينٍ متعبة، وصوته الخافت يتهامس مع الورق كأنّه يحاول ضبط إيقاع يومٍ مزدحم بالضغوط.

وفجأة، انفتح الباب بصوتٍ خفيفٍ، أعقبه صوتٌ أنثويٌّ رفع ضغطه في لحظة:

ــ “مساء الخير!”

رفع رأسه ببطء، وكأنّه يعرف مسبقًا مصدر الإزعاج. كانت شهد تقف عند الباب، بثقةٍ وابتسامةٍ واسعةٍ لا تخلو من تحدٍّ.

قال ببرودٍ ظاهري:

ــ “مساء النور يا شهد، نورتِ المكان.”

دخلت بخطواتٍ محسوبة، عيناها تتجوّلان في أرجاء المكتب، قبل أن تجلس أمامه قائلةً بابتسامةٍ ناعمة:

ــ “المكان منوّر بيك يا مهاب… بس المعرض بجدّ حلو أوي، أنا أول مرة أجي هنا.”

رفع حاجبيه وقال بجديةٍ لا تخفى:

ــ “وجاية ليه؟”

تغيّرت ملامحها للحظةٍ، واصطنعت الحزن في صوتها:

ــ “الحق عليّا، كنت قريبة فقولت أعدّي عليك وأشوفك.”

ضحك بخفوتٍ ساخرٍ وهزّ رأسه:

ــ “كتر خيرك والله.”

ثم عاد لينحني فوق أوراقه، يقلبها وكأنها أهمّ من أي وجودٍ في الغرفة.

تطلعت إليه بضيقٍ وقالت:

ــ “هتشتغل وأنا قاعدة؟”

رفع رأسه دون أن ينظر لها طويلًا، وصوته خرج متماسكًا، لكنه مشحونٌ بالغضب المكتوم:

ــ “مانا هنا عشان أشتغل يا بنت عمي، مش جاي ألعب ولا أعمل مقابلات.عايزة تقعدي؟ اقعدي في المعرض بره أو هنا زي ما تحبي، بس أنا هكمّل شغلي.”

قالت بنغمةٍ ناعمةٍ متعمّدة:

ــ “بس أنا جايّة أقعد معاك يا هوبا.”

تجمّدت ملامحه لثوانٍ، ثم رفع نظره إليها بحدّةٍ واضحة،

وقال بصرامةٍ وهو يضغط على الكلمات:

ــ “اسمي مهاب، ومش عايز أسمع الكلمة دي تاني.

وخلي بالك من كلامك بعد كده.”

رمقته بنظرةٍ فيها مزيجٌ من الدهشة والاستخفاف، وقالت بخفوتٍ متصنّعٍ للبراءة:

ــ “عادي يعني… بدلعك، ما إحنا ولاد عم.”

رفع “مهاب” نظره لها بحدةٍ طفيفة، نبرته بها جدية أكثر من المعتاد :

ــ “شهد، في فرق كبير بين الدلع، وبين قلة الحدود، الدلع ده مع الناس اللي بينا حدود تسمح بكده. “

قطبت حاجبيها وهي تميل على المكتب ناحيته وقالت:

ــ “يعني إيه؟ هو أنا عملت إيه يعني؟ ده هزار يا مهاب، متاخدش كل حاجة بالجد كده!”

أخذ نفسًا طويلًا، ألقي القلم وأشار لها لكي تعود لمكانها وقال بهدوءٍ متحكم:

ــ “أنا مش بزعل من الهزار، بس مش منك، أنتِ مش واحد صاحبي، ولا في بينا الكلام ده، ودي مش أول مرة تتجاوزي الحدود.”

شهقت بخفوت وهي تحاول تضحك تخفف الجو:

ــ “أنتَ دايمًا كده ناشف! على طول متحفّظ وملوش في الضحك.

هو كل حاجة عندك تتحسب بالقلم والورقة يا باشمهندس؟”

رمقها بنظرةٍ جانبية وقال ببرودٍ لا يخلو من التعب:

ــ “الضحك مش غلط، بس مش على حساب الاحترام.

