رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والرابع والثلاثون 134 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والرابع والثلاثون 

كانت الريح تعوي حول السفينة كذئاب جائعة تهز صواريها وتعبث بجدائل الثلج المتساقط الذي بدا كأسراب فراشات بيضاء تتراقص في فضاء الليل.
كان كونور مستكينا وكأن العالم كله جليد وهي موقده الأخير.
أشارت سارة بيد مرتجفة نحو بقعة بعيدة في سواد المحيط وابتسامة يائسة تتسلل إلى شفتيها
هناك... في أعماق ذلك البحر المظلم ابتلع المحيط طفلي. لم يكن محظوظا مثلك يا صغيري. لم يلتقط أنفاسه الأولى لم ير الشمس أبدا... يا ترى هل يشعر بالوحدة الآن في قاع المحيط
صوتها كان كوشوشة مخنوقة بالأسرار تهمس له وكأنها تغريه بصفقة مع القدر
لم لا تذهب لتؤنسه سيكون الماء باردا قليلا... قد يلسعك في البداية لكن الأمر سينتهي بسرعة. بعدها... لن يكون هناك وجع ستختفي من هذا العالم كحلم لم يحك حينها فقط سيعرف أحمد كيف يبدو قلبه حين يمزق.
أمسكت وجنتيه بلمسة تحمل رقة الأم وشراسة الثأر ثم تمتمت وابتسامة مكسورة تشع من عينيها
على الأقل لست مثل طفلي... لقد ولد محكوما

بالمأساة منذ لحظة كان فكرة في أحشائي وحتى لحظة لفظه البحر منها.
كانت تسير به بخطوات هادئة نحو حافة السفينة وكأنهما عروسان إلى مذبح غامض. البحر تحتها كوحش أسطوري فمه مفتوح يزأر بصوت هادر يطالب بفريسته.
انظر يا كونور... الثلج هذا العام يشبه ثلج العام الماضي تماما. تذكر... ربما لم تكن هنا لكنني كنت أنتظره انتظر ميلاد ابني. ثم أمالت رأسها على كتف كونور وهمست وهي تنظر إلى الأفق البعيد
لا تقلق يا بني جئتك بصديق لن يتركك وحدك في الأعماق.
وفي لحظة أخرى كانت مينا تمشي وهي تحمل كعكة صغيرة لم تكن تتوقع أن كل هذا الهدوء قد يخفي فجوة سوداء في قلب السفينة استدارت فوجدت الفراغ يبتلع مكان كونور الذي اعتادت على غيابه القصير منذ أن بدأ يتعلم المشي لكن هذه المرة كان الفراغ أعمق من العادة.
سيد كونور أين أنت نادت مينا وهي تتفحص الممر الطويل فلم تجبها سوى أصداء خطواتها المتسارعة.
تسلل الرعب إلى قلبها حين رأت الممر فارغا كقبر والبحر بعيدا يلمع مثل
فم وحش ينتظر وليمة أسقطت الكعكة أرضا وركضت نحو مقدمة السفينة تنادي حتى تلعثمت أنفاسها وعندما وجدت أحمد هرعت تقول بصوت مرتجف
سيد ميلر لقد اختفى السيد كونور!
لم يمهلها الزمن لتلتقط أنفاسها إذ صفعتها مارينا صفعة أشعلت النار في وجنتها وهي تصرخ في وجهها
كل ما طلبته منك هو أن تضعينه في فراشه! كيف تجرؤين على فقدانه لو حدث له مكروه... ستموتين!
حدق أحمد بعينيه الحادتين اللتين لاح بهما غضب مكتوم يوشك على الانفجار ثم التفت نحو برنت
تحقق من الكاميرات. أريد موقعه الآن.
ارتجفت مينا وهي تهمس
لقد غبت فقط لإحضار كعكة... هل يمكن أن يكون سقط في المحيط
هز أحمد رأسه بصرامة
مستحيل. السور عال وهو صغير لا يستطيع تجاوزه إلا إذا... ألقاه أحدهم.
توقف للحظة عيناه تتوهجان بشك داهم... ووجه سارة يطفو إلى عقله كصورة خارجة من ضباب حلم مشؤوم.
لكن سرعان ما دحض الفكرة في نفسه
لا... لقد أحبته. لن تؤذيه... أمن الممكن أن تفعلها
اختفى أحمد من على ظهر السفينة كما
لو أن البحر ابتلعه دون إنذار وقد تسرب الذعر إلى قلبه كالدخان يتخلل صدره ويثقل أنفاسه.
كانت السفينة هائلة جسدا فولاذيا يشق العتمة أما الطفل فمجرد نقطة هشة في محيط جائع ففكرة سقوطه وحدها كانت كفيلة بخنق أي أمل طفل لا يعرف كيف يصرخ طلبا للنجاة ولا كيف يقاوم الغرق بل حتى صوته سيتبدد في العاصفة قبل أن يصل إلى أذن بشر.
في تلك اللحظة كان أحمد يتحرك كأن الأرض تضيق خلفه يركض بخطوات تطرق الممرات كطبول حرب وكلما ارتفع درجة نحو الطابق العلوي ازداد صخب السؤال الذي ينهش رأسه
هل فعلتها هل حملت سارة كونور إلى حيث لفظت الحياة طفلها قبل عام
ارتفعت ضربات قلبه تتسابق مع وقع خطواته على المعدن البارد بينما الثلج يتساقط بجنون رقائق بيضاء تتآمر مع الريح لتبطئه تلسع وجهه وتغشي عينيه كأن الطبيعة نفسها تحاول إخفاء الحقيقة عنه.
كان الهواء مشبعا بملح البحر ورائحة المعدن المبتل والممرات تحولت إلى مسرح غامض حيث الظلال تتراقص تحت أضواء واهنة وكأنها تحاول
أن تحذره من شيء قادم أو تجره نحوه.


تعليقات