رواية ظلي لم يغادر المكان الفصل الثالث عشر
"لم تكن الجدران في ذلك القصر مجرّد حجارة صامتة، بل كانت تحفظ الأسرار كما تحفظ الندوب. وكلّ سرٍ مخفي، حان وقت خروجه… بصوتٍ يجلجل من الأعماق، لا يرحم، ولا يترك مهربًا.
في تلك الليلة، كان على نور وخالد ومازن وإهداء أن يواجهوا الحقيقة… حقيقة أنفسهم قبل أن يواجهوا شبح ريم."
_______________________________________
نور –
قالت بصوت مكسور، تغلّفه الدموع:
"أنا مش فاهمة... إيه اللي بيحصل دا؟!
أنا عمري ما عملتلك حاجة... بالعكس، دايماً كنت بقول لعمتي ما تاخدش منك فلوس!
أنا كنت مفكرة إنك بتعملي كده عشان متشتغليش في البيت، مش أكتر..."
وتابعت، تبرر الموقف وهي تنظر حولها :
"لو كنتي قلتيلي، كنت أكيد هساعدك، وهجبلك حقك من أهلك!"
فردّت الجدران بجملة واحدة:
"حاولت كتير... مردتيش تسمعيني."
تذكرت نور ذلك اليوم...
حين طرقت ريم باب غرفتها وقالت بصوت مكسور:
"أستاذة نور... عايزة أقولك حاجة..."
لكنها ردت بصوت مرتفع:
"قولت مية مرة محدش يدخل الأوضة! أنا مش فاضية يا ريم.
لو عايزة فلوس زيادة، قولي لماما."
فقالت نور وهي تنتحب:
"أنا مكنتش أعرف إنك كنتي محتاجاني فعلاً...
أنا آسفة يا ريم، والله!
أنا حتى يوم ما عرفت إنك انتحرتي، كنت في صدمة حقيقية...
وكنت بدعيلك على طول بالرحمة.
عشان خاطري... متعمليش فيا حاجة."
لكن الجدران ردّت:
"عارفة... لو كنتي سمعتي، مكنتش رحت أشكي لحد... ويأذيني أكتر."
ثم كُتب من جديد بخط دامٍ:
"عذابك أهون منهم يا نور... هما أذوني أكتر منك."
خالد متوترًا، قال بصوت نادم:
"ريم...
إحنا كنا عيال.
أنا عارف إني كنت باتنمر عليكي كتير،
بس مكنتش أعرف إنه هيأثر فيكي كده...
أنا آسف، وحقك عليا."
فكتبت الجدران:
"تنمّرك كان سبب كبير في عدم ثقتي في نفسي،
خلاني أصدق أي كلمة حلوة، وأوثق في بني آدم دمر حياتي.
ضحكتك قدام الناس كانت بتكسرني أكتر من الشتيمة.
كنت بضحك معاكم عشان أندمج... بس كنت بعيط لوحدي."
جلس خالد على الأرض، يضع رأسه بين يديه، لا يفهم، ولا يقدر على المواجهة...صوته يتهدج وهو يهمس:
ـ "ريم... سامحيني. كنت غِبي وأنا بتنمّر عليكي. ضحكتي اللي كنت بضحكها مع العيال... كانت بتكسرك، وأنا مكنتش فاهم. أقسم بالله ما كنت عارف إنها هتوجعك كده."
رفع رأسه للحظة، نظر للجدار كأنه ينتظر ردًا، لكن الصمت كان أثقل من أن يُحتمل.
مازن –
"ريم..."
ثم تردد، حاول أن يبدأ، لكنه صمت.
أخذ نفسًا عميقًا، وقال:
"أنا عارف...
عشّمتك كتير إني هتجوزك،
بس الظروف... هي اللي منعتني و..."
وقبل أن يُكمل، جاء صوتها، هزّ جدران القصر:
"لسّه مصرّ تكدب؟!
لسّه ما اتغيّرتش؟!"