ولو مش عاجبك أسلوبي، الباب هناك مفتوح.”

انعكست على ملامحها صدمةٌ خفيفة، ثم سرعان ما تمالكت نفسها وقالت بنغمةٍ متوترة تُخفي وراءها الغيظ:

ــ “هو كل ده ليه؟ أنا بس بحاول أتكلم معاك، ولا حتى ده بقى ممنوع؟”

أجابها ببرودٍ تام:

ــ “مش ممنوع، بس أنا شايف أن مافيش داعي لكلامنا ، وكمان أنتِ بتتكلمي بطريقة غيري ، وأنا ليا طريقتي .”

هزّت رأسها ساخرة:

ــ “طريقتك جامدة قوي يا مهاب، كل البنات شايفاك متحجر… لا بتضحك ولا بترخي، حتى معايا أنا!”

قال بثبات:

ــ “مافيش داعي أرخّي مع حد مايخصنيش ولا داخل دايرتي.”

كانت كلماته قاطعة، كأنها باب أُغلق في وجهها.

تغيّر وجهها، وبدت نظراتها تجمع بين الجرح والغيرة، ثم قالت بتهكمٍ واضح:

ــ “آه، نسيت… الدايرة اللي في حياتك محجوز لحد تاني.”

توقف عن الكتابة، ورفع نظره إليها ببطء:

ــ “يعني إيه الكلام ده؟”

ضحكت بخفوتٍ مرّ، ثم قالت وهي تشيح بنظرها:

ــ “مش لازم تمثل عليّ، أنا مش غبية.

عارفة إن في واحدة شغلاك ، بس مش قادرة استوعب أن مهاب البراق وواحد في مكانته يعجب بواحدة مالهاش قيمة زي رق…”

قاطعها مهاب وهويقف وقد تبدّل وجهه كليًا، غابت ملامح الهدوء، وصوته حين تكلّم كان منخفضًا لكنه ثقيل:

ــ “خدي بالك يا شهد من اللي بتقوليه.”

ــ “ليه؟ هو أنا قلت حاجة غلط؟ مش هي دي اللي موقعاك ومخلياك مش شايف حد غيرها ، بس إزاي ها ..بتعملك إيه عشان تحبها الحب ده كله ، دي حتي ماتسواش حاجة..”

تحرّك مهاب ووقف قبالتها..لم يكن في صوته نبرة صراخ، لكن الصرامة التي خرجت من كلماته جعلت الدم يتجمد في عروقها:

ــ “كلمة كمان عن رقية… وهنسى إن بينا دم…وإنك واحده ست ..

شهقت بخفة وهي تحدّق فيه مذهولة، لكنه أكمل بصوتٍ منخفضٍ حاد:

ــ “هي مش موضوع كلام ولا مقارنة ولا تلقيح ، وبما إنك شاطرة وعرفتي مكانتها عندي ، يبقي مجرد ما اسمها يتذكر تفكري في كلامك مليون مرة قبل ما يخرج منك ، عشان لو سمعتك تاني جايبة سيرتها هزعلك.”

ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم قالت بخفوتٍ مرتجف:

ــ “ده حب ولا هوس يا مهاب؟”

قال وهو يشير نحو الباب بصرامةٍ :

ــ “خروجك دلوقتي أحسن من ردّي.”

وقفت لثوانٍ، نظراتها تحاول أن تخترق جدار الهدوء الذي يختبئ خلفه، ثم قالت بغيظٍ مكتوم:

ــ ” هي مش قدنا يا مهاب ولا شبهنا …”

قطاعها وهو يقول بسخرية :

_” رأيك والزبالة واحد بالنسبالي ، ويلا عشان عايزين نرش مُبيد حشرات .”

خرجت وهي تغلق الباب بعنفٍ، وتركته وحده في صمتٍ ثقيل.

