رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والخامس والثلاثون
كانت كلمات سارة تتردد في رأس أحمد كجرس كنيسة يرن في ليل خال
انظر الثلج الليلة جميل جدا اليوم ذكرى رحيل طفلنا يا أحمد هل مر بخاطرك ولو لحظة خلال العام الماضي
توقفت أنفاسه للحظة كأن الكلمات نفسها قبضت على حنجرته حاول أن يصدها أن يطفئها بعقلانية باردة لكن العبارة التالية اخترقت دفاعاته
كنت أظنك تراه مجرد أداة للانتقام منك.
في أعماقه أدرك أنه أساء الفهم منذ البداية كان يظن أن غضب سارة موجه نحو مارينا ولم يخطر بباله أن روح طفلها الغائب هي البوصلة الحقيقية لكل ما فعلته.
الليلة لم تكن مجرد ذكرى بل طقس دموي معد بعناية حيث يصبح كونور قربانا لطفل مات دون أن يرى النور.
انتقام مزدوج من مارينا ومنه هو.
اشتعلت في صدره نار باردة خليط من القلق والغضب بينما كانت فكرة واحدة تضغط على رأسه ككابوس ثقيل سارة لن تتراجع.
خلال دقيقة واحدة فقط تحول قلبه إلى غرفة مغلقة تتناوب عليها العواصف وراحتي يديه رغم برد الهواء القاسي تتصبب عرقا اندفع يركض نحو الطابق العلوي خطواته تصطدم بالمعدن في صدى متوتر بينما في السماء انتهت الجولة الأولى من الألعاب النارية وأسدل على العالم ستار صمت خانق ولم يبق سوى صوت
أنفاسه اللاهثة.
حين بلغ سطح الطابق الثاني وجده خاليا لا أحد سوى الريح التي تعوي حوله والمحيط الهادر الذي يعانق هيكل السفينة بلكمات من رغوة سوداء.
اقترب من الحافة يحدق في الظلام لا أثر.
تسربت القشعريرة من قمة رأسه حتى أخمص قدميه كأن شيئا ما في الأعماق ناداه باسمه.
فجأة اخترق الصمت صوت مينا صاعدا من الطابق السفلي يحمل في نبراته ارتعاشة بين البكاء والضحك
كيف وصلت إلى هنا يا سيد كونور! لقد أفزعتني حتى الموت! وجدته! لقد وجدت سيد كونور!
كانت كلماتها كنافذة انفتحت فجأة في غرفة غارقة في العتمة على إثرها أحس أحمد بثقل جاثم على صدره يتبخر وكأن أحدا أعاد له شهيقه المسلوب.
خارت قواه وتراخت ركبتاه وسقط جالسا على أرضية السطح المعدنية بينما جسده ما يزال يرتجف من الركض والعرق الذي يغطيه تحول بفعل الرياح الباردة إلى قشعريرة تسري تحت جلده وضع كفه على صدره فشعر بقلبه يضرب ضلوعه كطبول حرب ابتسم ابتسامة مرتبكة ثم أخفى وجهه بين يديه كمن يحاول الاحتماء من سيل مشاعر غامرة فهو لا يتذكر أنه عاش من قبل لحظة تتأرجح فيها نفسه بين حافة الهاوية وذروة النجاة بهذا الشكل تلك كانت أول مرة يتذوق فيها طعم الحياة
على حافة الانكسار.
لم ينتبه أحد لظل سارة وهي تنكمش خلف برميل خشبي تتمنى أن تبتلعها العتمة بينما عيناها تتبعان الثلج وهو يسقط من السماء ببطء رقائق بيضاء تهبط كما لو كانت رسائل سماوية تمحو آثار الدماء على الأرض.
في تلك اللحظة خذلها قلبها أو أنقذها لم تعد تدري فقد انكسرت خطتها في اللحظة الأخيرة كزجاجة تسقط على أرض صلبة لم تستطع أن تدفع بيدها نحو الهاوية لقتل كونور كان صغيرا هشا بريئا حد أن حضوره يشبه رائحة طفل خرج للتو من رحم أمه وتسائلت بينها وبين نفسها
كيف فعلها أحمد بابنهما! أية هاوية من السواد يلزم أن يسقط فيها إنسان حتى يمد يده لقتل طفل
كرهت ضعفها كرهت ذلك الصوت الخافت في داخلها الذي همس لا تفعلي لكنها في الوقت ذاته شعرت بالخجل من نفسها وكأنها عاشت لحظة مواجهة مرآة لم تر فيها سوى وحش بعيونها. حاولت أن تلبس ذنبها بحق انتقامها لفقيدها ثوب التبرير ربما كان كل ما بينهماهي وأحمدمجرد سلسلة طويلة من سوء الفهم. فلماذا يدفع كونور ثمن جريمة لم يرتكبها
كان مخططها أن تنهي كل شيء أن تأخذه معها إلى قاع المحيط وتترك البحر يطويهما في صفحة واحدة لكن ظل هناك باب لم تفتحه بعد كشف الحقيقة المدفونة
منذ سنوات الحقيقة التي تئن في الظلام.
بعد أن رحل أحمد سحبت سارة جسدها المنهك كجثة ترفض الموت وعادت إلى الغرفة عشر دقائق فقط وكان هو يطل عند الباب ظله يبتلع الجدران.
عينيه قالتا ما لم يقله لسانه لقد عرف من المؤكد أنه رأى القلادة المعلقة حول عنق كونور وتحمل اسمه القلادة التي كان هو نفسه
قد صممها. كيف لا يعرف صنيع يده
خفض بصره إلى الطاولة التي بقيت عليها كعكة نصف مأكولة تحيط بها شموع أطفأها الوقت لا الأنفاس.
هيأت نفسها للعاصفة للتعذيب الذي اعتقدت أنه لن ينتهي لقد تخلت عن أفضل فرصة للانتقام ولم يبق أمامها سوى الانتظار.
اقترب بخطوات بطيئة والصمت يملأ الغرفة كأنه غبار ثقيل رفعت رأسها وجسدها يرتجف خوفا مما هو آت ولكن لوهلة جحظت عيناها بعدم تصديق إذ رأته يجلس يأكل ما تبقى من الكعكة بصمت لم يكن أحمد يوما من محبي الكعك لكنها رأته الآن يلتهمه كما لو أنه يبتلع شيئا أثقل من الطعام.
بعد أن وضع الشوكة تناول منديلا ومسح شفتيه ثم سار نحوها.
توقعت أن تنهال عليها كلماته كالسياط لكنه وقف أمامها وصوته خرج عميقا كصوت شخص يتحدث من قاع بئر
في يوم ما ستدركين أن عدم قيامك بذلك اليوم كان أفضل قرار بإمكانك
اتخاذه في حياتك.
ترى إلام يلمح