أجهش بالبكاء وقال:
"كنت عيل طايش...
مكنتش أعرف إنك هتعلقي بيا كده..."
لكن صوتها استمر في الصراخ:
"أنا حكتلك كل حاجة عني...
وثقت فيك أكتر من أي حد.
حكيتلك عن اللي أبويا بيعمله فيا...
وإنت كنت دايمًا تقول أوعدك هتجوزك وهريحك منهم!
بس كنت بتضحك عليا... ليه؟
كنت بصدق كل حرف بتقوله...
إزاي قدرت؟!"
وتابعت وهي تبكي:
"لسّه فاكر لما كملنا سنة بنتكلم وقلتلك عايزة أشوفك؟
تجاهلت الموقف...
ولما ضغطت عليك،
مسحت كل حاجة... كأنها كانت لعبة بالنسبالك!"
"إزاي حد يديك قلبه، وتحكي له أوجاع عمرها ما اتقالت لحد...
وتكافئه بالخذلان؟
إزاي تبني جدار من الثقة، وترجعه تراب؟
كنت بتسلي؟
بس أنا كنت بعيش... كنت بتعلق بيك، وبحلم بكلمة منك!"
إهداء –
كانت تنظر إلى الصورة الوحيدة المتبقية على الجدار... ريم تضحك، تحتضنها في صورة قديمة.
وفجأة، انشقّ الجدار أمامها، وظهرت عليه كلمات دامية:
"فاكرة لما بعدتي؟ ليه يا إهداء؟"
تجمّدت إهداء مكانها، تنظر إلى الجدار وهي تهمس:
"أنا...
أنا كنت ضعيفة يا ريم.
مكنتش عارفة أواجهك ولا أقولك الحقيقة."
بدأت الجدران تُعيد مشاهد من الماضي – ريم وهي تنتظرها في الفسحة، ريم وهي تكتب لها في الدفتر، ريم وهي تنادي عليها بإلحاح:
"إهداء! مالك؟ زعلانة مني؟"
ردّت إهداء، بصوت مخنوق بالبكاء:
"أنا كنت... بحب حد، ولما عرفت إنك قريبة منه، قلبي اتقفل.
مكنتش عارفة أتحمل.
بدأت أبعد، وأرد عليكي ببرود،
ويمكن... أجرحك بكلامي عن قصد.
بس والله ما كنت بكرهك،
أنا كنت بكره إحساسي بالعجز، وبغير...
مش منك،
من اللي شفته بينك وبينه."
فكتبت الجدران:
"أنا كنت محتجاكي وقتها، أكتر من أي وقت...
بس لقيتك أول واحدة سبتني."
صرخت إهداء:
"أنا آسفة يا ريم...
كنت صغيرة، وتصرفت بأنانية.
بس عمري ما نسيتك،كنت غلطانه معرفش الصح من الغلط .
___________________________
وبقي الأربعة وحدهم في الظلام،
لكن هذه المرة، لم يكن ظلام القصر...
بل ظلام داخلهم،
يعرفون أنه لن ينقشع بسهولة.
________________________
فتحت أبواب الغرف جميعها، وعلم كلٌّ منهم أن مواجهته قد انتهت، وأن الوقت قد حان ليطمئنوا على بعضهم البعض.
خرج الجميع وبقوا في الصالة أمام المرآة، عدا مازن، الذي لم ينزل، بل جلس في غرفته يبكي… يبكي بحرقة.
نزلت نور من على درج السلم وهي تجري، وهرعت لاحتضان إهداء وهي تبكي بشدة.
ثم نظرت إلى خالد وقالت بصوت مختنق:
ـ "أنا سمعت صوتها... كانت بتكلم مين؟ انت؟ ولا مازن؟"
نظر إليها خالد بعد لحظة صمت وفهم، وقال باستغراب:
ـ "صوت إيه؟ أنا ما سمعتش حاجة."