ظل واقفًا لثوانٍ بعد أن خرجت شهد، ثم اتجه إلى مكتبه مرة أخرى وجلس على الكرسي، رتّب الأوراق أمامه، ثم قال بخفّة وضحكةٍ خافتة:

_”البت حرقاهم من غير ما تعمل حاجة، مجرد اسمها مكهرب الدنيا… ليهم حق يتحرقوا والله، هي أي حد ! دي حبيبة الروح والقلب !”

سرح لثوانٍ، ثم انفجر ضاحكًا بمرارة وهو يقول:

_”كل واحد فينا في دنيا، وبرضوا ماحدش سايبنا في حالنا… أومال لو اجتمعنا هيحصل إيه؟ بس نجتمع الأول يا مهاب… ربنا يحنن قلبها عليّا يا رب.”

قال آخر كلماته بنبرةٍ يملؤها الرجاء.. ثم نظر إلى ساعته، مدّ يده إلى الهاتف واتصل بمازن، وما إن ردّ حتى قال بنبرةٍ هادئة :

ــ ” خلّصت محاضرتك يباشا ولا لسه؟”

قال “مازن” بمرح :

ــ “أيوه يا هندسه لسه مخلص ياخويا ، أنا عايز أتخرج من الكلية يا مهاب ، خرجني بسرعة .”

ردّ “مهاب ” ضاحكاً:

ــ ” حاضر، روح هات نادين من الشغل الأول ، وأنا هخرجك بالليل وأفسحك وأعملك اللي أنتَ عايزه .”

قال “مازن” بلهفة:

ــ ” أحلف كده ، ونروح نجيب لبس وأنتَ اللي تدفع ؟”

ضحك “مهاب ” علي كلماته أخيه وقال :

_ ” أفضل أتكلم كتير وسيب أختك لعند لما تزهق وتروح لوحدها ، يلا يا حبيبي روح هات أختك وروح علي البيت وأنا ساعة كده وهاجي.”

جاءه رد “مازن” وهو يقول بجدية :

_” خلاص أنا ركبت العربية وهتحرك أهو ، يلا سلام يا كبير .”

أنهى المكالمة ووضع الهاتف على المكتب، ثم جلس بهدوءٍ وأسند ذراعيه إلى المقعد الخلفي.

لحظة صمتٍ قصيرة مرّت، غابت فيها نظراته عن الواقع، وبدت وكأنها تهيم في مكانٍ آخر… في وجهٍ آخر.

ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، ثم همس بخفوتٍ:

ــ ” رقية مهاب البرّاق!! ياه …يارب تتقال قريب.”

رفع رأسه من جديد، واستعاد ملامح الجدية المعتادة، ثم عاد إلى عمله كأن شيئًا لم يكن.

…..

كانت نادين تجلس خلف مكتبٍ أنيقٍ في الطابق الرابع من شركة الديكور التي التحقت بها مؤخرًا.

الشمس كانت ما تزال تُلقي بخيوطها الأخيرة من خلال الزجاج الواسع، تُضيء أوراق الحسابات المصفوفة أمامها، وتعكس لمعةً على قلمها الذهبي الذي تديره بخفةٍ بين أصابعها.

بدت منهمكة في العمل، تُقلّب الفواتير وتدوّن الملاحظات على شاشة الحاسوب بدقةٍ وحزم.

كانت ملامحها هادئة لكن حادة في الوقت ذاته، وصوتها الجاد وهي تتحدث مع الموظفة الجالسة بجوارها يدلّ على ثقةٍ كبيرة بنفسها.

قالت وهي تُسلّم زميلتها بعض الأوراق:

ــ “خدي دي يا منار، الحسابات دي لسه ناقصة بند المصروفات، اتأكدي إنهم مانسوش يرفعوها للمدير.”

ابتسمت” منار “وقالت بمزاحٍ خفيف:

ــ “ما شاء الله يا نادين، لسه جديدة في الشركة وبتتكلمي كإنك المديرة.”

ضحكت “نادين” بخفةٍ وهي تقول:

ــ “هو ده المطلوب يا منار، أهم حاجة الشغل يبقى مظبوط… وبعدين ما أنا داخلة أشتغل بجد مش أضيّع وقت.”

