رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والواحد والثلاثون 131 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والواحد والثلاثون 


مارينا في عزلتها، تتلوّى كعاصفة هوجاء داخل جدران غرفتها، تتحرك في مساحة ضيقة وكأنها سجينة تمزق قيودها بيديها العاريتين، تُحطِّم ما تطاله أصابعها بعنفٍ أعمى فتتساقط قطع الزجاج على الأرض كدموع باردة لا تملك أن تمنع نفسها من الانكسار.

وفي الجهة الأخرى من السفينة كان السطح غارقًا في صمتٍ ثقيل لا يقطعه إلا حفيف الثلج وهو يسقط ببطء كأن السماء تنثر أسرارًا بيضاء لتغطي بها جراح أحدهم.

هناك كانت سارة التي تمهل أحمد في اصطحابها إلى هناك  هو حتى نفذ ما به من صبر وتماسك.

مال برجولة طاغية لا تخلو من اللهو حتى لامست قدميها الأرض ولكنه لم يحررها فهي لا تزال  يبدو كجمرٍ صغير يقاوم زحف الجليد.

رفعت رأسها عن صدره وعينيها تلمعان بظلٍ من الترقب بينما الثلج يتساقط على كتفيه يذوب ثم يتبخر مع أنفاسه الساخنة.

قال أحمد وصوته عابثاً يسألها بهمس شجي:

– "هل أنتِ سعيدة الآن؟"

لم يكن ساذجًا… فهو بارع في قراءة ملامحها كما تقرأ الكتابة على صفحة من جليد ويعرف أنها لن تجرؤ على التمادي معه لأبعد مما شرعت به في مكان كهذا… كان بإمكانه أن يوقف اللحظة قبل أن يتفاقم الوضع لكنه هذه المرة تركها تتشكل مثل بلورة

ثلج يعرف تمامًا كيف ومتى سيذيبها وذلك بالرغم من أنه لم يتوقع أن تكون مارينا بهذا التهور كي تنسج فخًا يلتف حبله حول عنقها.
ابتسمت سارة بخبثٍ رقيق والثلج يلتصق برموشها كزخارف زجاجية صغيرة، وقالت:

– "ولِمَ أكون حزينة؟ هي التي أرادت أن تُسقطني. أتظن أنني سأرثي لها؟"

عينيه كانتا كسماءٍ ملبدة، يوشك الرعد أن يضربها… يقول بوجهٍ أثقلته الغيوم:
– "سارة… تعليمها درسًا لا يبرر أن تعرضي سمعتكِ للخطر. أحقًا تظنين أنكِ انتصرتِ؟"

كانت كلماته كريحٍ تضرب جليدًا هشًا فترتجف داخله، لكن سارة لم تُبدِ أي تخوف لذا أراد أن يهزها بالحقيقة: نعم، لقد أحرجت مارينا لكن في عالم الأثرياء الفضائح كحبات ثلج… تسقط لتذوب تحت أقدام السلطة.

– "ومن ناحية أخرى… لو لم أغطِّ وجهكِ في اللحظة المناسبة لكانت كل العيون قد عرفتكِ وكل الألسنة قد وصفتكِ بالعشيقة… كنتِ ستربحين معركةً صغيرة… لكنكِ ستخسرين الحرب كلها."

ابتسمت سارة كمن تتحدى العاصفة بابتسامة، وبينما الريح تداعب خصلات شعرها المبلل أجابته ببساطة:

– "سيسخرون مني؟ فليضحكوا إذن! وإن حدث، ألن يرضيك ذلك في قرارة نفسك؟ لِمَ أنت غاضب إذن؟"

كلماتها كسرت كبرياءه مثل حجر ألقي في بحيرة

متجمدة فتشقق الجليد على ملامحه بعد أن لامست وتراً حساساً لها بداخله.
 وجلدها يبرد تحت الثلج، وهمست:

– "ظننتك تكرهني… ماذا؟ أتقلق عليّ؟"

أبعد يديها ببطء وكأنه يحرر نفسه من قيد حريري ناعم، وقال بصرامة أجاد استحضارها:

– "تعذيبكِ حقٌّ لي وحدي… لا شأن لأحد به."

هبت نسمة أكثر قسوة حتى بدا أن الثلج يلسع وجهيهما عندها ابتسمت سارة فجأة كمن تخبئ تحت ابتسامتها لغزًا، وقالت:

– "أحمد… هل ستندم على ما فعلته بي لو اكتشفتَ أن والدي لم يمسّ أختك بسوء؟"

في تلك اللحظة شعر أن الثلج حولهما قد توقف عن السقوط أو لعل الزمن نفسه تجمد إذ أصابت كلماتها قلبه كشرخٍ في لوح جليد يمتد ببطء لكن بعمق مهددًا بانهيار كل شيء.

مال إليها وصوته خرج كنسمة حادة تشق الصمت:

– "عمَّ تتحدثين؟"

كلّما حاول العقلُ المدبّر أن يسدل ستائر الغموض على الحقيقة ازدادت يقظة سارة كمن يلمح وميضًا خفيًا خلف دخان كثيف… وإحساسها يهمس بأن موت ليا لم يكن قدرًا أعمى بل خطوة مرسومة في مخطط محكم.
لم تكن تملك دليلاً يثبّت هذا الظن لكن يقينها الوحيد أن من يقف خلف الخيوط هو شخص قوي بما يكفي ليعبث بالخطر أمام أعين أحمد دون أن يرف له جفن… لكن الوقت لم يحن

بعد فالحقيقة في نظرها أشبه بوحش نائم تحت الجليد؛ ومن الخطأ إيقاظه قبل اكتمال البرودة في العروق لذا ابتلعت ما في قلبها وحرفت المسار.
حدّقت في الأفق كأنها تحتمي به وقالت بصوتٍ خافت تتخلله مسحة من الدهشة:

**"انظر… الثلج الليلة يشبه الحلم."**

لكن أحمد لم يلتقط خيط الهرب بل أعاد تساؤله وكأنه يصرّ على أن يجرها إلى الجرح المفتوح:

**"سارة هل سمعتِ ما قلت؟"**

أحمد لم يكن يومًا من عشاق ليالي الشتاء فهو يرى في الشمس حياةً تُسعف الأرض وفي دفئها عزفًا يوقظ الحجارة أما برد الشتاء يراه ذئبًا أبيض يزحف ببطء ويلتهم الألوان حتى تصير الدنيا صفحة بيضاء باردة بلا روح.

مدّت سارة يدها نحو السماء فتلقفت ندفة ثلج سقطت بخفة فراشة احتضنتها برهة قبل أن تذوب في جلدها. كانت تبتسم… لكن ابتسامتها تلك بدت كقناع من جليد ومن ثم التفتت إليه تقف أمامه لتسد طريق النظر وقالت بجدية ثقيلة كسقوط حجر في بئر:

**"اليوم… ذكرى وفاة طفلنا يا أحمد أخبرني هل فكرتَ فيه ولو مرة واحدة خلال العام الماضي؟"**

لم يجب مباشرة كما لو أن السؤال أخرج من صدره ريحًا باردة فمدّ ذراعيه وأحاط كتفيها يضمها بقوة في محاولة منه أن يقول ما عجز لسانه عنه، ثم همس

بصوتٍ متهدّج:
**"سارة… من مات كان طفلنا، بالطبع رثيته كثيراً."**

تعليقات