تساءلت إهداء، وهي تحاول أن تتماسك:
ـ "صوت إيه يا نور؟ ريم اتكلمت؟"
أدركت نور حينها أن الصوت والصراخ الذي سمعته كان من غرفة مازن... لم تستطع تمالك نفسها عندما رأته ينزل من على درج السلم وكأن شيئاً لم يكن.
فجأة، صفعت نور مازن صفعة قوية أذهلت الجميع، وصرخت فيه:
ـ "إنت... إنت اللي عملت فيها كده؟!"
تدخل كل من خالد وإهداء يحاولان تهدئة الموقف، لكن نور لم تتوقف عن البكاء.
نظرت إليه باشمئزاز وقالت:
ـ "إزاي جالك قلب تفضل تعشم فيها... وفي الآخر كنت بتتسلى بيها؟"
ارتبك مازن، وضع يده على وجهه، وصاح بانكسار:
ـ "كنت عيل طايش! مكنتش عارف إنها هتتعلق بيا بالشكل ده..."
ثم تراجع خطوة للخلف، صوته يتقطع:
ـ "أنا عارف إني جرحتها، بس والله ما كنت قصدي أخون ثقتها. أنا نفسي دلوقتي مش قادر أسامح نفسي."
ثم تابع بصوت مرتجف، وهو يحاول أن يبرر نفسه أمامها ودموعه تنهمر:
ـ "نور... أنا عمري ما حبيت حد قدّك. واسأليهم... من ساعة ما شوفتك وأنا بحبك، بجد! بقيت أشتغل أكتر وأكتر عشان أكون على قدك... عشان أتجوزك!"
نظرت إليه وهي تبكي، وقالت بمرارة:
ـ "كداب... مش هقولك غير إنك كداب."
اقترب منها، يحاول تهدئتها وهو يبكي كطفل مكسور:
ـ "نور... أنا عارف إن من حقك تزعلي، وتكرهيني حتى. بس كل بني آدم بيغلط... وأنا غلطت، بس مش قادر أعيش من غيرك.
أرجوكي، سامحيني..."
نور ظلّت تحدّق فيه، غاضبة، ممزقة بين الكراهية والحنين. همست بصوت مرتعش:
ـ "إزاي قدرت تضحك عليها بالشكل ده؟!"
مازن لم يجد ما يقوله، فانهار جاثيًا على ركبتيه، يبكي بحرقة كالطفل.
لأول مرة، رأت نور ضعفه الحقيقي... لم يكن متكبرًا أو قاسيًا كما اعتادت، بل مجرد إنسان محطم.
سادت لحظة صمت خانقة، خالد يشيح بنظره وهو يتنفس بثِقَل، إهداء تضع يدها على فمها حتى لا تنهار، أما نور فكانت تقف أمام مازن، مترددة، قلبها يصارع عقلها.
ثم، ببطء... اقتربت منه، وانحنت لتحتضنه.
انفجر الاثنان في بكاء متواصل، كأنهما يُفرغان كل ما تراكم من خذلان وندم وحب لم يمت.
اعترف كل منهما بحبه للآخر، بكلمات لا تحتاج إلى ترتيب، ولا شرح... فقط مشاعر صادقة كانت تحتاج إلى لحظة صدق
ضمّها إلى صدره بقوة، وكأنّه يعيد احتضان الحياة، وهمست هي في أذنه:
ـ "أنا لسه بحبك..."
همس هو بصوت مخنوق:
ـ "وأنا عمري ما بطّلت أحبك..."
____
"أحياناً... لا يُقاس الحب بعدد الكلمات، ولا يُحكم عليه من أول خطأ.
فالإنسان إذا أحبّ بصدق، يصبح قادراً على أن يعفو، ويغفر، ويتجاوز...
لأن الحب الحقيقي لا يعني فقط أن نتمسك بمن نحب،
بل أن نمنحهم فرصة جديدة حين يسقطون، كما منحونا يوماً أسبابًا لنعيش .