توقفت لحظةً حين اهتزّ هاتفها على المكتب، نظرت إلى الشاشة، فارتسمت على وجهها ابتسامة تلقائية وهي ترى اسم “مازن”.

فتحت المكالمة وقالت بنبرةٍ لطيفة:

ــ “ها يا مازن، فين وصلت؟”

قال “مازن ” مازحًا:

ــ “أنا تحت يا ست المحاسبين، يلا خلّصي بقى ، عشان جعان أوي”

قالت “نادين ” وهي تتمسك بأوراق:

ــ “لسه عندي خمس دقايق كمان وهانزل، ما تستعجلنيش.”

ردّ “مازن ” بضجر :

ــ “خمس دقايق عندك يعني ربع ساعة، أنا عارفك، ما أنتِ أختي من زمان “

ضحكت وهي تقول:

ــ “طيب خلاص، أوعدك المرة دي خمس دقايق بجد.”

ــ “هاقعد أعدّهم يا نادين، يلا سلام.”

أنهت المكالمة، رتّبت أوراقها بسرعة، وأغلقت الحاسوب، ثم وقفت أمام المرآة الصغيرة المعلقة بجانب مكتبها تُصلح حجابها بعنايةٍ أنيقة، وأضافت القليل من المرطب علي يديها، قبل أن تلتقط حقيبتها.

وهي خارجة من المكتب، نادتها منار بخفة ظل:

ــ “استني يا نادين! ما تنسيش تبقي تسألي المدير عن معاد اجتماع بكرة ،عشان نتأكد برضوا.”

التفتت” نادين” بابتسامةٍ واثقة وقالت:

ــ “ما تقلقيش، أنا كاتبة الملاحظات كلها… الأجتماع بكرة الساعة عشرة الصبح ، وكمان أحنا حساباتنا سليمة ، يبقي مافيش داعي للخوف ، أنا همشي بقي ..سلام.”

ضحكت “منار” وهي تلوّح لها:

ــ ” ماشي يا ست المديرة الصغيرة ، مع السلامة .”

هبطت نادين إلي الأسفل وعلي وجهها ملامح رضا وراحة، كأنها أخيرًا بدأت تُعيد بناء نفسها من جديد،وحين خرجت إلى الشارع، كان مازن واقفًا بجوار السيارة يتكئ على الباب ويهزّ المفتاح بيديه.

ابتسم وقال مازحًا:

ــ ” نزلتي بعد خمس دقايق فعلًا ..الله أكبر ده أحنا ندبح فرخة بقي.”

قالت وهي تتجه له :

ــ ” أهو شوفت؟ أنا بنت ملتزمة يا سيدي.”

فتح لها الباب وقال بمزاح:

ــ “طب نبدأ نحتفل بالمناسبة دي، تعزميني علي عصير ولا قهوة؟ “

ضحكت وهي تجلس علي الكرسي بداخل السيارة:

ــ ” أعزمك ؟ أنا اللي هعزمك يا مازن ؟ بس أنا مش هعزم حد ، أنا عايزة أروّح بس، رجلي مش حاسة بيها.”

قال بمرح وهو يجلس علي مقعد السائق :

_” ليه بتشتغلي وأنتِ واقفة يا نادين ؟ ده أنتوا قاعدين في مكتب مُكيفه يا ماما .”

_” الله أكبر الله أكبر ، عينك هتجيبني الأرض .”

ضحك هو وتحرك بالسيارة، وظل يتحدث معها وهي تردّ عليه بحنيه ومرح لأول مرة مُنذ وقت طويل .

…..

مرّت أيامٌ عدّة على نفس الوتيرة الهادئة، لا جديد في الحارة سوى تكرار التفاصيل المعتادة: العمل، العودة، القلق الصامت، والليل الطويل الذي لا يخلو من التفكير.

وفي تلك الليلة، كان البيت ساكنًا تمامًا، كأنّ أنفاسه هادئة مثل من فيه.

نام الجميع، وبقيت رقية وحدها تُرتّب ما تبقّى من الفوضى الصغيرة التي تتركها الحياة اليومية.

كانت تجمع الغسيل المعلّق على الحبال داخل البلكونة، تُنزل القطع واحدة تلو الأخرى وتطويها في صمت، قبل أن تتجه إلى سلة الملابس لتبدأ في فرز ما يحتاج للغسل.

جلست على الأرض أمام السلة الكبيرة، وبدأت تُقلّب الملابس قطعةً قطعة، كعادتها تبحث في الجيوب قبل أن تُلقي بها في الغسالة.

ضحكت بخفة وهي تخرج من أحد البنطلونات مناديل وقالت بصوتٍ منخفض:

ــ ” عمره ما يفتكر يطلع حاجة من هدومه.”

مدّت يدها إلى جاكيته الشتوي، وفتحت الجيب الداخلي كعادتها، لكنها هذه المرة لم تُخرج ورقة أو عملة معدنية كما اعتادت، بل شيئًا صغيرًا ملفوفًا بعناية في ورقة بيضاء.

نظرت إليه بدهشةٍ خفيفة، فتحت الورقة ببطء، فإذا بداخلها حبّة صغيرة جدًا .

رفعتها أمام عينيها تتأملها باستغرابٍ، همست لنفسها:

ــ “حباية إيه دي اللي في هدوم سيف؟!”

تجهم وجهها قليلًا، وجلست على الكرسي تفكر.

ــ “أصحيه وأسأله؟… ولا أستنى الصبح؟ يمكن حباية صداع جابها من الصيدلية ومخدهاش… بس دي صغيرة أوي، وأول مرة أشوف شكلها كده، ولا حتي معاها شريط ولا علبة ولا عليها أسم… غريبة.”

صمتت قليلًا، تنظر للحبة بقلقٍ متزايد، ثم بدأت الذكريات تهاجمها؛ كلام “محمد”العامل في السنتر، حين حكى عن سيف وما يفعله في الفتره الأخيرة ، وأيضًا ،تذكرت عصبيته بدون مبرر

تنهّدت بعمق، وشعور ثقيل بالشك بدأ يغزوها، ثم قالت بحسمٍ وهي تقف:

ــ “هفضل أكل في نفسي كده؟ الصيدلية لسه فاتحة… أنا هلبس وأنزل أسأل هناك.”

أخذت عباءتها وخمارها، وخرجت في هدوءٍ من الغرفة.

البيت كان غارقًا في الظلمة إلا من ضوء خافتٍ يتسلل من المطبخ، والحارة في الخارج ساكنة، لكنها ما تزال نابضة بالأمان.

الهواء البارد لامس وجهها وهي تمشي بخطواتٍ سريعة عبر الأزقة المبلّلة ببقايا مياه الغسيل، تمرّ على دكاكين أغلقت أبوابها إلا من ضوءٍ واحدٍ خافت أمام مقهى صغير ما زال بعض الرجال يسهرون فيه بصوتٍ منخفض.

قطعت شارعين صغيرين حتى وصلت إلى الصيدلية المضاءة من بعيد بلونها الأخضر الهادئ.

دفعت الباب الزجاجي بخفةٍ، لتجد الطبيب “أحمد” جالسًا خلف الكاونتر، يراجع بعض الأوراق.

رفع رأسه فور سماع صوت الباب، وابتسم قائلًا:

ــ “السلام عليكم يا رقية… نور مش هنا ؟”

ردّت بهدوءٍ وهي تقترب:

ــ “عارفة يا دكتور، أنا جايّة أسألك على حاجة.”

اعتدل في جلسته بابتسامة ودودة:

ــ “تأمري يا أجدع بنت في الحارة، خير؟”

قالت بتردّدٍ خفيف وهي تُخرج الورقة من جيبها:

ــ “هو أنا لو جبتلك حباية، تقدر تعرف دي بتاعة إيه؟”

نظر لها بابتسامةٍ فضولية وقال:

ــ “لو عليها اسم أو رمز أقدر، في حبوب مميزة معروفة، وبالخبرة بنعرف أشكال كتير.”

فتحت الورقة وقدّمت له الحبة.

تناولها بين أصابعه يتفحّصها طويلاً، ثم رفع عينيه إليها وقد بدا عليه التردد والشك:

ــ “بصي يا أستاذة رقية… دي مفيهاش لا اسم ولا رمز… شكلها مش دواء عادي. مش هقدر أقولك حاجة دلوقتي غير لما أتأكد بالتحليل.”

رفعت حاجبيها بقلق:

ــ “تحليل! وتحللها إزاي؟”

قال بهدوءٍ مطمئن:

ــ “دي شغلتنا بقى. أنا هاخدها معايا الشغل ، وحللها في المعمل بتاعنا، وهنعرف بالضبط دي إيه..بس أنا مسافر بعد الشغل على طول، فهتستني يومين كده لما أرجع الصيدلية…أو هبقى أتصل عليكِ، أنا معايا رقم المطعم.”

قالت وهي تُخفي توترها بابتسامةٍ صغيرة:

ــ “تسلم يا دكتور… ماشي، هنتظر مكالمة حضرتك. وياريت نور ماتعرفش حاجة عن الموضوع ده.”

ابتسم وهو يهزّ رأسه:

ــ “سرك في بير يا شيف حارتنا. تحبي أنادي حد يوصلك البيت؟”

أجابت بهدوءٍ وهي تهمّ بالخروج:

ــ “الحارة أمان يا دكتور… مع السلامة.”

خرجت بهدوء، وخطاها تتردد على الأرض الصامتة.

وقف الطبيب ينظر للحبة مرةً أخرى، يقلبها بين أصابعه بتوجسٍ، قبل أن يهمس لنفسه بحيرةٍ ظاهرة:

ــ “جابت الحباية دي منين يا ترى؟… يا رب ما تطلع اللي في بالي… ولا يكون اللي في بالي هو اللي بياخدها، عشان البنت دي ماتستاهلش كده أبداً.”

ثم أطفأ النور الزائد في الصيدلية، وبقي ينظر من خلال الزجاج إلى الحارة الهادئة، وقد بدت ملامحه شاردةً كأنّ شيئًا في صدره انقبض فجأة.

……

كان الليل ساكنًا، والحارة شبه نائمة، لا يُسمع فيها سوى وقع خطوات رُقية العائدة في صمتٍ متأمل.

وما إن وصلت أمام الورشة، حتى خرج مهاب ! توقّف لحظة، اتسعت عيناه، وخرج صوته متعجّبًا:

ـ” رُقية؟!”

التفتت ناحيته، توقفت مكانها، ونظرت إليه باستغرابٍ يمتزج بالحذر. اقترب منها بخطواتٍ ثابتة، حاجباه مرفوعان، وصوته منخفض لكنه حادّ:

ـ “كنتِ فين في الوقت ده؟”

أجابته بهدوءٍ متعمّد وهي تنظر إليه بثبات:

ـ” في مكان عادي.”

نظر لساعته وهو يقول لها غضب طفيف:

ـ” الساعة ١٢ يا رقية، مكان عادي إيه اللي بيشتغل في الوقت ده؟ إزاي أصلًا تخرجي في الوقت ده لوحدك؟.”

قالت له ببرود ظاهري :

ـ “ما أنا عارفة الوقت، مش محتاجة تفكرني ؟”

تنفّس بغيظٍ واضح، وعدّل ساعته بيده قائلًا بحدّةٍ مكتومة:

ـ ” ولما حضرتك عارفة ، نازلة لوحدك ليه في الوقت ده ؟”

قالت له بغضب وهي تنظر بعيد:

ـ “أنا مش طفلة يا باشمهندش هخاف أنزل لوحدي ، وماتتكلمش معايا بالطريقة دي .”

ـ “محدش قال إنك طفلة، بس أنتِ بنت، والبنت مكانها مش الشارع في نص الليل.”

قالت بصدمة :

_” نص الليل ؟ أنتَ مكبر الموضوع أوي عالفكرة ، الناس لسه في الشوارع .”

شدّ أنفاسه، وحدّق فيها بنظرةٍ يملؤها الغضب المكبوت:

ـ ” وأنا مالي بالناس ، هخاف عالناس ليه ؟ يخرجوا وقت ما يحبوا ، أنا بتكلم عليكِ.”

قالت وهي تذهب من أمامه :

_” وفر خوفك ،مش محتاجة حد يخاف عليا.”

_”مكانك!.”

قالها بحدة جعلتها تقف في مكانها بتوتر ، وقف أمامها وقال بهدوء مزيف:

ـ ” كُنتِ فين يا رقية ؟”

ابتعلت ريقها من نبرته ، وقالت بزهق :

_” كُنت في الصيدلية ، أرتحت ؟”

ـ “في الصيدلية؟ الساعة ١٢؟ بتعملي إيه هناك؟”

ـ” بسأل على حاجة.”

ـ “حلو، تسألي على إيه؟”

نظرت له بأستغراب وقالت :

_” أنتَ فاضي للدرجادي؟ روح شوف اللي أنتَ بتعمله في الورشة .”

قال لها بغيظ:

_ ” مابعملش حاجة ، الحاج نسي تليفونه هنا وجيت أخده وهروح .”

_” حلو يبقي مع السلامة بقي وبلاش تعمل تحقيق.”

حاول يتحكم في غضبه منها وقال بهدوء:

_ ” مش تحقيق يا رقية ، بس لما ألاقيكي ماشية لوحدك في الوقت ده، لازم أقلق.”

قالت بهدوء وهي تتحاشي النظر إليه:

_ ” مافيش داعي لقلقك المبالغ فيه ده يا باشمهندس .”

توقف لحظة، وبدت عيناه وكأنهما فقدتا حدتهما، وقال بغيظ:

ـ ” اسمي مهاب …مهاب ، حروفه مش صعبه .”

نظرت إليه، ونبرتها أصبحت أهدأ لكنها لا تزال حادة:

ـ ” استغفر الله العظيم ، أنتَ عايز إيه .”

ثبت نظره في عينيها لثوانٍ طويلة، وصوته خرج أبطأ وأهدأ:

ـ ” أنتِ عارفة الإجابة ، بس عماله تودي وتجيبي فينا.”

تنهدت وقالت :

ـ ” أنا قولت ردي من ست سنين ، وقفلت الموضوع ، أنسي أنتَ بقي وأقفل الموضوع وهترتاح.”

ـ ” لأ مش هرتاح.”

ـ “جرب يمكن ترتاح “.

ضحك بمرارة وقال:

ـ “لا، مش هرتاح يا رقية ، ومش عايز أحاول .. لو في حاجة هحاول عشانها هي أن أحنا نجتمع مع بعض .”

رفعت نظراتها له وقالت بهدوء :

_ ” أنسي .”

ـ “مش باختياري.”

ـ” يبقى مشكلتك أنتَ، خليني أطلع، الليلة اتأخرت خلاص.”

ـ” روحي، بس تاني مرة، لو احتجتي تنزلي في وقت زي ده، قوليلي.”

ضحكت بسخريةٍ خفيفة وقالت:

ـ “أقولك؟ وليه؟ عشان أخد الأذن ؟”

هز رأسه بيأس وقال :

ـ ” أطلعي يا رقية رفعتيلي ضغطي .”

قالت بهمس وصل له :

_” رخم ، مش هو اللي وقفني وصدع دماغي .”

نظر إليها نظرةً حادة امتزج فيها الغضب بالكتمان، عضّ على شفته وقال بصوتٍ هادئٍ غاضب:

ـ ” علي فوق ، تصبحي علي خير .”

ثم استدارت دون أن تُجيبه، ومضت بخطواتٍ ثابتة، بينما قلبها يخفق بعنفٍ في صدرها.

وأما هو، فظل واقفًا في مكانه، يتابع ظلها المتلاشي في آخر الحارة، وهمس في سرّه بنبرةٍ تحمل وجعًا مكتومًا:

ـ” هتجنّنيني يا بنت المهدي، بس أنا وراها وراها ، أنا يعني ورايا حاجة .”

تعليقات